الحسين في التاريخ

بقلم: الدكتور محمد مصطفى زيادة - أستاذ التاريخ - كلية الآداب جامعة فؤاد الأول ــ مصر ــ


ايها الجمع الكريم، والله سبحانه وتعالى في سمائه، والناس في اقطار الشرق والغرب، والتاريخ في الكتب العربية والأجنبية، والعقول في رؤوس اصحابها – كل ذلك يشهد لكم بهذه الصفة التي اتصف بها القرآن الكريم، والنبي الكريم. تلك الشهادة لكم ترجع الى تخليدكم مصرع الحسين، والى احيائكم للمبادئ السامية التي خرجت مرفوعة الرأس يوم كربلاء والطفوف. إني تعلمت من التاريخ أن الحق يعلو دائماً ولا يُعلى عليه أبداً، والفكرة الطيبة لا تموت ولا تزهق بل تبقى حية سواء خفيت تحت ضغط غاشم، أو أزهقت تحت استبداد طارئ، والدولة الأموية، كذلك العباسية، وكذلك العثمانية عملت كلها على اخماد فكرة تمجيد الحسين، وإحياء ذكرى مصرعه الأسيف. ومع هذا كله بقيت الفكرة لما فيها من الحق ، وما فيها من معان رفيعة، وها انتم بجمعكم هذا الكريم تبرهنون على ما أقول في وصفكم، وفي وصف مصرع الحسين وقد شهدت بعض ليالي العزاء فأمتلأت إعجاباً بمحافظتكم على تلك المعاني الرفيعة.

إن الحسين لم يقم قومته الخالدة في سبيل منفعة، ولم ينتقل من المدينة الى مكة في سبيل بيعة والسلام. ولم يقصد العراق حباً في شهرة، ولم يرفض البيعة ليزيد جرياً وراء مصلحة ذاتية عاجلة أو آجلة. لو كان الأمر كذلك لبقي الحسين بمكة مثلاً سنة ستين للهجرة، ولشهد الحج تلك السنة، ولدعا الناس الى ما يزعمه له البعض من خلافة عادية، أو لسمع لبعض نصائحه حين أشاروا عليه بالبقاء حيث هو، او الرحيل الى اليمن. الحقيقة أنه أراد ما هو أسمى وأعظم من ذلك كله، أو أن الله أراد له ما هو أسمى وأعظم من ذلك كله، حتى إذا كانت كربلاء وقضى الأمر بات الحسين مع الخالدين في الدنيا والآخرة.

إيه أيتها السنة الستين من الهجرة ..! إيه أيها اليوم العاشر من الشهر المحرم من السنة الواحدة والستين من الهجرة. أراد الحسين أن يأوي الى الكوفة معقل أبيه، ليجعل منها معقلاً للمبادئ السامية التي نادى بها طوال عمره، وموئلاً للوحدة الإسلامية التي تمناها للمسلمين. ولعمري إن خوف يزيد وابن زياد من مقدم الحسين الى العراق بالذات، وإن الحاح شمر بن ذي الجوشن في التعجيل  بالقضاء على الحسين – كل ذلك دليل صدق على عزيمة الحسين وإيمانه، وبرهان على شجاعته واخلاصه، وإقباله على ركوب الأخطار، في سبيل المبدأ، الذي تمنى تحقيقه على يديه، فلو كان في مسير الحسين الى العراق خطر قليل على الدولة الأموية لما اقبل أولياء السوء بعضهم على بعض يتآمرون ويتظافرون على قتل الحسين اشنع قتلة.

والمؤرخ لا يستطيع أن يرى نتيجة للحوادث السابقة لكربلاء إلاّ النتيجة التي إنتهت اليها تلك المأساة. الحسين هو ابن النبي كما قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والحسين هو وأخوه سيدا شباب أهل الجنة، والحسين معدن الطهر والعفاف، والفروسية، والوفاء، والشجاعة، والإخلاص، والصراحة. هذا هو الحسين في بعض صفاته الواضحة، ويريده يزيد بن معاوية على البيعة له للخلافة بين المسلمين، وهو المتهور العنيف، الفظ الغليظ الطبع، خليل الندامى والقرادين والفهادين، المتواني عن العظائم والمصالح العامة بشهادة أبيه. الفرق شاسع وأيم الله، والواقع انه لا مقارنة بينهما إذ كيف يستوي الخبيث والطيب، أو كيف يتشابه الظلام والنور، أو يتكافأ الحنظل والشهد، أو كيف يبايع الحسين ليزيد.

