بقلم: د. علي حسين يوسف
لقد أكد عدد من النقاد على أهمية العوامل الاجتماعية في إنتاج الأدب؛ هذه العوامل تتمثل عندهم بجملة من الأمور منها: الوضع الاقتصادي للمؤلف، والوضع المهني وطبقته الاجتماعية، ونظرته للتراث[1].
ومن خلال تلك العوامل يمكن فهم الوظيفة الاجتماعية للأدب، وتفسير أهدافه وغاياته.
إما في مراثي الإمام الحسين (عليه السلام)، فإنه يصعب فهم عدد من الموضوعات التي يؤكد عليها الشعراء، ما لم يتم فهم العوامل الاجتماعية التي تؤثر في الشعراء، ومن تلك الموضوعات؛ دعوة الشعراء إلى أخذ الثأر والتحريض واستنهاض الإمام الثاني عشر على وجه الخصوص فبدون الرجوع إلى الخلفية الاجتماعية للشاعر، ومنابع ثقافته، واتجاهه العقائدي، لا يمكن إيجاد معنى منطقياً يفسر تلك المفاهيم، لكن المتلقي المعين، والمقصود من قبل الشاعر قد لا يرى في الأمر مشكلة في فهم مثل تلك الدعوات، إذ إن الفهم المشترك بين الشاعر والمتلقي يساعد على إدامة عملية التواصل بينهما، محدثا تأثيرا وتأثرا بين الطرفين، مما انعكس على أن تكون المرثية عاملا مهما من عوامل توجيه الجماهير، وزيادة تفاعلهم مع الحدث الاجتماعي والسياسي.
ويمكن القول إن الوظيفة الاجتماعية لمراثي الإمام الحسين (عليه السلام) تتمثل في إبرازها لحقيقة الصراع بين الخير والشر، هذا الصراع الذي وجد مع وجود الإنسان، وسوف يستمر ما شاء الله له الاستمرار، ولكل طرف من طرفي هذا الصراع من يمثله، فالأبطال والشهداء والمضحون من أجل المبادئ الإنسانية، يمثلون الطرف الأول – الخير – أما الظالمون والأشرار، الذين يحاولون إعاقة مسيرة البشرية نحو الكمال، فإنهم يمثلون طرف الشر، هذا المعنى جسده الشعراء العراقيون في مراثيهم الحسينية، بشكل لا يقبل اللبس، فالحسين الذي جسَّد معالم الفضيلة كان رمزاً سامياً كاملاً لمفاهيم الخير، فقد كان " أنموذجا لأفضل المزايا الهاشمية "[2] فضلا عن إنه ابن بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واقرب الناس إليه، وأكثرهم محبة له، أما يزيد الذي لم يكن " نموذجا لأفضل المزايا الأموية، بل كان فيه الكثير من عيوب أسرته ولم يكن له من مناقبها المحمودة إلا القليل"[3]، فكان يمثل طرف الشر.
كان هذا التقابل بين طرفي معركة كربلاء محورا مهما حاول الشعراء العراقيون في النصف الاول من القرن العشرين استثماره في إبراز إن ذلك الصراع لم ينته ما زالت هناك نفوس خيرة وأخرى شريرة، ففي كل زمان حسين (عليه السلام) وفي كل مكان كربلاء. يقول محمد صالح بحر العلوم[4] (من الطويل)
فجيعة يوم الطف تروي فصولها*** أصولُ حياةٍ طورها يتجددُ
وتضحية الحر الشهيد بنفسهِ*** شهادة حق باسمها الحقُّ ينشدُ
وقريب من هذا المعنى قول السيد محمد جمال الهاشمي[5]: (من الخفيف)
حادثٌ أفجعَ القرونَ فلا تن*** فكُّ من هول يومه تتبرمْ
هكذا سنة الزمان، فحق*** مستضام وظالم يتظلمْ
فالثورة التي أعلنها الإمام الحسين (عليه السلام) نجد صداها في ثنايا الأيام، إلى الأبد، حينما يطل الشر برأسه بين الفينة والأخرى لتدمغه وتكبح جماحه، بقوة المبادئ التي استشهد من أجلها سيد الشهداء (عليه السلام) لتؤكد حقيقة غلبة الخير في آخر الأمر، يقول عبد الحميد السماوي[6]: (من الطويل):
سلي كيف أودى في أمية بغيها*** وكيف انطوى سلطانها المتوغلُ
وكيف تلاشى رمزها بعدما رنا*** إلى مجدها طرف من الدهر أحولُ
هوى صرحها الأعلى فأضحى بجنبه*** يرن من العدل الإلهي معولُ
فالشاعر يؤكد حتمية العدل الإلهي، كوظيفة اجتماعية أخلاقية فقد يمهل الإله من تسول له نفسه الظلم والطغيان، لكنه لا يهملهم يعيثون في الأرض فساداً، فسرعان ما يفتك بهم ويجعلهم نسياً منسياً، بعكس الصالحين والخيرين، وقد كان ذلك من أهم الحقائق التي أكدها القرآن الكريم.
