سبب خروج الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء ثائرا

بقلم: الشيخ علي الفتلاوي

من خطبة للإمام الحسين عليه السلام قال فيها:

 (إنّ هذِهِ الدُّنْيا قَد تَغَيَّرَت وَتَنَكَّرَتْ وأدْبَرَ مَعرُوفُها، فَلَمْ يَبْقَ مِنْها إلاَّ صُبابَةٌ كَصُبابَةِ الإناءِ، وَخَسِيسُ عَيْشٍ كَالمَرعَى الوَبِيلِ، ألا تَرَوْنَ أنَّ الحَقَّ لا يُعْمَلُ بِه، وَأنَّ الباطِلَ لا يُتناهى عَنهَ، لِيَرْغَبْ المُؤْمِنُ في لِقاءِ اللهِ مُحِقّاً فَإنِّي لا أرَى الْمَوتَ إلاّ سَعادَةً، وَلاَ الحَياةَ مَعَ الظَّالِمينَ إلاّ بَرَماً. إنَّ النّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيا وَالدِّينُ لَعِقٌ عَلى ألسِنَتهم، يَحُوطُونَهُ ما دَرَّت مَعائِشُهُم، فَإذا مُحِّصُوا بِالبَلاءِ قَلَّ الدَّيّانُونَ).

المعنى العام

يشير الإمام عليه السلام إلى الدنيا بأنها لم تبقَ على حالها السابق من تعظيم وتقدير واحترام أهل البيت عليه السلام أو من آداب وسلوك أهلها فيما بينهم، فإنها تبدلت وتغير حالها السابق وظهرت بمظهر آخر، وذهب خيرها ومعروفها، فلم يبق إلا قليلا كما يبقى في إناء الماء، وقليل تافه كالمرعى الوخيم، ألا ترون أن الحق لا يفعل به وأن المخالف والمغاير للصحيح لا يترك ولا ينهى فاعله، ليحب المؤمن لقاء الله وهو على صواب وحسن فعل وإيمان قلب، فإني لا أرى الموت إلا راحة وسروراً، ولا الحياة مع الظالمين إلا ضجراً وسئماً.

(إنَّ النّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيا وَالدِّينُ لَعِقٌ عَلى ألسِنَتهم، يَحُوطُونَهُ ما دَرَّت مَعائِشُهُم، فَإذا مُحِّصُوا بِالبَلاءِ قَلَّ الدَّيّانُونَ) يؤكد الإمام عليه السلام أن غير المؤمنين من الناس يعبدون الدنيا بما فيها من مال ونساء وجاه وهوى وشهوات وأمّا الدين والإيمان ليس إلا لحسة على الألسن ليس لها قرار ودوام يحفظونها ما كثرت وتيسرت أرزاقهم فإذا امتحنوا بالامتحان ترك الدين وتهافت من تلبس به.

ــ سبب خروج الإمام عليه السلام

لا يشك عاقل في أن خروج الإمام الحسين عليه السلام إلى العراق هو وفق الموازين الشرعية وضمن الإطار الإنساني والديني، ولا يحكم منصف بأن حركة الإمام عليه السلام تاركاً موطنه ومرابع طفولته من أجل الدنيا وإصابة المناصب والاستيلاء على الحكم، وعند تصفحنا لسيرة الإمام عليه السلام وقراءة التاريخ بعين مجردة من التعصب والحقد والنفس الطائفي نلمس بوضوح دوافع خروج الإمام عليه السلام ونقف على سببه الجوهري.

