تأثير العوامل السياسية على الرثاء الحسيني، الرثاء العراقي أنموذجا

بقلم: د. علي حسين يوسف

تميز الشعر العراقي في النصف الأول من القرن العشرين باهتمامه الكبير بقضايا السياسة ومشاكلها، ولاسيما بعد إعلان الدستور العثماني 1908، فقد كانت العوامل السياسية عاملاً مهماً في نهضة الأدب العراقي، بخلاف الأدب في الأقطار العربية الأخرى، إذ كانت العوامل الثقافية الفاعل الأساسي في نهضتها الأدبية[1]، ويبدو أن تنامي الوعي السياسي في العراق جعل الشاعر العراقي يعيش في قلب الأحداث، وينغمس فيها " فالأديب يتأثر بالحياة الخارجية السائدة في بيئته القائمة في مجتمعه، وهو يستمد أدبه من حياة هذا المجتمع"[2]، ولذلك ارتفع الشعر العراقي في النصف الأول من القرن العشرين بموضوعاته وأهدافه وابتعد عن المبالغات، ورصف الألفاظ، وانتقاء العبارات، وبرز الصدق في الدفاع عن قضايا الأمة[3]، وانشغل الشعراء في معالجة القضايا السياسية، كالمطالبة بالاستقلال، والحرية وعلاقة المواطن بالسلطة، والديمقراطية، وقضية فلسطين، والوحدة العربية[4]، ويدل هذا على الوعي السياسي للشاعر العراقي في تلك الحقبة، وشعوره بالمسؤولية، ويدل أيضا على وعيهم بـ "دور الشعر وهدفه باعتباره (كذا) سلاحاً يقارعون به الظلم، ويحثون به على التقدم، ونيل الآمال"[5].

ولم تكن مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) في هذه الحقبة، بعيدة عن السياسة وصراعاتها، فقد رافق الشعر الحسيني العراقي الحدث السياسي الداخلي والخارجي، وصار الشاعر يعالج من ضمن ما يعالجه في المرثية، قضايا الوطن والعروبة والقومية، إذ إن الظروف السياسية التي مرت بالعراق والأمة العربية ألقت بثقلها على الشعراء، مما دفعهم إلى " الحنين الطاغي إلى الماضي والتأمل الطويل في أحداثه واسترجاع نغمات ذلك المجد المندثر، والإصرار على العيش في أجواء الفخر العربي وأمجاد الأمة، وما قدمته في قضايا الحكم والثقافة والحضارة"[6]، فالماضي وسيلة ناجحة لبث روح التضحية والشجاعة والإقدام في نفوس الجماهير، وكان الشاعر في رثاء الإمام الحسين يحاول أن يوظف مبادئ الثورة الحسينيَّة، والعمل على غرس تلك المبادئ، فإنَّ الإمام الحسين رمز البطولة والتضحية والفداء، وخلاصة الشجاعة والبأس ومعلم الثورات الحرَّة جميعاً، يقول السيد محمود الحبوبي[7]: (من الطويل)

دم العز أبقى أيَّ ذكرى لمن دعا*** وآن لنا يا قوم أن نعيَ الذكرى
فنقفو خطى أحرارنا في جهادهم*** ونقرأ من تاريخنا الأسطر الحمرا
وندفع عنا الشرَّ حاط شعوبنا*** ومن نحن بين الناس أن نقبل الشرا

إنَّ هذه النبرة الجديدة في الخطاب الشعري العراقي في النصف الأول من القرن العشرين تشير بوضوح إلى وعي تام بخطورة المرحلة، وتؤشر ميلاد قضايا أدبية جديدة فرضت نفسها على الواقع الأدبي، فإذا كان الشعراء العراقيون في القرن التاسع عشر " لم يجددوا في شيء ولم يخرجوا عن نطاق الشعر القديم"[8]، فيما يتعلق بموضوعات الشعر، فإنَّ شعراء القرن العشرين كان همهم الشاغل الأحداث التي عصفت ببلدهم، فكانت مبادئ الثورة الحسينيَّة وأبعادها السياسية التي تمثَّلها الشعراء العراقيون بوصفها قيماً نموذجيَّة، حاضرة في كل آن في أذهانهم، فضلاً عن أنَّها تمثل ماضياً إيجابياً محفزاً للأجيال للثورة على كل أشكال العبوديَّة، يقول حسين علي الأعظمي[9]: (من الرمل)

