يزيد بن معاوية والعهد المظلم


بقلم: الشيخ حسن الشمري

لو لم تكن موبقة لمعاوية إلا يزيد لكفاه ذلك، فإنّ هذه السيّئة تظلّ نقطة سوداء لا تنمحي من سجلّ معاوية، وقد تولى يزيد بن معاوية الولاية، وكانت نقطة عطف خطيرة في مسيرة الإسلام، وشكلت بداية العدّ التنازلي للحضارة الإسلامية، وما كان ينبغي أن تكون الولاية ليزيد، لأنّ الإسلام لا زال طرياً لم يشتدّ عوده بسبب السياسات الخاطئة التي انتهجها معاوية بن أبي سفيان، بالذات على صعيد إدارة الحكم.

فقد انتهج طريقة ميكافيلية جعلت المجتمع بعيداً عن الإسلام، وعن قيمه الفذة، والأنكى من ذلك جعل المجتمع يئنّ من الضربات المتلاحقة التي شنّها ولاة معاوية، فقد أوغلوا في غيّهم ممّا جعلوا الواقع الإسلامي غائماً تماماً.

جاء في كتاب (الدولة العربية):


((وعرف زياد كيف يخضع القبائل بأن يضرب إحداها بالأخرى، وكيف يجعلها تعمل من أجله، وأفلح في ذلك))[1].

لقد كانت بداية الاستنارة في عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم تبشّر بألف خير، وأضحى الإسلام يفتح الآفاق أمام الأمم، فقد تردّد صداه في أكثر من دولة، وأخذ مساحة واسعة، فأخذ مساحة في أفريقيا، وفي بلاد الروم، والصين، وغيرها من الدول.

وقد تنبّه الروم لانتشاره السريع فتهيأ حكامه لكسر شوكة الإسلام، ولكن خسأت محاولاتهم فارتدوا منكوسين في ((معركة تبوك))، حيث انسحبوا وألغوا فكرة الهجوم، إنّ ظهور الإسلام شكّل أهمية استثنائية، فهو الحلقة الأخيرة في سلسلة الأديان، ولكن وفي نظري بدأت الانتكاسة عندما تولى أبو بكر الخلافة، إذ لم يستوعب الخطوات الإستراتيجية التي أقدم عليها رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

فجرّد سيفاً لم يكن في محله، وذهناً لم يستوعب الأحداث الجسام، فجاءت الحلول قاصرة، والعلاج أهوجاً.

يقول الأستاذ سليمان كتاني:


((لقد تجمّدت الزعامات التقليدية في الجزيرة على أمل أن تنام دون أن يعود فيلمّها وعي، مع انتقال النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى هبّت تعلن أنها لم تصدق أن الرسول أسند مهمة الاهتمام بصيانة الرسالة الطرية العود إلى أمتن رجل صدقها وشارك في تمتينها حفراً في النفوس، فليكن اجتماع السقيفة ــ تململاً من هجعة ــ أبعِدَ الرجل المحسوب ركناً من الأركان المعتمدة لمتابعة الخط وترسيخه، إلا أنّ واقع التاريخ، وواقع الرسالة التي لا تزال حتى الآن تنمو وينمو بها عالم الإسلام، يشهد بأنّ لعلي مكانة مجيدة القيمة في ضلوع الرسالة، لا يجهلها الحق، ولا يقدر أن ينكرها المنطق، وما من أحد على الإطلاق تمكن من فصل بيت علي عن بيت الرسول، لا في الحقيقة ولا في المجاز))[2].

لقد تقمّصها أبو بكر وهو يعلم أنّ علياً عليه السلام من الخلافة محلّ القطب من الرحى، ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير.

وما عساني أقول بعد كلّ الذي حدث في العالم الإسلامي من ويلات ومحن ظلّت تفتك به لحد الآن، وتولى أبو بكر فجرّ الويل والثبور على الأمة الإسلامية، مما اضطرّ عمر بن الخطاب أن يوصمها ((بالفلتة)): ((كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرّها))[3]، راجع مصادر الحديث في الهامش.