والشاعر حينما يضع تلك الحقيقة نصب عينيه، ويوظفها فنيا، فإنما يعبر بذلك عن آمال الجماهير، ويرضي خواطرهم في الاقتصاص من الظالمين، فالشاعر في الرثاء الحسيني معبر عما يختلج في الذاكرة الجمعية للجمهور، إذ ليس من المبالغة القول إن الجمهور مدين للشاعر بوصفه الناطق باسمه، المعبر عن طموحه وقد ينصهر صوت الشاعر مع صوت الملايين من الشعب، حتى ليبدو الخطاب باسم الجماعة يخفي من ورائه هموم شعب بحاله، وفي إحدى مراثيه الحسينية يقول محمد صالح بحر العلوم معبرا عن تلك الحقيقة[7]: (من الكامل)
أنا صورة الشعبِ الذي نفض الكرى*** عن مقلتيه وثار ليثا مرعبا
ناغيته طفلا وصنت لواءَهُ*** كهلا وارفع فيه رأسي أشيبا
وأقمت في بيتي تجاربَ أمسهِ*** عينا تقيه تصدّعا وتشعبا
البيتُ بيتي والحفيظةُ في دمي*** والشعبُ قوّتي التي لن تغلبا
فالشاعر يظهر إيمانه بالشعب كقوة لا تغلب، وهو قادر على تحقيق ما يصبو إليه " لذا فإن الشاعر حاول أن يجعل من تجربته الذاتية تجربة جماعية تعبر عن تطلعات المجموع وهمومهم "[8]، وهذا الارتباط بين (أنا) الشاعر و(النحن) وتعبيره عن هموم الطبقات المحرومة كان حافزا مهما للطرفين: الشاعر والجمهور في إدامة التفاعل في ظل خيمة القضية الحسينية، فكان ذلك سببا وراء هذا الكم الهائل من المراثي، وإذا كان أحد الباحثين يقول أنه لم يعلم أنَّ " شاعراً عربياً حتى اليوم لم يعرض في شعره – ولو جزئياً – إلى الحسين وثورته إلا نادراً "[9]، فكيف بالشعراء العراقيين الذين حلَّت بين ظهرانيهم فاجعة كربلاء، وسالت تلك الدماء الزكية على أرضهم، لذلك فقد تميز بالاصالة، وأصالة المرثية الحسينية لا تعني التفرد المطلق في الرثاء، بل تعني شدة الولاء، وصدق الإخلاص للقضية التي آمن بها الشعراء الحسينيون، فالفكرة الأصيلة " لا تعني أن أحداً لم يفكر فيها أبدا من قبل....."[10]، إذ إن الأصالة في الإبداع نسبية ومشروطة بظروفها التاريخية والاجتماعية، فشخصية الشاعر " تعيش في بيئة ذات مضمون ثقافي تاريخي اجتماعي، تتبادل معها الأثر والتأثير بطريقة دينامية متفاعلة من خلال إطار نوعي اكتسب مضمونه من الخارج "[11]، ترى ذلك واضحاً في الأثر الاجتماعي التي تتسم به مفردات المراثي الحسينية، إذ إن العلاقات الاجتماعية بين الشاعر ومعارفه تأثرت بقضية استشهاد الإمام (عليه السلام)، فاصطبغت المراثي بين الأصدقاء بالطابع الحسيني، فالفن يعد مجهودا مشرقا لأجيال من المبدعين الذين يتعاقبون جيلا بعد جيل، يؤثرون في المجتمع، ويؤثر المجتمع فيهم، وفي هذا التفاعل بين الطرفين كمن سر بقاء الادب وديمومته.
