بقلم: د. علي حسين يوسف
تعددت موضوعات الرثاء الحسيني في الحقبة موضوع الدراسة، بقدر تعدد أحداث واقعة الطف، وتعدد أطرافها، وتفاصيلها، فما من حدث كان كبيراً أو صغيراً إلا كان مادة فنيَّة صالحة لخلق الصور المعبرة، والمجسِّدة لواقع حال ذلك الحدث، لذا فليس من المبالغة في القول بأنَّ مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) كانت سجلاً حافلاً بالصور المجسدة لكل ما جرى في معركة ألطف، وإن كانت تلك المعركة " أكبر من أن تستوعب في معنى لفظي ذي أبعاد محدودة، وأعظم من أن تقاس بمقياس بشري "[1].
والملاحظ أنَّ تلك الموضوعات – على كثرتها – كانت ضمن محاور أساسية بارزة:
المحور الأول: يتمثل بشخصية الإمام الحسين (عليه السلام)، فقد كان الإمام الشخص الأول المقصود في الرثاء، مثلما كان محط إجلال وإكبار الشعراء في الوقت نفسه، لذلك تناول الشعراء شخصية الإمام الحسين (عليه السلام) من جانبين:
الجانب الأول: مأساته التي تمثلت في قلة أنصاره، وظمئه، وصبره[2].
الجانب الثاني: التعبير عن إجلال الشعراء للإمام الحسين، وتعظيمه، فهو أقرب إلى المديح منه إلى الرثاء[3].
ولا يعني ما تقدَّم أنَّ هذين الجانبين منفصلان عن بعضهما، بل إنَّ الشعراء كثيراً ما أكدوا فضل الحسين، في موضع التشنيع على فعل أعدائه، أي أنَّ منزلة الحسين (عليه السلام) كانت سبباً لذم الخصوم الذين لم يراعوا حقاً لتلك المنزلة الكبيرة، في الوقت الذي كان هذا مثار أسى في نفوس الشعراء[4].
وعماد هذا المحور ومرتكزه صلة الإمام الحسين (عليه السلام) بالرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلطالما أكد الشعراء هذه الصلة لإضفاء الصبغة الدينية على مراثيهم، ولتهويل الجرم الذي ارتكب بحق ابن بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول محمد حسن أبو المحاسن[5]: (من الطويل)
عدمناك من دهر خؤون لأهله *** إذا ما انقضى خطبٌ له راعنا خطبُ
على أنَّ رزءَ الناسِ يخلق حقبة *** ورزء بني طه تجدده الحقبُ
فقد أكّد الشاعر أنَّ مقتل الحسين (عليه السلام) كان وجهاً لغدر الدهر وشؤمه، وكان قوله (بني طه) إشارة إلى منزلة الإمام الحسين (عليه السلام) عند الله ورسوله، والتي لم ترع حرمتها[6].
ولتأكيد منزلة الإمام الحسين (عليه السلام) كان الشعراء ينهلون من المأثور الذي جسَّد تلك العظمة، كنوع من المحاججة غير المباشرة لإفحام الخصم، يقول محسن أبو الحب[7]: (من البسيط)
وكيف لا تحزن الدنيا وساكنها *** على مصاب الإمام السيد البطلِ
فالركن يبكيه والبيت الحرام ومن *** سعى وطاف فمن داع ومبتهلِ
.......................................
له الملائك و السبعُ الشداد بكتْ *** ومن على الأرض من حافٍ ومنتعلِ
هو العزيز الذي جبريل لازمهُ *** في مهده وكساه فاخرَ الحللِ
وفطرسُ لاذ فيه وهو معتصم *** به فنال الرضى من واحدٍ أزل[8]
فالشاعر استند إلى ما روي عن مظاهر الحزن التي عمَّت السماء والأرض، وشملت الملائكة والناس والموجودات إثر مقتل الحسين[9]، فضلاً عمّا روي من احتفاء الملائكة بمولده الطاهر في إشارة إلى هول الفاجعة.