تقول القوانين الاجتماعية:


((إنّ بداية أيّ حضارة مرهون بالعقول، فكلما كبرت واتسع حجم استيعابها تستطيع أن تفهم أبعادها الحقيقية، ومتطلبات المرحلة، وتستمر في العطاء، فالحضارة الإسلامية كانت تحتاج إلى عقول كبيرة.

ولكن مما يؤسف له أنّ العقول التي استلمت زمام الخلافة بعد الرسول الأعظمصلى الله عليه وآله وسلم كانت ضيّقة إن لم تكن عديمة الفهم لأبعادها الأساسية، فخلفت تراكمات سيئة أتعبت من جاء بعدها كثيراً، فجاء الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بعد أن صار المجتمع الإسلامي يئنّ من الترسبات السلبية، فطفق يرتق ما فتقه الآخرون، فشحت نفوس، وطفحت القلوب حقداً على سيد الوصيين عليه السلام، فعرقلت مساعيه ممّا أدّى إلى تأخّر المشروع الحضاري الذي كان يرمي إليه الإمام عليه السلام، فجاءت الانتكاسة التي تمثّلت بمعاوية ويزيد.

فيزيد صاحب العقل الصغير كما يصفه المسعودي في (مروج الذهب) لم يملك المؤهلات الكافية لإدارة الحكم، وقد نشأ في بيئة ((صحراوية))، وفي ظلّ التعاليم المسيحية المنحرفة.

يقول الأستاذ العلايلي في كتابه (حياة الإمام الحسين عليه السلام):


((الأمر الذي جعل من يزيد شخصية حقيرة وفاقدة تماماً للمقوّمات نشأ يزيد عند أخواله في البادية من بني كلاب الذين كانوا يعتنقون المسيحية قبل الإسلام، وكان مرسل العنان مع شبابهم الماجنين، فتأثّر بسلوكهم إلى حد بعيد فكان يشرب معهم الخمر، ويلعب معهم بالكلاب))[4].

ويقول الشيخ العلايلي:



((إذا كان يقيناً أو يشبه اليقين أنّ تربية يزيد لم تكن إسلامية خالصة أو بعبارة أخرى كانت مسيحية خالصة، فلم يبق ما يستغرب معه أن يكون متجاوزاً مستهتراً مستخفاً بما عليه الجماعة الإسلامية لا يحسب لتقاليدها واعتقاداتها أيّ حساب، ولا يقيم لها وزناً، بل الذي نستغرب أن يكون على غير ذلك))[5].

إن نشأة الإنسان في السنوات الأولى لها أثر عميق في مسيرة الإنسان، فأجواء البيت تعدّ ((حجر الزاوية)) في بناء الإنسان، فإذا كانت إيجابية ومفعمة بالآداب والأخلاق، فإنها تجعل الإنسان كبيراً في أخلاقه وعقله.

أما إذا كانت خاوية وقفراء من القيم المثلى فإنها تهدم الإنسان، وتجعله صغيراً، لذلك يعدّ البيت تربوياً من أهم المحطات في حياة الإنسان، فهو المدرسة الأولى في إعداده.

فعليه فإنّ يزيد عاش بعيداً عن الأجواء الإيجابية، وحتى لو عاش في كنف أبيه فإنّ الأمر لا يختلف، فبيت معاوية أضحى بؤرة يفوح منها العهر والمجون.

جاء في كتاب (روح الإسلام):


((كان يزيد قاسياً غدّاراً كأبيه، ولكنه ليس داهية مثله، كانت تنقصه القدرة على تغليف تصرفاته القاسية بستار من اللباقة الدبلوماسية الناعمة، وكانت طبيعته المنحلّة، وخلقه المنحطّ لا تتسرب إليهما شفقة ولا عدل، كان يقتل ويعذّب نشداناً للمتعة واللذة التي يشعر بها، وهو ينظر إلى آلام الآخرين، وكان بؤرة لأبشع الرذائل، وها هم ندماؤه من الجنسين خير شاهد على ذلك، لقد كانوا من حثالة المجتمع))[6].

