بقلم: الشيخ حسن الشمري
عاشت المدينة المنورة ردحاً طويلاً في أتون الانقلابات، فقد ضربها زلزال الانقلابات بعد استشهاد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وظلّت المدينة تعاني من آثاره، فما إن نفضت جسمها من عناء الزلزال الذي حدث بعد رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى ضربها زلزال ((بيعة الفلتة)) الأولى على حد تعبير عمر بن الخطاب.
ثمّ حلّ بها الخطب الكبير (تعيين ستة من الصحابة) لينتخبوا خليفة، الأمر الذي شتّت أمر الأمة، وجعلها شِيعاً.
وقد ضربت الانقلابات المتتالية ظلالاً سوداء على مجتمع المدينة وباقي المجتمعات، فجعل أهلها يعانون من ((القحط الأخلاقي والعلمي)).
ومن جانب فإنّ الانقلابات فتحت شهية الكثير، وأطمعتهم في الخلافة حتى بات الواحد منهم يفكّر بألف وسيلة في تقمّصها، وهكذا مَـنَّى الكثير نفسه بالخلافة كالزبير، وطلحة، ومعاوية، ومروان، وعبد الرحمن، وعبد الله بن الزبير، وغيرهم ممّا جعلهم يستغلّون الوسائل كافة للوصول إلى السلطة، بما فيها احتلال مكة، وعصيان الإمام المنتخب أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام.
وقد تحوّلت أرض المدينة من جرّاء الانقلابات إلى أرض خصبة لنمو الأفكار المتطرفة، وبروز ظاهرة الاستئثار والطغيان عند الطبقات العليا.
وكما هو ثابت في علم النفس الاجتماعي، فإنّ الانقلابات المتكرّرة تجعل الإنسان يتقلّب في مزاجه، ويميل إلى الأفكار المتطرفة، وإلى منقذ حتى لو تلبّس بالدين، ومن جراء الوضع القائم الذي لف المدينة جعل جَوَّها ملتهباً، فأثّر سلباً على أخلاق ساكنيها، فجعله متقلّب المزاج، ولا يرسو على قرار سليم. وكما هو ثابت في علم النفس الاجتماعي، فإنّ الجو الملتهب يخلق مزاجاً ملتهباً ومتقلباً.
لذلك فإنّ المجتمعات التي تعاني من اضطرابات سياسية تئنّ كثيراً من الأزمات الأخلاقية والاجتماعية والثقافية، وتضحى بؤرة لنمو الأفكار المتطرفة، وأصبح مجتمع المدينة يعاني من آثار الانقلابات حتى نضبت فيه ينابيع الثقافة والعلم والأخلاق، فكان سبباً في تخلّف مجتمع المدينة عن ركب القادة الحقيقيين، ويتنكّر تماماً لهم مما يثير الدهشة، ويبعث على الأسى، وهو بالأمس احتضن سيد الكائنات محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما فيه الكفاية لرفع منسوب الثقافة والأخلاق والحكمة، فأصبحت المدينة ((حاضرة العالم)) ولكن الذي حدث أن انقلبت فأصبحت قفراء، وكأن لم يكن هناك ((عظيم)) جاءها، وأرسى فيها صرح الإسلام العظيم.
إنّ المدينة وبفترة قياسية تنكرت لمبادئ الإسلام، وقطعت كل الجسور معه فتحولت إلى حاضنة لمجامع نفعية لا يهمّها إلا مصالحها الشخصية، وهكذا احتضنت أفكاراً جاهلية بعيدة حتى عن القيم العربية، وعلى خلفية هذا الواقع الذي لفّ المدينة وغيرها من الأسباب تركها أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام واتخذ الكوفة عاصمة له.
ولا يعني هذا أنّ الأئمة (صلوات الله عليهم) تنكّروا للمدينة، وإنما أرادوا إبعادها عن المؤامرات والانقلابات، ومن ثم إيجاد الفرصة كي تلملم جراحاتها لأنها أضحت مرمى الأعداء، بالذات من معاوية فهو أعدّ خططاً لإسقاطها وإخراجها من خارطة العالم الإسلامي، بدليل كثرة الهجمات التي شنّها عليها بقيادة المجرم بسر بن أرطاة الفهري[1]).
