بقلم: السيد عبد الله شبر، تحقيق شعبة التحقيق في قسم الشؤون الفكرية
الزهد في القران والسنة
قال تعالى: ((مَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَصِيبٍ))[1] وقال تعالى: ((وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى))[2].
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم[4]: من أصبح وهمه الدنيا شتت[5] الله عليه أمره، وفرق عليه ضيعته[6]، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح وهمه الآخرة جمع الله له همه، وحفظ عليه ضيعته، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة[7].[8]
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: إذا رأيتم العبد قد أعطي صمتاً وزهداً في الدنيا فاقربوا[9] منه، فإنه يلقي الحكمة، وقد قال الله تعالى: ((وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا))[10].[11]
وعنه عليه السلام[12]: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد في ما أيدي الناس يحبك الناس[13].
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: من أراد أن يؤتيه الله علماً بغير تعلم وهدى بغير هداية فليزهد في الدنيا[14].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: من زهد في الدنيا أحل الله[15] الحكمة في قلبه فأنطق بها[16] لسانه وعرفه داء الدنيا ودواءها وأخرجه سالماً إلى دار السلام[17].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: من آثر الدنيا على الآخرة ابتلاه الله بثلاث: همّ لا يفارق قلبه أبداً، وفقر لا يستغني معه أبداً، وحرص لا يشبع معه أبداً[18].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا يستكمل العبد الإيمان حتى يكون أن لا يعرف أحب إليه من أن يعرف، وحتى يكون قلة الشيء أحب إليه من كثرته[19].
في حقيقته
الزهد هو صرف الرغبة عن الدنيا وعدم إرادتها بقلبه إلا بقدر ضرورة بدنه، وقد تقدم تحقيق معنى الدنيا، ومنه يعلم أن الزهد في الدنيا لا ينافي كثرة المال والخدم ونحوهما إلا إذا كان محباً لها بقلبه وراغباً فيها وتشغله عن ذكر الله.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: الزهد كله بين كلمتين من القرآن، قال سبحانه[20]: ((لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ))[21]. ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه[22].
وقال عليه السلام[23]: الزهد في الدنيا قصر الأمل، وشكر كل نعمة، والورع عن كل ما حرم الله عزّوجل[24].
وقال الصادق عليه السلام: ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال ولا تحريم الحلال، بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما عند الله[25].
نعم لما كان جمع المال ونحوه بالنسبة إلى حال أكثر الناس لضعف نفوسهم يحرك الرغبة في الدنيا فزهدهم إنما يكون في تركه، كما ورد في خبر آخر عن الصادق عليه السلام حيث سئل عن الزهد فقال: الذي يترك حلالها مخافة حسابه، ويترك حرامها مخافة عقابه[26].
وفي مصباح الشريعة: قال الصادق عليه السلام: الزهد مفتاح باب الآخرة والبراءة من النار، وهو تركك كل شيء يشغلك عن الله من غير تأسف على فوتها ولا إعجاب في تركها ولا انتظار فرج منها وطلب محمدة عليها ولا عوض لها، بل ترى فوتها راحة وكونها آفة، وتكون أبداً هارباً من الآفة معتصماً بالراحة. والزاهد الذي يختار الآخرة على الدنيا والذل على العز والجهد على الراحة والجوع على الشبع وعافية الآجل على محبة العاجل والذكر على الغفلة، وتكون نفسه في الدنيا وقلبه في الآخرة[27].
في أقسام الزهد ومراتبه
إعلم أن الزهد في نفسه على ثلاث درجات:
الأولى: وهي السفلى أن يزهد في الدنيا وهو لها مشتهٍ وقلبه إليها مائل ونفسه إليها ملتفتة ولكنه يجاهدها ويكفها، وهي الدرجة الأولى من الزهد.
الثانية: أن يترك الدنيا طوعاً لاستحقاره إياها بالإضافة الى الآخرة المرغوب فيها، كالذي يترك درهماً لأجل درهمين، فإنه لا يشق عليه ذلك، وهو يظن بنفسه أنه ترك شيئاً له قدر لما هو أعظم قدراً منه.
الثالثة: وهي العليا أن يزهد طوعاً ويزهد في زهده فلا يرى زهده، إذ لا يرى أنه ترك شيئاً، حيث عرف أن الدنيا لا شيء، فيكون كمن ترك نواة وأخذ جوهرة، فلا يرى ذلك معاوضة[28]، وهذا كمال الزهد.