وقد ذكرت في كتاب (قبس من نور الإسلام)، وكتاب (قبس من نور الإمام الجواد عليه السلام) أنّ تصرفات الأب تغوص عميقاً في ولده، وتستقر في قعر كيانه، فإذا كانت طيّبة فإنها تطيب الابن، ومنها يستل الطيب، والعكس هو الصحيح، وقد تمثّل في معاوية، فإنّ تصرفاته شقّت طريقها إلى نفس يزيد واستقرت فيها، الأمر الذي انعكس سلباً على سلوكه، فكان نسخة ثانية، فهو يحمل وجه معاوية لكن بدون الأقنعة المزيّفة، فأماطها يزيد فظهر وجه معاوية وهذا ما كان يترقبه الكثير، لأن الولد يكشف أسراراً كثيرة عن أبيه، فعدّها النقّاد دهاءً على الدهماء وليس على الأذكياء.

ومن مظاهر صفات يزيد ولعه بالصيد، فكان يقضي أغلب أوقاته فيه، وكان مغرماً بالكلاب.

((كان يزيد بن معاوية كلفاً بالصيد لاهياً به، وكان يُلبسُ كلاب الصيد الأساور من الذهب والجلال المنسوجة منه، ويهب لكل كلب عبداً يخدمه))[7].

وهنا ملاحظات:

أولاً: وقد شبّ يزيد بن معاوية على اللهو والمجون، فتشرّب قلبه وأترعت نفسه مما أدّى إلى ولعه وذوبانه في حب اللهو والمجون، والمثل يقول: ((من شبَّ على شيء شاب عليه))، فمن يشبّ مع الطيبين يصبح طيباً، ومع العاصين يصبح عاصياً.

ثانياً: لقد نشأ في بيئة صحراوية وبين الكلاب، وهذا مما ساهم كثيراً في انحرافه.

ثالثاً: إنّ من ينشأ في بيئة مفسدة لا يجنح إلى الخير، ولا يميل إلى المثل السامية بسبب جفاف العقل، وضمور المقوّمات النفسية الخلاقة، ومنها الإرادة والشهامة والإقدام.

رابعاً: يعدّ اللعب مع الكلاب في عرف العرب نشازاً وخارجاً عن المألوف والأعراف العريقة، فمن عادة العرب أن يربّوا أولادهم الركوب على الجواد، وعلى الرمي، والمبارزة، وهذه كلها من أسباب الشجاعة، ومن دواعي الفخر. فمن المستهجن والقبيح عندهم تربية الأولاد على الكلاب لاسيّما وأنّ العرب كانوا يمتازون بالفخر والاعتزاز والاعتداد بالنفس، وهذه تأتي من ممارسة الرمي، وركوب الجواد، والمبارزة.

خامساً: إنّ ولع يزيد بالكلاب والقرود يدلّ على حقارة الآباء والأجداد، وقد أُثبتَ ذلك في كتاب (قبس من نور الإمام الجواد عليه السلام) فليراجع، فإنّ أمية كان لصيقاً بعبد شمس حيث جاشت به البحر وألقته على مائدة ((عبد شمس))، ومن ثم تبناه.

سادساً: إنّ ولع يزيد بن معاوية بالكلاب والقرود إنما كان يستهدف تحقير الأمة، فالذي يعيش بين الصغار لا يكبر، وهذه من البديهيات.

فمن الطبيعي أن لا تكبر عند يزيد الهمّة، والنظرة السامية للإنسان، لذا يحسب كل من يلتقيه صغيراً وبحجمه، فالإنسان ينظر إلى الناس ((بحجمه))، فإذا كان كبيراً وعظيماً ينظر بإكبار، أمّا إذا كان صغيراً ينظر إليهم بحقارة.