دمهُ في كل جيل ثورةٌ*** تصرع الظلم وللحق سواءُ
دمهُ رمز ضحايا أمةٍ*** حرَّة فيها حياة وإباءُ
دمهُ الذكر الذي ننشدهُ*** كلَّما لاح صباح ومساءُ
دمهُ البعث لموتى أمةٍ*** حاربتها من بنيها اللؤماءُ

فقد وجد الشاعر أنَّ تضحية الإمام الحسين (عليه السلام) كفيلة بأن تكون خير درس لأمة تنشد الثورة لتصرع بها الظلم، ولتحقق حياة العزَّة والإباء، التي أرسى دعائمها الإمام الحسين (عليه السلام) بوقفته في كربلاء، فمما لا شك فيه " انَّ الشاعر وهو يستخدم الحالة التراثية التي يجدها مناسبة لعرض أفكاره وإبرازها يستند في ذلك إلى قناعة محددة متصلة الوشائج بقيم اجتماعية وسياسية وثقافية على نحو يجعل الحالة التراثية تحتوي هذه الأفكار، وتعبر عنها في النص الشعري الذي يبدعه"[10]، ففي إحدى مراثي الشاعر محمد صالح بحر العلوم الحسينيَّة يتخلَّص الشاعر إلى ما يشبه التحذير من مكائد الاستعمار والهيمنة الأجنبيَّة التي استمرَّت جاثمة على العراق، حتى بعد إعلان الحكم الوطني، يقول[11]: (من الطويل)

وكونوا كما كان الحسين وصحبه*** مصابيح خير للجماهير توقدُ
وصونوا حقوق الشعب من كل ماردٍ*** على الشعب في طغيانه يتمرَّدُ
ولا تثقوا من فاتح بتعهدٍ *** فما للغزاة الفاتحين تعهّدُ
ولا تقبلوا بعد التجارب توبةً *** لطاغية، تاريخ عَهْدَيْهِ أسودُ
ثلاثون عاماً – وهي عمرٌ لأمةٍ *** تمر وهذا الشعب فيها مصفَّدُ[12]
.................
ثلاثون عاماً – كل ثانية بها *** تعادل قرناً ينقضي ويجدَّدُ
تفاقمت الأرزاء من كل جانبٍ *** علينا وكل بالفناء مهدِّدُ

إنَّ هذا النفس الثوري، وهذه الصرخة المدويَّة التي تضمنتها مرثيَّة بحرالعلوم، هي دليل واضح على أنَّ الأدب ليس ببعيد عن السياسة، ومشاكل المجتمع، فالشاعر ينعى حال العراق في الحقبة 1917 – 1947 إلى الحد الذي شعر فيه بأنَّ الفناء يهدد الجميع إن استمرَّت سياسة البلاد على ما هي عليه آنذاك، مما يشير إلى أنه " كلما اشتدَّت صلة الأديب بمشكلات الشعب، وشاركه شعوره، وأحسَّ بآلامه وأحاسيسه كلَّما كان أقدر على تلمّس العلل وحل مشكلاته"[13]، والحل عند بحر العلوم يتمثَّل في الاقتداء بالإمام الحسين (عليه السلام) والسير على النهج الذي اختطَّه في محاربة الطغاة.

ويؤكد عبد الغني الخضري أنَّ الاحتلال والفرقة، والتهاون في الدفاع عن الوطن لم تكن لتحصل لو تمسَّك الجميع بنهج الإمام (عليه السلام) في إشارة إلى تكامل ذلك النهج، وحيويته في العصور كلها، يقول[14]: (من الطويل)

فلو أننا سرنا على ضوء نهجهِ*** لعادت يد الباغي على أرضنا صفرا
وعاد الذي غلَّت يداه بحسرةٍ*** وما كان يوماً بالمواعيد مغترا
وعدنا يداً لم نفترق لملمةٍ*** تشيع على الآفاق لامعة غرّا
نذب عن الأوطان من أرض يعرب*** وما وهبت يوماً لأعدائها شبرا