وهذا السيد محمد سعيد الحبوبي يتأثر بوفاة أحد أصدقائه[12]، فيرثيه بمرثاة أقرب إلى رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) يقول[13]: (من الكامل)
كان المحرم مخبرا فاريتنا*** يا جعفر فيه الحسين قتيلا
فكأن جسمك جسمه لكنه*** كان العفير وكنت أنت غسيلا
وكأن راسك راسه لو لم يكن*** عن منكبيه مميزا مفصولا
وجبينك الوضاح مثل جبينه*** بلجاً وليس كمثله تجديلا
وحملت أنت مشرفا أيدي الورى*** وثوى بنعش لم يكن محمولا
إن تنأ عنا راحلا كرحيله*** فلرب سجاد تركت عليلا
فقد كان الحدث الحسيني حاضراً في ذهن الشاعر، لم يغب عن باله، إذ إنه يراه مجسداً في كل ما يثير أشجانه ولواعجه إن هذا التماهي بين حزن الشاعر وهمومه الاجتماعية وحزنه على الإمام الحسين (عليه السلام) يؤكد الأثر العميق للأبعاد الاجتماعية في الحزن على الإمام الحسين (عليه السلام)، وهو أمر يكاد يكون طبيعيا " فالأعمال الفنية تتألف دائما من موضوعات لها دلالة اجتماعية، وللألفاظ والأنغام والأشكال ارتباطات انفعالية تتسم بأنها اجتماعية "[14]، ويبدو أن رؤية الشعراء لخلود المأساة الحسينية كانت تعود في أحوال كثيرة إلى عوامل اجتماعية يمكن تفسيرها " في التطابق الذي يوجد بين الموضوعات الرئيسة والاجتماعية والعاطفية والقيم والنماذج التي يصورها العمل الأدبي، وبين القيم والنماذج المتمثلة تمثيلا قويا عند الجمهور المتلقي"[15].
يقول السيد مصطفى جمال الدين[16]: (من الكامل)
مولاي... رزؤك خالد أبدا *** كخلود هذا الفتح في الحقبِ
إن أحزان الشعراء لا تنفصل عن واقعهم الاجتماعي، لذلك فقد وجد الشعراء العراقيون في قضية الإمام الحسين (عليه السلام) إطاراً يغلفون به أحزانهم، ويبثّون شكواهم، فالشاعر يستجيب لنداء ذاته الكئيبة على الإمام الحسين (عليه السلام) بقدر ما يستجيب لضغوط العوامل الاجتماعية المؤثرة عليه، فالشاعر – أي شاعر " ابن المجتمع، مصنوع بوجدانه ومضغوط بعناصره في النواميس والأعراف والقيم، ولكن الشاعر الحقيقي هو ابن ذاته أيضاً "[17]. يقول محمد حسن أبو المحاسن[18]: (من البسيط)
دنيا لآل رسول الله ما اتسقتْ *** أنى تؤملها تصفو وتتسقُ
فالشاعر في حضرة الإمام الحسين (عليه السلام) – وأهل بيته – وجد الظلم وغياب العدل، قد أصبح حداً وغاية لما في المجتمع من ظلم وقسوة، لكن الشعراء وبرغم أحزانهم حاولوا التأسي والصبر إقتداءً بسيد الشهداء فلم تكن المراثي حزنا كلها، إنما وجد الشعراء إن الظلم والحيف الذي لحق بالإمام الحسين (عليه السلام) كانت تقابله الشجاعة بأزهى صورها ومن ذلك التناظر استحث الشعراء قرائحهم لخلق حالة من الاستنفار مشفوعة بالحزن، ليكون رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) عبرة واعتباراً لكل من يؤمن بعدالة قضيته، يقول حسين علي الأعظمي (من البسيط)[19]:
رأى الحسين إلى الدنيا التي غدرت*** به وعاثت بآل البيت في نكدِ
فودع الأهل والدنيا وصال على*** أعدائه مستميتا صولة الأسدِ
إن رفض الحسين (عليه السلام) لواقع الحال المرفوض، وبتلك النفس الأبية، وتضحيته بنفسه وأصحابه لهو درس نموذجي لا يمحى أثره، ولا ينضب مفعوله ومثل " هذا الشعر ليس تقريراً لواقع الحال فقط وإنما هو دعوة لما يجب أن يكون، ولما يريده الشاعر أن يكون الأمر عليه بلا شك "[20]، لذلك يقول الشاعر نفسه – الأعظمي – في المرثية ذاتها[21].