وصدق المتنبي:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم *** وتأتي على قدر الكرام الكرائمُ

وتصغر في عين الكبير كبيرها *** وتعظم في عين الصغير العظائمُ


يقول العلامة القرشي:


((وكان يزيد ــ فيما أجمع عليه المؤرخون ــ ولعاً بالقرود، فكان له قرد يجعله بين يديه، ويكنّيه بأبي قيس، ويسقيه فضل كأسه، ويقول: هذا شيخ من بني إسرائيل أصابته خطيئة فمسخ)).

وذاع بين الناس هيامه وشغفه بالقرود حتى لقّبوه بها، ويقول رجل من تنوخ هاجياً له:



يزيد صديق القرد ملّ جوارنا *** فحنّ إلى الأرض القرود يزيدُ

فتباً لمن أمسى علينا خليفة *** صحابته الأدنون منه قرودُ[8]



تقول القوانين التربوية: إنّ من يصاحب الصغير لا يكبر، ومن ثَمّ لا يقيم اعتباراً لأحد، وهكذا هو يزيد.

يقول فيه بولس سلامة:




رافع الصوت داعياً للفلاح *** اخفض الصوت في أذان الصباحِ

وترفق بصاحب العرش مشغولاً *** عن الله بالقيان الملاحِ

ألف ((الله أكبر)) لا يساوي *** بين كفّي يزيد نهلة راحِ

تتلظى في الدنان بكراً فلم *** تدنس بلثم ولا بماء قراحِ[9]



وقد صغرت القيم عند يزيد فراح يعبث بها، ويستغلّها طريقاً لشهواته، وصغرت حتى أصبحت لديه مادةً للتندر، وتبقى القيم عند الصغار صغيرة، ولكن عند الكبار عظيمة، لذا فإنهم يجودون بأنفس ما يملكون.

وهكذا ضحّى من أجلها المولى أبي عبد الله الحسين عليه السلام لأنه كان يحمل عقلاً كبيراً، ونفساً عظيمةً، ترعرعت في حجر الإسلام، وفطمت من ثدي الإيمان.

قال أبو عبد الله الحسين عليه السلام رداً على رسالة ((الصغير)) عبيد الله بن زياد:

((ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين الذلة والسلة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوفٌ حميةٌ، ونفوسٌ أبيّـةٌ، مـن أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام))[10].

إنّ من يتربّى في حجر النبيين والصدّيقين يأبى الخضوع والاستسلام لأنه يعرف معناهما، ثم هو يعرف حجم السيئات والحسنات، فيعطي كلاً حسب حجمه وقيمته.

لقد علمتنا كربلاء الحسين عليه السلام.

أنّ الإسلام والقيم الإلهية أكبر من كل كبير، وأجلّ من كلّ جليل، فهي تستحق التضحيات مهما بلغت.

وعلمتنا كربلاء الحسين عليه السلام..

أنّ التضحيات تزداد قيمتها، إذا كانت على طريق الحق، ويزداد الحق قيمة إذا كانت التضحيات بحجم الإمام الحسين عليه السلام.

معاوية يدلي إلى يزيد


ومثلما أسلفت يكفي معاوية موبقةً حين أدلى بالخلافة إلى يزيد، وبذلك فهو:

أولاً: خرق الاتفاق مع الإمام الحسن عليه السلام لأنّ من بنود الاتفاق إرجاع الخلافة إلى الإمام الحسين عليه السلام.

وبهذا الخرق فإنّ بيعة يزيد باطلة، ولا تملك الشرعية إطلاقاً، فضلاً عن أنّها محرّمة على بني أمية بنص من رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: ((حرّمت الجنة على من ظلم أهل بيتي، وآذاني في عترتي، ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غداً إذا لقيني يوم القيامة))[11].

ومعاوية بن أبي سفيان آذى الإمام علياً عليه السلام بسبّه على منابر المسلمين ولمدة سبعين سنة.