وفي مرثيَّة أخرى، يؤكد الشاعر نفسه هذا المعنى، فيقول[15]: (من الوافر)

فلو إنّا بإخلاص بذلنا*** كبذل السبط أصحاباً وآلا
لعاد الكافر الباغي طريداً*** ولم يسلب لنا حتى العقالا
ولم تذهب فلسطين جباراً*** ولا ملك لغير العُرْب طالا

فقد وجد الشاعر أنَّ كل المشاكل التي تعانيها الأمَّة من تفرقة، وتشرذم، واحتلال، كانت من جرّاء تضييع أبنائها مبادئ الإمام الحسين (عليه السلام) ، وقد تكلَّم الشاعر بحسرة حينما استعمل الأداة (لو) في إشارة إلى شعوره بالخيبة والندم على ما أصاب هذه الأمة، ثمَّ انَّ الشاعر في المرثيتين تحدَّث بضمير الجماعة (نا) مما يعني صدق إخلاصه وانتمائه إلى قضايا أمته العربيَّة، وابتعاده عن النظرة القطريَّة الضيقة، فالشاعر " كلما استطاع... تجاوز أنانيته الفردية كلما استطاع تخطي حالته الفردية، وضياعه إلى حالة الالتحام بالمجتمع والعصر"[16].

والملاحظ على أغلب المراثي الحسينيَّة في الحقبة موضوع الدراسة، التي عالجت الواقع السياسي أنَّ الشعراء كانوا يرون في ثورة الحسين (عليه السلام) ثورة رابحة بحساباتها المعنويَّة، على الرغم من أنها انتهت بمصرع سيد الشهداء (عليه السلام) وأهل بيته، لذلك انطلق هؤلاء الشعراء في التعامل مع ذلك الحدث بوصفه درساً مثالياً للنجاح في حل مشاكل الإنسان العربي، وتاريخاً مشرقاً، يمكن أن يزرع في الإنسان مواقف التحدي والرفض، ويشد من عزيمته، يقول طالب الحيدري[17]: (من الطويل)

كفى ذلَّة أن يخضع العُرْب للعدى *** وأن يستطيع الناهضون تصبّرا

وقد يصل الأمر بالشاعر إلى رفض كل أنواع الحزن من أجل مواجهة التحديات، فالغد سيكون مشرقاً بالتحدي، لتكتسب النفوس القوة والمنعة، لذلك رفض عدد من الشعراء تصوير الإمام الحسين (عليه السلام) بموقف الاستعطاف والإشفاق، فهو بطل تحدّى فناضل، وقاتل فاستشهد.

إنَّ الحدث الحسيني كان غذاءً ودافعاً مهماً في نظم المرثيَّة، فمن خلال ذلك الحدث يصب الشاعر همومه المكبوتة، بوساطة المعاني التي يختارها لقصيدته، محاولاً استدعاء التأريخ، وإحضاره من أجل تشخيصه، ونقله من الذاكرة إلى الممارسة، لتؤدي القصيدة دورها في التوظيف السياسي، يقول عباس الملا علي[18]: (من الخفيف)

قطرة من دم الحسين تنادي*** في سماء الدنا بصوت جهارا
أمة العرب ها أنا فوقكم *** حمراء قد زحت عن جبيني الستارا
كلّ صبح وكلّ عصر أريكمْ*** كيف تبقى الدماء دوماً شعارا
فالبسوها طرية فهي أزهى*** من دم الكرم أن تعودوا سكارى
وسلاف النجيع أشهى سُلافاً *** ينبت العز أو يعيد انتصارا
وقراع السيوف أرخم جرْساً *** من قراع الدفوف ليلاً نهارا
خلق الشهم للمعالي خدينا *** مثلما خادن الغوي العذارى
امسحوا الطرف وانظروا لي طويلاً *** قطرة تملأ السماء احمرارا
كم أنادي وأرسل اللفظ نارا *** يا بني يعرب بداراً بدارا

فالشاعر تكلَّم بلسان حال قطرة من دم الحسين (عليه السلام) ، ليكون الكلام أكثر تأثيراً، وهذا التقمص يعبر عن إبداع تكمن خلفه عاطفة ثائرة رافضة لكل أنواع الظلم، والشاعر " ينقلها – أي العاطفة – من فرد واحد أحسَّ بها أولاً إلى آخرين كثيرين يجعلهم الفن يشاركونه عاطفته"[19].

