بحث مفصل عن شخصية عمر بن سعد لعنة الله من حين الثورة إلى زمن مقتله

بقلم: الشيخ وسام البلداوي

ان الحديث عن عمر بن سعد لعنه الله هو حديث عن صميم واقعة عاشوراء وما وقع فيها من الفجائع، فهو من قاد فصول مآسيها، وهو من تزعم جيوش البغي فيها، وهو من رض الصدر وسحق الجسم، وفصل الرؤوس وسبى العيال وأيتم الأطفال، وحرق البيوت وسلب النساء ...، ففي كل موقف من مواقف عاشوراء الرهيبة كان عمر بن سعد حاضرا، يكتب الكتب، ويحرض الجيش، ويوجه القتلة، ويشارك في السلب والنهب والحرق، ويمنع الماء عن آل الرسول صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين الذين كانت قلوبهم تحترق وأكبادهم تذوب من العطش.

ونظرا لحضور هذه الشخصية الملعونة في كل فصول الثورة الحسينية وفعاليته الكبيرة في إيجاد وقيادة فاجعة الطف الأليمة، واستمرار دوره حتى إلى ما بعد انتهاء المعركة وبقاء تأثيره الخبيث إلى حين مقتله رأينا من المناسب ان نتعرض إلى أخباره ونكشف عن حاله، من حين بدء الثورة الحسينية إلى حين مقتل هذا اللعين واجتثاث أصله الخبيث من فوق الأرض.

عمر بن سعد يكتب ليزيد بأمر مسلم بن عقيل ينبهه ويحرضه


كان أول ظهور لاسم عمر بن سعد لعنه الله في أحداث الثورة الحسينية حين قدوم مسلم بن عقيل رضوان الله تعالى عليه إلى أرض الكوفة ومبايعة الناس له وكتابتهم للكتب التي تحث الإمام الحسين عليه السلام وتطلب منه تعجيل القدوم إليهم وغير ذلك من الأحداث المعروفة المشهورة، فلما رأى أنصار يزيد بن معاوية ان البساط سينسحب من تحت أقدامهم، وان مسلم بن عقيل رضوان الله تعالى عليه يقود الجماهير، وان المبايعين للإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه قد بلغوا ثمانية عشر ألف رجل أو يزيدون، وان بيعة يزيد قد نقضت، وان الكوفة ستخرج من أيدي السلطة الأموية وأنصارها، وان الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه يعد العدة للخروج من مكة قاصدا أرض الكوفة، كتبوا إليه يحذرونه من مغبة ما يجري ويحرضونه على التحرك والوقوف بوجه الثورة الحسينية التي صارت تكبر ويكثر أنصارها يوماً بعد يوم، وكان عمر بن سعد لعنه الله من ضمن الذين كتبوا إلى يزيد بن معاوية بشأن مسلم بن عقيل وأخذه البيعة للحسين صلوات الله وسلامه عليه من الناس، قال البلاذري: (كتب وجوه أهل الكوفة: عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري ومحمد بن الأشعث الكندي وغيرهما إلى يزيد بن معاوية بخبر مسلم بن عقيل، وتقديم الحسين إياه إلى الكوفة أمامه، وبما ظهر لهم من ضعف النعمان بن بشير، وعجزه ووهن أمره)[1].

وقال الطبري: (وخرج عبد الله بن مسلم وكتب إلى يزيد بن معاوية: أما بعد فإن مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة فبايعته الشيعة للحسين بن علي فإن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويا ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك فإن النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعف فكان أول من كتب إليه، ثم كتب إليه عمارة بن عقبة بنحو من كتابه، ثم كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقاص بمثل ذلك، قال هشام قال عوانة فلما اجتمعت الكتب عند يزيد ليس بين كتبهم إلا يومان دعا يزيد بن معاوية سرجون مولى معاوية فقال ما رأيك فإن حسينا قد توجه نحو الكوفة ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحسين وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيئ وأقرأه كتبهم فما ترى من أستعمل على الكوفة وكان يزيد عاتبا على عبيد الله بن زياد فقال سرجون أرأيت معاوية لو نشر لك أكنت آخذا برأيه قال نعم فأخرج عهد عبيد الله على الكوفة فقال هذا رأي معاوية ومات وقد أمر بهذا الكتاب فأخذ برأيه وضم المصرين إلى عبيد الله وبعث إليه بعهده على الكوفة ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلي وكان عنده فبعثه إلى عبيد الله بعهده إلى البصرة وكتب إليه معه أما بعد فإنه كتب إلي شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشق عصا المسلمين فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتى أهل الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه والسلام)[2].

وقول يزيد بن معاوية لعنه الله: (أما بعد فإنه كتب إلي شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل بالكوفة...) فيه تصريح واضح وإقرار علني بأن عمر بن سعد لعنه الله كان يعد من أركان الدولة وقادتها، وان كتابته ليزيد نابعة من شعوره بأن أي خطر يهدد كيان الدولة الأموية فانه يهدد مصالحه الشخصية.

وهو نابع أيضا من علمه بأن يزيد بن معاوية لعنه الله هو في بداية عهد حكم جديد وهو بحاجة إلى من يثبت له حكمه، وبحاجة إلى رجال يديرون له البلدان فبكتابته إلى يزيد بأمر مسلم بن عقيل يكون قد برهن عمليا على إخلاصه وتفانيه في سبيل خدمة يزيد بن معاوية عليه اللعنة، وهو ما سيكافأ عليه من قبل يزيد لعنه الله وهو ما حصل فعلا فقد تم اختياره فيما بعد لشغل منصب حاكم بلاد الري والمناطق المحيطة بها، كما سيأتي ذكره لاحقا.

فيتضح مما سبق ان عمر بن سعد لعنه الله كان سببا مباشرا ورئيسا للقضاء على مسلم بن عقيل وقتله وكان أيضا سببا أساساً ومهما للقضاء على الثورة في الكوفة، وهو أيضا سبب أساس لمجيء ابن مرجانة وتعيينه واليا على الكوفة، وهو أيضا سبب فيما وقع بعد ذلك من أحداث وفجائع.

وليست هذه المرة الوحيدة التي يكتب فيها عمر بن سعد كتابا يؤدي الى سفك دم مسلم وولي من أولياء الله سبحانه، فقد كتب قبل ذلك كتابا إلى معاوية بن أبي سفيان يشهد فيه على حجر بن عدي الكندي صاحب أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه بالكفر ومفارقة الجماعة مما أدى إلى مقتله ومقتل ثلة من أصحابه رضوان الله تعالى عليهم في قضية مفصلة ذكرتها مصادر التاريخ[3].

عمر بن سعد يختار بلاد الري على قتل ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم


لما أحس يزيد بن معاوية لعنه الله الوفاء والنصيحة من عمر بن سعد بعد كتابته له بأمر مسلم بن عقيل عليه السلام قرر مكافأته بتوليته ولاية بلاد الري[4] وثغر دستبي والديلم، وكتب له عبيد الله بن مرجانة نيابة عن يزيد كتاب التولية، وأمره بالخروج إلى عمله، وجهز معه أربعة آلاف فارس، فاحتال عليه عبيد الله بن مرجانة بأن شرط عليه أن يسلمه ولاية الري بشرط أن يمضي ويقضي على الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وثورته وجميع من خرج بصحبته، قال الطبري: (وكان سبب خروج ابن سعد إلى الحسين عليه السلام أن عبيد الله بن زياد بعثه على أربعة آلاف من أهل الكوفة يسير بهم إلى دستبي وكانت الديلم قد خرجوا إليها وغلبوا عليها فكتب إليه ابن زياد عهده على الري وأمره بالخروج فخرج معسكرا بالناس بحمام أعين فلما كان من أمر الحسين ما كان وأقبل إلى الكوفة دعا ابن زياد عمر بن سعد فقال سر إلى الحسين فإذا فرغنا مما بيننا وبينه سرت إلى عملك فقال له عمر بن سعد إن رأيت رحمك الله أن تعفيني فافعل فقال له عبيد الله نعم على أن ترد لنا عهدنا قال فلما قال له ذلك قال عمر بن سعد أمهلني اليوم حتى أنظر قال فانصرف عمر يستشير نصحاءه فلم يكن يستشير أحدا إلا ...فأقبل عمر بن سعد إلى ابن زياد فقال أصلحك الله إنك وليتني هذا العمل وكتبت لي العهد وسمع به الناس فان رأيت أن تنفذ لي ذلك فافعل وابعث إلى الحسين في هذا الجيش من أشراف الكوفة من لست بأغنى ولا أجزأ عنك في الحرب منه فسمى له أناسا فقال له ابن زياد لا تعلمني بأشراف أهل الكوفة ولست أستأمرك فيمن أريد أن أبعث إن سرت بجندنا وإلا فابعث إلينا بعهدنا فلما رآه قد لج قال فإني سائر)[5].
ويحتمل أيضا ان تكون ولاية الري مجرد طعم لاصطياد عمر بن سعد من خلاله، فيزيد بن معاوية وعبيد الله بن مرجانة لعنهما الله كانا على علم وإحاطة تامة بنفسية عمر بن سعد لعنه الله، وانه كان طموحا للرئاسة محبا للمنصب، قال عنه ابن كثير: (وكان عمر بن سعد هذا يحب الإمارة، فلم يزل ذلك دأبه حتى كان هو أمير السرية التي قتلت الحسين بن علي رضي الله عنه)[6] فاستغلا هذه الخصلة الذميمة ليصلا من خلالها إلى إجباره على المسير إلى قتل الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وأهل بيته وجميع أصحابه، فنيتهما في تأمير ابن سعد على بلاد الري لم تكن جدية، بدليل ان ابن سعد حتى بعد قتله للإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وارتكابه تلك المجزرة الفظيعة لم تسلم له ولاية الري، والإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه في يوم عاشوراء أراد تنبيهه إلى هذه الحقيقة، ولفت نظره إلى انه بوقوفه في وجه الثورة الحسينية سوف لن يجني شيئا سوى الإثم والخسران وانه سوف لن ينال من وعود يزيد بن معاوية وابن مرجانة لعنهما الله شيئا، وهو ما أوضحه الإمام صلوات الله وسلامه عليه بقوله وندائه يوم عاشوراء: (أين عمر بن سعد؟ ادعوا لي عمر! فدعي له، وكان كارها لا يحب أن يأتيه فقال: يا عمر أنت تقتلني ؟ تزعم أن يوليك الدعي بن الدعي بلاد الري وجرجان، والله لا تتهنأ بذلك أبدا، عهدا معهودا، فاصنع ما أنت صانع، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، ولكأني برأسك على قصبة قد نصب بالكوفة، يتراماه الصبيان ويتخذونه غرضا بينهم. فاغتاظ عمر من كلامه، ثم صرف بوجهه عنه، ونادى بأصحابه: ما تنتظرون به؟ احملوا بأجمعكم إنما هي أكلة واحدة)[7].

هل خرج عمر بن سعد لقتال الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه مكرها؟


لقد حاول بعض مؤرخي أهل السنة تبرير خروج عمر بن سعد لعنه الله إلى قتال الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه بأنه خرج مكرها، قال الدينوري: (فأمره ابن زياد أن يسير إلى محاربة الحسين، فإذا فرغ منه سار إلى ولايته. فتلكأ عمر بن سعد على ابن زياد، وكره محاربة الحسين)[8].

وبحسب وصف الذهبي انه خرج كالمكره، قال: (وأخذ الحسين طريق العذيب، حتى نزل قصر أبي مقاتل، فخفق خفقة، ثم استرجع، وقال: رأيت كأن فارسا يسايرنا، ويقول: القوم يسيرون، والمنايا تسري إليهم. ثم نزل كربلاء، فسار إليه عمر بن سعد كالمكره)[9].

وقد حاول ابن كثير المتعصب للباطل دوما، أن يخفف جريمة عمر بن سعد لعنه الله، ويهون شناعة فعله بقوله: (وإنما كان عمر أمير السرية التي قتلت الحسين فقط)[10].

وحاول ابن تيمية أن يلتف على موبقة قتاله للإمام الحسين بطريقته المعروفة في المراوغة والتضليل فقال: (ثم غاية عمر بن سعد وأمثاله أن يعترف بأنه طلب الدنيا بمعصية يعترف أنها معصية، وهذا ذنب كثير وقوعه من المسلمين)[11].

و(عدم الطعن في عمر بن سعد لما فعل، بل الاعتذار له بما ذكر، يكشف عن نصب شديد وعداء مقيت)[12]، إضافة إلى ان الطبري صرح بأن عمر بن سعد خرج إلى قتال الحسين راضيا، حيث قال: (وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص قد ولاه عبيد الله بن زياد الري وعهد إليه عهده فقال اكفني هذا الرجل قال اعفني فأبى أن يعفيه قال فأنظرني الليلة فأخره فنظر في أمره فلما أصبح غدا عليه راضيا بما أمر به)[13].

وابن كثير المتعصب على رغم قوله السابق فقد كذب نفسه في مكان آخر من كتابه واعترف برضا عمر بن سعد بقتال الحسين والخروج إليه، حيث قال: (فقال: اعفني. فأبى أن يعفيه، فقال: أنظرني الليلة، فأخره فنظر في أمره، فلما أصبح غدا عليه راضيا بما أمره به)[14]وقد صدق من قال (لا حافظة لكذوب).

وشعر عمر بن سعد الذي تمثل به يوم عزم على الخروج إلى الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه لقتله صريح بان هذا اللعين كان على علم تام ودراية كاملة بعواقب وبنتائج فعله الدنيوية والأخروية، وعلى يقين ومعرفة كاملة بشخص الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وعظيم انتهاك حرمته وسفك دمه، ولكنه مع ذلك أصر على الخروج والإقدام على قتل خير الأنام، وشعره الذي تمثل به هو:

فوالله ما أدري وإني لحائر  *** أفكر في أمري على خطرين
أأترك ملك الري والري منيتي *** أم أرجع مأثوما بقتل حسين
حسين ابن عمي والحوادث جمة *** لعمري ولي في الري قرة عين
وإن إله العرش يغفر زلتي  *** ولو كنت فيها أظلم الثقلين
ألا إنما الدنيا بخير معجل *** وما عاقل باع الوجود بدين
يقولون إن الله خالق جنة *** ونار وتعذيب وغل يدين
فإن صدقوا فيما يقولون إنني *** أتوب إلى الرحمن من سنتين
وإن كذبوا فزنا بدنيا عظيمة  *** وملك عظيم دائم الحجلين[15]

وحينما أراد برير بن خضير رضوان الله تعالى عليه ان يثني عمر بن سعد عن القتال وبعد ان سمع ترديده لهذه الأبيات رجع إلى الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وقال له: (يا ابن بنت رسول الله إن عمر بن سعد قد رضي أن يقتلك بملك الري)[16].

زحف جيوش الضلالة ومحاصرة الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه


كان نزول الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه إلى أرض كربلاء (يوم الخميس وهو اليوم الثاني من المحرم سنة إحدى وستين، فلما كان من الغد قدم عليهم عمر بن سعد ابن أبي وقاص من الكوفة في أربعة آلاف من الفوارس فنزل نينوى)[17].

وبقي عبيد الله بن مرجانة لعنه الله يمده بالخيل والرجال من اليوم الثالث الى اليوم العاشر من المحرم، وأغلق كذلك جميع الطرق التي يمكن من خلالها أن يتسلل من يحاول اللحاق بركب الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه ، فعن هلال بن أساف قال: (أمر زياد فأخذ ما بين واقصة إلى طريق الشام إلى طريق البصرة فلا يترك أحد يلج ولا يخرج)[18].

وقال أيضا: (ووضع ابن زياد المناظر على الكوفة لئلا يجوز أحد من العسكر مخافة لأن يلحق الحسين مغيثاً له، ورتب المسالح حولها وجعل على حرس الكوفة والعسكر زخر بن قيس الجعفي، ورتب بينه وبين عسكر عمر بن سعد خيلاً مضمرة مقدحة فكان خبر ما قبله يأتيه في كل وقت)[19].