ثانياً: لا يحقّ لمعاوية أن يدلي بالخلافة إلى يزيد، فهو خطر على الإسلام وولايته ثلمة في الإسلام.

جاء في (البداية والنهاية) لابن كثير:


قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يزال أمر أمتي قائماً بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد))[12].

يقول الأستاذ محمد نعمة السماوي:


((فلو لم يكن لمعاوية من مثلبة إلا استخلافه يزيد لكفاه بذلك إثماً إلى الأبد، كيف ينصبه خليفة رغم علمه بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف اجتهد أمام النص الصريح؟ وكيف برّر ذلك؟ لنستمع إليه نفسه، وهو يقول: ((ولولا هواي في يزيد أبصرت قصدي.

لم يتوقع معاوية أن تستجيب الأمة لمسعاه في تنصيب يزيد خليفة من بعده لو لم تدغدغ أمانيه بعض همسات المنتفعين والمنافقين، أمثال المغيرة ابن شعبة الذي طمأنه بالعراق، وذلك هو مركز المعارضة الأول الذي كان يخشاه معاوية، وكان عمله الدؤوب المنتظم طيلة حوالي عشر سنين وإخراجه لمسرحيات ضخمة مهّد فيها الجوّ لقبول يزيد رغم علمه بوجود من هو أكثر كفاءة منه يدلّل على تعمّده إسقاط الأمة وحزنها إلى الأبد))[13].

ثالثاً: إنّ تولية يزيد انتهاك صارخ لإرادة الأمة، وتجاوز وقح على كل حقوقها، ومنها حق الإرادة والاحترام، فقد سحق معاوية كلّ الحقوق والقوانين تحت قدميه، فقد ولّى على الأمة من يُصغّر شأنها، ويستحقر مكانتها، ولست أشكّ في أنّ معاوية كان يقصد ذلك حتى يستمر خطّه المنحرف إزاء الإسلام، وسنته السيئة التي طالت سيد الكائنات محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

إنّ من القوانين الثّابتة في علم الاجتماع قانون التابع والمتبوع، وقد حاول معاوية إخضاع المجتمع بقتل شخصيته حتى يمكنه إتباع أرذل من يزيد، أنا لا أؤمن بمقولة جوّع كلبك يتبعك، بقدر إيماني أقتل شخصية صاحبك يتبعك، وهذا ما حصل إبان حكم معاوية، فقد اغتال معاوية شخصية المجتمع، فصار يدور في فلك الصعاليك بالرغم من مرارة الاتباع وقساوة النتائج.

وقد نحمّل وعّاظ السلاطين قسطاً كبيراً من مسؤولية الاتباع للظلمة من أمثال سمرة بن جندب، وعمرو بن العاص، وعروة بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، فهؤلاء ساهموا في قتل شخصية المجتمع، ونسف كل مقوّماته الحضارية بما فيها الأخلاق.

فالمجتمع الإسلامي بات لا يملك أخلاقاً، وصار بعيداً عن القيم المحمّدية التي كانت تساهم بشكل فعّال في إذكاء الروح الإيمانية، وتقويم الشخصية.

إنّ الانحدار الذي وصل إليه المجتمع في زمن معاوية يعدّ نقطة ضعف خطيرة، فشاع الفساد في كلّ حواضر الدولة الإسلامية، وانتشر العهر والمجون في ربوع أقدس المدن مكة والمدينة ممّا شكّل خطراً حقيقياً على القيم، وعلى كيان المجتمع، إذ بات يتنفّس المجون فأثّر سلباً على أخلاقه، فأخذ ينسلخ عنها تباعاً.



وإذا أصيب القوم في أخلاقهم *** فأقم عليهم مآتماً وعويلا



وبعد تولي يزيد أصبح المجتمع الإسلامي سهل الانقياد إلى درجة لم يكن يزيد نفسهُ يتصوّر ذلك، فأمعن في الفجور، وأوغل في التهتك، الأمر الذي أدّى بيزيد إلى التمادي بشكل لا يوصف، فأقدم على نسف كلّ ما يمتّ إلى الإسلام.
جاء في كتاب (مقتطفات سيكولوجية) في أهمية الشخصية:

((هذا من جهة تأثير شخصية الإنسان على المستقبل، فما هو تأثيرها في الحاضر؟.