وقريب من ذلك قول أحمد الوائلي في إحدى مراثيه الحسينيّة، وقد انعكست الأحداث السياسية والاجتماعية على مضامين مرثيته، فراح من خلال المزاوجة بين الغرض الأساسي للمرثيَّة، وتلك الأحداث، يستمد المسوِّغات التي تدفع إلى استنهاض الشباب المسلم لرفض الواقع السياسي المتردي، يقول[20]: (من الخفيف)

يا دماً شابت الليالي عليه*** وهو للآن في الرمال جديدُ
يحمل الطف والحسين حساماً*** كلَّما مرَّ بالوجود يزيدُ
وإذا عرَّس الخنوع بجيلٍ*** وانحنى منه للمذلَّة جيدُ
صاح بالرمل من صداه دوّي*** فإذا الرمل فارسٌ صنديدُ
هكذا أنت كلما افتقر الجيـ*** ـل لعزم فمن دماك الرصيدُ
صرخة لم يضع صداها وإن*** حاول تضييعها الضجيج الشديدُ
ولهيب ما أطفأته بحارٌ*** لا ولا استام من لظاه الجليدُ
ونزوع حر وأن حاولت أنْ*** تحتوي نزعه النفوس العبيدُ
إنَّ دنيا الخنوع للحر سم*** وهي للخانعين عيشٌ رغيدُ

فقد حاول الشاعر من خلال مخاطبته الإمام الحسين (عليه السلام) أن يصوغ فكرته في الأبيات المتقدمة، التي أكدت بقاء الذكرى الحسينيَّة خالدة في ضمير الزمن على الرغم من تباعد الحقب بوصفها درساً متجدداً ومستمراً باستمرار الصراع بين الخير والشر، فالشاعر أراد إيصال هذه الفكرة وهو " لا يحاول أن ينفس عن عاطفته فحسب، بل يحاول أن يؤديها في نوع من الأداء كفيل بأن ينفعل به متلقيه"[21].

وفضلاً عمّا تقدَّم، فقد يجد القارئ لمراثي الإمام الحسين (عليه السلام) في الحقبة موضوع الدراسة نقداً سياسياً موجهاً ضد السلطة، والمؤسسات السياسية، وهذا الاهتمام في النقد السياسي يدل على وعي الشاعر العراقي، ومراقبته لما يجري، حرصاً منه على مستقبل بلده، فكانت " السياسة في كل مرحلة تمر بمنعطفات جديدة، وتسلك روافد مختلفة حتى صارت صورة الأوضاع السياسية هذه مادة ثرَّة تمدّ الشعراء بالتجارب الحيَّة، وتثير فيهم العواطف الحارَّة"[22]، وكان ذلك النقد – في أغلب الأحوال – شكوى من الشاعر إلى الإمام الحسين (عليه السلام) ، يقول عبد القادر رشيد الناصري[23]: (من الكامل)

أمِن العدالة أن يذلّ لغاصبٍ*** شعب عداد النجم والأجرامِ
والعصر عصر النور فيه تحرَّرت*** كلّ الشعوب وليس عصر ظلامِ
فمحاكم التفتيش دال زمانها*** وتقوَّض البستيل بعد قيامِ
الا شعوب الشرق وهي عريقة*** تنقاد كالأنعام للإعدامِ
لما تزل من وقع سوط عدوِّها*** مرتاعة تبكي بكا الأيتامِ
والقيد حزََ بساقها فتخاذلت*** من ثقله وهوت على الأقدامِ
.....................
أنا إن بكيتك لست أبكي فانياً*** تطوي مفاخره يد الأيامِ
لي من مصابك وهو نبع خالد*** وحي يُحيَيِّ مرقمي بسلامِ

