بقلم: الدكتور عبد الكاظم محسن الياسري
أعلن الإمام الحسين في آخر خطاب له استعداده وأصحابه للقتال، وآثروا مصارع الكرام على طاعة اللئام وانتهت لغة الحوار الذي لم يجدِ نفعاً مع قوم استحوذ عليهم الشيطان لتحل محلها لغة السيوف والرماح، ويزحف آلاف الرجال والفرسان وهم بكامل عدة القتال نحو معسكر الحسين وأصحابه، ولم يرغب الإمام أن يبدأهم بقتال حتى كانت البداية منهم، وبدأت المعركة ويصمد أصحاب الحسين وأهل بيته أمام هذا السيل الجارف من الخيل والرجال، يشد ازرهم الإيمان بالقضية التي يدافعون عنها والعقيدة التي آمنوا بها ويريدون التضحية من أجلها، وكانوا صادقين مع أنفسهم ومع سيدهم يدل على ذلك ثباتهم مع الحسين في هذا الطريق من غير تردد... إلى أن لقوا الله تعالى[1] وقد شهد لهم أعداؤهم قبل أصحابهم بالشجاعة.
ومناقب شهد العدو بفضلها*** والفضل ما شهدت به الأعداء
يقول أحد الذين شهدوا المعركة مع ابن سعد: (ثارت علينا عصابة أيديها على مقابض سيوفها كالأُسود الضارية تحطم الفرسان يميناً وشمالاً، تلقي نفسها على الموت، لا تقبل الأمان ولا تقبل المال...) [2]، وقد أبدع أحد الشعراء في وصفهم بقوله.
قوم إذا نودوا لدفع ملمة*** والخيل بين مدعس ومكردس
لبسوا الدروع على القلوب وأقبلوا*** يتها فتون على ذهاب الانفس
لقد واجه أصحاب الحسين وأهل بيته الموت بصدورهم العارية وحملوا أرواحهم على أكفهم، ولم يتهيّبوا من تلك الجموع الزاحفة نحوهم، لقد أخافوا الموت ولم يخفهم، فهم ماضون في طريق نصر الحسين ابن بنت نبيهم، ويقاتلون من أجل إحياء الدين، ولا يرون الموت الا سعادة والحياة مع الظالمين الا برما، وهو ما عبر عنه إمامهم وقائدهم الحسين، وهكذا أُسقطوا في أرض المعركة واحداً بعد الآخر واحتسبهم الإمام الحسين عند رب رحيم، ولم يبق مع الإمام الحسين سوى أهل بيته الذين تقدموا للقتال بين يدي سيدهم، ودافعوا عن إمامهم ودينهم وعقيدتهم دفاع المستميت، وأَذاقوا العدى الموت الزؤام، وكلما سقط واحد منهم شهيداً بكاه الحسين واحتسبه عند الله، وسقطوا في أرض المعركة واحداً بعد الآخر، وكان آخرَ من استشهد منهم أخوه وحامل لوائه ابو الفضل العباس، قدموا أرواحهم جميعاً في سبيل الله ورسوله وحماية دين الإسلام، اختاروا الموت العزيز على الحياة الذليلة يقول احد الشعراء[3]:
ولما رأوا بعض الحياة مذلة*** عليهم وعز الموت غير محرمِ
أبوا أن يذوقوا العيش والذل واقع*** عليه وماتوا ميتة لم تذممِ
ولا عجب للأُسْدِ إن ظفرت بها*** كلاب الاعادي من فصيح وأعجمِ
فحربة وحشي سقت حمزة الردى*** وحتف علي من حسام ابن ملجمِ
ويجد الإمام الحسين نفسه وحيداً بين الاعداء وهو ينظر إلى أصحابه وأهل بيته مجزرين على أرض كربلاء، فعزم على مواجهة القوم بصدره الشريف، وأطلق صرخته التي دوت في أركان السموات والأرض، ورددها كل حجر ومدر «أما من مغيث يغيثنا، أما من ناصر ينصرنا، أما من ذاب يذب عن حرم رسول الله»، ثم يتقدم الإمام نحو القوم بعد أن ودّع أطفاله وعياله وأوصاهم وصيته الأخيرة، وتفر زمر الاعداء أمامه فقتل من قتل وجرح من جرح حتى وصل إلى شاطئ الفرات وأحاط به القوم من كل جانب وحالوا بينه وبين رحله وخيامه فصاح فيهم:
«ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان، إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم هذه وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم أعراباً كما تزعمون، فقال له الشمر ماذا تقول يا حسين؟ قال الإمام أقول أنا الذي أُقاتلكم وتقاتلونني والنساء ليس لكم عليهن جناح فامنعوا عتاتكم وطغاتكم وجهالكم من التعرض لحرمي ما دمت حياً...»[4].