ومثله مثل من منعه من باب الملك كلب على بابه، فألقى إليه لقمة خبز فشغله بنفسه ودخل الباب ونال القرب عند الملك حتى نفذ أمره في جميع مملكته، أفترى أنه يرى لنفسه يداً عند الملك بلقمة خبز ألقاها إلى الكلب في مقابلة ما ناله، فالشيطان كلب على باب الله يمنع الناس من الدخول والدنيا كلقمة خبز يأكلها، فلذتها حال المضغ وتنقضي على القرب بالابتلاع، ثم يبقى ثفله[29] في المعدة، ثم ينتهي إلى النتن والقذر ويحتاج إلى إخراج الثفل، فمن يتركها لينال قرب الملك كيف يلتفت إليها؟!.
وينقسم الزهد قسمة أخرى بالإضافة إلى المرغوب فيه إلى ثلاث درجات:
أسفلها: أن يكون المرغوب فيه النجاة من النار وسائر الآلام، كعذاب القبر ومناقشة الحساب وخطر الصراط، وهذا زهد الخائفين.
وأوسطها: أن يزهد رغبة في ثواب الله ونعمته واللذات الموعودة في جنته، وهذا زهد الراجين.
وأعلاها: أن لا يكون له رغبة إلا في الله ولقائه، فلا يلتفت قلبه إلى الآلام ليقصد الخلاص منها ولا إلى اللذات ليقصد نيلها والظفر بها بل هو مستغرق الهم بالله، وهو الذي أصبح وهمه هم واحد، فهو لا يطلب غير الله لأن من طلب غير الله فقد عبده، وكل مطلوب معبود وكل عبد بالإضافة إلى مطلوبه، وهذا زهد المحبين والعارفين.
وينقسم أيضاً الى فرض ونفل وسلامة: فالفرض هو الزهد في الحرام، والنفل هو الزهد في الحلال، والسلامة هو الزهد في الشبهات.
واعلم أن للزاهد الحقيقي ثلاث علامات:
الأولى: أن لا يفرح بموجود ولا يحزن على مفقود، كما أشار إليه أمير المؤمنين في الاستنباط من قوله تعالى: ((لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ))[30] وهذا علامة الزهد في المال[31].
والثانية: أن يستوي عنده مادحه وذامه، وهو علامة الزهد في الجاه.
والثالثة: أن يكون أنسه بالله تعالى والغالب على قلبه حلاوة الطاعة.
ثمرات الزهد
ليعلم أن من ثمرة الزهد السخاء ومن ثمرة الرغبة في الدنيا البخل، فالمال إن كان مفقوداً فالأليق بحال الإنسان القناعة، وإن كان موجوداً فالأليق بحال صاحبه السخاء والبذل لأهله واصطناع المعروف.
والسخاء من أخلاق الأنبياء وأصول النجاة، والسخي حبيب الله.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: السخاء شجرة من شجر الجنة أغصانها متدلية على الأرض[32]، فمن أخذ منها غصناً قاده ذلك الغصن إلى الجنة[33].
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قال جبرئيل: قال الله تعالى: إن هذا دين ارتضيته لنفسي، ولن يصلحه إلاّ السخاء وحسن الخلق، فأكرموه بهما ما استطعتم[34].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن من موجبات المغفرة بذل الطعام وإفشاء السلام وحسن الكلام[35].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: تجافوا عن ذنب السخي، فإن الله أخذ بيده كلما عثر أقاله[36].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: طعام الجواد دواء، وطعام البخيل داء[37].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار، وإن البخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار، وجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل، وأدوى الداء البخل[38].[39]
واعلم أن أرفع درجات السخاء الإيثار، وهو أن يجود بالمال مع الحاجة إليه، قال الله تعالى في معرض المدح: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ))[40]. وقال تعالى: ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا))[41].
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أيما امرئ اشتهى شهوة فردّ شهوته وآثر على نفسه غفر له[42].
وينبغي للفقير أن لا يمنع بذل قليل ما يفضل عنه، فإن ذلك جهد المقل، وفضله أكثر من أموال كثيرة تبذل عن ظهر غني[43].
ـــــــــــــــــــــ
[1] سورة الشورى/ 20.
[2] سورة طه/ 131.
[3] أنظر:العدد القوية،رضي الدين الحلي:150،اليوم السابع عشر،نبذة من أحوال الإمام الصادقعليه السلام.
[4] في الزهد: "عن الإمام الصادق عليه السلام".
[5] شتت الأمر شتا وشتاتا: تفرق. الصحاح، الجوهري: 1/254، مادة "شتت".
