((وأرسل الوليد في منتصف الليل عبد الله بن عمرو بن عثمان، وهو غلام حدث خلّف ((الحسين عليه السلام)) و((ابن الزبير))، وإنما بعثه في هذا الوقت لعلّه يحصل على الوفاق من الحسين عليه السلام، ولو سراً على البيعة ليزيد، وهو يعلم أنه إذا أعطاه ذلك فلن يخيس بعهده، ولن يتخلف عن قوله.
ومضى الفتى يدعو ((المولى)) الحسين عليه السلام وابن الزبير للحضور عنده، فوجدهما في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدعاهما إلى ذلك، فاستجابا له، وأمراه بالانصراف، وذعر ابن الزبير.
فقال للإمام عليه السلام: ما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها؟ أظن أنّ طاغيتهم (يعني معاوية) قد هلك، فبعث إلينا بالبيعة قبل أن يفشو بالناس الخبر، فقال: وأنا ما أظنّ غيره فما تريد أن تصنع؟.
فقال عليه السلام: أجمع فتياني الساعة، ثم أسير إليه، وأجلسهم على الباب، إني أخاف عليك إذا دخلت، لا آتيه إلا وأنا قادر على الامتناع.
وانصرف أبيَّ الضيم إلى منزله فاغتسل، وصلى ودعا الله، وأمر أهل بيته بلبس السلاح والخروج معه، فخفوا محدقين به، فأمرهم بالجلوس على باب الدار، وقال لهم: إني داخل، فإذا دعوتكم أو سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليّ بأجمعكم.
ودخل الإمام على الوليد، فرأى مروان عنده، وكانت بينهما قطيعة، فأمرهما الإمام عليه السلام بالتّقارب والإصلاح، وترك الأحقاد، وكانت سجية الإمام عليه السلام التي طبع عليها الإصلاح حتى مع أعدائه وخصومه.
فقال عليه السلام: ((الصلة خير من القطيعة، والصلح خير من الفساد، وقد آن لكما أن تجتمعا، أصلح الله ذات بينكما))(1)، ولم يجيباه بشيء، فقد علاهما صمت رهيب.
ثم إنّ الإمام أبا عبد الله الحسين عليه السلام قال للوليد: لماذا دعوتني؟.
قال: دعوتك للبيعة. فقال عليه السلام: ((إن مثلي لا يبايع سراً، ولا يجتزئ بها مني سراً، فإذا خرجت إلى الناس ودعوتهم للبيعة، دعوتنا معهم كان الأمر واحداً.
وكان الوليد بن عتبة لا يرغب في إجبار الإمام عليه السلام، كما يقول المؤرخون: كان يحب العافية.
فسمح للإمام بالانصراف إلى داره.
فانبرى مروان بن الحكم، فصاح بالوليد: لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، احبسه فإن بايع وإلا ضربت عنقه.
فردّ الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام على مروان قائلاً: يا ابن الزرقاء أأنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله ولؤمت(2).
ثم أقبل على الوليد، وقال: ((أيها الأمير، إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحل الرحمة، بنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب خمر، قاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون، أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة))(3).
وهنا ملاحظات:
1 ــ يؤخذ على الوليد بن عتبة إرساله غلاماً حدثاً لاستدعاء الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وكان ينبغي للوليد الذهاب بنفسه إلى الإمام عليه السلام، ثم استعراض ما حدث لمعاوية ويزيد بن معاوية.
أما أن يرسل غلاماً حدثاً فهو خطأ، ويجانب الحكمة والصواب.
2 ــ وكان على الوليد بن عتبة أن يؤجل استدعاء الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام لبضعة أيام، ولكن يبدو أنّ الأوامر الصّارمة من يزيد لم تضع هامشاً من الوقت، وقد أخطأ يزيد وحسب أنّ السلطة والقوة تحسم الموقف بهذه السرعة، ومع شخصيات لامعة وكبيرة.
وقد ظنّ يزيد أنّ سكوت الإمام عليه السلام في زمن أبيه، إنما هو لضعف، وعليه أن يسرع في أخذ البيعة، ولكن فات يزيد أنّ بنود الاتفاق المبرم بين أبيه والإمام الحسنعليه السلام، اضطرت الإمام إلى السكوت وعلى مضض، ولكن يبدو من ظواهر الأحداث أن يزيد لم يطلع على بنود الاتفاق، وحتى لو اطلع عليها فإنه لم يحترمها، كما فعل أبوه من قبل.
3 ــ إنّ يزيد إنّما أسرع في طلب البيعة من الإمام الحسين عليه السلام حتى يستبق الأحداث، ومن ثمّ يقلّص فرص تحرك الإمام عليه السلام على صعيد العمل بالاتفاقات المبرمة بين الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية، وكما أسلفنا فإنّ من بنود الاتفاق إرجاع الخلافة إلى الإمام الحسين عليه السلام.
4 ــ إنّ طلب البيعة بهذه السرعة يدخل في إطار ((فرض الهيبة))، وكما هو ثابت في عرف الحكّام المستبدين إنهم ((يخلقون الأجواء لفرض الهيبة والسطوة))، وخياراتهم تظلّ مفتوحة على الوسائل كافة بما فيها ((الاغتيالات)) لفرض السلطة، وليس القانون، لأنّ السلطان عندهم فوق القانون.
5 ــ إنّ من يستقرئ واقع السلطة في زمن معاوية يستشف أمراً غاية في الخطورة يكمن في إسقاط المقدسات كلّ ذلك حتى يمكن السيطرة على الناس.