إن مت احييتَ آمالا موحدةً*** وأمةً مالها في الدهر من بددِ
فقد قرن الشاعر بين استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وإحياء الأمل في النفوس في إنقاذ الأمة من الظلم، ولا شك أن ذلك هدف اجتماعي مهم، حاول الشاعر الالتفات إليه، فحساسيته بوصفه فنانا"تمكنه من الالتفات إلى ما لا يلتفت إليه الجمهور، كما تمكنه من الكشف عن جوانب إنسانية لا تبرز عادة إلى مستوى الوعي العادي"[22].
ومن القيم التي أكد عليها الشاعر؛ قيمة الصبر، بوصفها قيمة ارتبطت بالواقع الاجتماعي للعراق في النصف الأول من القرن العشرين فالتقلبات السياسية وما تبعها من عدم استقرار الأحوال المادية والمعاشية، وما رافق ذلك من هيمنة أجنبية، فرض على الشعراء أن يروا في الصبر شراً لا بد من قبوله، والصبر من الأمور الحميدة عند العرب، وقد قيل " خير الأمور مغبة الصبر"[23]، فالشاعر في الرثاء الحسيني يتأسى بصبر الحسين (عليه السلام)، ثم إنه لا يرى خياراً غير الصبر لما هو فيه، يقول يعقوب الحاج جعفر الحلي[24]: (من الطويل)
أرى كلَّ رزءِ يجملُ الصبرُ عنده*** وما الصبر في رزء الحسين جميلُ
فالمعنى الضمني في البيت يؤكد على تهوين الصبر وقبوله فللإنسان أن يصبر على ما ينوبه، لكنه مع نائبة الحسين (عليه السلام) قد يتعذر عليه الصبر، وقد يظهر الشاعر اهتمامه بقيمة الصبر على لسان حال الإمام الحسين (عليه السلام)، وهو يقوي من عزيمة أهل بيته، يقول يعقوب الحاج جعفر الحلي في مرثية أخرى[25]: (من الطويل)
فقال اصبروا فاللهُ خيرُ خليفةٍ*** عليكم وأبقى بل أبرّ وأرفقُ
هنا تبين عاقبة الصبر في توجيه الإمام لأهل بيته، فالصابرون على ما يريد الله لا بد إنهم سيجازون الثواب العظيم، وهذا المعنى طالما أكّد عليه القرآن الكريم.
وقد يذكر الشاعر صبر أصحاب الحسين (عليه السلام) في ساحة المعركة، لما في ذلك من قيمة توجيهية للشباب المسلم، يقول محمد حسن أبو المحاسن[26]: (من البسيط)
والصبر أثبت في يوم الوغى حلقا*** إذا تطاير من وقع الضبا الحلقُ
رسوا كأنهم هضب بمعتركٍ*** ضنكٍ عواصفه بالموت تختفقُ
ولابسين ثياب النقع ضافية*** كأن نقع المذاكي الوشي والسرقُ[27]
فقد أكد الشاعر صعوبة الصبر في ساحات القتال، وكأنه يهيب بأبناء جلدته أن يجعلوا الصبر وسيلة لتحقيق ما يصبون إليه. ويقول حسين علي الأعظمي[28] (من البسيط):
ألهمْتَنا الصبرَ في الأحداث وهو كما*** تراه في كل ضيق خير مستندِ
فالشاعر يؤكد إن أهم ما في الثورة الحسينية هو صبر الإمام الذي أصبح درسا لكل الصابرين والمثابرين من أجل تحصيل مراضيهم.
ومن القيم الأخرى التي أكد عليها الشعراء: العدل، فقد حاول الشعراء نقد الواقع الاجتماعي من خلال تصويرهم لغياب العدل فيه، يقول الشاعر إبراهيم الوائلي[29]: (من المتقارب)
امور تدار ولكنها*** على غير ما سُن او شرعا
وحكم يناط برأي الجهول*** ليصنع ما شاء ان يصنع
فالإحساس بالظلم والإحباط نتيجة غياب العدل دفع الشاعر إلى التوجه إلى الإمام الحسين (عليه السلام) شاكياً له حال الأمة، ولا يخفى ما في البيت من قيمة نقدية لاذعة للمجتمع، فإن إنسانية أي مجتمع تقاس بمدى توفر العدل بين أفراده، فإن غاب عنه العدل فإنه سيصبح لا محالة مجتمعاً يفرق بين الناس فيتفشى الظلم وتسود الجاهلية.