ولكي يطلع القارئ الكريم على السبب الرئيسي لخروج الإمام عليه السلام لابد من قراءة النصوص التاريخية التي ذكرت الأحداث في المدينة بعد وفاة معاوية، والاطلاع على الأجواء السياسية التي أحاطت بالإمام عليه السلام، والتأمل في خطبته الشريفة كرد وحوار تحاور به الإمام عليه السلام مع الصور السياسية المختلفة: ــ



في الفتوح: ج2، ص77 ـ 78: (وأقبل عبد الله بن الزبير على الحسين بن علي، فقلا: يا أبا عبد الله، إن هذه ساعة لم يكن الوليد بن عتبة يجلس فيها للنّاس، وإني قد أنكرت ذلك، وبعثه في هذه الساعة إلينا، ودعاءه إيانا بمثل هذا الوقت، أترى في أي أمر طلبنا؟.
فقال له الحسين: «إذن أخبرك أيا بكر، إني أظن بأن معاوية قد مات، وذلك أني رأيت البارحة في منامي كأن منبر معاوية منكوس، ورأيتُ داره تشتعل ناراً، فأولتُ ذلك في نفسه أنه مات».
فقال له ابن الزبير: فاعلم يا بن علي أن ذلك كذلك، فما ترى أن تصنع إن دعيت إلى بيعة يزيد أبا عبد الله؟
قال: «أصنع، أني لا أبايع أبداً، لأن الأمر إنما كان لي من بعد أخي الحسن، فصنع معاوية ما صنع، وحلف لأخي الحسن أنه لا يجعل الخلافة لأحد من بعده من ولده، وأن يردها إليّ إن كنت حياً، فإن كان معاوية قد خرج من دنياه، ولم يف لي، ولا لأخي الحسن بما كان ضمِنْ، فقد والله أتاناما لا قوام لنا به، أنظر أبا بكر أني أبايع ليزيد، يزيد رجل فاسق معلن بالفسق، يشرب الخمر، ويلعب بالكلاب والفهود، ويبغض بقية آل الرسول؟ لا والله لا يكون ذلك أبداً»)([1]).

وفي رواية أخرى: أقبل الحسين على الوليد بن عتبة وقال: «أيّها الأمير، إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ومحل الرحمة، وبنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب خمر، قاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع لمثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون، أينا أحق بالخلافة والبيعة»([2]).

وفي رواية أخرى: في الفتوح: ج2، ص84 ـ 85: (فخرج الحسني بن علي من منزله ذات ليلة، وأتى إلى قبر جدّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «السلام عليك يا رسول الله، أنا الحسين بن فاطمة، أنا فرخك وسبطاً في الخلف الذي خلفت على أمتّك ـ كذا في المصدر، وفي مقتل الحسين للخوارزمي: ج1، ص186؛ وسبطك والثّقل الذي خلّفته في أمتّك ـ فاشهد عليهم يا نبي الله، إنهم قد خذلوني وضيّعوني، وإنهم لم يحفظوني، وهذه شكواي إليك، حتى ألقاك صلى الله عليك وسلم». ثم وَثَبَ قائماً، وصفّ قدميه، ولم يزل راكعاً وساجداً.

وأرسل الوليد بن عتبة إلى منزل الحسين لينظر هل خرج من المدينة أم لا، فلم يصبه في منزله، فقال: الحمد لله الذي لم يطالبني الله عزّ وجل بدمه، وظنّ أنه خرج من المدينة. ورجع الحسين إلى منزله مع الصبح، فلما كانت اللّيلة الثانية خرج إلى القبر أيضاً فصلّى ركعتين، فلما فرغ من صلاته جعل يقول: «أللّهم إنّ هذا قبر نبيك محمد، وأنا ابن بنت محمد، وقدحضرني من الأمر ما قد علمت، أللّهم وإني أحب المعروفة وأكره المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلالة والإكرام بحق هذا القبر ومَنْ فيه إلا ما اخترت من أمري هذا ما هو لك رضاً».

ثم جعل الحسين يبكي، حتى إذا كان في بياض الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى ساعة، فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أقبل في كبكبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله، ومن بين يديه ومن خلفه، حتى ضمّ الحسين إلى صدره، وقبّل بين عينيه، وقال: «يا بُنيّ، يا حسين، كأنك عن قريب أراك مقتولاً مذبوحاً بأرض كربٍ وبلاء، من عصابةٍ من أمتي، وأنت في ذلك عطشان لا تُسقى، وظمآن لا تُروى، وهم في ذلك يرجون شفاعتي، ما لهم لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة، فما لهم عند الله من خَلاق، حبيبي ـ يا حسين ـ إن أباك وأمك قد قدموا عليّ وهم إليك مشتاقون، وإن لك في الجنة درجات لن تنالها إلا بالشهادة».

