بقلم الدكتور عبد المحسن كاظم الياسري
يواصل ركب الإمام الحسين مسيره إلى المكان الموعود فيصل إلى موضع يقال له «ذو الحسم» وفي هذا الموضع يلتقي الإمام الحسين بالحر بن يزيد الرياحي ومعه ألف فارس أرسلهم عبيد الله بن زياد لملاقاة الإمام الحسين، وطلب منهم ملازمته في مسيره، وقد استقبل الإمام الحسين الحر وأصحابه، وقدم لهم ما يحتاجون إليه من الماء، وقد أمر أصحابه بسقاية القوم جميعاً، وحين حل وقت صلاة الظهر أذّن مؤذن الإمام للصلاة ثم صلى الإمام بالفريقين، ولما فرغ الإمام من صلاته اتكأ على قائم سيفه وألقى خطابه الأول في مرحلة المسير.
1. خطاب الإمام الحسين في أصحابه وأصحاب الحر في ذي الحسم
وقف الإمام بين القوم وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس إنها معذرة إلى الله عزوجل وإليكم، اني لم آتكم حتى أتتني كتبكم وقدمت علي رسلكم، ان اقدم علينا فانه ليس لدينا إمام لعل الله يجمعنا بك على الهدى، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم اقدم مصركم، وان لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم»[1].
الناظر في بنية هذا الخطاب يجد أنه بني بأسلوب بسيط التركيب سهل التعبير واضح الدلالة، وهدف الإمام من ذلك أن يكون مفهوماً من جميع المتلقين، وقد بنى أكثر تراكيبه على الأسلوب الشرطي الذي يعد من التراكيب الطويلة ويستلزم فيه حصول الجواب حصول الفعل، ويبدو هذا واضحاً في عدد من تراكيب الخطاب «لم أقدم... حتى أتتني، فإن كنتم... فقد جئتكم،... فإن تعطوني... دخلت معكم... وإن لم تفعلوا انصرفت...» ويبدو مما تقدم أنّ أسلوب الشرط يسيطر على بنية هذا الخطاب وهو ما يتطلبه سياق الحال ومقامه الذي قيل فيه، ذلك أن هذا أول خطاب للإمام مع أهل الكوفة الذين دعوه للقدوم إلى بلدهم من خلال ما أرسلوه إليه من كتب ووفود وحين قدم إلى بلدهم وجدهم على غير الوجه الذي كانوا عليه فأراد أن يوضح لهم أسباب قدومه إلى هذا البلد، ومن حقهم أن يعرفوا أسباب قدوم الحسين وأهل بيته وأنصاره على افتراض أن عدداً من أفراد هذ الجيش لا يعرفون هذا الأمر وبعضهم لم يعرف أنه قادم لقتال الحسين بن بنت رسول الله، ومن هنا أراد الإمام أن يكشف أمام هؤلاء المخاطبين سواءً من يعرف منهم أم من لا يعرف أنه قدم إلى هذا البلد بدعوة من وجوه القوم فيه، وأنهم أرسلوا إليه كتبهم ورسلهم يطلبون فيها منه القدوم، فهو قادم استجابة لهذه الدعوة من أهل الكوفة وهم شيعة أبيه وأنصاره، وبعد أن أوضح الإمام سبب قدومه لهؤلاء القوم، وضع أمامهم خيارين بناهما على أُسلوب الشرط، وترك لهم اختيار واحد منهما، يقول:
«ان كنتم على ما ورد في كتبكم وعلى لسان رسلكم وأعطيتموني ما يثق به قلبي دخلت معكم... وان كرهتم قدومي وتغيرت أفكاركم انصرفت إلى المكان الذي أقبلت منه».