فالشاعر يشكو إلى الإمام الحسين (عليه السلام) ما يراه من واقع متردٍّ، وحال سيئة، حتى وصل بالامة إلى أن تذلَّ بعد عزِّها، محاولاً خلق حالة من الرفض والتحدي في نفوس الجماهير، لتبصيرهم بمفاسد السياسة. ويقول طالب الحيدري[24]: (من الكامل)

أشكو أبا الشهداء جور مخاتل*** في الشعب مطبوع على الإجرامِ
الجاهليَّة قد أعيدت مرَّةً*** أخرى فعاد الحكم للأصنامِ
الحاكمين بغير عدل في الورى*** وبغير قانون وغير نظامِ

وقد تعود ذاكرة الشاعر إلى زمن الحكومة الأمويَّة حينما يرى حكومته المعاصرة لا تلبي طموحات الشعب، يقول الشيخ مهدي مطر[25]: (من الكامل)

شكت الإمارة حظها واستوحشت*** أعوادها من عابثين تأمروا
وتنكَّرت للمسلمين خلافة*** فيها يصول على الصلاح المنكرُ
فشكت إليك وما شكت إلاّ إلى *** بطل يغار على الصلاح ويثأرُ

فقد أشار الشاعر إلى ما وصلت إليه الحكومة الإسلامية في عهد يزيد من مجانبة لمبادئ الإسلام، الأمر الذي اقتضى أن يجهر الحسين بدعوته لتصحيح ما اعوجَّ من أمرها، ودلالة الأبيات واضحة في بعدها السياسي الذي يتمثَّل في نقد السلطة الحاكمة، وتنبيهها على أخطائها.

وحينما يرى الشاعر البلدان الأوربية، وما وصلت إليه من رقي وتقدم، ويقارن ذلك مع حال أمته، يعتصره الهم، فيهرع إلى الإمام الحسين (عليه السلام) شاكياً واقع الحال، من ذلك قول محمد جعفر النقدي[26]: (من الكامل)

شعَّ التمدن في البلاد ولم يزلْ*** وطني يسير على بعيد خيالهِ
الغرب أدرك في سنا أسحارهِ*** قصداً وضلَّ الشرق في آصالهِ
..................
هذي شهيد الحق نفثة شاعرٍ*** يرثي لحال بلاده ولحالهِ

فقد شخَّص الشاعر مشكلة تخلف بلده، بالتمسك بالأوهام والأباطيل، وترك الطريق العلمي الصحيح الذي انتهجته دول الغرب، فوصلت إلى ما وصلت إليه من رقي وتقدم، فيما ظلَّت أمم الشرق تتخبط بمسالك التخلف، مما جعلها فريسة سهلة للاحتلال، لذا فإنَّ الشاعر نفسه يقول في بيت آخر من المرثيَّة[27]:

والغرب جرَّد سيفه وبموطني*** غمد اليراعَ صيانةً لضلالهِ

فقد رسم الشاعر هذه الصورة العدائية المعبرة عن علاقة الغرب بالعرب، التي ما كانت لتتحقق لولا ضعف العرب، وتهاونهم في الدفاع عن أرضهم.

وأخذت قضيَّة فلسطين حيزاً كبيراً من اهتمام شعراء المراثي الحسينيَّة التي خاضت في القضايا السياسية، ولاسيما أنَّ الشعراء العراقيين، وجدوا في تلك القضيَّة قضيَّة للعرب والمسلمين، فكان دافعهم لذكرها في المراثي دافعاً قومياً ودينياً، إذ لم ير هؤلاء الشعراء فاصلاً بين قضايا العروبة وقضايا الإسلام " ولم تكن الأفكار القومية التي عرضها الشعراء منفصلة عن القيم والأفكار الدينيَّة الإسلاميَّة، إذ لم تكن ثمَّة حواجز تجعلهم يفصلون بين هذه الأفكار، فتاريخ العرب وماضيهم الحضاري هو ذاته تاريخ المسلمين وماضيهم"[28].

