بقلم: الشيخ موسى اليعقوبي / صاحب مجلة الايمان
ان ثورة الحسين (عليه السلام) مثل
ثورة الحق على الباطل بأجلى مظاهرها واوضح صورها، وانتفاضة العدل على الظلم
والطغيان.
فقد راى الحسين (عليه السلام) ،
المسلمين يخبطون في بيداء ظلماء، وقد تسلط عليهم حكام ظالمون دائرون، تمردوا على
النظم الاجتماعية، تمرسوا على الفسق والظلم والجور والفجور يأمرون بالمنكر وينهون
عن المعروف وتنكروا لكل القيم والمثل وعطلوا حدود الاسلام وعبثوا في حرمات
المسلمين فدب الفساد في ارجاء البلاد وصار كل فرد غير آمن على عرضه وماله ودمه
وتفرق الناس شيعاً واحزاباً وفي نية كل حزب إعلان الثورة وشق عصا الطاعة.
ورأى الحسين (عليه السلام) ان
الحق لا يعمل به، وان الباطل لا يتناهى عنه، وان السنة قد اميتت والبدعة قد احييت،
وان الدنيا قد تغيرت وتنكرت، وادبر معروفها ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة
الأناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل)) فاثر الواجب على البقاء، ورضى الله على
الامراء، والآخرة على الدنيا ومشى الى الموت مشية الواثق من الحق الثائر من اجل
الحق الساخط الى ازهاق الحق.
مشى ومشت معه قلوب المؤمنين عبر
الاجيال والتاريخ ليعلن كلمته بصراحة ووضوح. وقد اعلنها فكانت كلمته هي العليا
وكلمة اعدائه السفلى، واعلنها داوية مجلجلة في صحراء كربلاء فرددتها الاصداء على
الاسماع لتكون دستور الثائرين على الانحراف والفساد والطغيان، وسيفاً مصلتاً فوق
رؤوس المستبدين الظالمين. وقاتل قتال الابطال رغم قلة الانصار وكثرة الاعداء لا من
أجل ملك او مال وانما قاتل ليكون الدين كله لله، لا ليزيد واعوانه الفاسقين.
ابى الحسين (عليه السلام) وهو ابو
الاباء ان يصبر على الذل والهوان ويستكين الى الراحة والخضوع وهو الذي ((لا يرى
الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برماً)) وهو القائل ((هيهات منا الذلة،
يأبى الله لنا ذلك ورسوله، وحجور طابت وبطون طهرت، وانوف حمية ونفوس أبية)).
فابى ان يعيـش الا عزيـزاً **** أو
تجـل الكفاح وهو صريـع
زوج السيف بالنفوس ولكن **** مهرها
الموت والخضاب النجيع
وقد جاء في خطبته في مكة ((وخير
لي مصرع أنا لاقيه، كأن بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا … ألا
من كان باذلاً فينا مهجته موطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا)).
كان الحسين (عليه السلام) دائم
الدعوة الى كتاب الله وسنة نبيه وكان يقول: (فأن تسمعوا قولي أهدكم سبيل الرشاد)
وهو القائل في وصيته (واني لم اخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وانما
خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي (صلى الله عليه وآله وسلم) وابي علي بن ابي طالب
(عليه السلام) فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد على هذا، أصبر حتى
يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين).
ان الحسين (عليه السلام) في ثورته قد كشف الحكام
الامويين وأظهرهم على حقيقتهم وعرآهم من اثوابهم، فاذا هم جراثيم فساد وعناصر
إفساد، لا زالوا جاهليين، يظهرون الاسلام ويبطنون الكفر، لا همّ لهم إلاّ اشباع
شهواتهم والتسلط على رقاب الناس والهيمنة على الحكم مهما كان الثمن.