وكان عبيد الله بن مرجانة يحرض الناس للخروج إلى قتال الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه تارة بالترهيب وأخرى بالترغيب، فزاد في أعطيات من يخرج مائة دينار وحذر كل من يتخلف عن الخروج بالعقاب والقتل ومحو اسمه من ديوان الأعطيات[20] وغير ذلك، قال البلاذري: (ولما سرح ابن زياد عمر بن سعد من حمام أعين، أمر الناس فعسكروا بالنخيلة، وأمر أن لا يتخلف أحد منهم، وصعد المنبر فقرظ معاوية وذكر إحسانه وإدراره الأعطيات، وعنايته بأمور الثغور، وذكر اجتماع الألفة به وعلى يده، وقال: إن يزيد ابنه المتقيل له، السالك لمناهجه المحتذي لمثاله، وقد زادكم مائة مائة في أعطيتكم، فلا يبقين رجل من العرفاء والمناكب والتجار والسكان إلا خرج فعسكر معي، فأيما رجل وجدناه بعد يومنا هذا متخلفاً عن العسكر برئت منه الذمة)[21].

وجاء في ترجمة الإمام الحسين من الطبقات: (فلما رأى الحسين عمر بن سعد قد قصد له فيمن معه قال: يا هؤلاء اسمعوا يرحمكم الله، ما لنا ولكم! ما هذا بكم يا أهل الكوفة؟ قالوا: خفنا طرح العطاء، قال: ما عند الله من العطاء خير لكم وكان معه من أهل بيته تسعة عشر رجلا..)[22].

ولم يكتف ابن مرجانة لعنه الله بالجيش الذي مع عمر بن سعد والذي قوامه أربعة آلاف مقاتل، ولا بأهل الكوفة الذين أخرجهم عن بكرة أبيهم طوعا أو كرها، حتى بعث يستمد الرجال من مناطق أخرى، قال البلاذري: (ثم خرج ابن زياد فعسكر وبعث إلى الحصين بن تميم، وكان بالقادسية في أربعة آلاف فقدم النخيلة في جميع من معه)[23].

وقال أيضا: (وسرح ابن زياد أيضاً حصين بن تميم في الأربعة الآلاف الذين كانوا معه إلى الحسين بعد شخوص عمر بن سعد بيوم أو يومين، ووجه أيضاً إلى الحسين حجار بن أبجر العجلي في ألف، وتمارض شبث بن ربعي، فبعث إليه فدعاه وعزم عليه أن يشخص إلى الحسين في ألف ففعل... ووجه أيضاً يزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم في ألف أو أقل... ثم جعل ابن زياد يرسل العشرين والثلاثين والخمسين إلى المائة غدوة وضحوة ونصف النهار وعشية من النخيلة، يمد بهم عمر ابن سعد)[24].

ولكن هذه الكثرة الكثيرة من الخيل والرجال والعدة، لما كانت ترسل إلى كربلاء للالتحاق بجيش عمر بن سعد لعنه الله لم تكن تصل بكاملها، فقد كان الملتحقون في ذلك الجيش يفرون ويتخلفون ولا يصل من الألف إلا ثلاثمائة أو أربعمائة رجل، وفي هذا الصدد يقول البلاذري: (وكان الرجل يبعث في ألف فلا يصل إلا في ثلاثمائة أو أربعمائة وأقل من ذلك كراهة منهم لهذا الوجه)[25].

وقال الدينوري في الأخبار الطوال: (وكان ابن زياد إذا وجه الرجل إلى قتال الحسين في الجمع الكثير، يصلون إلى كربلاء، ولم يبق منهم إلا القليل، كانوا يكرهون قتال الحسين، فيرتدعون، ويتخلفون. فبعث ابن زياد سويد بن عبد الرحمن المنقري في خيل إلى الكوفة، وأمره أن يطوف بها، فمن وجده قد تخلف أتاه به. فبينا هو يطوف في أحياء الكوفة إذ وجد رجلا من أهل الشام قد كان قدم الكوفة في طلب ميراث له، فأرسل به إلى ابن زياد، فأمر به، فضربت عنقه. فلما رأى الناس ذلك خرجوا)[26].

وهذا التخلف والفرار من الالتحاق أرغم عبيد الله بن مرجانة لعنه الله على إرسال دورات من جيشه تدور في أزقة وطرقات الكوفة وأحيائها ليكلموا الناس ويحذروهم مغبة التخلف وعدم الالتحاق بالجيش والخروج لنصرة عمر بن سعد لعنه الله، ومن لم يخضع للنصيحة أرغم على الالتحاق، فان بقي متخفيا متخلفا قتل، وفي هذا الصدد يقول البلاذري: (ثم دعا ابن زياد كثير بن شهاب الحارثي، ومحمد بن الأشعث بن قيس، والقعقاع بن سويد بن عبد الرحمن المنقري، وأسماء بن خارجة الفزاري، وقال: طوفوا في الناس فمروهم بالطاعة والاستقامة وخوفوهم عواقب الأمور والفتنة والمعصية، وحثوهم على العسكرة. فخرجوا فعذروا وداروا بالكوفة ثم لحقوا به غير كثير بن شهاب فإنه كان مبالغاً يدور بالكوفة يأمر الناس بالجماعة ويحذرهم الفتنة والفرقة، ويخذل عن الحسين... ثم ان ابن زياد استخلف على الكوفة عمرو بن حريث، وأمر القعقاع بن سويد بن عبد الرحمن بن بجير المنقري بالتطواف بالكوفة في خيل، فوجد رجلاً من همدان قد قدم يطلب ميراثاً له بالكوفة، فأتى به ابن زياد فقتله فلم يبق بالكوفة محتلم إلا خرج إلى العسكر بالنخيلة)[27].

ثم كتب عبيد الله بن مرجانة لعنه الله إلى عمر بن سعد لعنه الله قبل مقتل الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه بثلاثة أيام ان يقطع عنهم سبل الوصول إلى الماء، ليضعف الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه تمهيدا لبدء القتال، قال الشيخ المفيد: (وورد كتاب ابن زياد في الأثر إلى عمر بن سعد: أن حل بين الحسين وأصحابه وبين الماء فلا يذوقوا منه قطرة، كما صنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان. فبعث عمر بن سعد في الوقت عمرو بن الحجاج في خمسمائة فارس، فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء أن يستقوا منه قطرة، وذلك قبل قتل الحسين بثلاثة)[28].

عمر بن سعد لعنه الله يشارك في القتال والسلب والنهب


في الوقت الذي طال الحصار على معسكر الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وفيهم النساء والأطفال وكبار السن والمرضى، وبينما كانت قلوبهم تتفطر من شدة العطش، كان عمر بن سعد لعنه الله مستنقعا في الفرات يسبح ويتبرد ينتظر ساعة الصفر ليشن حربه الشعواء ضد أهل الحق وجبهة الإيمان، فعن (سعد بن عبيدة قال: إنا لمستنقعين في الفرات مع عمر بن سعد إذ أتاه رجل فساره فقال قد بعث إليك ابن زياد جويرة بن بدر التميمي وأمره إن أنت لم تقاتل أن يضرب عنقك)[29].

فلما عزم لعنه الله على الحرب والمواجهة واستئصال أهل البيت صلوات الله وسلامه عليه وليثبت ولاءه لسيده عبيد الله بن مرجانة ويزيد بن معاوية لعنهما الله، قدح بنفسه أول شرارة لمعركة راح ضحيتها خيرة أهل الأرض، فأطلق سهما من كبد قوسه نحو معسكر الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه معلنا فيه بدء القتال، ثم صاح متبجحا مفتخرا يطلب من الناس الشهادة له عند أميره الطاغية بأنه أول من رمى، فلما شاهد المعسكر الكافر إمامهم الضال قد رمى بسهم تسارعوا في الرمي عسى ان ينالوا درجة السبق في المشاركة وبدء القتال ليحظوا بالجائزة والقربة عند ابن مرجانة ويزيد لعنهما الله، فعن حميد بن مسلم قال: (وزحف عمر بن سعد نحوهم ثم نادى يا زويد أدن رايتك قال فأدناها ثم وضع سهمه في كبد قوسه ثم رمى فقال اشهدوا أني أول من رمى، فلما دنا منه عمر بن سعد ورمى بسهم ارتمى الناس)[30].