أما قيمة الشجاعة فقد اكتسبت مشروعيتها وأهميتها في مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) بوصفها أهم ما يرغب العربي أن يتحلى به من صفات، ففي مجتمع – كالمجتمع العراقي – وقد تجاذبته الأحداث السياسية، والتيارات الثقافية والفكرية، لا بد أن تكون الشجاعة هي الحل الأمثل لأغلب مشكلاته؛ هذه الشجاعة يمكن أن تسمى شجاعة الحق، إذ إنها لسيت موجهة للانتقام من أحد بل "هي قيمة تكتسب اجتماعيا، وهي تقدم فكري، بقدر ما هي تقدم أخلاقي، وهي فضيلة اجتماعية في روحها"[30]، فلا غرابة أن يتوجه الشعراء إلى رحاب الحسين (عليه السلام) مشيدين بشجاعته وشجاعة أصحابه، مستنهضين شباب الأمة، ليبثوا فيهم الروح المعنوية التي من خلالها يثبت الشعب وجوده ويحقق هويته بعد عقود طويلة من الاستلاب وغياب الشخصية. يقول محمد جواد الغبان[31]: (من الكامل)
فأعد أبا الشهداء نهضتك التي*** قد قمت فيها بالفضيلة صادعا
لترد للنشئ الغرير رشاده*** وله تكون عن الغواية صادعا
واهتف بهم: جدوا بحزم واعملوا***(أن ليس للإنسان إلا ما سعى)[32]
فقد أكد الشاعر على أهمية العزم لتحقيق المطالب والذي لا يكتمل من دون أن يكون الإنسان شجاعاً، لذلك راح الشاعر يخاطب الإمام أبا عبد الله بأن يلهم الشباب مبادئ ثورته وشيئاً من شجاعته، ليوفقوا في مساعيهم من أجل بناء أوطانهم. إن هذه الشجاعة المستوحاة من وقفة الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء حاول الشعراء من خلالها رسم النموذج القدوة لما يجب أن يكون عليه المرء ليكون دوره فاعلاً في مجتمعه.
وأكد الشعراء عدم اهابة الموت، لأن الموتَ أجل عند الله إذ لا يموت الإنسان إلا بيومه الذي قرره الله، ولا دخل للإنسان في ذلك، فالقضاء مقدر، والإقدام والشجاعة لا علاقة بها بأجل الإنسان، فكم مقاتل مغامر عاش طويلاً، وكم من خائف مات في أتفه الأسباب، لذلك فإن شعراء المراثي طالما أكدوا على هذه الحقيقة من خلال تصويرهم لاستشهاد الإمام (عليه السلام) الذي كان نتيجة للإرادة الإلهية، ولم يمت الإمام (عليه السلام) غلبةً، من ذلك قول السيد مهدي الطالقاني[33]: (من الكامل)
أفديه حيث يصولُ صولة جده*** فيغوصُ في جمع الأعادي مفردا
..............
حتى إذا شاء الإله بأن يرى*** ذاك الهمام مجدلاً بين العدى
نادته داعية القضاء فخر عن*** ظهر الجواد ملبياً ذاك الندا
فقد أكد الشاعر إن الإمام الحسين (عليه السلام) حينما سقط شهيدا فإنما كان ذلك لأمر الله وإرادته، وليس لأسباب خاصة بظروف المعركة، وهذا درس لمن يخافون الإقدام، وقد قالت العرب "إن الشجاعة وقاية، والجبن مقتلة، ولذلك من يقتل مدبراً أكثر ممن يقتل مقبلاً"[34].