فانتقال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من المدينة:
أولاً: كي لا تصبح ((بؤرة))، ومن ثمّ تعود آثارها سلباً على حرمها.
ثانياً: فإنّ رواسب المؤامرات والانقلابات جعلتها مهيأة لاحتضان الخطط الخبيثة.
ثالثاً: فإنّ أرض المدينة تقريباً شحّت من الكوادر الكفوءة التي بإمكانها أن تساهم في العملية السياسية التي رسم خططها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وهناك عوامل أخرى، فإذا توصلنا إلى هذه النتيجة، نقول:
إنّ أهل المدينة المنورة في نظري هم أول من خذل الإمام أبي عبد الله الحسينعليه السلام، وتعود الأسباب:
أولاً: تشبّع جوّ المدينة بالأفكار التي أفرزتها الحكومات التي توالت عليها بعد رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالمناخ السائد في المدينة كان سلباً إزاء أهل البيت عليهم السلام، وما كان ليساهم في أيّ شكل من أشكال الدعم لثورة أبي الضيم عليه السلام إن لم يكن متخاذلاً.
ثانياً: كثرة التحوّلات والتقلّبات التي حدثت في المدينة جعلتها مسرحاً لأفكار المناوئين لأهل البيت عليهم السلام مما أثّر سلباً في نفوس أهلها، فجعل الكثير منهم يقف بقوة أمام أيّ تحوّل لصالح أهل البيت عليهم السلام. وفقاً للقاعدة الإجتماعية ((الناس على دين ملوكهم))، و((الناس أشبه بملوكهم من آبائهم)).
ثالثاً: السلطات التي جاءت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشبعت عقول الناس بأفكار غريبة، علماً أنّ عقول الكثير منهم لم تتشبع بالفكر السليم، ولم تجد الفرصة في استيعاب الإسلام لذا أصبحت المدينة بعيدة عن أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام.
قال الإمام زين العابدين عليه السلام: ((ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبنا))[2]).
فأهل المدينة الذين احتضنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحفظوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أهل بيتهعليهم السلام، فسرعان ما ضيّعوا وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويعدّ هذا الأمر خرقاً فاضحاً لقوانين الأخلاق والشيم العربية ناهيك عن القيم الدينية.
وكان الأحرى بأهل المدينة أن يحفظوا حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى ذمّته، ولكنّ الذي حدث بعد وفاته يعدّ مأساة بما للكلمة من معنى، فضيّعوا وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برمّتها، وبذلك فإنّ المدينة من لحظة استشهاد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لم تعد المكان المناسب لأيّ تحرّك جدّي نحو إعادة معالم الدولة الإسلامية، ومما يؤسف له أنه لم تظهر دراسات مهمة تفسر سبب هذا التغيير.
على كل حال، أصبح واضحاً لكل مراقب أنّ المدينة خذلت المولى أبا عبدالله الحسين عليه السلام، ومن قبل خذلت الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أكثر من مرّة، فليس بالإمكان الاعتماد عليها، ويعدّ الخذلان السمة البارزة لأهل المدينة ومكة فيما يخصّ حقوق أهل البيت عليهم السلام.
جاء في (شرح نهج البلاغة)، عن أبي جعفر الإسكافي: ((أما أهل مكة فكلهم كانوا يبغضون علياً، وكانت قريش كلها على خلافه، وكان الجمهور مع بني أمية))[3]).
إذا كان أهل مكة يبغضون الإمام علياً عليه السلام لأنه وترهم، وقتل ذؤبانهم لأجل الإسلام، ولكن ما الذي حدا بأهل المدينة يثاقلوا إلى الأرض، ويقلبوا ظهر المجن بصورة لا تقلّ بشاعةً عن أهل مكة؟ بل في نظر النقّاد يتصرّفون مع أهل البيت عليهم السلام، وكأنهم غرباء عن ملة الإسلام، حتى قيل أنّ أهل المدينة نسخوا تاريخهم مع رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم.