وقال ابن الأثير في الكامل: (ثم قدم عمر بن سعد برايته وأخذ سهما فرمى به وقال اشهدوا لي أني أول رام)[31] وبعد ان رمى بسهمه ورمى الناس بسهامهم نحو ابن بنت رسول الله وحرمه وأطفال ثم: (نادى عمر بن سعد مولاه زيدا أن قدم الراية، فتقدم بها، وشبت الحرب)[32] وعزم عمر بن سعد على استئصال آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجميع من يقف مدافعا عنهم وترجم هذا العزم بكلمات قالها للحر بن يزيد الرياحي حينما سأله (أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال له: أي والله قتالا أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي)[33].

وعلى الرغم من ان المتعارف آنذاك هو عدم اشتراك قائد الجيش في المعركة الدائرة بينه وبين خصومه[34]، إلا أن عمر بن سعد أخرجه حقده وبغضه لآل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن مراعاة قواعد الحرب وأصول القتال، فشارك جيشه في القتال تارة، وفي السلب والنهب تارة أخرى، فمثلما كان أول من رمى بسهم نحو معسكر الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه كذلك كان أول من طعن في سرادق وخيام ومضارب عيالات الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه، فعن البخاري قال: (حدثنا موسى ثنا سليمان بن مسلم أبو المعلي العجلي قال سمعت أبي أن الحسين لما نزل كربلاء فأول من طعن في سرادقه عمر بن سعد)[35].

ومن يلاحظ كلمات الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه بحقه يوم عاشوراء يرى ان الإمام صلوات الله وسلامه عليه يلقي بجميع تبعات وأعمال وجرائم الجيش الكافر بعهدته وبرقبته، فحينما تقدم علي الأكبر ابن الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه: (رفع الحسين سبابته نحو السماء وقال: اللهم اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقا وخلقا ومنطقا برسولك، كنا إذا اشتقنا إلى نبيك نظرنا إلى وجهه، اللهم أمنعهم بركات الأرض، وفرقهم تفريقا، ومزقهم تمزيقا، واجعلهم طرائق قددا، ولا ترض الولاة عنهم أبدا، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلوننا. ثم صاح الحسين بعمر بن سعد: ما لك قطع الله رحمك ولا بارك الله لك في أمرك، وسلط عليك من يذبحك بعدي على فراشك، كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله)[36] فمع ان عمر بن سعد لعنه الله لم يباشر بنفسه قتل علي الأكبر صلوات الله وسلامه عليه إلا ان الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه يلقي بتبعة قتله وإزهاق نفسه عليه، ويحمله المسؤولية كاملة، مما يعني ان عمر بن سعد لعنه الله كان باستطاعته ان يوقف هذه المجزرة الإنسانية، وان باستطاعته أيضا ان يقلب ميزان ومعادلة الصراع الدائر بين الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه ويزيد بن معاوية لعنه الله، لكنه لعنه الله اختار الوقوف مع جبهة الباطل، وإثقال كفة الكفر، فاستحق ان تكون برقبته أوزار ذلك اليوم الرهيب.

وقد بلغ عمر بن سعد لعنه الله المرتبة العظمى من الوضاعة والخسة، وفقدانه لأقل صفات النزاهة في المواجهة، فبينما كان الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه قبل نزاله الأخير يودع عياله وحرمه وأطفاله ويهدئهم ويوصيهم بالصبر والتحمل ويبصرهم ما سيقع عليه بعدهم[37]، نادى أصحابه وجيشه ان يستغلوا فرصة انشغال الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه بعياله وحرمه، وعدم إعطائه فرصة التهيؤ للقتال والنزال، فاصدر أمره لهم قائلا: (ويحكم اهجموا عليه ما دام مشغولا بنفسه وحرمه والله إن فرغ لكم لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم، فحملوا عليه يرمونه بالسهام حتى تخالفت السهام بين أطناب المخيم وشك سهم بعض أزر النساء فدهشن وأرعبن وصحن ودخلن الخيمة ينظرن إلى الحسين كيف يصنع، فحمل عليهم كالليث الغضبان فلا يلحق أحدا إلا بعجه بسيفه فقتله والسهام تأخذه من كل ناحية وهو يتقيها بصدره ونحره...)[38].

 فهل كان عمر بن سعد لعنه الله يا ترى غافلا أو متغافلا عن ان هجوم هذا العسكر الكافر على الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وهو في وسط عياله وأطفاله ونسائه سيوقع يقينا الضرر والجراح والقتل في صفوف من أوصى برعايتهم رب العالمين من فوق سبع شداد وأوصى بهم وبرعايتهم النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بكلمات ومواقف تجل عن الإحصاء، والغريب ان أفعاله وأفعال جيشه الكافر كانت العرب في جاهليتهم الجهلاء تتنزه عن القيام بعشر من أعشار ما قاموا به وارتكبوه، فقد كانت العرب في جاهليتهم يستقبحون ان يعتدى على الأطفال والنساء، لذا طالبه الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وطالب جيشه الكافر بان يكونوا على اقل التقادير من عرب الجاهلية ان لم يكونوا من أصحاب الدين والمبدأ، قال السيد بن طاوس: (ولم يزل عليه السلام يقاتلهم حتى حالوا بينه وبين رحله فصاح عليه السلام ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارا في دنياكم هذه وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربا كما تزعمون)[39].

ولعمر بن سعد لعنه الله مواقف أخرى يوم عاشوراء يندى لها جبين الأحرار، فهو الذي شارك بسلب الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه ونهب ما في خيامه، فقد اشتهر انه لعنه الله اخذ درع الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وبقي عنده إلى ان خرج المختار فأخذها منه، قال السيد بن طاوس قدس الله روحه: (وأخذ نعليه الأسود بن خالد، وأخذ خاتمه بجدل بن سليم الكلبي فقطع أصبعه عليه السلام مع الخاتم، وهذا أخذه المختار فقطع يديه ورجليه وتركه يتشحط في دمه حتى هلك، وأخذ قطيفة له عليه السلام كانت من خز قيس بن الأشعث، وأخذ درعه البتراء عمر بن سعد، فلما قتل عمر بن سعد وهبها المختار لأبي عمرة قاتله)[40].

عجبا لمال الله أصبح مقسما  *** في رائح للظالمين وغاد
عجبا لآل الله صاروا مغنما  *** لبني الطليق هدية وزياد
عجبا لذي الأفلاك لم لا عطلت *** والشهب لم تبرز بثوب حداد

وهو الذي انتدب الخيل وأمر بسحق جسد الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه ورض صدره الشريف، قال المقريزي الشافعي: (...حتى قتل عليه السلام، وقد اشتد به العطش، وحزت رأسه، وانتهب متاعه، فوجد به ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وثلاثون ضربة، ثم طرحت جثته ووطئها الفرسان بخيولها حتى رضوا ظهره وصدره)[41].

وقال العلامة المجلسي قدس الله روحه: (ثم نادى عمر بن سعد في أصحابه: من ينتدب للحسين فيوطئ الخيل ظهره، فانتدب منهم عشرة وهم إسحاق بن حوية الذي سلب الحسين عليه السلام قميصه، وأخنس بن مرثد، وحكيم بن الطفيل السنبسي، وعمرو بن صبيح الصيداي، ورجاء بن منقذ العبدي، وسالم بن خيثمة الجعفي، وواحظ بن ناعم، وصالح بن وهب الجعفي، وهانئ بن ثبيت الحضرمي، وأسيد بن مالك، فداسوا الحسين عليه السلام بحوافر خيلهم حتى رضوا ظهره وصدره)[42].

وقال ابن الأثير: (ولما قتل الحسين أمر عمر بن سعد نفرا فركبوا خيولهم وأوطؤوها الحسين)[43].

وقد شكك مناصرو يزيد بن معاوية ومؤيدو بني أمية كعادتهم بالبديهيات، وأنكروا الواضحات، ومن هؤلاء المتعصبين المؤرخ الأموي النزعة ابن كثير ــ لا كثر الله من أمثاله ــ حيث أنكر ما اشتهر بين العام والخاص من ان عمر بن سعد قد وطأ صدر الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه بعد قتله، فقال: (ثم أمر عمر بن سعد أن يوطأ الحسين بالخيل، ولا يصح ذلك والله أعلم)[44] والروايات التاريخية من كتب الشيعة والسنة حجة عليه وعلى أمثاله من المتعصبين، إضافة إلى ان هذا المتعصب العنيد لم يظهر سبب عدم صحة هذا الحدث، واكتفى بقوله (والله أعلم) ومعلوم عند من له اطلاع ان إسقاط رواية أو عدة روايات عن الاعتبار لا يقبل من دون ذكر سبب وجيه ومقبول لذلك الاعتراض، وإلا لو كان الأمر يرجع إلى مجرد التشهي والقول جزافا ومن غير دليل لوجدنا كل روايات التاريخ مردودة لوجود المعترضين جزافا على امتداد التاريخ.