أما المحور الثاني الذي أكدته المراثي الحسينيَّة في هذه الحقبة، فكان يتعلَّق بشخصية السيدة زينب بنت علي (عليهما السلام)، فقد كانت جزءاً مهماً من مأساة كربلاء، ويجد القارئ لتلك المراثي أنَّ الشعراء رسموا لهذه السيدة الكريمة صورتين، الأولى: صورة المرأة المفجوعة الباكية على أخيها، وأهل بيتها[10]، والأخرى: صورة المرأة القويَّة التي تحمَّلت أعباء المسؤولية بعدما حلَّ بأهلها[11].
وقد تتعاضد الصورتان، وتجتمعان في المرثية الواحدة لخلق حالة من الحزن (الهادف)، الذي تجلى في شخصية زينب (عليها السلام)، يقول أحمد بن درويش[12] على لسان زينب مخاطبة جدها الرسول الكريم (ص): (من الكامل)
يا جدَّنا هذا حسينك بالعرا *** فوق الصعيد عليه تسفى الزوبعُ
فقد تضمَّن قول الشاعر (يا جدنا)، و (هذا حسينك) دلالة عميقة تشير إلى فجيعة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بمقتل الحسين (عليه السلام)، وقد جعل الشاعر من ذلك نداءً حزيناً من السيدة زينب (عليها السلام) لجدها المصطفى في إشارة إلى انتهاك الأعداء لحرمات رسول الله.
ويقول عبد العظيم الربيعي[13]: (من الخفيف)
فدعته ابن ام إن كنت حيا *** دمتَ حياً وللحقيقة حامي[14]
فالسيدة زينب كانت على وعي بالمهمة التي نهض من أجلها الحسين (عليه السلام)، فهي لا تستصرخه باكية نادبة، إنما نادته ب (دمت حياً وللحقيقة حامي) في إشارة إلى أنَّ ثورة الإمام كانت تهدف إلى ترسيخ الحقائق الإسلامية. وقال علي البازي[15]: (من البسيط)
نادته بنت علي يا بن فاطمةٍ *** يا ليت عيني أصيبتْ قبل ذا بعمى
ولا أراك على الرمضاءِ منعفراً *** ومنك صدر الهدى بالخيل قد هُشِما
فقد أكَّد الشاعر القيمة المعبرة لنداءات زينب (عليها السلام) يوم عاشوراء، في قولها (صدر الهدى... هشما) لإبراز الجرم الذي جاء به أعداء الإمام حينما أقدموا على فعلتهم في كربلاء.
وقد حاول الشعراء أن تكون شخصية السيدة زينب تستمد قوتها، وصلابتها من قوة الإمام الحسين (عليه السلام) وصلابته، وهو يواجه أعداءه، يقول محمد حسن سميسم[16]: (من البسيط)
فجاء منفرداً – فرد الوجود – لها *** وقال يا أختي لا تبكي وتنتحبِ
لا ترفعي الصوتَ والأعرابُ تسمعه *** لم تعلمي أننا السادات في العربِ
فقد أكد الشاعر جملة من الحقائق تتعلق بشجاعة الإمام، وهو يحاول أن يقوي من عزيمة اخته، بعد أن أيقن أنه مقتول لا محالة[17]، لكنه كان في أعلى درجات الإباء والتضحية، وهو ينصح أخته بأن لا تظهر ضعيفة باكية، وفي قول الشاعر على لسان حال الإمام الحسين (لا ترفعي الصوت) إشارة واضحة إلى حرصه على القيم الدينية والأخلاقية المتمثلة في كراهية سماع صوت المرأة، لتكتسب المرثية أبعاداً تربوية وأخلاقية.
أما المحور الثالث فيتعلق بأصحاب الحسين (عليه السلام)، فقد استمدَّ الشعراء مقومات الإشادة بهؤلاء الرجال مما روي عن الإمام الحسين (عليه السلام) حين خاطبهم قائلاً: " إني لا أعلم أصحاباً أولى، ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبر وأوصل من أهل بيتي... فجزاكم الله عني جميعاً خيرا.. "[18]، فالشاعر يستمد معانيه من أقوال الحسين في واقعة كربلاء، ويوظفها في شعره، فهو يستلهم أقوال الإمام وبلاغته يوم عاشوراء.