ففي الحسين (عليه السلام) تلتقي روح جده النبي
بنور القرآن الكريم وانسانية أبيه علي بفطرة الاسلام الحنيف فتعطيه كل المعاني
والصفات وتنعكس عنه باسطع الانوار واجمع الاسرار فكانت حياته عظة العظات، وليس
لمعانيها حدود من زمان او مكان، وكانت شخصيته المثل الاسمى للانسان الكامل تبرز
فيها صورة المسلم القرآني تلك الصورة التي أرادها الله ورسوله وقد تجمعت فيها شتى
الالوان بتناسق ونظام تنعكس من كل لون اقباس واطياف وفي كل قبس او طيف اعجاز يعجز
عن بيان البيان.
وفي الحسين (عليه السلام) يلتقي
الصراع العنيف الذي كان مستحكماً بين هاشم وأميه قبل الاسلام، وبين محمد (صلى الله
عليه وآله وسلم) وأبي سفيان عند ظهور الاسلام وبين علي() ومعاوية
بعد وفاة النبي ولله در القائل:
عبد شمس قد أضرمت لبني هـا **** شم حرباً يشيب منها الوليد
فابن حرب للمصطفى وابن هند **** لعلـي
وللحسيـن يزيـد
لم تكن ثورة الحسين (عليه السلام)
وليدة مطمع شخصي او حباً في سلطان دنيوي ولم يبتغ من ثورته ملكاً او عرشاً، وانما
كان يريد ان تكون الاوضاع كما اراد الله ورسوله وكان يريد احياء السنة واماتة
البدعة.
فما هي الاسباب التي ادت بالمجتمع
الاسلامي الى هذا الحال من التردي والانحطاط ومازال المسلمون قريـبي عهد بالنبي؟
وما هي الاسباب التي تظافرت وانتهت بمصرع الحسين (عليه السلام)؟
كان اختلاف المسلمين على البيعة
بعد وفاة النبي اول هذه الاسباب وكان ظهور الروح الانتهازية ومهزلة السقيفة
واختيار الخليفة كافياً لأشعال الفتنة واذكاء نار الحرب بين المسلمين، وتلا ذلك
أخذ آل البيت النبوي الطاهر بالشدة واغتصاب حق فاطمة (عليها السلام) ، بدافع من
الاحقاد الدفينة في النفوس.
لقد كانت الفترة التي تلت وفاة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أدق الفترات التي مرت بالاسلام والمسلمين وكان
عمر على صواب حين قال (كانت خلافة ابي بكر فلته وقى الله المسلمين شرها).
فتكدست الثروة لدى الأفراد وظهرت
طبقة جديدة منعمة مترفة غنية لا عمل لها ولا شاغل الا الأحاديث والخوض في كل شيء.
فنجم عن ذلك انعزال الحكومة عن الشعب وانعدام التفاهم بينهما والمسلمون ما زالوا يذكرون
عهد النبي ويدركون الفرق بين العهدين فقد كات الحكومة بعيدة عن الدعوة الدينية تلك
الدعوة التي كانت على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لازمة لاملاء نفوس
المسلمين بالعقيدة والمبدأ. وكانت الحكومة تفتقر الى نظام دولي صحيح رغم احتكاكها
بدول عريقة في الحكم وكان التقليد البدوي قد تسلط على الحكم وفيه من تشجيع للفتن
واستشراء للنـزاع وبعث للخلاف.
ان اصوات المصلحين كانت تتعالى
امام التيار الطاغي داعية الى مبادئ الاسلام والعمل بسنة النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) وكان ابو ذر الغفاري (رضي الله عنه) على رأس هؤلاء الدعاة.
وكانت خلافة ابي بكر نقطة
الانطلاق للخلافات في الإسلام وكانت سابقة سهلت لكل اصحاب المطامع سبيل المزاحمة
والمواثبة والمعالنة.
وقد وجد ابو سفيان والحزب الاموي
في خلافة عثمان فتحاً جديداً ومنفذاً يتسللون منه الى الحكم سبباً لاعادة مقاليد
الامور الى ايديهم، وقد أعلن ذلك بصراحة زعيم العصبة الاموية ابو سفيان حين تولى
عثمان (يا بني امية تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به ابو سفيان ما زلت أرجوها
لكم ولتصيرن الى صبيانكم وراثة).