وقد يستنهض الشاعر الشباب من خلال بث روح الشجاعة فيهم مستوحياً مبادئ الإمام الحسن (عليه السلام) التي علمت الإنسانية معنى الشجاعة والعزم، من ذلك قول السيد راضي الطباطبائي[35]: (من الطويل)
فهيا شبابَ العصرِ وانهج كنهجهم*** فإن حسيناً لا يريدُ لك اللطما
أليس أبى الضيم ضحى بنفسهِ*** وقد علَّم الناس الشجاعة والعزما
فقد أكد الشاعر أهمية الشجاعة في تغير الواقع من خلال تأكيده على الإقتداء بثورة الإمام الحسين (عليه السلام) التي تأبى الضعف والوهن، والتي علمت الإنسانية كيف تصبر لكي تنتصر ومما يرتبط بالشجاعة، مسألة أخذ الثأر، وذلك باستنهاض الأئمة لينتصفوا ممن ظلمهم، لذلك لم يعد طلب الثأر يتجه لتلبية غايات محدودة وضيقة، كما كان قبل الإسلام[36]، بل أصبح في مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) يتجه إلى الاقتصاص من أعداء الإسلام الماثلين في كل مكان وزمان، يقول إبراهيم الوائلي[37] مخاطبا الإمام الحسين (عليه السلام): (من البسيط)
قل للكتائب تنهض من مراقدها*** فقد خلت من صهيل الخيل بيداءُ
ولب للحق يا ابن الحق دعوته*** فقد عراه من التضليل إعياءُ
كتيبة الله لم تهدأ على ترة*** أو تستجب للتغاضي وهي خرساءُ
هذه الأبيات تعبر عن حاجة الجماهير إلى من يأخذ بيدها لإعادة الأمور إلى نصابها، وقد وجد الشاعر بأن القيادة الحقة، هي القيادة الإلهية المتمثلة في أئمة أهل البيت عليهم السلام، فهم القادة وهم الأمناء على المسلمين ويقول عبد المنعم الفرطوسي مستنهضاً الإمام المهدي[38] (عليه السلام): (من السريع)
فاظهر فدتك النفس من غائب*** لأنفس ملّت من الانتظارْ
إن مثل هذه الدعوات تعبر عن إيمان الشعراء بأن الأئمة حاضرون بينهم، وتشير إلى وطأة الواقع الذي لا يمكن تخفيفها إلا بظهور الإمام المهدي، وتؤكد على تفاعل الشاعر مع مشكلات عصره لأن " المشكلات الاجتماعية الحيوية للعصر الذي بعيش فيه الفنان هي التي تحفزه على الإنتاج الفني "[39].
وقد حاول الشعراء إبراز حقيقة إن ما اصاب الأمة كان بفعل إهمالها لمبادئ الإسلام التي جسدها بشكل واضح الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء يقول مظهر اطميش[40]: (من مجزوء الرمل)
إنها ذكرى تسامت *** بالإبا معنى ومبنى
إنها ذكرى صراع*** هد للطغيان حصنا
.............
إنها الذكرى التي*** من أجلها نحن اجتمعنا
ما اجتمعنا لبكاء*** فالبكا يورث حزنا
كم لنا فيها عظات*** ليتنا فيها اتعظنا
وترسمنا طريقاً*** خطَّه السبط إلينا
لعرفنا كيف نبني*** وطنا فيه خلقنا
وعلمنا كيف ننشئ*** أمة المجد لنهنا
فالشاعر يؤكد أن ما يوجد من سلبيات يمكن أن يعزى إلى إهمال دروس الثورة الحسينية، وقد جمع الشاعر بين الشكوى والتحسر على ما وصل إليه واقع الأمة جراء إهمالها لذلك التاريخ المجيد الذي لم يستثمره أبناء العصر من أجل بناء مجتمع صحيح، وقريب من هذا المعنى قول محمد جواد الغبان[41]: (من الكامل)
إيهٍ أبا الشهداءِ دعوة صارخٍ*** ينعى إليك عُلا ومجدا ضائعا
لو كنت تلقي نظرةً في وضعنا*** لرأيت منه ما يردك جازعا
نشء غرير لم يسرْ نحو العلى*** الا تقهقر للضلالةِ راجعا
نبذ التآزرَ والتكاتفَ مذْ غدا الـ*** ـعدوان والخذلان فيه شائعا
وجنت عليه مبادئ هدامةٌ*** نشروا بهن مخازيا وفضائعا
كم بائع لضميرهِ وضميرهُ*** يدعو بحزن ما أخسك بائعا
فهذه الأبيات تدل بوضوح على نظرة الشاعر النقدية لمجتمعه والحال الذي وصل إليه الشباب الذي ترك الإقتداء بعظماء المسلمين وتمسك بتلك الثقافات البعيدة عن الواقع العراقي – بحسب ما يراه الشاعر – فهذه شكوى وفي الوقت ذاته نقد لاذع من هنا يمكن القول بأن شاعر المراثي حاول تعرية الواقع وإظهاره في صورته الحقيقية، وإبراز ما فيه من مساوئ وعيوب. ويقول عبد الحميد السماوي[42]: (من الكامل)
ما كنتُ أحسبُ والمقدَّرُ كائنٌ*** أن العقول تصاب بالإغماءِ
فالشاعر يحاول أن يشخص الداء، وهو عنده يتمثل بتخلف طرق التفكير، فالواقع " مشلول بالتخلف والركود، واقع يعاني من هبوط مادي وروحي يكاد يعم شؤون الحياة جميعاً"[43].