عمر بن سعد يسبي النساء والأطفال إلى ابن مرجانة ثم إلى يزيد


بعدما نال عمر بن سعد من الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه ومن أولاده وأصحابه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أمنيته، وفعل به وبهم كل ما يتوقع من إنسان هو بضحالة عمر بن سعد وخسته، بعث بشيرا إلى عبيد الله بن مرجانة يخبره بنصر جيش الكفر وقتل الأزكياء الأصفياء، وبعث مع هذا البشير ــ بشير السوء ــ رأس سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه، قال الدينوري: (وبعث عمر بن سعد برأس الحسين من ساعته إلى عبيد الله بن زياد مع خولي بن يزيد الأصبحي)[45].

وقال القندوزي: (ثم إن عمر بن سعد جمع قتلاه وصلى بهم ودفنهم، وترك الحسين وأصحابه)[46].

وقال الطبري: (وأقام عمر بن سعد يومه ذلك والغد ثم أمر حميد بن بكير الأحمري فأذن في الناس بالرحيل إلى الكوفة وحمل معه بنات الحسين وأخواته ومن كان معه من الصبيان وعلي بن الحسين مريض)[47].

وقال المزي: (وسرح عمر بن سعد بحرمه وعياله إلى عبيد الله، ولم يكن بقي من أهل بيت الحسين عليه السلام إلا غلام كان مريضا مع النساء)[48].

وقال القندوزي في ينابيع المودة: (ثم إن عمر بن سعد توجه إلى الكوفة بالسبايا على الجمال، نحو أربعين جملا بغير وطاء ولا غطاء)[49].

وقال احمد بن اعثم الكوفي: (وساق القوم حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كربلاء كما تساق الأسارى)[50].

وعن قرة بن قيس التميمي قال: (نظرت إلى تلك النسوة لما مررن بحسين وأهله وولده صحن ولطمن وجوههن قال فاعترضتهن على فرس فما رأيت منظرا من نسوة قط كان أحسن من منظر رأيته منهن...فما نسيت من الأشياء لا أنسى قول زينب ابنة فاطمة حين مرت بأخيها الحسين صريعا وهى تقول يا محمداه يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء هذا الحسين بالعرا مرمل بالدما مقطع الأعضا يا محمداه وبناتك سبايا وذريتك مقتلة تسفي عليها الصبا قال فأبكت والله كل عدو وصديق)[51].

ثم انبرى المتملقون من المؤرخين ليدافعوا عن عمر بن سعد لعنه الله عن طريق إنكارهم لسبيه لنساء الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وأطفاله، وقد تزعم هذه الحملة كالعادة ابن تيمية الأموي الهوى حيث قال: (وأما ما ذكره[52] من سبي نسائه والذراري والدوران بهم في البلاد وحملهم على الجمال بغير أقتاب فهذا كذب وباطل ما سبى المسلمون ولله الحمد هاشمية قط ولا استحلت أمة محمد صلى الله عليه و سلم سبي بني هاشم قط ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيرا)[53].

أقول: بل ابن تيمية هو الكذاب، فقد أعماه تعصبه للأمويين، وبغضه لأهل البيت ونصبه لهم عن إنكار الحقائق التاريخية التي تكاد تكون بديهية، وكم من كذبة وكذبة قد ألزم بها ابن تيمية وأتباعه وكشفت بها خبايا نفوسهم وما انطوت عليه من النصب والبغض والغيظ لكل ما من شأنه ان يحكي مظلومية أهل البيت صلوات الله وسلامه عليه أو يفضح أعداءهم، ((وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ))[54].

وحينما وصلت السبايا إلى الكوفة وأدخلت إلى الدعي عبيد الله بن زياد لعنه الله لم أجد بحسب تتبعي في المصادر التي بين يدي لعمر بن سعد لعنه الله أثرا يعتد به، ولعل ذلك يعود إلى ان شخصية عبيد الله بن مرجانة وما وقع في الكوفة من أحداث بينه وبين الإمام زين العابدين صلوات الله وسلامه عليه والسيدة زينب صلوات الله وسلامه عليها قد غطت بأحداثها على شخصية عمر بن سعد.

ثم عاد عمر بن سعد وظهر اسمه من جديد حينما أراد عبيد الله بن مرجانة ان يسير السبايا ورؤوس الشهداء إلى يزيد بن معاوية، فأوكل هذه المهمة لعدة أشخاص كان عمر بن سعد لعنه الله من بينهم، قال القندوزي الحنفي: (ثم ابن زياد دعا الشمر اللعين، وخولي، وشبث بن ربعي، وعمر بن سعد، وضم إليهم ألف فارس، وأمرهم بأخذ السبايا والرؤوس إلى يزيد، وأمرهم أن يشهروهم في كل بلدة يدخلونها، فساروا على ساحل الفرات...)[55].

وروى ابن حاتم العاملي عن سليمان بن مهران الأعمش قوله: (بينا أنا في الطواف أطوف بالبيت وكنا بالموسم إذ رأيت رجلا يدعو ويقول في دعائه: اللهم اغفر لي وأنا أعلم أنك لا تغفر لي قال. فارتعت لذلك، ثم دنوت إلى الرجل فقلت: يا هذا أنت في حرم الله عز وجل وهذه أيام حرم في شهر عظيم، فلم تأيس من المغفرة؟ فقال: يا هذا إن ذنبي عظيم. فقلت: أعظم من تهامة ؟ قال: نعم. قلت أعظم من الجبال الرواسي ؟ قال: نعم وإن شئت أخبرتك. فقلت: أخبرني: قال:...أنا أحد من كان في العسكر المشؤوم عسكر عمر بن سعد حين قتل الحسين «عليه السلام»، وكنت أحد الأربعين الذين حملوا الرأس إلى يزيد قبح الله وجهه، وكان السبب في ذلك إنا فارقنا الكوفة وحملناه على طريق الشام فنزلنا على دير النصارى، وكان الرأس معنا مركوز على رمح ومعه الأحراس، فوضعنا الطعام وجلسنا لنأكل، وإذا بكف تكتب على حائط الدير:

أترجو أمة قتلت حسينا *** شفاعة جده يوم الحساب

قال: فجزعنا لذلك جزعا شديدا، وأهوى بعضنا إلى الكف ليأخذها فغابت. ثم عاد أصحابي إلى الطعام ليأكلوا فإذا الكف قد عادت تكتب مثل الأول، فقام أصحابنا إليها فغابت، فامتنعت من الطعام وما هنأني أكله.

ثم أشرف علينا راهب من الدير فرأى نورا ساطعا من فوق الرأس، فأشرف فرأى عسكرا، فقال الراهب للحرس: من أين جئتم ؟ قالوا: من العراق حاربنا الحسين بن علي. فقال الراهب... لي إليكم حاجة. قالوا: وما هي ؟ قال: قولوا لرئيسكم عندي عشرة آلاف دينار ورثتها عن أبي وورثها أبي عن جدي ليأخذها ويعطيني الرأس يكون عندي إلى وقت الرحيل، فإذا رحل رددته إليه. فأخبروا عمر بن سعد بذلك فقال: خذوا منه الدنانير وأعطوه الرأس إلى وقت الرحيل... ثم قال لهم: إني أحتاج أن أكلم رئيسكم بكلمة وأعطيكم الرأس. فدنا عمر بن سعد منه فقال له: سألتك بالله وبحق محمد أن لا تعود إلى ما كنت تفعله بهذا الرأس، ولا يخرج هذا الرأس من هذا الصندوق. فقال له: أفعل.... ومضى عمر بن سعد ففعل بالرأس مثل ما كان يفعل في الأول...فلما نزل عمر بن سعد لعنه الله قال للجارية: علي بالجرابين، فأحضرا بين يديه، فنظر إلى خاتمه، ثم أمر أن يفتحهما فإذا الدنانير قد تحولت خزفاً، فنظروا إلى سكتها فإذا على جانب مكتوب: ((وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ))[56] وعلى الوجه الآخر مكتوب: ((وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ))[57] فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون خسرت الدنيا والآخرة.