الناس في هذا نوعان: نوع وجد ليكون تابعاً وآخر ليكون متبوعاً، واحد يرضى بأن يكون جندياً بسيطاً وآخر لا يرضى إلا بأن يكون قائداً عظيماً، شخصيته باردة ولو رفعتها إلى أعلى مقام، وشخصيته بارزة ولو حجبتها في الظلام، ضع الأولى على أعظم عرش وأحطها بكلّ أنواع العظمة تجدها عبدة متوجبة، ثم ضع في يد الشخصية الثانية قصبة مرضوضة تجدها قد تحوّلت إلى صولجان من العاج ألبسها قميصاً إرجوانياً تجده عليها حلّة ملكية، ضع على رأسها إكليلاً من الشوك تجده قد استحال إلى تاج مرصّع باللآلئ، ارفعها على صليب العار تراها جالسة على أعظم عرش تحيطها المهابة والوقار، فالشخصية منفصلة عمّا يحيط بالإنسان من جلال القوة ومظاهر الضعف.

كان بولس في روما في أعماق السجون، وكان نيرون مرتفعاً على عرش روما العظيم، وبعد قليل ماتا كلاهما، فاحتقر الرومان اسم نيرون لشخصيته الحيوانية التي تسرّ وتبتهج برؤية تمزيق الأجسام، وبولس لشخصيته المحبة التي كانت تسعى لخلاص البشرية من كبوتها وعجرفتها.

كذلك في عالم السياسة نقرأ عن بسمارك، ونعجب مما كان عليه من قيادة وسيادة وحنكة واختبار في الأمور السياسية، ولكن كم منا يذهب إلى أبعد من هذا الحد، وكم من الناس يدركون أنّ شخصية بسمارك كانت تستمد من شخصية ((زوجته)) التي كانت له تعزية في وقت الحزن، ورجاء في اليأس، وقوة في الضعف، ونوراً في الظلام))[14].

من هنا فإنّ معاوية أراد للأمة أن تصغر بتولية يزيد حتى تتبع الصغار، وهذا ما كان، فالأمة أخذت تتبع الصغار وتترك الكبار، وبذلك اتجهت إلى الهاوية، وتحمّلت نتائج مرة ظلّت تعاني منها قروناً طويلة.

وفي قوانين الأمم: ((إنّ السلطان الجائر يكلّف الأمة كثيراً قد يمتدّ أثره لأجيال ما لم يأتِ سلطان صالح يمحو سيئات ما قبله.

وإذا تسلط عليها من يحيف بها وهي خانعة فلا يرجى منها الخير، ومن العوامل المهمة في سقوط الحضارات يكمن في السلطان الجائر، وتقاعس الأمم، والأمة التي تستكين وتغفو في ظلّ حاكم جائر قد تكون هي الضحية الأولى، وهذا ما كان في عهد يزيد، وما بعد يزيد.

فقد استكانت الأمة، وتركت الحبل على الغارب، وكأنها اطمأنّت تماماً على حياتها، فأجهز عليها الحكام فأخذوا ((يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع))[15].

((فاتخذوا مال الله دولاً، وعباد الله خولاً، والظالمين عوناً، والصالحين حرباً)).

قال تعالى: ((وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ))[16].

إنّ من يطمئن إلى الحاكم الجائر لا يحصد إلا الذلّ، وسيم الخسف، وشمل الصغار.

وكم كان بودي لو تكون صورة يزيد ماثلة في أذهان الخانعين والمتخاذلين، ومنهم وعّاظ السلاطين، فليتهم تصفحوا تاريخ من سبقهم، واستقرؤا ما آلت إليهم حياتهم، لقد شملهم الذلّ والصغار، وظلّت تتلاحقهم اللعنات، فيا لها من ذلّة وخسارة.