وهذه الخطّة يعمل بها اليهود كما جاء في (بروتوكولات حكماء صهيون).
وعلى خلفية هذا الواقع الخطير، فإنّ طلب البيعة بهذه الكيفية إنما تستهدف إسقاط المقدسات، والتي أوضح مصاديقها الشخصيات لذلك:
فإنّ البيعة ليزيد عنوان واضح للذلّ، فكان لابدّ للإمام أن يرفض مهما كلّف الأمر، ثم إنّ مروان لام الوليد، وقال: والله لئن فارقك الحسين عليه السلام الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، أحبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه.
فوثب عند ذلك الحسين عليه السلام، وقال: يا ابن الزرقاء أنت تقتلني أو هو؟ كذبت والله وأثمت. وخرج عليه السلام يمشي ومعه مواليه حتى أتى منزله، فقال مروان للوليد: عصيتني لا والله لا يمكنك مثلها من نفسه أبداً.
فقال الوليد: ويح غيرك يا مروان إنك اخترت لي التي فيها هلاك ديني، والله ما أحبّ أن لي ما طلعت عليه الشمس، وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وإني قتلت حسيناً، سبحان الله أقتل حسيناً لما أن قال: لا أبايع، والله إني لأظن أن امرءاً يحاسب بدم الحسين عليه السلام خفيف الميزان عند الله يوم القيامة(4).
توطئة
أجمعت الأمة الإسلامية أنّ الآية ((وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا))(5)، نزلت بحق رسول الله، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين عليهم السلام(6).
نقل الثعلبي رواية أم سلمة رضي الله عنها في (تفسيره): ((وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في بيتها إذ أتته فاطمة عليها السلام بقطعة حرير. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أدعي لي زوجك وابنيك الحسن والحسين. فأتت بهم، فطعموا، ثم ألقى عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كساءً له خيبرياً، وقال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي وعترتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)). فنزلت آية التطهير، فقلت: يا رسول الله وأنا معهم؟. قال: إنك إلى خير، ولكنك لست منهم(7).
وقد أثبتُ في كتاب (قبس من نور فاطمة عليها السلام) أنّ آية التطهير تخصّ أهل البيتعليهم السلام، ومن جملة الأدلّة التي أوردتها امتناع نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما فيها السيدة عائشة من القول أنها نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت هي بأمسّ الحاجة إليها لاسيما وأنها خاضت حرب ((الجمل))، وكانت تحتاج إلى دليل يقوي موقفها، كما وأنّ الصحابة برمّتهم أطبقوا على أنّ الآية نزلت في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والسيدة فاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم السلام، وأوردت دليل زيد بن أرقم كما في (صحيح مسلم) أنّ أهل البيت هم الأولاد وليست الزوجة(8).
ــــــــــــــــــــــ
(1) الكامل في التاريخ: ابن الأثير، ج4/ص15. مقتل الحسين عليه السلام: أبو مخنف الأزدي، ص5. حياة الإمام الحسين عليه السلام: الشيخ باقر شريف القرشي، ج2/ص254.
(2) الكامل في التاريخ: ابن الأثير، ج4/ص300. البداية والنهاية: ابن كثير، ج8/ص157. مقتل الحسين عليه السلام: أبو مخنف الأزدي، ص6. كتاب الفتوح: أحمد بن أعثم الكوفي، ج5/ص14.
(3) كتاب الفتوح: أحمد بن أعثم الكوفي، ج5/ص14. اللهوف في قتلى الطفوف: السيد ابن طاووس، ص17. كربلاء، الثورة والمأساة: أحمد حسين يعقوب، ص149.
(4) الإرشاد: الشيخ المفيد، ج2/ص34. بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج44/326. إعلام الورى بأعلام الهدى: الشيخ الطبرسي، ج1/ص435. نفس المهموم: المحقق الشيخ القمي قدس سره، ص64.
(5) الأحزاب: ٣٣.
(6) راجع تفاسير: تفسير الثعلبي. الدر المنثور. الزمخشري. تفسير ابن كثير. القرطبي. والكثير من التفاسير، وكتب الحديث.
(7) مسند أحمد: الإمام أحمد بن حنبل، ج6/ص292. مسند أبي يعلى: أبو يعلى الموصلي، ج12/ ص451. نظم درر السمطين: الزرندي الحنفي، ص133. معاني القرآن: النحاس، ج5/ص349. تفسير الثعلبي: الثعلبي، ج8/ص42. أسباب نزول الآيات: الواحدي النيسابوري، ص239. تفسير السمعاني: السمعاني، ج4/ص281. شواهد التنزيل: الحاكم الحسكاني، ج2/ص61. تفسير ابن كثير: ابن كثير، ج3/ص492. الدر المنثور: جلال الدين السيوطي، ج5/ص198. فتح القدير: الشوكاني، ج4/ص279. تفسير الآلوسي: الآلوسي، ج22/ص14. تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر، ج13/ص204. أسد الغابة: ابن الأثير، ج4/ص29. تهذيب الكمال: المزي، ج6/ص229. سير أعلام النبلاء: الذهبي، ج3/ص283. فضل آل البيت: المقريزي، ص30. الفصول المهمة في معرفة الأئمة: ابن الصباغ، ج1/ص136. ينابيع المودة لذوي القربى: القندوزي، ج2/ص227.
(8) صحيح مسلم: تفسير آية التطهير.
إرسال تعليق