وقد يخطر في ذهن السامع سؤال: هل حقاً يريد الإمام الانصراف إلى المكان الذي قدم منه، وما المسوغ لطرح مثل هذا الخيار؟، ويكون الجواب بالنفي، فالإمام الحسين لا يريد الرجوع من حيث أتى، وانما أراد من وضع هذا الخيار إلقاء الحجة على هؤلاء القوم الذين قدموا لقتاله، وهو يعرف أنهم لا يملكون القدرة على الاستجابة لمثل هذا الطلب، ويعرف أيضاً أنه يسير إلى مصير قُدِّر له من يوم ولادته ووعده به الله ورسوله، فلا يمكن أن يحيد عنه، ولو افترضنا أنهم سمحوا له بالرجوع إلى حيث يريد فإنه لن يفعل ذلك أبداً، إنما هو ماضٍ لاداء رسالة ولقاء مصير يكون به الخلود الدائم مدى الدهر.
لقد كان الإمام دقيقاً في اختيار الأسلوب الذي بنى عليه تراكيب هذا الخطاب، فقد بدأ خطابه بنداء، لكي يلفت أنظار الجميع لما يريد قوله، وبعد هذا بدأ ببيان ما يريد وهو أنه لم يأت إلى هذا البلد إلا بعد إلحاح شديد من أهله لما أرسلوه إليه من كتب ووفود.
ويستمر مقام الإمام في هذا الموضع، وتحل صلاة العصر ويأمر الإمام بالأذان وإقامة الصلاة، ثم يتقدم الإمام ويصلي بأصحابه وأصحاب الحر، ولما انتهت الصلاة وقف الإمام فحمد الله وأثنى عليه وأسمع القوم خطابه الثاني في هذه المنطقة.
2. خطاب الإمام بعد صلاة العصر في ذي الحسم
بعد انتهاء صلاة العصر التي أمّ الإمام فيه القوم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد أيها الناس، فإنّكم إنْ تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن رضا الله، وأنا ابن بنت رسول الله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالظلم والعدوان، وإن أنتم كرهتمونا، وجهلتم حقنا وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم وقدمت به عليّ رسلكم انصرفت عنكم»[2].
هذا هو الخطاب الثاني للإمام الحسين في اليوم نفسه أمام أصحابه وأصحاب الحر، والناظر في البناء اللغوي لهذا الخطاب يجد أنه جرى على سياق الخطاب الأول من حيث سهولة الألفاظ ووضوح التراكيب، ليكون مفهوماً من جميع السامعين، لكن الخطابين اختلفا في المستوى الدلالي لكل منهما وفي الغرض الذي قصده الإمام في كل منهما، ومن هنا يمكن القول: إن هدف الإمام في الخطاب الثاني يختلف عنه في الخطاب الأول فقد أوضح في الخطاب الأول أسباب قدومه إلى هذا البلد، ليعرفوا الحقيقة من لسان الإمام نفسه، أما الخطاب الثاني فقد بدأه الإمام ببيان صلته بالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأشار إلى أنه ابن بنت النبي وابن وصيه، وهو وارث الرسول من أهل البيت في ولاية المسلمين، وكان هدف الإمام من هذا هو تذكير القوم بهذه الصلة وما يترتب عليها من أحكام وإلا فهم يعرفون أنه الحسين بن علي بن أبي طالب وأمه فاطمة الزهراء بنت رسول الله.
ويبدو من خلال البنية الدلالية لتراكيب هذا الخطاب أن الإمام أراد من خلال التذكير بهذه الصلة بناء حكم هو أنه بحكم هذه الصلة أحق من غيره بولاية أمور المسلمين وقيادتهم، وهو أحق ممن تولى هذه الأمور الآن، وعطل العمل بكتاب الله وسنة نبيه، وأشاع الفساد والظلم بين أبناء الأمة الإسلامية، ويمكن أن نلمح من خلال قوله: «من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالظلم والعدوان». إشارة إلى حكم يزيد بن معاوية.