كانت هذه آخر كلمات الإمام الحسين مع القوم قبل استشهاده، بدأها بلفظة «ويحكم»، وهي اسم فعل فيه دلالة على شدة اللوم والتقريع لمن يناديه، ثم استعمل أسلوب الشرط بعد نداء القوم الذين أضافهم إلى أبي سفيان مستفيداً من دلالة هذا التركيب على الربط بين قضيتين «ان لم يكن لكم دين... فكونوا احراراً» لقد استعمل الإمام اداة الشرط «إن» لما فيها من دلالة على الشك وهو يعرف أن هؤلاء القوم ليس لهم دين يردعهم عن ارتكاب المحرمات ولا يخافون عقاب الآخرة، لذا دعاهم إلى أن يكونوا أحراراً في هذه الدنيا ويعودوا إلى أنسابهم إن كانوا عرباً كما يزعمون، قال الإمام هذا لأن العربي يأنف بطبيعته من الإساءة إلى النساء والأطفال ولو كانوا من أعدائه، هكذا هي أخلاق العرب قبل الإسلام وبعده، وقد عمل الدين الإسلامي على ترسيخ هذا المبدأ ــ وبموجبه دعاهم الإمام إلى منع جهالهم من التعرض لحرمه ما دام حياً ــ طلب منهم أن يقصدوه بنفسه لأنه هو الذي يقاتلهم.
وتستمر المعركة ويتكاثر الأعداء حول الإمام وهم يضربونه بالسيوف ويطعنونه بالرماح ويرمونه بالنبال، وهو يقاتلهم بكل قوة وشجاعة ويفرون من أمامه فهو الحسين بن علي بن ابي طالب ــ بطل توّرث من أبيه شجاعة ــ ويمضي الإمام في قتال القوم، ويحاط به من كل جانب ويقع المقدور ويصاب الإمام بسهم في صدره ويضربه رجل بالسيف على رأسه فيهوي من ظهر جواده ويخر على الأرض صريعاً، وتنعاه ملائكة السماء ويغبر وجه الأرض وتمطر السماء دماً، ويهدم ركن الإسلام وتذل بقتله رقاب المسلمين.
أولئك قوم لم يشيموا سيوفهم*** وقد نكأت أعداءهم حين سلتِ
وإنّ قتيل الطف من آل هاشم*** أذل رقاب المسلمين فذلتِ
ويسقط الإمام متردّياً ثياب الموت الملطخة بالدماء من أجل إحياء الدين وعزة المسلمين.
تردى ثياب الموت حمراً فما دجا*** لها الليل الا وهي من سندس خضر
وهكذا تنتهي معركة الطف التي قدّم فيها الإمام الحسين نفسه وأهل بيته وأصحابه قرباناً من أجل دين الإسلام دين جده وأبيه، فاصبح رمزاً خالداً في الدفاع عن العقيدة ومبادئ الدين ورفض الظلم، لقد كان في قتله منتصراً في دينه، في عقيدته، وقد تعلَّمت منه الأجيال في مختلف أنحاء الدنيا كيف أن النصر لا يعني كسب المعركة بمعناه المادي المحسوس، انما النصر في ثبات العقيدة ورسوخ المبدأ وخلود القضية وهذا ما حصل في معركة الطف؛ فقد خرج الإمام الحسين منها منتصراً بالرغم من استشهاده هو ومن معه، انتصر الإمام الحسين لأنه يمثل انتصار الحق على الباطل والدين على البدعة والمظلوم على الظالم انتصر الحسين وكان مناراً خالداً يهتدي به الثائرون وأصحاب الحق والمظلومون في الأرض، وقد أصبح انتصار الحسين مدرسة تعلمت منها الأجيال معاني التضحية والشجاعة والصبر والدفاع عن العقيدة، لقد جسد الإمام الحسين في هذه المرحلة من خطابه قوة العزم والتصميم والارادة في الثبات على المبادئ والدفاع عنها مهما كان الثمن غالياً، وقد استنفد في بنية هذا الخطاب كل مسالك الحوار مع الأعداء، وأخلص في نصحهم وإرشادهم ولكنهم لم يسمعوا ما يقول، وكأنهم قدروا من حجر لا حياة فيه.
لقد أسمعت لو ناديت حياً *** ولكنْ لا حياةَ لمن تنادي
ــــــــــــــ
[1] مختارات من المحاضرات الحسينية 2 / 675.
[2] شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد 1 / 307.
[3] مختارات من المحاضرات الحسنية / 244.
[4] الكامل في التاريخ 3 / 294.
إرسال تعليق