متى كانت عنونة الدواوين والقصائد الحسينية وتأريخها

بقلم: د. علي حسين يوسف

توطئة


البناء: مصدر للفعل (بنى)، وهو نقيض الهدم، والبناء: الشيء المبني، وجمعه أبنية[1].

وعلى هذا فإنَّ البناء هو الشيء المنجز، والمتحقق في الوجود، وهو بهذا يرادف مفهوم البنية، التي تعني: " تلك المنظومة ذات العناصر المتفاعلة، حيث كل عنصر يؤدي وظيفة داخل المنظومة، وتتحدد قيمته بهذه الوظيفة"[2].

وتعد القصيدة وحدة بنائيَّة، أو بنية تتضافر مجموعة من العناصر على إبراز الطابع الهيكلي لها، على وفق خطوات عملية كانت موضع اهتمام المحللين النفسيين، ونقّاد الأدب[3]، والهيكل المنجز من تلك العناصر، والذي عرَّفته نازك الملائكة بأنَّه "الأسلوب الذي يختاره الشاعر لعرض الموضوع"[4] يمثل الصورة الخارجيَّة، أو الشكليَّة للقصيدة، وهو – كما مرَّ – يتوفَّر على أجزاء مكونة له – كأي بناء آخر - ومن البديهي أنَّ إضاءة أي جزء من هذه الأجزاء، ستصب – حتماً – في فهم مجموع الأجزاء الأخرى، وما يتضمنه ذلك المجموع من قيم موضوعية وفنية، مما يؤدي إلى كشف العلاقة البنيوية بين تلك الأجزاء؛ هذه العلاقة التي كانت مدار خلاف كبير بين النقّاد في مدى تحقيقها للوحدة العضوية في القصيدة العربية[5]، قد تبدو واضحة في مراثي الإمام الحسين (عليه السلام)، إذ تنتظم كل أجزاء المرثية في خيط واحد من الحزن الذي يلف المرثية من البداية حتى نهايتها، وإن بدا الشاعر متغزلاً، أو ذاكراً لأحبته، وأيام شبابه، الأمر الذي يمكن القول معه، إنَّ الوحدة العضويَّة في مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) ربَّما كانت أكثر وضوحاً لارتكازها على أساس نفسي قد لا نجد ما يماثله في القصائد الأخرى.

ومما يعزز ما تقدَّم قوله؛ شيوع المراثي الحسينيَّة الطويلة، وغياب المقطوعات في النصف الأول من القرن العشرين، بوصف المرثية الطويلة تمثل وحدة موضوعية تستوعب أحزان الشاعر، وإن تباينت أسباب ذلك الحزن في الظاهر.

ومن المؤكد أنَّ بناء المرثيَّة واختيار شكل دون آخر لا بد أن يستند إلى موضوعية تتعلَّق بالموروث الأدبي بقدر استناده إلى الأسس الذاتيّة المتمثلة بموهبة الشاعر، وقدرته على الإبداع، فإذا كان الشعر" استعمالاً خاصّاً للغة "[6] يفصح عن ذات الشاعر، فإنَّ هذا لا بدَّ أن ينسجم مع الموروث الذي مثَّل جزءاً مهماً من ثقافة الشعراء العراقيين، مما أدّى " إلى بقاء بصمات التراث اللغوي واضحة "[7]، لذا فإنَّ مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) كانت صدى لهذين العاملين، مع لحاظ غلبة الطابع التراثي عند الشعراء المقلدين، وبروز الملامح التجديديَّة عند الشعراء الذين تأثروا بالثقافات الجديدة.

وقبل التطرق إلى وحدات البناء الهيكلي لمراثي الإمام الحسين (عليه السلام) لا بدَّ من معالجة مسألة عنونة الدواوين والقصائد وتأريخها، وهي من مستجدات هذه الحقبة، نظراً لأهميتها الفنية والعضويَّة.

العنوان والتأريخ


لم يكن معتاداً بين الشعراء – قبل القرن العشرين – أن يضعوا عناوين لدواوينهم، أو قصائدهم، جرياً على منهج القدماء، فقد كانت القصيدة حينما يراد الإشارة إليها، تذكر بالمناسبة التي ارتبطت بها، أو الموضوع الذي قيلت فيه، أو تسمى بحرف الروي الذي بنيت عليه، أو تعرف بنسبتها إلى مجموعة قصائد معروفة، كأن يقال معلقَّة زهير، نسبة إلى المعلقات،وقد لا يكون للشاعر سوى قصيدة واحدة، عندئذ لا يحتاج إلى قرينة أخرى لتعريفها، مثل أصحاب الواحدة، وربما كان للشاعر قصائد عدَّة، لكنه عرف بواحدة منها.

وفي العصر الحديث، ظهرت فكرة العناوين، وأصبح العنوان جزءاً مهماً في دلالة القصيدة، و"أحد العناصر الفنية الإبداعيَّة... وتنحصر وظائفه في عدَّة نقاط، هي: التعيين، والوصف، والإيحاء، والإغراء، فيشكل جزءاً مهماً من بنية القصيدة، ويسجل حضوراً نصيّاً في أغلب قصائد الشعراء"[8].