وبعد أن بين الإمام ما أراده لهؤلاء القوم دعاهم إلى معرفة الحق وإتباع سبيله، ونصرة أهله لأنهم بذلك يكسبون رضا الله سبحانه ورسوله، وبعد أن أوصل الإمام هذه الفكرة إلى الحر وأصحابه أعاد عليهم ما ذكره في خطابه الأول من خيارات مذكراً إياهم بما ورد في كتبهم، وما حمله إليه رسلهم من دعوة للقدوم، وقد أنكر الحر وأصحابه أن يكونوا ممن أرسل إليه رسولاً أو خاطبه بكتاب، وأخبروه أنهم أمروا بملازمته في مسيره، وقد جرى بين الإمام الحسين والحر كلام أمر بعده الإمام الحسين أصحابه بالمسير نحو كربلاء وأمر الحر أصحابه بمسايرة الإمام الحسين، وخاطب الحر الإمام الحسين بقوله: «يا سيدي إني أذكرك الله في نفسك فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن، فرد عليه الإمام الحسين: أبالموت تخوفني؟
3. خطاب الإمام الحسين ورده على كلام الحر
بعد أن سمع الإمام الحسين ما تقدم ذكره من كلام الحر قال له مستفهماً: أبالموت تخوفني ؟.... ثم قال له: «ليس من شأني من يخاف الموت، ما أهون الموت على سبيل نيل العز وإحياء الحق، ليس الموت في سبيل العز الا حياة خالدة، وليس الحياة مع الذل الا الموت الذي لا حياة معه، أبالموت تخوفني؟ هيهات طاش سهمك وخاب ظنك، لست أخاف الموت، إن نفسي لأكبر من ذلك، وهمتي لأعلى من أن أحمل الضيم خوفاً من الموت، وهل تقدرون على أكثر من قتلي، مرحباً بالقتل في سبيل الله ولكنكم لا تقدرون على هدم مجدي ومحو عزي، فإذاً لا أُبالي بالقتل»[3].
ان من يدقق النظر في لغة هذا الخطاب وتراكيبه التي بني عليها يجدها تختلف عن لغة الخطابين السابقين، ذلك لأن المقام في هذا الخطاب يختلف عن المقام فيهما، فقد جاء هذا الخطاب رداً على مقولة الحر للإمام: «فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن» وظاهر هذا الكلام أن الحر يخوف الإمام من القتل لذا جاء رد الإمام بهذه القوة فقد بني الخطاب على أسلوب ازدحمت فيه التراكيب المؤكدة بأكثر من أداة توكيد، وتخللها استفهام فيه إنكار شديد لهذه المقولة، وحملت بنية الجمل التركيبية إيحاءات دلالية على التصميم والعزم والقوة في اتخاذ القرار وتخطئة المقابل فيما يظن.
لقد بدأ الإمام خطابه بالتركيز على أمر في غاية الأهمية هو أنه لا يتبادر إلى ذهن أحد أنه يخاف الموت وأنه حين خرج من بلاد الحجاز كان يعرف أنه سوف يقاتل في سبيل الله وأنه سوف يقتل دفاعاً عن الدين وسنة جده، وهذا النوع من الموت هو الذي وصفه الإمام بالموت العزيز، لأن فيه الخلود الدائم والحياة الأبدية، ومن هنا نجد الإمام يختار هذا الموت ويفضله على الحياة الذليلة، لأن الحياة بذلٍّ هي الموت الذي لا حياة بعده، ويمكن أن نلمح ظلالاً من الدلالة توحي بعزم الإمام الحسين على القتال وملاقاة القوم بمن معه لذا نجده يتساءل بأسلوب الاستفهام الإنكاري يقول للحر: «أبالموت تخوفني، هيهات، طاش سهمك وخاب ظنك، لست أخاف الموت».
إن تخصيص الاستفهام بالموت دون الفعل له دلالة عند الإمام، وبناء التركيب على هذه الصورة يدل على أن الإمام يريد التركيز على هذه الحقيقة «الموت» دون غيرها، لذا جعل الاستفهام مسلطاً عليها ليؤكد للمخاطب أنه على خطأ كبير حين يظن أن الإمام يتردد في اقتحام الموت أو يهابه ولذا نجده يستعمل اسم الفعل «هيهات» ليفيد مما فيه من دلالته على البعد لما يعتقده المخاطب، لذا نجده يصف المخاطب بقوله: «طاش سهمك وخاب ظنك» وهو تعبير يوحي ببعد ما يقوله المخاطب عن الصواب، ومن أجل أن يؤكد الإمام هذه الحقيقة للسامعين استعمل طائفة من التراكيب التي تزدحم بالمؤكدات يقول: «إن نفسي لأكبر وهمتي لأعلى من أن أحمل الضيم خوفاً من الموت».