وقد ظل الحزب الاموي يعمل في
الخفاء ويحيك في الظلماء وليس لأفراده سابقة في الاسلام اللهم ما ظاهر به الله
ورسوله بالعداء.
كان الحزب الاموي دائم الكيد
للنبي ولدعوته وكان ظهور الاسلام في نظرهم فوزاً للهاشمين، فعملوا في ظل الدين على
الاستئثار بالسلطة، وقد وجدوا في ولاية يزيد وولاية معاوية على الشام خطوة اولى
يستطيعوا ان يثبتوا اقدامهم من بعدها، ولقد احكموا الخطط واهتبلوا الفرص فعملوا
على اغتيال عمر بن الخطاب بيد فارسي هو غلام المغيرة بن شعبة المعروف بحبه للبيت
الاموي، فلم يكن قتل عمر وليد فكرة فارسية وانما كان وليد فكرة اموية خالصة.
وقد اشتهر عثمان بصفتي الضعف
واللين ولكنهما لم تكونا من صميم صفاته واصيل جبلته وانما كانت مع فئة بعينها
وطائفة خاصة، فكان ميله وضعفه بسبب حزبي ليس غير.
الا ان حزب عثمان قد استحوذ على
عثمان نفسه واستغله استغلالاً خطيراً، رغم ان المنصب والظرف كانا يمليان عليه ان
يكون فوق الاحزاب، فأبدى حزبية متطرفة وزاد في المعالنة بها وازداد اعضاء الحزب
اضطهاداً لخصومهم فاثاروا الحفائظ ونشروا الفتن وكثرت الاحزاب في عهد عثمان كثرة
كان يخشى منها على الاسلام والدولة وجعل كل حزب ينشط للدعوة ضد عثمان حامي الحزب
الاموي والمنافح عنه والمدافع دون جماعته.
فهناك حزب عثمان ويضم الامويين
ومن كان على هواهم، وحزب طلحة والزبير وفيه عائشة زوج النبي، وحزب علي (عليه
السلام) وفيه كبار الصحابة وارباب السابقات الجليلة في الاسلام، وكان الامام علي
(عليه السلام) يقوم بالنصح والارشاد والتوسط لحل المشاكل والمحافظة على ترسم النهج
النبوي.
كان علي (عليه السلام) لا يعرف
الختل والمغابنة وقد بذل جهده في انقاذ عثمان ونصحه. وذكر اليعقوبي ان مروان دعا عائشة حين اشتد الامر على عثمان
لتصلح شأنه مع الناس، فقد قالت (لعلك ترى اني في شك من صاحبك، اما والله لوددت انه
مقطع في غرارة من غرائري واني اطيق حمله فاطرحه في البحر).
تلك هي حال المجتمع الاسلامي حين
آلت الخلافة الى علي (عليه السلام)، فما كان من الاحزاب المتطاحنة إلاّ ان تقف
ضده، لانها رأت الغالبية العظمى من الناس مع علي (عليه السلام) وهم ينظرون اليه
والى البيت النبوي نظرة اجلال وتقدير وتقديس، ورأوا أن الخلافة قد رجعت الى صاحبها
الشرعي وانها لن تخرج عنه ابداً، فكانت معركة الجمل التي اججها طلحة والزبير
اللذان طالما كادا لعثمان وحرضا عليه، وعائشة التي بالامس كانت تقول (يا معشر
المسلمين هذا جلباب رسول الله لم يبل وقد أبلى عثمان سنته) وتقول (اقتلوا نعثلاً
قتله الله).
وكانت معركة صفين التي اشعلها
معاوية حين ايقن انه معزول لا رجاء فيه ولا بقاء فهب يطلب بدم عثمان بأشارة عمرو
بن العاص واجتهد بالحصول على قميصه مخضباً بدمائه.