فجعل الحسين ينظر في منامه إلى جده صلى الله عليه وآله وسلم، ويسمع كلامه وهو يقول: «يا جداه، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا أبداً، فخذني إليك، واجعلني معك إلى منزلتك».

فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يا حسين، إنّه لابد لك من الرجوع إلى الدّنيا، حتى ترزق الشهادة، وما كتب الله لك فيها من الثواب العظيم، فأنت وأبوك وأخوك وعمك، وهم أبيك، تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتى تدخلوا الجنة».

فانتبه الحسين من نوعه فَزِعاً مذعوراً، فقصّ على أهل بيته، وبني  عبد المطلب، فلم يكن ذلك اليوم في شرقٍ ولا غربٍ أشدّ غماً من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أكثر منه باكياً وباكية)([3]).

وفي رواية أخرى: (ثم دعا الحسين بدواة وبيضاء، وكتب فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب لأخيه محمد، المعروفة بابن الحنفية، ولد علي بن أبي طالب.
إن الحسين بن علي يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، جاء بالحق من عنده، وأن الجنّة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب النّجاح والصّلاح في أمّة جدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أريد أن آمر بالمعروفة وأنهي عن المنكر، وأسير بسيرة جدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرة أبي علي بن أبي طالب، وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ هذا أصبر، حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، ويحكم بيني وبينهم، وهو خي الحاكمين»)([4]).

وجاء في رواية أخرى: (وفي مدينة المعاجز للسيد هاشم البحراني: ج2، ص274 ـ 285، عن ثاقب المناقب عن الباقر عليه السلام: «لما أراد الحسين عليه السلام الخروج إلى العراق بعثت إليه أم سلمة، وهي كانت تربيه، وكان أحب النّاس إليها، وكان أرق الناس لها، وكانت تربة الحسين عندها في قارورة، دفعها إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا بنيّ إلى أين تريد أن تخرج؟ فقال لها: يا أمّاه، أريد أن أخرج إلى العراق، ثم قال: ولِمَ ذاك يا أمّاه؟
قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يقتل الحسين بالعراق، وعندي تربتك في قارورة مختومة، ودفها إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال: يا أمّاه ـ والله ـ إني لمقتول، وإني لا أفرّ من القدر المقدور، والقضاء لله المحتوم، والأمر الواجب من الله تعالى»)([5]).


ماذا بعد التأمل في هذه الروايات التاريخية

 بعد التأمل في هذه الروايات التاريخية يظهر السبب الجوهري لخروج الإمام الحسين عليه السلام وهو ما يلي:
1ــ سبب خروجه بحسب الظاهر هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح في أمة جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ورفض الظلم والظالمين وهذا ما يظهر من الروايتين الأولى والثانية، ومن وصيته لأخيه محمد بن الحنفية، وهذا السبب مدخل للسبب الثاني.

2ــ السبب الجوهري هو الامتثال لما يريد الله تعالى له من المنزلة الرفيعة والدرجة العالية والتي لا تحصل إلاّ بخروجه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر والشهادة في سبيل ذلك بدليل أن الإمام عليه السلام قد أخبر عن اختياره في موته وأنه مخير في مقتله فاختار ما أراده الله تعالى له.



([1]) النهضة الحسينية للسيد محمد حسن ترحيني العاملي: ص137، برقم 2.
([2]) النهضة الحسينية للترحيني: ص144.
([3]) النهضة الحسينية للترحيني: ص162 ـ 163.
([4]) النهضة الحسينية للترحيني: ص171 ـ 172.
([5]) النهضة الحسينية للترحيني: ص180 ـ 181.

إرسال تعليق