ثم قال لغلمانه: اطرحوها في النهر، فطرحوها، ودخل دمشق من الغد، وأدخل الرأس إلى يزيد اللعين)[58].

هل يمكن بعد كل ذلك القول بان عمر بن سعد ثقة؟


ان من عجيب العصبية والمكابرة توثيق بعض كبار أهل السنة لعمر بن سعد لعنه الله، بل وتعدى البعض إلى مدحه وإضفاء صفات البطولة والشجاعة عليه، كما قال خير الدين الزركلي في كتابه الأعلام حيث قال: (عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري المدني: أمير، من القادة الشجعان)[59].

وقال عنه العجلي: (عمر بن سعد بن أبي وقاص مدني ثقة كان يروي عن أبيه أحاديث وروى الناس عنه وهو الذي قتل الحسين قلت كان أمير الجيش ولم يباشر قتله)[60].

وقال الذهبي: (عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري. هو في نفسه غير متهم، لكنه باشر قتال الحسين وفعل الأفاعيل)[61].

وقال ابن حجر: (عمر بن سعد بن أبي وقاص المدني نزيل الكوفة صدوق ولكن مقته الناس لكونه كان أميرا على الجيش الذين قتلوا الحسين بن علي من الثانية)[62].

أما ابن خلكان فقد أضحكني حينما قرأت ترحمه على القاتل والمقتول، وعلى الجاني والمجني عليه، قال: (فخرج الحسين إلى الكوفة وأميرها يومئذ عبيد الله بن زياد فلما قرب منها سير إليه جيشا مقدمه عمر بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فقتل الحسين رضي الله عنه بالطف وجرى ما جرى)[63].

وقد نقل السيد المرعشي قدس الله روحه عن كتاب تهذيب التهذيب ما نصه: (وعمر ابن سعد بن أبي وقاص الذي قال في تهذيب التهذيب بعد ذكر اسمه ما لفظه: هو تابعي، ثقة ثقة، وهو الذي قتل الحسين، ثم قال سيدنا الشريف محمد بن العقيل العلوي المتقدم ذكره في كتابه المرقوم بعد نقل كلام التهذيب ما لفظه: وأقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، بخ بخ بخ، يا له من تابعي! ويا لها من عدالة! ويرحم الله القائل:

إن كان هذا نبيا *** فالكلب لا شك ربي)[64]

وقد فاق القاري جميع الحدود ونزع بدفاعه عن عمر بن سعد ثوب الحياء، حيث جعل قتلة أبناء الأنبياء من المجتهدين وأصحاب الرأي فقال موزورا غير مأجور: (إنه لم يباشر لقتله، ولعل حضوره مع العسكر كان بالرأي والاجتهاد، وربما حسن حاله وطاب مآله، ومن الذي سلم من صدور معصية عنه وظهور زلة منه، فلو فتح الباب أشكل الأمر على ذوي الألباب)[65].

ولم أعثر على سبب حقيقي تحمل عليه هذه التوثيقات غير التعصب الأعمى على حساب الحقيقة، وليس عمر بن سعد وتوثيقهم إياه وروايتهم عنه في مسانيدهم، بأعجب من توثيقهم لعبد الرحمن بن ملجم قاتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه، وعمران بن حطان رأس الخوارج في زمانه والذي جعله البخاري من رجال صحيحه، وقد أخرج العلامة الأميني قدس الله روحه في كتابه العظيم كتاب الغدير ستة عشر موردا تعصب فيه علماء أهل السنة فوثقوا رجالا اشتهر أمرهم وافتضحوا ببغضهم لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه وأهل بيته، وقد اخترنا منهم الآتي:

1: خالد القسري: قال الذهبي: (خالد بن عبد الله القسري الدمشقي البجلي الأمير. عن أبيه. عن جده، صدوق لكنه ناصبي بغيض، ظلوم. قال ابن معين: رجل سوء يقع في علي)[66]، وعن فضل بن الزبير: (سمعت القسري يقول في علي ما لا يحل ذكره)[67]، وكان يسمي زمزم بـ (أم الخنافس)[68]، وكان يقول بشأن الكعبة: (والله لو كتب إلي أمير المؤمنين ــ عبد الملك بن مروان ــ، لنقضتها حجرا حجرا)[69]، وقد بنى لأمه كنيسة في داره[70]، ومع كل هذه المصائب فان الذهبي يقول: (قيل لسيار: تروي عن خالد القسري قال: إنه كان أشرف من أن يكذب. وذكره ابن حبان في الثقات)[71].

2: حريز بن عثمان الرحبي أبو عثمان الحمصي: قال عبد الله بن عدي: (قال أبو اليمان كان حريز يتناول رجلا يعني عليا)[72]، وقال يحيى بن صالح الوحاظي: (أملى علي حريز بن عثمان عن عبد الرحمن بن ميسرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا في تنقيص علي بن أبي طالب لا يصلح ذكره حديث معقل منكر جدا لا يروي مثله من يتقي الله. قال الوحاظي فلما حدثني بذلك قمت عنه وتركته)[73]، وقيل ليحيى بن صالح: (لم لم تكتب عن حريز فقال كيف أكتب عن رجل صليت معه الفجر سبع سنين فكان لا يخرج من المسجد حتى يلعن عليا سبعين مرة. وقال ابن حبان كان يلعن عليا بالغداة سبعين مرة وبالعشي سبعين مرة فقيل له في ذلك فقال هو القاطع رؤوس آبائي وأجدادي)[74]، وعن (إسماعيل بن عياش قال عادلت حريز بن عثمان من مصر إلى مكة فجعل يسب عليا ويلعنه)[75] وعن: (إسماعيل بن عياش سمعت حريز بن عثمان يقول هذا الذي يرويه الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي أنت مني بمنزلة هارون من موسى، حق ولكن أخطأ السامع قلت فما هو فقال إنما هو أنت مني بمنزلة قارون من موسى قلت عمن ترويه قال سمعت الوليد بن عبد الملك يقوله وهو على المنبر)[76]، وعن (يحيى بن المغيرة قال ذكر أن حريزا كان يشتم عليا على المنابر)[77].

ومع كل هذه الطامات العظام والمخازي الجسام فقد وثقه علماء أهل السنة واخذوا بأحاديثه، قال الرازي: (أحمد بن حنبل قال: ليس بالشام أثبت من حريز إلا أن يكون بحير)[78]، وعن عبد الرحمن قال: (سمعت أبي يقول: حريز بن عثمان حسن الحديث... ولا أعلم بالشام أثبت منه، هو أثبت من صفوان بن عمرو وأبي بكر بن أبي مريم، وهو ثقة متقن)[79]، وقال ابن عدي: (وحريز بن عثمان من الاثبات في الشاميين يحدث عنه الثقات من أهل الشام... وحريز يحدث عن أهل الشام عن الثقات منهم وقد وثقه يحيى القطان ومعاذ بن معاذ وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين ودحيم)[80].

وليت ان القوم أنصفوا وتعاملوا مع مبغضي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه ومبغضي أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بنفس الطريقة التي يتعاملون بها مع مبغضي أبي بكر بن أبي قحافة أو عمر بن الخطاب أو سائر الصحابة، وليتهم تعاملوا مع قتلة أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه وقتلة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بالطريقة التي تعاملوا معها مع قاتل عمر بن الخطاب، أو قتلة عثمان بن عفان، فإنهم وللأسف تناقضوا ولم ينصفوا، ففي الوقت الذي وثقوا مبغضي أهل البيت وقتلتهم، حكموا بالكفر والزندقة على كل من يبغض أبا بكر بن أبي قحافة أو عمر بن الخطاب أو عائشة بنت أبي بكر، فلم يقبلوا له قولاً ولا رواية بل حكموا عليه بالسجن تارة وبالقتل تارة ثانية وبالضرب إلى أن يموت مرة ثالثة، قال عبد الرحمن بن قدامة: (وقال الفريابي: من سب أبا بكر فهو كافر لا يصلى عليه)[81].