لقد وصف الإمام نفسه وهمته مستعملاً اسمي التفضيل «أكبر وأعلى» وفيهما دلالة على التعظيم والتفضيل وحذف المفضل عليه ليكون الكلام متسعاً يشمل كل شيء، وفضلاً عن ذلك فقد استعمل الإمام مؤكدين في الجملة هما «إن واللام» ليعطي التركيب نوعاً من القوة في العزم من خلال هذا الأسلوب المؤكد، وبعد هذا التصميم على لقاء الموت يقرر الإمام الحقيقة النهائية التي يبين فيها أن هؤلاء القوم إن تمكنوا من قتله جسدياً فإنهم لا يمكن أن يقتلوا مجده وعزه وشرفه بين المسلمين، وانه إنْ مات جسده في سبيل الله ستظل روحه حية بين أبناء الامة الإسلامية وسوف يبقى خالداً في ذاكرة التاريخ، وعلى هذا فهو لا يخشى الموت ولا يهاب لقاءه ما دام في هذا الموت حياة دائمة وعزٌ لا يدانى، وهذا هو الواقع الذي انتهت إليه معركة الطف في كربلاء فقد استطاع الظالمون وأعداء الحسين قتله، وحققوا النصر المادي وكسبوا المعركة على الأرض، أما الحسين فقد انتصر معنوياً وظل خالداً مدى الدهر وزاد عزه ومجده، تقدسه الملايين وتحج إليه قوافل الناس من كل فج عميق، وذهب أعداؤه جميعاً، وما زالت تلاحقهم لعنة الله والتاريخ والناس.
وبعد هذا الحوار مع الحر يواصل الإمام مسيره والحر يسايره حتى يصل إلى منطقة البيضة وفيها يجمع الإمام أصحابه وأصحاب الحر ويلقي فيهم خطاباً يكشف فيه الحقائق والتفاصيل.
4. خطاب الإمام في منطقة البيضة
في منطقة البيضة جمع الإمام أصحابه وأصحاب الحر ثم خطب فيهم قائلاً: «أيها الناس ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله)، الا وان هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق من غيري قد أتتني كتبكم وقدمت علي رسلكم ببيعتكم انكم لا تسلموني ولا تخذلوني فان تممتم علي بيعتكم تصيبوا رشدكم فانا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم فلكم في اسوة، وان لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم فلعمري ما هي لكم بنكر لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم، والمغرور من اغتر بكم فحظكم اخطأتم ونصيبكم ضيعتم، ومن نكث فانما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته»[4].
لقد وضع الإمام في هذا الخطاب النقاط على الحروف وكشف عن كل الحقائق أمام هؤلاء القوم الذين يسايرونه مبيناً لهم اسباب ثورته بأنها؛ «الظلم والاضطهاد والتجويع وتحريف الدين وتعطيل العمل بكتاب الله وسنة نبيه، واختلاس أموال الأُمة»[5].
ويبدو مما تقدم أن الإمام بنى خطابه بلغة عالية مستفيداً من المقابلات اللغوية بين الألفاظ مما أكسب الخطاب إيقاعاً موسيقياً له تاثير كبير في المتلقي وهو يشبه الاثر الموسيقي الذي تتركه القوافي في منظوم الكلام، يقول أحد الباحثين:
«يتجلى في الخطاب نهاية منظمة ذات صيغة إيقاعية موحية تجذب النفوس إليها وتشغل الأذهان تتمثل فيما يسمى في الشعر بحرف الروي ويمثله في النص النثري هذا الكاف والميم في (كتبكم، رسلكم، بيعتكم، أنفسكم، أهليكم)، وحرف الياء في (تسلموني، تخذلوني) فهي أشبه بالقافية»[6].
ويمكن أن نلاحظ أن بنية الخطاب قد اتخذت ترتيباً تصاعدياً في دلالاتها واعتمدت الأسلوب الخبري في أغلب تراكيبها، لأن هدف الإمام من هذا الخطاب هو كشف الحقائق أمام هؤلاء القوم.