ويبدو أنَّ أثر الثقافات الجديدة كان له دورٌ في بروز أهميَّة العنوان عند الشعراء المجددين، بدليل أنَّ شعراء القصيدة التقليديَّة لا تجد صدى في دواوينهم يعكس اهتمامهم بعنونة قصائدهم، فشعراء مثل كاظم آل نوح، وكاظم سبتي، وسيد رضا الهندي، ويعقوب الحاج جعفر، ومحمد حسن أبي المحاسن، وعبد الحسين الحويزي، ومهدي الطالقاني، لم يعنوْا بوضع العناوين لدواوينهم، أو لقصائدهم، على عكس الشعراء الذين تزوَّدوا من الثقافات الحديثة، مثل الجواهري، وإبراهيم الوائلي، ومحمد صالح بحر العلوم، ومظهر إطيمش، ومصطفى جمال الدين، وحسين آل بحر العلوم، وطالب الحيدري، وخضر عباس الصالحي، وصالح الجعفري، وبدر شاكر السيّاب، فقلَّما نجد قصيدة عند هؤلاء لم ترتبط بعنوان معيَّن.

والعنوان عند هؤلاء مرتبط ارتباطاً إيحائيّاً بالموضوع، لذلك فإنَّ أغلب عناوين المراثي في هذه الحقبة مستوحاة من واقعة الطف[9]، ومجسدة لما عاناه الحسين في ذلك اليوم[10]، والإشادة بموقفه البطولي[11]، أو معبرة عن وجهة نظر الشاعر في مأساة الحسين (عليه السلام)[12].

وقد حاول طالب الحيدري أن يجعل عنوان إحدى مراثيه الحسينيَّة مرتبطاً بالبيت الأول، وكانَّه جزءٌ منه، فعنوان المرثيَّة هو(أميّة)، والبيت الأول منها[13]: (من المنسرح)

أولها فاسق وآخرها*** لا سقيت بالحيا مقابرُها

أما التحديد الزمني لمراثي هذه الحقبة، فقد تفاوت الشعراء في العناية به، فنجد من بين الشعراء المقلدين من التزم بتاريخ ما نظمه من المراثي الحسينيَّة[14]، ومنهم من لم يلتفت إلى هذه المسألة[15]، لكننا وجدنا حرصاً من الشعراء المجددين على العناية بتحديد زمن قصائدهم.

وقد أصبح التاريخ يحمل أهميَّة بالنسبة إلى الشاعر، والقارئ الناقد، فهو دليل، يمكن من خلاله معرفة التطور الإبداعي الذي واكب الشاعر في مسيرته الأدبيَّة، ومعرفة العوامل التاريخيَّة التي أثَّرت على إنتاجه، مع ما فيه من فائدة في ربط القصيدة بمرحلتها التاريخيَّة.

ــــــــــــــــ
[1] ينظر: لسان العرب: 1 / 365.
[2] نوافذ الوجدان الثلاث، دراسة في شعرية الخطاب الأدبي: 195.
[3] ينظر: الأسس النفسية للإبداع الفني – في الشعر خاصّة -: 295، وبناء القصيدة الفني في النقد العربي القديم والمعاصر: 5، وبناء القصيدة في النقد العربي القديم في ضوء النقد الحديث: 71، والبناء الفني للقصيدة العربية: 49.
[4] ينظر: قضايا الشعر المعاصر: 202.
[5] ينظر: وحدة القصيدة في الشعر العربي حتى نهاية العصر العباسي: 59.
[6] الشعر كيف نفهمه ونتذوقه: 125.
[7] أثر التراث في الشعر العراقي الحديث: 229.
[8] كربلاء في الشعر العراقي الحديث (رسالة ماجستير): 191.
[9] مثل: قصيدة فاجعة الطف لمحمد علي اليعقوبي، ينظر: الذخائر: 36، وقصيدة يوم عاشوراء لعباس الملا علي، ينظر: من وحي الزمن: 194، وقصيدة شهر الدموع لمحمد جمال الهاشمي، ينظر: مع النبي وآله: 1 / 186، وقصيدة مصرع الحق لحسين آل بحر العلوم، ينظر: زورق الخيال: 17.
[10] مثل: قصيدة الذكرى الدامية لمحمد جمال الهاشمي، ينظر: مع النبي وآله: 1 / 186، والدمعة الخرساء للسياب، ينظر: أزهار ذابلة: 88، ويا ناعي الطف للجزائري، ينظر: ديوان الجزائري: 75، والذكريات الدامية لمظهر اطيمش، ينظر: أصداء الحياة: 1 / 73.
[11] مثل: ذكرى استشهاد الحسين لمحمد صالح بحر العلوم، ديوانه: 2 / 121.
[12] مثل قصيدة آمنت بالحسين للجواهري، ديوان الجواهري: 3 / 291، والشعلة الخالدة لطالب الحيدري، ينظر: من وحي الحسين: 10، وقصيدة اشدو للحسين لمصطفى جمال الدين، ينظر: الديوان 2 / 161.
[13] من وحي الحسين (ديوان شعر): 29.
[14] للشاعر كاظم آل نوح ما يقرب من خمسين مرثيَّة في الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته، التزم الشاعر بكتابة تاريخ كل منها.
[15] وهم عامة الشعراء المقلدون مثل: كاظم سبتي، ويعقوب الحاج جعفر الحلي، ومهدي الطالقاني، ورضا الهندي، وعبد الحسين الحويزي.

إرسال تعليق