لقد عاشوا أياماً معدودات مع الظلمة، فأورثوا عاراً أبدياً وخزياً سرمدياً، ناهيك عن النّار الأبدية، يا لها من خسارة لا يمكن أن تستوعبها الكلمات.
قد تكون هناك خسارة يمكن تعويضها وتدارك آثارها، فتارك الصلاة والصيام والخمس وغيرها من العبادات يمكن للإنسان تداركها بالتوبة والإنابة والقضاء، طالما هو في الدنيا، ولكن ماذا لو مات وهو تارك للعبادة فحسابه يختلف تماماً، فلا يمكن إجبار ما ترك في الدنيا، إلا في حالة واحدة إذا أدركه ولد صالح كما في الروايات، ولكنَّ هذا أهون بكثير من يترك سنّة سيّئة تحفر في قلوب الأجيال بؤر الرذيلة والفساد.

ــــــــــــــــــــــ
[1] الدولة العربية: فلهاوزن، ص207.

[2] الإمام الحسين عليه السلام: الأستاذ سليمان كتاني، ص19.

[3] الصراط المستقيم: علي بن يونس العاملي، ج2/ص302. كتاب الأربعين: محمد طاهر القمي الشيرازي، ص201. بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج30/ص444. صحيح البخاري: البخاري، ج8/ ص26. المعيار والموازنة: أبو جعفر الإسكافي، ص38. المصنف: ابن أبي شيبة الكوفي، ج7/ص615. الاستذكار: ابن عبد البر، ج7/ص258. التمهيد: ابن عبد البر، ج22/ص154. الثقات: ابن حبان، ج2/ ص156. العثمانية: الجاحظ، ص286. تاريخ اليعقوبي: اليعقوبي، ج2/ص158.

[4] حياة الإمام الحسين عليه السلام: الشيخ باقر شريف القرشي، ج2/ص180.

[5] حياة الإمام الحسين عليه السلام: الشيخ باقر شريف القرشي، ج2/ص180. سمو المعنى في سمو الذات: الشيخ العلايلي، ص59.

[6] روح الإسلام: السيد مير علي الهندي، ص296.

[7] الفخري: ص45.

[8] معالم المدرستين: السيد مرتضى العسكري، ج3/ص22. حياة الإمام الحسين عليه السلام: الشيخ باقر شريف القرشي، ج2/ص183.

[9] الغدير: الشيخ الأميني، ج10/ص32.

[10] تحف العقول: ابن شعبة الحراني، ص58. الاحتجاج: الشيخ الطبرسي، ج2/ص24. مثير الأحزان: ابن نما الحلي، ص40.

[11] تخريج الأحاديث والآثار: الزيلعي، ج3/ص336. الكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل: الزمخشري، ج3/ص467. تفسير الثّعلبي: الثّعلبي، ج8/ص312. تفسير ابن عربي: ابن العربي، ج2/ ص219. تفسير القرطبي: القرطبي، ج16/ص22. تفسير أبي السعود: أبي السعود، ج8/ص30. ينابيع المودة لذوي القربى: القندوزي، ج3/ص139.

[12] العمدة: ابن البطريق، ص457. مسند أبي يعلى: أبو يعلى الموصلي، ج2/ص176. تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر، ج63/ص336. سير أعلام النبلاء: الذهبي، ج4/ص39. البداية والنهاية: ابن كثير الدمشقي، ج8/ص253. إمتاع الأسماع: المقريزي، ج12/ص233. السيرة الحلبية: الحلبي، ج1/ ص269.

[13] موسوعة الثورة الحسينية عليه السلام: الأستاذ محمد نعمة السماوي، ج3/ص76.

[14] مقتطفات سيكلوجية: محمد سليم باقي، ص26 ــ 27.

[15] شرج نهج البلاغة: ابن أبي الحديد، ج1/ص197.

[16] هود: ١١٣.

إرسال تعليق