الحقيقة إن تحكم النعرة، ونكد الدنيا، وعماية الشهوات الجاهلية، هي التي القت بنور الحسين أمام ظلمة يزيد، وتشاء الأقدار وعلمها عند الله، إن ينتهي الأمر بمصرع الحسين على يد أسوأ خلق الله. ومع هذا فلم ينتصر يزيد، وحاشا ان تنتصر صفاته النكراء. إنما كان الإنتصار للحسين الشهيد. وآية ذلك جمعكم الكريم اليوم. هذا هو حكم التاريخ لا عوج فيه ولا أمتا. هل أدلكم على شيء من التاريخ لتعرفوا من كان المنتصر المنصور. ومن كان المنهزم المقهور في كربلاء..؟ مات الحسين ميتة الأبطال، وأستشهد في سبيل المبدأ الإسلامي والوحدة الإسلامية، وظل من يوم مصرعه تحبوه التحيات والصلوات على روحه الطاهرة. ومات يزيد ولما يتجاوز عمره السابعة والثلاثين، بعد أن مرض بذات الجنب، بسبب إصابة كبده من إدمان الشرب والإفراط في كل السيئات، وظل منذ وفاته لا يذكره الناس والتاريخ إلاّ بالشر والفحش أبد الآبدين، والذكر بالشر والسوء هو اقصى ما حصل عليه يزيد من التاريخ ولكن.. أما كان ليزيد أن يرجع عن غيه، وأن ينزل عن بعض ما جناه عليه أبوه معاوية عندما زرع الضغينة والفتنة في قلبه باستجلاب البيعة له بالرشوة والوعيد، مع وجود من كان أحق منه بخلافة المسلمين وبيعتهم الف مرة، الحقيقة انه لم يكن بمقدور يزيد أن يرجع عن الباطل الى الحق، وما شاء أن يقوم بشيء من ذلك، ولو شاء ما عرف، فان السلطان يعمي ويصم، والدنيا متاع الغرور، وكان يزيد كما اثبت التاريخ صنيعة السلطان والدنيا، ووليد الخداع والحيلة من اجل المنفعة الذاتية، ولو كان في ذلك خراب المسلمين والوحدة الإسلامية. ثم ان يزيد كان وريث بني أمية وعصبياتهم . وهل أدل على ذلك من تاريخ بني آمية قبل الإسلام وبعده..؟ لقد اضطهدوا بيت الرسول قبل الإسلام، وكان حرياً بتلك الأسرة ان تنزل لبيت الرسول عن كل ما هو جدير ببيت الرسول وحده، وذلك بعد ان اسلم افرادها وصاروا من زمرة المسلمين، لأنه لم يعد أحد من بني أمية أو غيرهم شرف يسامت شرف البيت النبوي بعد الإسلام. وهنا موضع العجب المريب، على ان الحقيقة لا تدعوا الى العجب، وانما تدعوا الى الأسى والكراهية، وهي أن الأمويين لم يتنازلوا  عن ادعاءاتهم القديمة، ومناوراتهم البغيضة، ولم ينسوا صفاتهم التجارية القائمة على الربح المادي في كل صفقة، والمنفعة العاجلة والزخرف في كل مناسبة، ولذا تعافى يزيد عن مصلحة الدولة الإسلامية. وطعن مبادئ التضحية والإخلاص. بعد أن ضرب بها عرض الحائط. ولذا كان يزيد وأبوه معاوية من قبله أصحاب الصدع والخرق الأول في الجبهة الإسلامية المباركة وللصدع رجع واتساع. والخرق والعياذ بالله قد يصبح مستحيلاً على الواقع.

أيها الجمع الكريم..! إن الحسين قد نال شرف التاريخ، ولا ينال شرف التاريخ الى من أوتي من اخلاق الحسين وصفاته شيئاً. وقد نال الحسين شرف تخليدكم ليوم مصرعه كما نلتم انتم كذلك الشرف الجدير بأهل المبدأ. أهل المحبة والعدل، أهل الكره للظلم والجبروت. إن كثيراً من المؤرخين المسلمين وغير المسلمين يبدؤون دراستهم مجردين عن كل معرفة بما في مصرع الحسين من اسرار خالدة ، ثم لا يلبثون أن يخرجوا من دراستهم وفي قلوبهم حزن على مصرع الحسين، وحكم صارم على يزيد.

هل أدلكم على دليل تاريخي قريب. إنه لولا مصرع الحسين لما عرف التاريخ عن يزيد شيئاً قليلاً أو كثيراً. أما الحسين فمعروف الشمائل والمناقب قبل كربلاء وبعدها وربما كان أقل مآثره أن الناس وجدوا في صفاته النورية أمثلة تحتذى، وأخلاقاً هي خير قدوة للعاملين. ولا أخال المجتهدين في السير على هديه ومبادئه إلاّ قليلين، ممن لا يبهرهم زيف المنفعة الشخصية، ولا تغشي قلوبهم زخارف الطمع.

وغريب والله ان يوجد بين صفوف المسلمين في صدر الاسلام نعرة السلطان، والعصبية الجاهلية من اجل السلطان والعصبية الجاهلية، لا من أجل المصلحة العامة والإخلاص للدين، سيما أن الاسلام كان وقتذاك نبتاً غضاً يحتاج الى مجهود كل مخلص للدين، سيما ان معظم المكتهلين من المسلمين وقتذاك كان ممن رأى الرسول، وشهد بنفسه وسمع حب الرسول للحسين وأخيه. وليس في تلك الغرابة سذاجة وجهل بطبائع البشر، فقد احس بها كثيرون ممن عاصر مأساة كربلاء وأولهم علي زين العابدين. إذ قال ليزيد وهو يؤنبه في ملإ من آل الحسين ونساؤه (مقرنين بالحبال يا يزيد، ما ظنك برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لو رآنا على هذه الصفة..؟) فأطرق يزيد ويا عجباً خجلاً. كما يطرق الطفل العاصي ندماً، ولات حين مندم. فسلام الله على الحسين. وسلام عليكم جميعاً. وأني أحيي مولانا سماحة السيد هبة الدين الحسيني. معدن الكرم والوفاء والاخلاص لوجه الدين. وأحييكم وأرجوا الله أن يهيء لي ولكم ولسائر المسلمين بأقطار الأرض الرشد والخير والوحدة والقوة والسعادة في الدارين.

إرسال تعليق