وممّا يثير الأسى فإنّ أهل المدينة لم يؤثّر عنهم موقفاً يصحّح مسيرتهم، ويعيد تاريخهم النّاصع، ويضعهم على الجادة المستقيمة مع أهـل بيت النبوة عليهم السلام، فظلّت المدينة تعاني من عقدة الرواسب، ولعل السبب يعود كما ذكرنا إلى الأحداث المفاجئة التي حدثت بعيد استشهاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ممّا أحدث هزّة عنيفة في عقائد الكثير، فظهرت ردّة فعل عكسية عبّرت عن نفسها في التنكّر لكل حقائق الإسلام، ومنها حق الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في الخلافة، لذلك فالإمام الحسين عليه السلام لم يعوّل على أهل المدينة.
رابعاً: إنّ أهل المدينة استمرءوا الحياة المرفهة بفضل الفتوحات التي حوّلتها إلى ((مخزن كبير للثروات))، وحوضٍ يجمع إليه كلّ روافد المال، فسرت موجة الترهّل، ممّا جعلها تستقبل بسهولة فجور يزيد، وهناك ارتباط وثيق بين الترهّل والمجون.
قال تعالى: ((كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى))[4]).
خامساً: وجود الطبقة ((الارستقراطية))، وكانت تشكّل عائقاً كبيراً في نصرة أبي عبد الله الحسين عليه السلام، فقد لعبت دوراً قاسياً في تثبيط المجتمع المدني، وتجفيف همته، كل ذلك حتى لا تتعرّض مصالحهم للخطر.
وقد أدركت هذه الطبقة أنّ أيّ تحرك في اتجاه مقاومة الطاغية يزيد سيجرّها لاحقاً باتخاذ موقف يتسم بالقوة، وهذا ما لا تريده لأنها لم تضع في حسابها نجاح التحرك الحسيني، فكانت تتوقع انكفاء النهضة الحسينية، أو أي تحرك من قبل النّاقمين على يزيد لذلك فهي سعت بكلّ جهدها لتثبيط أهل المدينة بما تملك من وسائل بما فيها الاعتراض والتشكيك في أيّ تحرّك باتجاه الطاغية يزيد، إنّ الطبقة الارستقراطية سعت بكلّ جهدها للوقوف أمام أيّ محاولة اصلاحية حتى لو صدرت من كبار القوم هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّها حركت أعوانها للاتصال بعبد الله بن عمرو ليثني المولى أبا عبد الله الحسين عليه السلام عن النهوض بمسؤوليته الشرعية.
وبذل عبد الله بن عمر جهداً لكنه اصطدم بشرعية النهضة الحسينية التي قامت على أساس ديني وأخلاقي، وما كان ينبغي لعبد الله بن عمر أن يتحرك على هذا الصعيد، لاسيّما وهو يعرف أهداف الإمام الحسين عليه السلام.
ويعرف حجم الخطر الذي يمثّله تحرّك يزيد بن معاوية، فقد تسلم السلطة وهمه تثبيت الخط السفياني الذي أركسه الإسلام، وكاد أن يقضي عليه لولا ((مؤامرة السقيفة)) التي وفّرت المناخ لتنفس الخط السفياني الصعداء، ومن ثم يقوي تباعاً ليسيطر على أرجاء الدولة الإسلامية بما فيها مكة والمدينة، وكانت إحدى الأسباب في تخاذلهما.
والغريب في الأمر أنّ أهل المدينة ومكة ينحون باللائمة على أهل الكوفة بنكوصهم وخذلانهم الإمام أبا عبد الله الحسين عليه السلام.
فهذا عبد الله بن عمر يلتقي بأحد العراقيين عندما يسأله عن دم البعوض، فيقول عبد الله لأصحابه: سبحان الله يسألني عن دم البعوض، وهم قد قتلوا الحسين بن عليه السلام.
ونسأل عبد الله بن عمر: وأنت ماذا فعلت إزاء أبي عبد الله الحسين عليه السلام حتى تستشكل على أهل العراق؟.