إن هؤلاء الشعراء الذين نظروا للواقع العراقي آنذاك بعيون نقدية من خلال تشخيصهم لما يعاني منه المجتمع ومن خلال الشكوى واستنهاض الأئمة، فإنهم يؤكدون جملة أمور: منها حاجة المجتمع إلى قيادة تنصف المظلوم وتردع الظالم، مما دفعهم إلى تأكيد حضور شخصية الإمام المهدي في أغلب المراثي، لأن ظهوره يمثل الثورة التي يكون معها الحل لأزمات الواقع الاجتماعية والأخلاقية، وهذا الأمر يشير إلى أن الشاعر الحسيني حريص على سلامة المجتمع حرصاً نابعاً من عقيدة دينية راسخة وإيمان ثابت بأن ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) تمثل المعادل الموضوعي، لثورة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما صدح بأمر الله محرراً العرب من جاهليتهم ووثنيتهم، لذلك يقول مظهر اطميش[44]: (من الكامل)
أسليل بيت لايزال كتابهم*** سفراً جليلا للبرية هاديا
أبقيت للأجيال درساً خالدا*** ما زال فيه فم الأعاصر شاديا
ويقول طالب الحيدري[45]: (من المتقارب)
حريٌّ بمثلك أن يخلدا*** وأن يصبحَ البطلَ المفردا
ضربت لنا مَثلا في الإباءِ*** يعلمنا النبل والسؤددا
...................
تعلمنا كيف يحيا وكيف*** يموت الفتى شامخا اصيدا
فمع الحسين (عليه السلام) يكتسب الوجود معناه، فالإيمان بقضية ما يعني العيش من أجل تلك القضية، والاستعداد للموت والتضحية من أجلها، فلا بد من وجود معنى " فاللامعنى يحرم الحياة من الامتلاء وبالتالي فهو يعادل المرض، فالمعنى يجعل الكثير من الأشياء ممكنة التحمل، وربما يجعل كل شيء محتملا.... "[46]، يقول محمد مهدي الجواهري[47]: (من الطويل)
هي النفس تأبى أن تذِلَّ وتُقهرا*** ترى الموت من صبر على الضيم ايسرا
وتختار محمودا من الذكر خالداً*** على العيش مذموم المغبة منكرا
مشى ابن علي مشية الليث مخدرا*** تحدته في الغاب الذئاب فاصحرا
ثم يقول في خاتمة القصيدة[48]: (من الطويل)
أقول لا قوام مضوا في مصابه*** يسومونه التحريف حتى تغيًّرا
دعوا روعة التاريخ تأخذْ محلها*** ولا تجهدوا آياته أن تحورا
وخلوا لسان الدهر ينطقْ فإنَّه*** بليغ إذا ما حاول النطق عبًّرا
فمواجهة الحياة لا تتأتى إلا لمن يتأسى بعظماء الرجال ومن الصعوبات التي تخلق الهموم في النفس والإرادة في إثبات الذات ينشأ التوتر الفعال " التوتر الذي ينشأ عن الألم الذي ينبثق بدوره عن عدم الانسجام بين الإنسان والعالم، هذا التوتر قدم لنا شخصيات كبيرة من الإبداع "[49]، والأبيات تتضمن في دلالاتها مسوغاتها التوجيهية من خلال تأكيد الشاعر على الإفادة من دروس التاريخ، وهذا يؤكد أن نصوص المراثي في أغلب الأحوال، توظف من أجل المتلقي، وتوجه تبعاً لذلك. ولابد من الاشارة الى ان الشعر العراقي عامة في النصف الاول من القرن العشرين قد اتجه الى معالجة الجوانب الاجتماعية كردة فعل على تركة القرن التاسع عشر[50] الأمر الذي كان واضحا في النصوص المتقدمة فقد اظهرت اهتمام شعراء المراثي الحسينية بمشكلات مجتمعهم , فقد طغى الاهتمام بالجانب الاصلاحي والتوجيهي على الاهتمام بالجوانب الفنية , وحظي المضمون بالعناية الاولى على حساب الاهتمام باللغة , لذا كثر استعمال صيغ الامر للمطالبة بالاصلاح والتغيير مما جعل عددا من تلك المراثي تميل الى النثرية.