بدأ الإمام خطابه بأسلوب النداء المعروف في مثل هذه المواقف، لكي يلفت انتباه الناس إليه ثم نقل بعد النداء مباشرة حديثاً عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه أمر وتكليف بالوقوف في وجه السلطان الجائر بأية وسيلة ممكنة سواء أكان بالقول أم بالفعل، لأن ما يفعله هذا السلطان هو منكر ومن واجب المسلمين جميعاً الوقوف ضده، وقد جعل ذلك تكليفاً شرعياً ومن يسكت عن ظلم السلطان الجائر ولا يغير عليه بقول أو فعل فانه يتحمل مسؤولية ذلك السكوت أمام الله سبحانه وتعالى، ويبدو أن غرض الإمام من الاحتجاج بهذا الحديث هو تسويغ ثورته وخروجه على حكم يزيد بن معاوية، لأن هذا الخروج يعد امتثالاًَ لأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنه يعد واجب التنفيذ والأخذ به تكليف شرعي بحكم ما ورد في القرآن الكريم من أوامر بإطاعة الله وإطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ذلك أنهم يعيشون في ظل حكم سلطان جائر يظلم الناس ويحكم بغير ما أنزل الله ويغتصب الحقوق ويحل حرام الله ويحلل حرامه، ويقتل النفس المحرمة، وفي كل هذا خروج على سنة الله وسنة الرسول، ومن الواجب عليهم أن يعلنوا ثورتهم ضد هذا الحاكم الظالم، وينصروا أهل الحق وهم أهل بيت النبي ويمثلهم الإمام الحسين نفسه.
وبعد أن بيّن الإمام الحسين الواجب الشرعي المطلوب من هؤلاء القوم دعاهم إلى الالتزام بما امر به الرسول بالوقوف بوجه السلطان الجائر وضح لهم صفات الحكام الجائرين الذين تقتضي سنة الله ورسوله خلع طاعتهم والثورة ضدهم في عدد من المتقابلات اللغوية، «لزموا طاعة الشـيطان وتركوا طاعة الرحمن، أظهروا الفساد وعطلوا الحدود، أحلوا حرام الله وحرموا حلاله»، لقد أوضحت هذه التقابلات الدلالية بين «تركوا ولزموا، أحلوا وحرموا، حرام وحلال» القيم التي تبنى عليها قيم المجتمع الاسلامي، وتبين اهم الاسس التي يجب ان يبنى عليها المجتمع الاسلامي وتتمثل فيما ياتي[7]:
1. رفض الانصياع للحاكم الجائر والسلطان الظالم والوقوف بوجه الظلم بأي وسيلة ممكنة.
2. رفض السكوت على الباطل، لأنه يمثل انحرافاً في بناء المجتمع وضياع الحقوق وانتشار الفساد.
3. مقاومة الظالمين بالفعل إنْ كان ممكناً، وبالقول في حال قصر اليد عن مطاولته لقوته وشدة بطشه، لأن كل ذلك يدخل في باب المنكر، وقد دعا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مقاومة هذا النوع من الانحراف بقوله: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإنْ لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان»[8].
وبعد أن حدد الإمام للمخاطبين ما يفرضه عليهم الواجب الشرعي والديني من موقف تجاه الواقع الظالم الذي يعيشون فيه، وما يفرضه عليهم الحكام الجائرون، بين لهم أنه الحسين بن علي بن أبي طالب وأُمه فاطمة الزهراء بنت رسول الله وهو أحق أن يتبع، لأن أهل بيت النبوة هم أولى الناس بقيادة الأمة الإسلامية، ولكي يبدد الإمام الخوف من سطوة السلطان الجائر من نفوس القوم بيّن لهم أنّ نفسه مع نفوسهم وأهله مع أهلهم ولهم فيه أسوة حسنة، وقد استعمل الإمام التراكيب الاسمية للدلالة على ثبات هذا الأمر في نفس الإمام فهو معهم في السراء والضراء، ثم ذكّرهم الإمام بما عقدوه له من بيعة في أعناقهم وما حملته إليه كتبهم ورسلهم من عهود ومواثيق على هذه البيعة وطلبهم منه القدوم إلى هذا البلد، وفي نهاية هذا الخطاب لجأ الإمام إلى استعمال اسلوب الشرط ليقف من خلاله على ما ينوي القوم فعله وما يمكن أن يتخذه من قرار يقول: «فإن تممتم بيعتي تصيبوا رشدكم... وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم فلعمري ما هي بنكر...».