كان يمكن لعبد الله بن عمر أن يعمل الكثير، أو على الأقل يعمل في اتجاه نصيحة يزيد بن معاوية بدل أن يقف بكلّ قوة أمام تحركات أبي الأحرار الإمام الحسين عليه السلام، حتى أخذ يتعرّض لثورة الإمام عليه السلام ولأهل الكوفة، ويعيب عليهم الاستمرار، وإذا كان أهل الكوفة قد خذلوا الإمام أبا عبد الله الحسين عليه السلام، فإن منهم من نصره وبيّض وجه الكوفة بعد أن سوّدها عمر بن سعد الأموي، وشبث بن ربعي، والحجّار بن أبجر، وقيس بن الأشعث.
فالكوفة إن خذلت الإمام الحسين عليه السلام إذا صحّ الخذلان لكن لماذا أهل المدينة ومكة خذلوا الإمام أبا عبد الله الحسين عليه السلام وهم سنام العرب، الذين حاموا الذمار، فضلاً عن وجود المهاجرين والأنصار الذين شكلوا ((حواضر)) مهمّة احتضنت الكثير من الحلقات العلمية. وكان يمكن لهذه المدن أن تمدّ يد العون للإمام الحسين عليه السلام، وتنهض بمسؤولياتها، ولكنها اثّاقلت إلى الأرض، ثم غفت على أعتاب دنيا معاوية ويزيد.
وهذا بالضبط ما يحدث الآن، فإنّ بعض الإخوة من السنة يتطاول على أتباع أهل البيت عليهم السلام، ويلصق بهم تهماً رخيصة من قبيل أنّ الشيعة قتلوا الإمام الحسين عليه السلام، ثم أخذوا يبكون ويقيمون مجالس العزاء.
أولاً: إن الإمام الحسين عليه السلام ليس إماماً للشيعة، وإنما هو إمام المسلمين قاطبة.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا))[5]).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وأشار إلى الحسين عليه السلام): ((أنت سيد ابن سيد، أنت إمام ابن إمام أخو إمام أبو الأئمة، وأنت حجة الله وابن حجته وأبو حجج، تسعة من صلبك تاسعهم قائمهم))[6]). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((حسين مني وأنا من حسين))[7]).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنتما الإمامان ولأمكما الشفاعة))[8]).
فالإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام إمام لكل المسلمين، من هنا فإنهم يتحمّلون قسطاً وافراً من المسؤولية في إحياء الشعائر الحسينية، والاحتفاء بثورته المباركة، ومعرفة قيمها فهذا الأمر ليس مختصاً بالشيعة وإنما لكل المسلمين ولهم الشرف بذلك.
أما أن يأتي أحدهم ويقول: لماذا الشيعة يقيمون المآتم وهم قد قتلوه، فهذا هراء ويجافي المنطق والواقع.
ثانياً: إذا كانت الشيعة تقيم مجالس العزاء على ذكرى الإمام أبي عبد الله الحسينعليه السلام، إنما تُريدُ بهذه لمجالس إبقاء الروح الحسينية في جسد الأمة وهي بأمسّ الحاجة إليه لاسيّما إذا عرفنا حجم المؤامرات، وكثرة التيارات الفاسدة التي تهب عليها، والتي تعدّ بعضها قاسية وممضة.
ومن جانب فإنّ مجالس الحسين عليه السلام تترجم بوصفها روح المسؤولية، وعمق الإيمان، وكما هو ثابت في سنن المجتمعات، فإنّها تقيم احتفالات دورية كبرى لشخصياتها كلّ ذلك حتى تبقّي آثارها حية في نفوس أجيالها، وبعدها تمضـيـها سنة في حياتها، وهذه ظاهرة باتت واضحة في المجتمعات لاسيّما المتقدمة منها.
فمثلاً الشنتوية: ((وهي الدين الأصيل في بلاد اليابان، وتعني كلمة الشنتوية الطريق إلى الآلهة وهي تقوم على تقديس أرواح الأبطال والأباطرة))[9]).
فقلّما نجد أمة لا تقوم بإحياء ذكر شخصياتها إلا إذا أرادت الأمة أن تموت، فالقانون السّاري في حياة الأمم يكمن في إحياء الذكريات العظيمة، والتي تتّخذ أشكالاً عديدة منها إنشاء المتاحف، وعقد مؤتمرات ومسيرات، وها نحن نشاهد المتاحف في دول عديدة تزخر بمنجزات عظمائهـا ومآثرهم.