ــــــــــــــ
[1] ينظر: التحليل الاجتماعي للأدب: 117.
[2] أبو الشهداء الحسين بن علي: 50.
[3] م. ن: 50.
[4] ديوان بحر العلوم: 2 / 122.
[5] مع النبي وآله: 1 / 188.
[6] ديوان السماوي: 378.
[7] ديوان بحر العلوم: 2 / 86.
[8] القيم الإسلامية في الشعر العراقي الحديث، رائد فؤاد الرديني، (رسالة ماجستير، كلية الاداب – جامعة بغداد، 2002): 21.
[9] الإمام الحسين (عليه السلام) عملاق الفكر الثوري: 355.
[10] الإبداع والشخصيَّة، دراسة سيكولوجية: 316.
[11] مشكلة الإبداع الفني رؤية جديدة: 279.
[12] هو السيد جعفر القزويني، ينظر: ديوان السيد محمد سعيد الحبوبي: 423.
[13] م. ن: 424.
[14] في النقد الأدبي الحديث منطلقات وتطبيقات: 176.
[15] التحليل الاجتماعي للأدب: 144.
[16] الديوان: 2 / 166.
[17] نقد الشعر في المنظور النفسي: 91.
[18] ديوان أبي المحاسن الكربلائي: 147.
[19] مجلة الغري ع6 لسنة 1945: 81.
[20] الأدب السياسي الملتزم في الإسلام: 53.
[21] مجلة الغري ع6 لسنة 1945: 82.
[22] مفهوم الشعر: 274.
[23] جمهرة وصايا العرب: 1 / 120.
[24] ديوان الشيخ يعقوب الحاج جعفر الحلي: 142.
[25] م. ن: 133.
[26] ديوان أبي المحاسن الكربلائي: 148.
[27] في الطبعة الثانية من الديوان وردت (والمزق)، ينظر: ديوان محمد حسن أبي المحاسن: 136.
[28] مجلة الغري: ع 6 لسنة 1945: 82.
[29] ديوان الوائلي: 1 / 178.
[30] القيم الأخلاقية والاجتماعية والفكرية في وصايا عصر قبل الإسلام الشعرية والنثرية، سهام حسين جواد، رسالة ماجستير، كلية التربية للبنات - جامعة تكريت، 2002: 24.
[31] مجلة الغري (ع 9 – 10) لسنة 1948: 23.
[32] سورة النجم، الآية / 39.
[33] ديوان السيد مهدي الطالقاني: 79.
[34] العقد الفريد: 1 / 100.
[35] مجلة البيان: ع (57 – 58) لسنة 1948: 234.
[36] القيم الأخلاقية والاجتماعية والفكرية في وصايا عصر قبل الإسلام الشعرية والنثرية (رسالة ماجستير): 8.
[37] ديوان الوائلي: 1 / 171.
[38] ديوان الفرطوسي: 1 / 96.
[39] في النقد الأدبي الحديث منطلقات وتطبيقات: 175.
[40] أصداء الحياة: 74 – 76.
[41] مجلة الغري، ع (9 – 10) لسنة 1948: 23.
[42] ديوان السماوي: 361 .
[43] لغة الشعر الحديث في العراق: 111.
[44] أصداء الحياة: 90.
[45] ألوان شتى (ديوان شعر): 109 – 110.
[46] ذكريات، أحلام وتأملات: 330، وردت في النص (وبالتالي)، والأصح أن يقال: (ومن ثمَّ).
[47] ديوان الجواهري: 2 / 271.
[48] ديوان الجواهري: 2 / 274.
[49] في النقد الإسلامي المعاصر: 26.
[50] ينظر: الشعر العراقي الحديث , مرحلة وتطور: 53-56.
إرسال تعليق