وقال القاضي عياض: (ومن شتم أصحابه أدب وقال أيضا من شتم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص فإن قال كانوا على ضلال وكفر قتل وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالا شديدا)[82] ومن دقق النظر والتأمل في كلام القاضي عياض يكتشف بأنهم لم يذكروا في هذه الفقرة اسم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه مع انه وباعتقادهم أفضل من معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص لعنهما الله، وباعتقادنا انه أفضل الخمسة المذكورين في هذه الفقرة، وعلى كلا القولين يكون عدم إدخاله في هذه القاعدة تحيزا واضحا ومقصدا مكشوفا قد ذكرناه قبل قليل.

وقال السبكي: ((وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ جُلِدَ وَمَنْ سَبَّ عَائِشَةَ قُتِلَ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِيمَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ: أَمَّا الْقَتْلُ فَأَجْبُنُ عَنْهُ وَلَكِنْ أَضْرِبُهُ ضَرْبًا نَكَالاً... وَقَدْ قَطَعَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ بِقَتْلِ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ وَكُفْرِ الرَّافِضَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ وَسُئِلَ عَنْ مَنْ شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: كَافِرٌ، قِيلَ: يُصَلَّى عَلَيْهِ، قَالَ: لا))[83].

وقد قسم الذهبي البدعة إلى قسمين، بدعة صغرى وبدعة كبرى، وبين الكبرى بقوله: (ثم بدعة كبرى، كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة)[84].

فانظر بعين الإنصاف لترى كيف ان القوم قد حكموا بوثاقة من أبغض الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه وكان يسبه ويلعنه ليلا ونهارا وقائما وقاعدا، وحكموا على من يمس أبا بكر وعمر بعدم الاحتجاج بروايته وأقواله، مع ان النص النبوي جاء صريحا في المنع عن سب أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه والمساس بشخصه المقدس وان من سب عليا فقد سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بل قد سب الله سبحانه وتعالى، ولم يأتِ مثله فيمن مس أبا بكر وعمر، فعن أحمد بن حنبل عن(عبد الله الجدلي قال دخلت على أم سلمة فقالت لي أيسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم قلت معاذ الله أو سبحان الله أو كلمة نحوها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سب عليا فقد سبني)[85].

وقد علق الهيثمي على هذا الحديث بقوله: (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير أبي عبد الله الجدلي وهو ثقة. وعن أبي عبد الله الجدلي قال قالت لي أم سلمة: يا أبا عبد الله أيسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم قلت أنى يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت أليس يسب علي ومن يحبه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه. رواه الطبراني في الثلاثة وأبو يعلى ورجال الطبراني رجال الصحيح غير أبي عبد الله وهو ثقة. وروى الطبراني بعده بإسناد رجاله ثقات إلى أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثله)[86].

فيتبين لنا جليا بعد كل ما سبق، ان توثيق عمر بن سعد لعنه الله من قبل علماء أهل السنة، قد جاء ضمن مؤامرة كبيرة كانت ولا تزال قائمة، الهدف منها أوضح من قرص الشمس في رابعة النهار، فالإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه ومن قبله أبوه أمير المؤمنين وأخوه الإمام الحسن وأمه السيدة العظيمة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قد قتلوا مرتين، فالأولى كانت بسيوف وأيدي قاتليهم، والقتلة الثانية على أيدي هؤلاء المؤرخين الذين وثقوا قتلتهم وأثنوا على من اهتضمهم، ولم يساووهم ببقية الصحابة مع أنهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين خيرتهم وسادتهم وأفضل أهل الأرض بعد النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

ولو كان عمر بن سعد لعنه الله قد قتل أبا بكر أو عمر بن الخطاب لما كانوا وثقوه، ولكانوا أخرجوه عن حظيرة الإسلام وسلك الآدميين ولرموه بكل تهمة عظيمة ووصف مهين ولقالوا عنه زنديق أثيم، وخارجي بغيض ولصيروه من الجهمية أو القدرية، ولأفتوا بعدم دفنه والصلاة عليه ولبنوا له بيوتا في النار، وصبوا على رأسه من الجحيم، وسقوه من الحميم، فانا لله وإنا إليه راجعون.

عمر بن سعد يلاقي مصيره على يد المختار


لقد عاش عمر بن سعد أشد حالات الخيبة والذلة بعد قتله للإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وأهل بيته في كربلاء، لأنه لم يبق لنفسه دنيا ولا آخرة، فآخرته قد ضاعت لقتله ريحانة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، ودنياه قد تحطمت لان يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد لعنهما الله لم يفيا له بولاية الري التي من اجلها اهلك نفسه، ((لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ))[87]، فبقي في الكوفة منبوذا مهانا لا يجتمع الناس معه في مكان واحد، ويسبه كل من يراه، فترك الخروج وأصبح حبيس ذنبه وبيته، قال السيد المرعشي: (ثم قام عمر بن سعد لعنه الله عند ابن زياد يريد منزلته التي وعده بها فلم يف له فخرج من عنده وهو يقول ما رجع أحد مثل ما رجعت أطعت الفاسق ابن زياد الظالم ابن الفاجر وأغضبت الحاكم العدل وقطعت القرابة الشريفة وكان كلما مر على ملأ من الناس أعرضوا عنه وكلما دخل المسجد خرج الناس منه وكل من رآه سبه فلزم بيته إلى أن قتل عليه غضب الله)[88].

وبقي عمر بن سعد على حالته هذه من الذلة والمهانة والاحتقار إلى سنة ست وستين، حين تولى المختار السيطرة على الكوفة ومن حولها، فطلب كل من شارك بقتل الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه، وقتل منهم كل من وصلت إليه يده، وكان عمر ابن سعد من بين هؤلاء الأرجاس الذين طالتهم يد العدالة والقصاص، قال ابن الأثير: (وكان المختار قد خرج يطلب بثار الحسين بن علي رضي الله عنهما واجتمع عليه كثير من الشيعة بالكوفة فغلب عليها وطلب قتلة الحسين فقتلهم قتل شمر بن ذي الجوشن الضبابي وخولى بن زيد الأصبحي وهو الذي أخذ رأس الحسين ثم حمله إلى الكوفة وقتل عمر بن سعد بن أبي وقاص وهو كان أمير الجيش الذين قتلوا الحسين وقتل ابنه حفصا وقتل عبيد الله بن زياد)[89].

وقال خليفة بن خياط العصفري: (وفي سنة ست وستين... غلب المختار بن أبي عبيد على الكوفة...وقتل عمر بن سعد بن أبي وقاص وابنه حفص بن عمر بن سعد)[90].

وقال ابن قتيبة: (فلما كان أيام المختار بن أبي عبيد بعث إلى عمر بن سعد أباه عمرة مولى بجيلة فقتله وحمل رأسه إليه وعنده حفص بن عمر بن سعد فقال له المختار أتعرف هذا الرأس قال نعم هذا رأس أبي حفص قال المختار فألحقوا حفصا بأبي حفص)[91].

وقال محمد بن سعد: (سار المختار بأصحابه إلى منزل عمر بن سعد فقتله في داره وقتل ابنه أسوأ قتلة)[92].

وروى الدينوري قصة أخرى لمقتل عمر بن سعد لعنه الله فقال: (وبلغ المختار أن شبث بن ربعي، وعمرو بن الحجاج، ومحمد بن الأشعث مع عمر بن سعد قد أخذوا طريق البصرة في أناس معهم من أشراف أهل الكوفة، فأرسل في طلبهم رجلا من خاصته يسمى أبا القلوص الشبامي في جريدة خيل، فلحقهم بناحية المذار، فواقعوه، وقاتلوه ساعة، ثم انهزموا، ووقع في يده عمر بن سعد ونجا الباقون. فأتي به المختار، فقال: الحمد لله الذي أمكن منك، والله لأشفين قلوب آل محمد بسفك دمك، يا كيسان، اضرب عنقه. فضرب عنقه)[93].

ورواية مقتله في بيته وعلى فراشه أصح وأكثر اعتبارا من حيث ان الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه دعا عليه في يوم عاشوراء بقوله: (ما لك قطع الله رحمك، ولا بارك لك في أمرك، وسلط عليك بعدي من يقتلك على فراشك، كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من محمد صلى الله عليه وآله وسلم)[94]، فلعنه الله يوم ولد ويوم مات ويوم يغل إلى جهنم وبئس المصير.