وبعض المتاحف تحتفظ حتى بملابس عظمائها، لا بل بأبسط مستلزمات عيشهم، ممّا يدلّ على حرصهم في تثبيت قيم رجالهم، ثم إنّ الأمم التي تحتفظ بمواقف رجالها تقيمُ صرحاً لأجيال متعاقبة.
إنّ الحاضر لا يمكن أن ينفك عن الماضي، فالتاريخ يشكّل وقوداً حيوياً لاستمرار الحياة في جسد الأمة، فإذا كانت الأمم تبني مستقبلها من خلال قيمها التاريخية، والمنطق يقول كلما كان التاريخ مشرقاً كانت الحياة لمن يتصفحه أكثر إشراقاً.
نقول: وهل هناك أفضل من مواقف الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، والتي قدّم من خلالها صوراً مشرقةً عن الإسلام، حتى نحتها في ضمير الأمم، وليس في ضمير المسلمين حسب.
يقول الدكتور أحمد محمود صبحي في كتابه (نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية):((وإذا كان قد هُزِمَ في معركة حربية أو خسر قضية سياسية، فلم يعرف التاريخ هزيمة كان لها من الأثر لصالح المهزومين كما كان لدم الإمام الحسين عليه السلام، فقد أثار مقتله ثورة ابن الزبير، وخروج المختار، ولم ينقض ذلك حتى انقضى الأمر إلى ثورات أخرى إلى أن زالت الدولة الأموية بعد أن أصبحت ثارات الحسين عليه السلام هي الصرخة المدوية لتدكّ العروش وتزيل الدول، فقام بها ملك العباسيين، ثم الفاطميين، واستظل بها الملوك والأمراء بين العرب والفرس والروم)).
ويقول: ((لقد أصبح الحسين عليه السلام عند المسلمين إمام كل حركة قامت لدكّ العروش، وخلع الملوك الذين تسنّموا الحكم باسم الخلافة))[10]).
ثمّ إنّ هؤلاء الذين ينعتون أتباع أهل البيت عليهم السلام بالخذلان ناصروا الباطل في عدّة مواطن، فرماهم الله بخذلان الحق، وهذا قانون ثابت من قوانين الله عز وجل.
قال الإمام الحسن العسكري عليه السلام: ((ما تَرَكَ الحق عزيز إلا ذلّ ولا أَخَذَ به ذليل إلا عزَّ))[11]).
وهكذا فإنّ من يترك الحق يتبع الباطل، ومن ثم يتمسح على أعتابه لأنّ إتّباع الباطل يقتل الهمة والعزة والسمو، وهذه الصفات مطلوبة في أتباع الحق، وهو ثقيل.
قال تعالى: ((إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا))[12]).
وهذا الجفاف الذي أصاب عقول هؤلاء كان نتيجة طبيعية للسياسات الخاطئة، فكانت تحتاج عقولهم إلى تسميد بما يساعدها على الإخصاب والازدهار، وذلك بإمداد لا ينقطع من روافد الثورة الحسينية المباركة.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنّ الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة، وفاطمة سيدة نساء العالمين))[13]).
وإنما صاروا سادة أهل الجنة لأنهم بلغوا القمة في العطاء الأخلاقي فأضحى يلهم في كل حين، وأما السبب الآخر فلا زالت قريش وأتباعها لحد الآن تتنفس ((برئة جاهلية))، فهي بعد لم تتخلص من عقدها إزاء أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم، فأعمت بصيرتها تماماً.
يقول محمد علي الغتيت: ((إنّ الشعوب التي لا تبصر بعيونها سوف تحتاج إلى هذه العيون لتبكي طويلاً))، وقد بكت قريش طويلاً ومعها المدينة.