لذلك كانت فلسطين بالنسبة للشاعر العراقي تمثل عاملاً مشتركاً بين العروبة والإسلام، فهي قضية ذات وجهين؛ عربي وإسلامي، ولعلنا لا نجد شاعراً عراقياً لم يتطرَّق إلى تلك القضيَّة، يقول السيد محمود الحبوبي[29]: (من الطويل)

أعيذكم أن يهتف القدسُ صارخا*** بكم فتلبيه هتافاتكم تترى
يؤمِّل منكم منقذين فما يرى*** لإنقاذه إلاّ الخطابة والشعرا

وإذا كان السيد الحبوبي يرى أن العرب لا يملكون حيال فلسطين – وهي تنتهب – سوى الضجة الفارغة بالخطب والقصائد الرنانة، فإنَّ الشيخ عبد الغني الخضري يرى أنَّ ضياع فلسطين من أيدي العرب كان نتيجة إهمالهم القيم العربية والإسلامية، التي ضحّى من أجلها سيد الشهداء بكل ما يملك، يقول[30]: (من الوافر)

فلو إنّا بإخلاص بذلنا*** كبذل السبط أصحاباً وآلا
لعاد الكافر الباغي طريداً*** ولم يسلب لنا حتى العقالا
ولم تذهب فلسطين جباراً*** ولا ملك لغير العُرْب طالا

ويستنهض الشيخ محمد النقدي العرب، إذ يرى أن فلسطين ذهبت ضحيَّة العدو الذي رمى بحباله في الأرض العربيَّة، يقول[31]: (من الكامل)

يا قوم قد جار الغريب بأرضكمْ*** فحذار من أشراكه وحبالهِ
ما القدس تأسوه الجراح أليمة*** إلاّ ضحيَّة رشقة لنبالهِ

فهؤلاء الشعراء كانوا أمثلة للأدب الجديد في العراق، الذي حدد الدكتور يوسف عز الدين قضاياه بمناهضته الاستعمار، ومساندة العمل الاشتراكي، والدعوة إلى الوحدة العربية[32].

وقد وصل الأمر بالشعراء أحياناً أن يطلبوا الصفح من الله لقومهم العرب، لتهاونهم في الدفاع عن مقدساتهم، ولاسيما القدس الشريف، يقول صالح الجعفري[33]: (من الكامل)

والمسجد الأقصى الشريف مصدَّع الـ*** ـفقرات لا أسساً ولا أسوارا
ما عاد يمنع نفسه منهم فهل *** يحمي قريباً أو يكرم جارا
.................
يا رب صفحك قد تراخت ريحنا*** حتى نسينا صرها إعصارا
لسنا بحيث أردتنا وتريدنا*** فاثأر لنفسك إن أردت الثارا
الأكثرون حصى ولكن لم يعد*** يكفي لأن تعتد منه جمارا

هذه الشكوى نقد لاذع يشير بوضوح إلى الإحساس بالمرارة التي تعتصر قلوب الشعراء العراقيين، وفي أذهانهم الموازنة بين وقفة الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء وحال الحكومات العربية آنذاك، التي وقفت متفرجة أمام مأساة فلسطين، والشاعر إذ يضمن مرثيته مثل هذه الأبيات فإنما يدل ذلك على أنَّ " شعر الحسين زاخراً بالثورة على الاستبداد"[34] بكل أشكاله. ويقول السيد محمد جمال الهاشمي[35]: (من الطويل)

على مهلكم يا تائهين فإنَّما*** طريقكم وعر وصحراؤكم قفرُ
..................
افيقوا فإنَّ العلم أبدى نواحياً*** من الحق أخفاها التعصّب والغدرُ
وخلّوا فلسطيناً وإسعافها فقد*** أقامت لحل العقد –عقادها- مصرُ

فقد وصف الشاعر قومه بأنَّهم ضلّوا الطريق (يا تائهين) حينما لم يقفوا وقفة قوية يسترجعون بها ما سلب من أراضيهم، والشاعر ليس بعيداً عن معاناة الشعب في فلسطين، فالأبيات تشير إلى إحساسه بمأساة العربي الذي يعيش تحت وطأة الاحتلال وعذاب القمع والسجون والمعتقلات، وكان موضوع الحرية من أهم المطالب التي ألحَّ عليها الشعراء العراقيون في مراثيهم الحسينيَّة، والملاحظ أنَّ هؤلاء الشعراء طالما ربطوا الحريَّة بالتخلص من الاستعمار، لذلك وجدوا بأنَّ الحريَّة لا يمكن أن تتحقق إلاّ بالنضال المستمر، يقول عبد القادر رشيد الناصري[36]: (من الكامل)