والملاحظ أنَّ هذا المحور كان أقرب إلى المديح الخالص[19]، وذلك نابع من الموقف المبدئي العالي، والإخلاص للعقيدة اللذين تجسدا في تصميم هؤلاء الرجال على القتال إلى جنب الإمام الحسين (عليه السلام) على الرغم من أنه خيَّرهم بين البقاء معه أو تركه إن شاؤوا، فما كان من مسلم بن عوسجة إلا وأجاب الإمام قائلاً: " أنحن نتخلى عنك؟ ! ولما نعذر إلى الله في أداء حقك، أما والله حتى أكسر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي !!! ولا أفارقك، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك.."[20].
وقد جسَّد الشعراء هذه المعاني في مراثيهم للإمام الحسين (عليه السلام)، قال حسين بستانة[21]: (من البسيط)
الصائلون كما صالت أوائلهمْ *** والفاعلون على اسم الله ما فعلوا
................
هم الفوارس ما ذلَّت رقابهمُ *** لله ما أرخصوا منها وما بذلوا
هذا الرثاء الإسلامي في ألفاظه ومعانيه يستند إلى جملة من المقومات، تصب كلها في إيمان هؤلاء بالقضية الحسينية، إذ لم يكن دافعهم لنصرته عصبية قبليَّة، ولم يكن لأغراض شخصيَّة، فهؤلاء الرجال موفورو الإيمان على أتم الاستعداد لبلوغ أعلى ما يشهده المؤمن الكامل من يقين في رحاب الله[22].
أما المحور الرابع، فكان يتعلَّق بأعداء الحسين، وهو أقرب إلى الهجاء، فقد حاول الشعراء الانطلاق من أحاديث الرسول الكريم في عقوبة قاتل الحسين إلى ذم هؤلاء، ووعيدهم بعاقبة مخزية، ومن البديهي أن يكون يزيد بن معاوية أول هؤلاء الأعداء إدانة من لدن الشعراء، فهو الخليفة وقتئذ، وهو الذي أمر بقتل الحسين (عليه السلام).
يقول بدر شاكر السياب[23]، مخاطباً يزيد، ومستوحياً حديثاً للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)[24]: (من الكامل)
حيران في قعر الجحيم معلق *** ما بين ألسنة اللظى الحمراء
أبصرت ظلَّك يا يزيد يرجه *** موج اللهيب وعاصف الأنواء
وقد أكد الشعراء الصفات السلبية لأعداء الحسين، وكان تأكيدهم في المقام الأول على اتباع القوم لأهوائهم، وتركهم لأمر الآخرة، إذ لم يكن لدى هؤلاء مبدأ أو عقيدة يقاتلون من أجلها، " ولو كانوا يحاربون بعقيدة لما لصقت بهم وصمة النفاق، ومسبة الأخلاق "[25]، يقول الشيخ كاظم آل نوح[26]: (من الخفيف)
يا لها عصبة أضاعت رشاداً *** ونأت عنه يوم فاض الشقاء
من تربى على الشقا كيف يحلو *** عنده الحمد والهدى والثناء
وعصوا ناصحاً أطاعوا مضلاً *** واستخفت حلومها الأدعياء
ويقول الجواهري[27]: (من الطويل)
وغطى على الأبصارِ حقدٌ فلم تكنْ *** لتجهدَ عينٌ أن تمد وتبصرا
فهذا الذم والتشنيع على قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) ما هو إلا هجاء إسلامي يقوم على سلب صفة الإيمان من المهجو، لإظهاره بصورة المذموم عند الله.
وكانت الأحداث التاريخية معيناً للشعراء، وهم يتوعدون أعداء الحسين بسوء العاقبة، يقول مرتضى ال ياسين[28]: (من المتقارب)
دعوتهمُ لاتباع الهدى *** فلم تلقَ من أذن صاغيهْ
فخاضوا لظاها وحلوا بها *** كما حلَّت الفئة الباغيهْ
كأنَّ الشاعر يستحضر أمامه الجزاء الذي حاق بأعداء الحسين (عليه السلام) بعد سنوات قليلة، على يد المختار الثقفي[29]، فلم " تنقضِ ست سنوات على مصرع الحسين حتى حاق الجزاء بكل رجل أصابه في كربلاء، فلم يكد يسلم أحد من القتل والتنكيل، مع سوء السمعة، ووسواس الضمير "[30]، فالشاعر يختار من أحداث الثورة الحسينيّة ما يلبي أفكاره، ويسد ما في نفسه من حاجة إلى التشفي ممن قتل الإمام الحسين (عليه السلام) من دون أن يراعي حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] الحسين في الفكر المسيحي: 59.