ـــــــــــــــ
[1] انساب الأشراف للبلاذري ص 77ــ 78.
[2] تاريخ الطبري ج 4 ص 265.
[3] راجع على سبيل المثال تاريخ الطبري ج 4 ص 200 ــ 202.
[4] قال الحموي في معجم البلدان ج3 ص 116ــ 118: (وهي مدينة مشهورة من أمهات البلاد وأعلام المدن كثيرة الفواكه والخيرات، وهي محط الحاج على طريق السابلة وقصبة بلاد الجبال... والري مدينة ليس بعد بغداد في المشرق أعمر منها...وللري قرى كبار كل واحدة أكبر من مدينة...وحكى ابن الفقيه عن بعض العلماء قال: في التوراة مكتوب الري باب من أبواب الأرض وإليها متجر الخلق. وقال الأصمعي: الري عروس الدنيا وإليه متجر الناس... وكان عبيد الله بن زياد قد جعل لعمر بن سعد بن أبي وقاص ولاية الري إن خرج على الجيش الذي توجه لقتال الحسين بن علي، رضي الله عنه، فأقبل يميل بين الخروج وولاية الري والقعود، وقال: أأترك ملك الري والري رغبتي، أم ارجع مذموما بقتل حسين وفى قتله النار التي ليس دونها حجاب وملك الري قرة عين فغلبه حب الدنيا والرياسة حتى خرج فكان من قتل الحسين، رضي الله عنه، ما كان).
[5] تاريخ الطبري ج 4 - ص 309 ــ 310.
[6] البداية والنهاية لابن كثير ج 7 ص 313.
[7] بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج45 ص10 فيما قاله مولانا الحسين عليه السلام في يوم عاشورا لجماعة الكوفي من النصايح والمواعظ.
[8] الأخبار الطوال للدينوري ص 253.
[9] تاريخ الإسلام للذهبي ج 5 ص 13، سير أعلام النبلاء للذهبي ج 3 ص 298 ــ 299.
[10] البداية والنهاية لابن كثير ج 8 ص 204.
[11] منهاج السنة النبوية لابن تيمية ج2 ص68.
[12] شرح منهاج الكرامة في معرفة الإمامة للسيد علي الميلاني ج1 شرح ص72.
[13] تاريخ الطبري ج 4 ص 292 ــ 293.
[14] البداية والنهاية لابن كثير ج 8 ص 214.
[15] الأبيات بهذه الصيغة والترتيب تجدها في شرح منهاج الكرامة في معرفة الإمامة للسيد علي الميلاني ج1 شرح ص72.
[16] كتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي ج5 ص96 ذكر اجتماع العسكر إلى حرب الحسين بن علي.
[17] روضة الواعظين للفتال النيسابوري ص 181.
[18] انساب الأشراف للبلاذري ج1 ص415.
[19] انساب الأشراف للبلاذري ج1 ص416.
[20] ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من طبقات ابن سعد ص 69.
[21] انساب الأشراف للبلاذري ج1 ص416.
[22] ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من طبقات ابن سعد ص 69.
[23] المصدر السابق.
[24] المصدر السابق.
[25] المصدر السابق.
[26] الأخبار الطوال للدينوري ص 254 ــ 255.
[27] انساب الأشراف للبلاذري ج1 ص416.
[28] الإرشاد للشيخ المفيد ج2 ص86.
[29] تاريخ الطبري ج 4 ص 295 ــ 296، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج45 ص53، وتاريخ الإسلام للذهبي ج5 ص15.
[30] تاريخ الطبري ج 4 ص 326.
[31] الكامل في التاريخ لابن الأثير ج4 ص65.
[32] الأخبار الطوال للدينوري ص256.
[33] الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 4 ص 64.
[34] لذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اغلب حروبه ينصب له عريش على ربوة أو غير ذلك يراقب الجيش ويوجهه.
[35] التاريخ الصغير للبخاري ج1 ص178.
[36] بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 45 ص 42 ــ 43.
[37] قال السيد المقرم في مقتل الإمام الحسين عليه السلام ص290 في ذكره الوداع الثاني لسيد الشهداء عليه السلام: (ثم انه عليه السلام ودع عياله ثانيا وأمرهم بالصبر ولبس الأزر وقال استعدوا للبلاء واعلموا ان الله تعالى حاميكم وحافظكم وسينجيكم من شر الأعداء ويجعل عاقبة أمركم إلى خير... فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم...).
[38] مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق الموسوي المقرم ص291، منشورات مؤسسة النور للمطبوعات بيروت ــ لبنان.
[39] اللهوف في قتلى الطفوف للسيد ابن طاوس ص 71.
[40] اللهوف في قتلى الطفوف للسيد بن طاوس ص77 مقتل الحسين عليه السلام.
[41] إمتاع الأسماع للمقريزي ج 5 ص 364.
[42] بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 45 ص 59 ــ 60.
[43] أسد الغابة لابن الأثير ج 2 ص 21.
[44] البداية والنهاية لابن كثير ج 8 ص 205.
[45] الأخبار الطوال للدينوري ص 259.
[46] ينابيع المودة لذوي القربى للقندوزي ج3 ص86.
[47] تاريخ الطبري ج 4 ص 348.
[48] تهذيب الكمال للمزي ج 6 ص 429.
[49] ينابيع المودة لذوي القربى للقندوزي ج 3 ص 86.
[50] كتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي ج5 ص120.
[51] تاريخ الطبري ج 4 ص 348 ــ 349.
[52] الضمير يعود إلى العلامة الحلي قدس الله روحه صاحب كتاب منهاج الكرامة.
[53] منهاج السنة لابن تيمية ج4 ص558.
[54] سورة آل عمران الآية 119.
[55] ينابيع المودة لذوي القربى للقندوزي ج3 ص88 السبايا في طريقها إلى الشام.
[56] سورة ابراهيم الآية 42.
[57] سورة الشعراء الآية رقم 227
[58] الدر النظيم لإبن حاتم العاملي ص 561 ــ 564.
[59] الأعلام لخير الدين الزركلي ج 5 ص 47.
[60] معرفة الثقات للعجلي ج 2 ص 166 ــ 167.
[61] ميزان الاعتدال للذهبي ج 3 ص 198 ــ 199.
[62] تقريب التهذيب لابن حجر ج 1 ص 717.
[63] وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان ج6 ص353.
[64] شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي ج 1 ص المقدمة 22.
[65] نفحات الأزهار للسيد علي الميلاني ج15 ص237 نقلا عن كتاب المرقاة كتاب الجنائز الفصل الثاني من باب البكاء على الميت ص391.
[66] ميزان الاعتدال للذهبي: ج 1 ص 633.
[67] سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 5 ص 429.
[68] المصدر السابق.
[69] المصدر السابق.
[70] البداية والنهاية لابن كثير ج10 ص23 خالد بن عبد الله بن يزيد.
[71] تاريخ الإسلام للذهبي ج 8 ص83.
[72] الكامل لعبد الله بن عدي ج2 ص451 حريز بن عثمان الحمصي الرحبي.
[73] تهذيب التهذيب لابن حجر ج2 ص210.
[74] المصدر السابق.
[75] المصدر السابق ص209.
[76] المصدر السابق.
[77] تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج8 ص261 ذكر من اسمه حريز.
[78] الجرح والتعديل للرازي ج 3 ص 289.
[79] الجرح والتعديل للرازي ج 3 ص 289.
[80] الكامل لعبد الله بن عدي ج2 ص453.
[81] الشرح الكبير لعبد الرحمن بن قدامة ج 10 ص 64.
[82] الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض ج 2 ص 308.
[83] فتاوى السبكي فصل سب النبي ج5 ص45.
[84] ميزان الاعتدال للذهبي ج 1 ص 5 ــ 6.
[85] مسند احمد بن حنبل ج 6 ص 323.
[86] مجمع الزوائد للهيثمي ج 9 ص 130.
[87] سورة آل عمران الآية رقم 156.
[88] شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي ج 33 ص 646 ــ 647.
[89] أسد الغابة لابن الأثير ج 4 ص 336.
[90] تاريخ خليفة بن خياط لخليفة بن خياط العصفري ص 202.
[91] المعارف لابن قتيبة ص 243 ــ 244.
[92] الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد ج 5 ص 148.
[93] الأخبار الطوال للدينوري ص 301.
[94] كتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي ج 5 ص 114.

إرسال تعليق