[6] ضيعة الرجل: حرفته وصناعته ومعاشه وكسبه. يقال: ما ضيعتك؟ أي: ما حرفتك. لسان العرب، ابن منظور: 8/230، مادة "ضيع".
[7] أرغمته: حملته على ما لا يمتنع منه. كتاب العين، الفراهيدي: 4/417، مادة "رغم".
[8] أنظر: الزهد، الأهوازي: 49، باب 8 ما جاء في الدنيا ومن طلبها/ ح12.
[9] في المحجة: "فاقتربوا".
[10] سورة البقرة/ 269.
[11] المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني: 7/351، كتاب الزهد والفقر، بيان فضيلة الزهد.
[12] أي: "النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم".
[13] إحياء علوم الدين، الغزالي: 4 / 195، كتاب الفقر والزهد، الشطر الثاني من الكتاب في الزهد.
[14] إحياء علوم الدين، الغزالي: 4/196، كتاب الفقر والزهد، الشطر الثاني من الكتاب في الزهد، بيان حقيقة الزهد.
[15] في المحجة: "أدخل الله".
[16] في المحجة: "به" بدل "بها".
[17] المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني: 7/353، كتاب الفقر والزهد، بيان فضيلة الزهد.
[18] المحجة البيضاء،الفيض الكاشاني:7/354 ــ 355،كتاب الفقر والزهد،بيان فضيلة الزهد.
[19] إحياء علوم الدين، الغزالي: 4/195، كتاب الفقر والزهد، الشطر الثاني من الكتاب في الزهد، بيان حقيقة الزهد.
[20] في نهج البلاغة: "قال الله سبحانه".
[21] سورة الحديد/ 23.
[22] نهج البلاغة، الشريف الرضي: 553 ــ 554، حكم أمير المؤمنين عليه السلام.
[23] أي: "أمير المؤمنين عليه السلام".
[24] الكافي، الكليني: 5/71، كتاب المعيشة، باب معنى الزهد/ح3.
[25] أنظر: التهذيب، الشيخ الطوسي:6/327، كتاب المكاسب، باب 93 المكاسب/ح20.
[26] أنظر: روضة الواعظين، الفتال النيسابوري: 2/433، مجلس في الزهد والتقوى.
[27] أنظر: مصباح الشريعة، الإمام الصادق عليه السلام: 137، الباب الرابع والستون في الزهد.
[28] العوض كعنب واحد الأعواض كأعناب،وأعاضني،العوض وهو البدل.وإعتاض:أخذ العوض. مجمع البحرين، الطريحي: 3/278، مادة "عوض".
[29] الثفل: ما رسب خثارته وعلا صفوه من الأشياء كلها. لسان العرب، ابن منظور: 11/84، مادة "ثفل".
[30] سورة الحديد/ 23.
[31] قال الباقر عليه السلام في حديث: «ألا وإن الزهد في آية من كتاب الله عزّوجل: ((لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ))» سورة الحديد/ 23. معاني الأخبار، الشيخ الصدوق: 252، باب معنى الزهد/ ح4.
[32] في المحجة: "إلى الأرض".
[33] المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني: 6/59، كتاب ذم المال، بيان فضيلة السخاء.
[34] مجموعة ورام، ورام بن أبي فراس: 1/170، بيان فضيلة السخاء.
[35] أنظر: إحياء علوم الدين، الغزالي: 3/217، كتاب ذم البخل وذم حب المال، بيان فضيلة السخاء.
[36] أنظر: مجموعة ورام، ورام بن أبي فراس: 1/171، بيان فضيلة السخاء.
[37] طب النبي، المستغفري: 21.
[38] في المحجة والإحياء: "من عالم بخيل وأدوء الداء البخل".
[39] المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني: 6/62، كتاب ذم المال، بيان فضيلة السخاء. إحياء علوم الدين، الغزالي: 3/219، كتاب ذم البخل وذم حب المال، بيان فضيلة السخاء.
[40] سورة الحشر/ 9.
[41] سورة الإنسان/ 8.
[42] مجموعة ورام، ورام بن أبي فراس: 1/172، بيان الإيثار.
[43] أنظر: الحقايق في محاسن الأخلاق، الفيض الكاشاني: 120 ــ 123، الفصل 5 ــ 6. المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني: 7/357 ــ 364، كتاب الفقر والزهد، بيان درجات الزهد وأقسامه. إحياء علوم الدين، الغزالي: 4/ 197 ــ 201، كتاب الفقر والزهد، بيان درجات الزهد وأقسامه.
إرسال تعليق