وأخيراً وليس آخراً: إنّ من ينتقد أهل العراق ويوصم شيعة أهل البيت بالخذلان تارة وبالهزيمة أخرى، وبإثارة النعرات الطائفية عبر إحياء مراسم العزاء لأبي عبد الله الحسين عليه السلام، فليعطي الدليل على سلامة خطه باتجاه أهل البيت عليهم السلام، ثم ليثبت أنه ناصرهم ولو مرة في حياته، ولو بلسانه، نحن نسمع الكثير من الاتهامات ومن علامات الاستفهام من هؤلاء المنهزمين، لكن لم يثبتوا ولو مرة واحدة أنهم انتصروا لأهل البيت عليهم السلام. وصدق الكميت بن زياد النخعي عندما يقول:
كلام النبيين الهداة كلامنا*** وأفعال أهل الجاهلية نفعلُ[14])
نحن نسمع الانتقاد، ولكن لا نرى واقعاً يجسّد مفردات الفهم الواقعي لفكر أهل البيت عليهم السلام، فهم أبعد الناس عن فكر أهل بيت النبوة وعن تعاليمهم عليهم السلام.
ونحن نطلب من هؤلاء المتحذلقين الذين يزعقون في كل يوم أن يكفوا عن عزف هذه السيمفونية المملّة التي صارت تقزّز وتصكّ سمعنا بنغمة سمجة، وعليهم أن يتركوا أتباع أهل البيت عليهم السلام وشأنهم، مثلما هم تركوهم.
قال تعالى: ((لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ))[15]).
ثم ماذا لو تصفّحوا واقعهم المزري الذي يمتلأ بألف علامة استفهام وطافح بألف بقعة سوداء تحكي المأساة بعينها؟.
ماذا لو عالجوا قضية ((تجارة البشر)) التي أضحت ظاهرة تزكم الأنوف وتخجل الإنسانية، حتى بات الكثير يوصم العرب بـ((القوا…))، وغيرها من الألفاظ الشائنة، وبالأمس وضعت الولايات المتحدة ثلاثة دول عربية في لائحة الدول التي تروّج لتجارة البشر؟.
ماذا نقول ونحن نعيش هذه المأساة بكل صورها، وهي تنقل عبر الفضائيات والصحف والإنترنت؟.
لقد ضيّقوا علينا الخناق حتى صار الواحد منا لا يبوح بعروبيته ويخجل منها، فأمسينا نحن العرب سبة على الإنسانية بعدما كنّا غرة في جبينها، وكنّا مثالاً للشهامة والعفة والغيرة، وإذا بنا نصبح نموذجاً للتهتّك والعهر.
فعليه فإنّ من يريد أن ينتقد فعليه أن يتفحص نفسه، ثم إذا وجدها خالية من الرّذائل وقد طهرت وهذا مستحيل، ليتحول بعدها وينتقد الآخرين، ويشهر معايبهم.
ومن المستحيل لهذا الشخص الذي همّه إشهار معايب الآخرين أن يجد الفرصة لإصلاح نفسه، لأنّ الحالة التي قبع فيها لا تدعه يلتفت إلى نفسه، ومتى يستطيع وقد استمرأ الانتقاد، وأُرهق بطائل من الهموم والغموم، فقد تحمّل أعباء ((إشهار معايب الغير))، فنحن أمة سبّاقة في انتقاد الآخرين.
لكن لا طاقة لنا في انتقاد أنفسنا، لذا فنحن نخرّب أكثر ممّا نبني، ونهدم أكثر مما نعمّر، ولنا القابلية في الهدم أكثر بكثير من البناء.
ونحن على وشك الانتهاء من فصل تخاذل أهل المدينة، نقول: إنّ أهل المدينة خذلوا الإمام أبا عبد الله الحسين عليه السلام، وما كان ينبغي لهم ذلك لاسيما وهم أقربُ الناس إلى الإمام عليه السلام وأكثرهم علماً ومعرفة.
وما كان لهم الخيرة من أمرهم أن يتركوا الإمام عليه السلام مع أهل بيته وهم يعلمون أنّ الإمام عليه السلام إنما خرج لإصلاح أمة جدّه، وبالأمس أشار إليه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا))[16]).
فالأمر واضح لا يحتاج إلى استقراء أو استثناء، ويتأكد الأمر حينما نرى بني سفيان ينزون على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزو القردة فيسومون الناس الخسف ويلبسونهم ثوب الصغار، وأهل المدينة يعلمون أنّ بني سفيان لا يتركون المدينة تلبس ثوب العز والشموخ وتتنفس عبير الكرامة، بدليل أنهم عدوا عليها بمجرد أن سنحت الفرصة فانتقموا منها شرّ انتقام، فأباحها يزيد بن معاوية لمسرف بن عتبة ثلاثة أيام فعمل بها ما لم يعمله أيّ فرعون في الأرض[17]).