[2] ينظر: ديوان يعقوب الحاج جعفر الحلي: 76، 83، 102، وديوان أبي الحب: 120، 141، وديوان السيد مهدي الطالقاني: 85، 87، وديوان الحويزي: 86، والأنواء (ديوان شعر): 175، وديوان السيد رضا الموسوي الهندي: 47، ومع النبي وآله: 1 / 92، وديوان الجعفري: 434، وشعراء كاظميون: 1 / 245، وأدب الطف: 10 / 64، 203.
[3] ينظر: ديوان يعقوب الحاج جعفر الحلي: 133، وديوان السيد رضا الموسوي الهندي: 42، وديوان الجعفري: 1 / 222، وديوان الوائلي: 1 / 179، شعراء كاظميون: 1 / 246.
[4] ينظر – مثلاً – ديوان السيد مهدي الطالقاني: 79.
[5] ديوان أبي المحاسن الكربلائي: 5.
[6] روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " اشتدَّ غضب الله وغضب رسوله على من أهرق دمي وآذاني في عترتي ". عيون أخبار الرضا: 1 / 30.
[7] ديوان أبي الحب: 141.
[8] فطرس يقال أنه كان ملكاً، وقد عوقب لرفضه ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) بكسر جناحه، فلما ولد الحسين (عليه السلام) استشفع به فشفع له، فقال: أنا عتيق الحسين (عليه السلام). ينظر: عجائب الملكوت: 371.
[9] ينظر ص10 من هذه الرسالة.
[10] ينظر: ديوان الشيخ كاظم آل نوح: 1 / 5، 3 / 677.
[11] ينظر: م. ن: 1 / 119، 3 / 367، ومجلة البيان ع (11 - 14) لسنة 1947: 52، 64.
[12] شعراء من كربلاء: 202.
[13] ديوان الربيعي: 1 / 141.
[14] الصحيح: إما حامياً لانه معطوف على حياً او حام على تقدير انت حام.
[15] يوم الحسين: 80.
[16] سحر البيان وسمر الجنان (ديوان شعر): 177.
[17] ورد أنَّ الإمام قال لأخته زينب ليلة عاشوراء: " إني أقسم عليك فأبري قسمي، ولا تشقي عليَّ جيباً، ولا تخمشي عليَّ وجهاً، ولا تدعي عليَّ بالويل والثبور " الكامل في التاريخ: 3 / 512 – 513، وتاريخ الطبري: 4 / 620، ومقاتل الطالبيين: 113 – 114.
[18] تاريخ الطبري: 3 / 461، والكامل في التاريخ: 4 / 57، وفيه: (أوفى) بدلاً من (أولى).
[19] ينظر: الأنواء (ديوان شعر): 176 – 177، وأدب الطف: 10 / 36، 212، 215، 217.
[20] تاريخ الطبري: 4 / 318، والكامل في التاريخ: 3 / 285.
[21] أدب الطف: 10 / 212.
[22] ينظر: الدوافع الذاتية لأنصار الحسين: 27.
[23] أزهار ذابلة وقصائد مجهولة: 88.
[24] روي عن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إن قاتل الحسين بن علي في تابوت من نار عليه نصف عذاب أهل الدنيا، وقد شدت يداه ورجلاه بسلاسل من نار... " عيون أخبار الرضا: 1 / 51.
[25] أبو الشهداء الحسين بن علي: 137.
[26] ديوان الشيخ كاظم آل نوح: 1 / 4.
[27] ديوان الجواهري: 2 / 272.
[28] مجلة الموسم، العدد 12 لسنة 1991: 373.
[29] ينظر: مروج الذهب: 3 / 89.
[30] أبو الشهداء الحسين بن علي: 117 – 118.
إرسال تعليق