لقد كانت الاصبع الاموية تدير كل
الفتن والثورات وتعبث من وراء الستار وكان الحزب الاموي يعمل جاهداً على جمع
مقدرات الحكم في ايدي الامويين وقد ذكر المؤرخون ان ابا سفيان وقف على قبر حمزة
(رضي الله عنه) فقال: (رحمك الله أبا عمارة لقد قاتلتنا على امر صار الينا).
واخيراً فاز الامويون بالحكم
ووقعوا الصلح مع الحسن (عليه السلام) فسعى معاوية لتقوية ملكه وخضد شوكة بني هاشم
بعد ان صفا له الجو، فاستكثر الاعوان واستحوذ على الناس بالمال والدهاء وجد اطناب
حزبه ورواق مأربه، واخذ البيعة لابنه يزيد في حياته خوفاً على هذا الملك أن يخرج
من بيته ويفلت من عقبه، وتنكر لآل البيت النبوي الطاهر وعمل على تشويه سمعتهم
بالدعايات السيئة والأحاديث المختلفة واستمال الناس بالأموال تارة وبالقوة تارة.
وكان قد تمخض من أمر اخذ البيعة ليزيد الفجور والخمور، تلك البيعة التي كانت مهزلة
من مهازل التاريخ وسخرية من سخريات القدر.
وكان يزيد فاسقاً فاجراً وليس ادل
على فسقه وفجوره من قول عبد الله بن حنظلة حين بايع اهل المدينة على الموت ليالي
الحرة (يا قوم اتقوا الله وحده لا شريك له، فوالله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا ان
نرمى بالحجارة من السماء، ان رجلاً ينكح الامهات والبنات والاخوات ويشرب الخمر
ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي احد من الناس لأبلين لله فيه بلاء حسنا).
وقد انكر الحسين (عليه السلام) ان
يكون يزيد ولياً للمؤمنين وأمير المسلمين، ويزيد الذي اعتبر عامة المسلمين ولايته
أمرا لايصح لمسلم السكوت عنه ابداً.
وقد اعلن الحسين (عليه السلام) في
يزيد رأيه عندما طلب الوليد منه البيعة فقال: (ان يزيد فاسق مجاهر لله بالفسوق).
واخذ الناس يتطلعون الى من ينقذهم
من براثنه وبراثن حكامه الجائرين ويرفع عنهم الاحكام التعسفية اللاقانونية
والارهاب المخيف والفوضى التي عمت البلاد، فاتجهت انظارهم صوب الحسين (عليه
السلام) وهو سبط النبي وابن البتول ونجل علي وسيد شباب اهل الجنة فكاتبوه وراسلوه
وبايعوه واعطوه العهود والمواثيق. وكان ما كان من قيامه بالثورة الكبرى تلك الثورة
التي هزت العرش الاموي من اساسه وحطمت سياسة الغش والمكر والخداع وجعلت نصر
الامويين جفاء او ريحهم هباءاً.
لقد باعد الزمن بيننا وبين ثورة
الحسين (عليه السلام) الا ان ذكرها تستجد بتجدد الايام والسنين فتدمى القلوب وتبكي
العيون.
ان ذكرى ثورة الحسين (عليه
السلام) معطيات سامية، ولعل من اهمها انها تنبه الاذهان وتوحي للرأي العام استنكار
الاستبداد والظلم والجور وتشجيع الناس على الوقوف امام المستبدين بصلابة وعنف حتى
يظهر الحق ويسود العدل ويعم الرخاء، وقد قال تعالى ((فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء
الى أمر الله))، وفي هذا تفنيد القاعدة الخرقاء التي مؤداها (قبلوا يداً تعجزون عن
قطعها).
ومن معطياتها انها
اعطت لرجال الدين مثلاً حياً في التنكر للسلطة المستبدة بالشعب المتنكرة لحقوقه
الخارجة على النظم الاسلامية وقد ضرب لهم الحسين (عليه السلام) مثلاً رائعاً في ذلك فعليهم ان
يقتدوا به وان لا يتساهلوا حتى لو كلفهم ذلك دماءهم فان في دمائهم حياة الامة وعز
الوطن.