ــــــــــــــــ
[1]) الطبري، وابن الأثير.
[2]) الغارات: إبراهيم بن محمد الثقفي، ج2/ص574. بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج34/ص297. مستدرك سفينة البحار: الشيخ علي النمازي الشاهرودي، ج8/ص579. مكاتيب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: الأحمدي الميانجي، ج3/ص730. شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد، ج4/ص104.
[3]) كتاب الأربعين: محمد طاهر القمي الشيرازي، ص298. بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج34/ ص297.
[4]) العلق: ٦ ــ 7.
[5]) علل الشرائع: الشيخ الصدوق، ج1/ص211. روضة الواعظين: الفتال النيسابوري، ص156. الفصول المهمة في معرفة الأئمة: ابن الصباغ، ج2/ص717.
[6]) الإمامة والتبصرة: ابن بابويه القمي، ص110. المراجعات: العلامة المقدس السيد عبد الحسين شرف الدين، ص227. منهاج السنة: ابن تيمية، ج4.
[7]) الإرشاد: الشيخ المفيد، ج2/ص127. ذخائر العقبى: أحمد بن عبد الله الطبري، ص133. بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج37/74. العوالم، الإمام الحسين عليه السلام: الشيخ عبد الله البحراني، ص1. مستدرك سفينة البحار: الشيخ علي النمازي الشاهرودي، ج8/ص233. مسند أحمد: الإمام أحمد بن حنبل، ج4/ص172. سنن الترمذي: الترمذي، ج5/ص324. المستدرك: الحاكم النيسابوري، ج3/ ص177. تحفة الأحوذي: المباركفوري، ج10/ص19. المصنف: ابن أبي شيبة الكوفي، ج7/ص575.
[8]) المحتضر: حسن بن سليمان الحلي، ص180. كشف الغمة: ابن أبي الفتح الأربلي، ج2/ص129. الفصول المهمة في معرفة الأئمة: ابن الصباغ، ج1/ص666. الخصائص الفاطمية: الشيخ محمد باقر الكجوري، ج2/ص363. جواهر التاريخ: الشيخ علي الكوراني العاملي، ج2/ص208. الأسرار الفاطمية: الشيخ محمد فاضل المسعودي، ص178.
[9]) عالم الأديان بين الأسطورة والحقيقة: فوزي محمد حميد، ص253.
[10]) نظرية الإمامة لدى الشيعة الإثني عشرية: الدكتور أحمد محمود صبحي.
[11]) تحف العقول: ابن شعبة الحراني، ص489. بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج69/ص232. ميزان الحكمة: محمد الريشهري، ج1/ص655.
[12]) المزمل: ٥.
[13]) مسند زيد بن علي: زيد بن علي، ص461. الأحكام: الإمام يحيى بن الحسين، ج1/ص40. سبل السلام: محمد بن إسماعيل الكحلاني، ج4/ص125. فقه السنة: الشيخ سيد سابق، ج3/ص417. نضد القواعد الفقهية: المقداد السيوري، ص98. أسد الغابة: ابن الأثير، ج5/ص572. حلية الأولياء: ج15/ص72.
[14]) الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: السيد علي خان المدني، ص570. أعيان الشيعة: السيد محسن الأمين، ج9/ص36. الروضة المختارة (شرح القصائد الهاشميات): كميت بن زيد الأسدي، ص61. الإمام جعفر الصادق عليه السلام: عبد الحليم الجندي، ص184. شرح ابن عقيل: ابن عقيل الهمداني، ج1/ ص232. خزانة الأدب: البغدادي، ج1/ص155.
[15]) الكافرون: ٦.
[16]) علل الشرائع: الشيخ الصدوق، ج1/ص211. روضة الواعظين: الفتال النيسابوري، ص156. الفصول المهمة في معرفة الأئمة: ابن الصباغ، ج2/ص717.
[17]) راجع الطبري، والكامل، والبداية والنهاية، والكثير من كتب التاريخ.
إرسال تعليق