أأبا العقيدة والنضال الدامي*** قدست ذكرك يا ابن خير إمامِ
وجعلت يومك رمز كل بطولةٍ*** غرّاء تسطع في فم الأيامِ
...............
حريَّة الأمم الضعيفة دوحةٌ*** تسقى ولكن بالنجيع الدامي

فقد عقد الناصري الصلة بين نضال الإمام الحسين (عليه السلام) ومسألة الحرية في إشارة إلى توظيف ذلك في المطالبة بحرية شعبه المستلبة، وكان دأب الشعراء العراقيين عامة في النصف الأول من القرن العشرين، المطالبة بالحرية، لأن ذلك يعني استقلال بلدهم بشكل حقيقي، فقد " كانت دعوة الشعراء إلى الحرية سبيلاً إلى التخلص من قبضة الاستعمار "[37]، فالحرية مطلب جماهيري، يدرك الشاعر أهميته قبل غيره بوصفه فناناً ذا إحساس مرهف.

وقد وجد الشعراء بأنَّ خير درس في التحرر الثورة الحسينيَّة، التي يمكن أن تكون نبراساً في التحرر لكل الأمم، لذا فإنَّ محمد صالح بحر العلوم ينصح أبناء جيله بأن يعتبروا بتلك الثورة، وهم ينشدون الحرية، فيقول[38]: (من الطويل)

خذوا من ضحايا الطف درس تحررٍ*** فتلك الضحايا للتحرر معهدُ
ولا تذكروها بالبكاء مجرَّداً*** فلم يجدِها هذا البكاء المجرَّدُ

فقد عبَّر الشاعر عن مطمح جماهيري، لكنه ما كان ليعبر عنه لو لم يكن يشعر بأهميته، وشدة ارتباطه بقضيَّة الإمام الحسين (عليه السلام)، وبذلك جسَّد الشاعر الدافعين المهمين في كل عمل أدبي، وهما: " رغبة الفنان (الشاعر) في أن ينفس عن عاطفته، ورغبته في أن يضع هذا التنفيس في صورة تثير في كل من يتلقاها نظير عاطفته "[39]، وإذا كان الشاعر يستمد مقومات الحرية من وقفة ألإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، فإنَّ ذلك يشير بوضوح إلى حضور قيم التراث في ضمير الفرد العربي، " وبهذا تتاح الفرصة لما هو حي من قيم الماضي أن يظل حياً ليستمر في المستقبل "[40].

ووجد عدد من الشعراء العراقيين في الحكم الملكي امتداداً للحكومة الإسلامية، مما يشير إلى حاجة هؤلاء الشعراء بالتشبث بآمال الحكومة المثالية التي رسموا صورة خيالية لها في أذهانهم، يقول حسين علي الأعظمي[41]: (من الطويل)

وأصبح تاج الهاشميين زاهراً*** ببغداد أو عمّان يكلؤه النصرُ
وإنك حي في بنيك مخلَّدٌ *** وباقٍ مع الأحياء ما بقي الدهرُ

ويؤكد المعنى ذاته في مرثية حسينيَّة أخرى، فيقول[42]: (من الكامل)

واليوم نحيا في سيادة دولةٍ*** وبظلِّ مملكة نُعزّ ونكرمُ
أبناء هاشم شيَّدوا استقلالها*** وبنوا سيادتها التي لا تهدمُ
والتاج يسطع فوق مفرقِ فيصلٍ*** وله وصيٌّ هاشميٌّ معلمُ
أحسين قمْ وانظرْ فذكرُك عاطرٌ*** ويزيدُ في الدنيا يُذمّ ويُشتمُ

فقد عبَّر الشاعر في الأبيات المتقدمة عن قناعته السياسية، وولائه للعائلة المالكة في العراق والأردن، لكنه وظَّف ذلك المديح لزرع الأمل في نفوس الناس من خلال تأكيده الطابع الشرعي للحكم الملكي آنذاك، حينما أشار إلى الامتداد النَسَبي للعائلة المالكة الذي يرتبط بالإمام الحسين (عليه السلام)، ولاسيما في قوله: (وإنك حي في بنيك مخلَّد).

وهكذا فقد أثبت الشعراء العراقيون في مراثيهم الحسينيَّة أنَّ الأدب ينبع من ذات الإنسان، ولكنه لا يستطيع أن ينفصم عن واقع المجتمع الذي يعيش فيه الأديب، فقد سجَّل الشاعر العراقي، وفي حضرة الإمام الحسين (عليه السلام) كل همومه ومتاعبه التي أثارتها عوامل السياسة، محرضاً، ومستنهضاً، وناصحاً، وشاكياً إلى سيد الشهداء، وبذلك " لم يترك هؤلاء الشعراء هذه الأحداث تمر دون أن يكون لهم فيها رأي أو اجتهاد أو تفسير"[43] فالشاعر العراقي كان يعي دور الكلمة في تغيير الواقع السياسي، فضلاً عن وعيه بأنّ الأدب ليس ببعيد عن الأحداث السياسية، وهذا يعني أنَّ الشاعر كان يمارس دوره في نقد ذلك الواقع، حتى في حالات حزنه.

ـــــــــــــــــ
[1] ينظر: الأدب العربي في كربلاء: 65.
[2] الأدب وفنونه، د. عز الدين إسماعيل: 43.
[3] ينظر: الشعر العراقي الحديث: 49.
[4] ينظر: تطور الشعر العربي الحديث في العراق: 111 – 112، وأثر التراث في الشعر العراقي الحديث: 181.
[5] تطور الشعر العربي الحديث في العراق: 114.
[6] م. ن: 115.
[7] مجلة البيان ع (57 – 58) لسنة 1948: 215.
[8] الشعر السياسي العراقي في القرن التاسع عشر: 18.
[9] مجلة البيان ع (11 – 14) لسنة 1947: 39.
[10] أثر التراث في الشعر العراقي الحديث: 179.
[11] ديوان بحر العلوم: 2 / 122.
[12] يقصد الحقبة بين الاحتلال البريطاني للعراق عام 1917 وعام هذه المرثية 1947م.
[13] في الأدب العربي الحديث بحوث ومقالات نقدية: 7.
[14] ديوان الشيخ عبد الغني الخضري: 179.
[15] م. ن: 182.
[16] ويكون التجاوز: 20 – 21.
[17] من وحي الحسين: 39.
[18] من وحي الزمن: 197.
[19] وظيفة الأدب: 27-28.
[20] ديوان الشعر الواله في النبي وآله: 99.
[21] وظيفة الأدب: 26.
[22] الأدب العربي الحديث دراسة في شعره ونثره: 81.
[23] ديوان عبد القادر رشيد الناصري: 1 / 2.
[24] من وحي الحسين: 27.
[25] أدب الطف: 10 / 298.
[26] يوم الحسين: 98.
[27] م. ن: 99.
[28] أثر التراث في الشعر العراقي الحديث: 184.
[29] مجلة البيان ع (57 – 58) لسنة 1948: 215.
[30] ديوان الشيخ عبد الغني الخضري: 182.
[31] يوم الحسين: 99.
[32] ينظر: الأدب العربي الحديث بحوث ومقالات نقدية: 10.
[33] ديوان الجعفري: 151.
[34] الأدب العربي الحديث بحوث ومقالات نقدية: 16.
[35] مع النبي وآله: 191.
[36] ديوان عبد القادر رشيد الناصري: 1 / 1.
[37] في الشعر العربي الحديث: 47.
[38] ديوان بحر العلوم: 2 / 122.
[39] وظيفة الأدب: 27.
[40] الأدب وقيم الحياة المعاصرة: 195.
[41] مجلة البيان ع (11 – 14) لسنة 1947: 14.
[42] مجلة البيان ع (11 – 14) لسنة 1947: 52.
[43] الاتجاهات الوطنية في الشعر العراقي الحديث: 8.

إرسال تعليق