لقد حدد الإمام من خلال التركيبين الشرطيين لهؤلاء القوم انه سيدخل بلدهم أن أتموا بيعتهم وصدقوا في عهودهم، وإن كانت الأخرى ونقضوا ما عاهدوا عليه فلا يستغرب الإمام هذا الموقف منهم ابداً فقد غدروا قبله بأبيه وأخيه وابن عمه مسلم بن عقيل، فلا غرابة أن يغدروا به وينقضوا ما عاهدوه عليه في كتبهم ورسائلهم.
لقد قال الإمام في هذا الخطاب ما أراد قوله، ووضع النقاط على الحروف لكي لا يبقى عذر لمعتذر ولا حجة لهم عليه. ذكّرهم بأنهم في موقفهم هذا هم الخاسرون في الدنيا والآخرة والمغرور من أغتر بهم فقد أخطأوا حظهم وأضاعوا نصيبهم وسوف يغنيه الله عنهم، وقد استعمل الإمام أسلوب التقديم والتأخير للتركيز على خسرانهم الدنيا والآخرة فقد قدم المفعول به على الفعل والفاعل يقول: «فحظكم أخطأتم ونصيبكم ضيعتم» والهدف من هذا التقديم هو الاهتمام والعناية بما قدم، لأن خسرانه يعني الخسران المبين، وقد ختم الإمام خطابه بآية من آيات القرآن الكريم لها دلالة واضحة عند السامعين هي أن من يرتد وينكث ما عاهد عليه ويتخلى عن نصرة إمامه إنما يرتد على نفسه وهو في الآخرة من الخاسرين، وسوف يغنيه الله عنهم.
لقد كان هذا الخطاب حداً فاصلاً بين الحق والباطل وفيه بيان واضح للحق وأهله والباطل وأهله ونصيب كل منهم في الدنيا والآخرة.
وتستمر مسيرة الإمام الحسين والقوم يسايرونه ويصل الإمام إلى مكان يقال له «عذيب الهجانات» وفيه يلتقي بالطرماح بن عدي ومعه رجال، ويخبرونه بمقتل رسوله إلى أهل الكوفة قيس بن مسهر الصيداوي الذي قبض عليه الحصين بن نمير وسلمه إلى عبيد الله بن زياد ليضرب عنقه، وحين سألهم عن حال الناس أخبروه عن الاستعدادات الكبيرة وتجهيز الجيوش لقتاله، ويسترجع الإمام كثيراً ويترحم على شهداء المسيرة الحسينية، ثم يواصل مسيره فيجتاز الركب منطقة تسمى أقساس مالك ثم الرهيمة، ويصل إلى قصر بني مقاتل ويلتقي هناك بعبيد الله بن الحر الجعفي وهو من فرسان العرب ويدعوه الإمام الحسين إلى نصرته فلم يستجب لدعوة الإمام وعرض عليه أن يعطيه فرسه وهي من الجياد فيقول له الإمام: «اذا بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا بفرسك».
وقد ندم هذا الرجل بعد مقتل الإمام الحسين على ما فعله بنفسه، وقد عبر عن ذلك بأبيات من الشعر منها.
فيالك حسرة ما دمت حياً *** تردد بين صدري والتراقي
حسين حين يطلب نصر مثلي *** على أهل العداوة والشقاق
ويستمر الإمام في مسيره من قصر بني مقاتل والحر يسايره حتى يصل إلى أرض كربلاء ويصل الأمر إلى الحر وأصحابه بأن يحبس الحسين في المكان الذي هو فيه، وتكون أرض كربلاء نهاية مسير الإمام فقد أمر أصحابه بالنزول في هذه الأرض بعد أن سأل عن اسمها وعرف أنها الأرض التي وعده جده بها.
لقد مثل خطاب الإمام الحسين في مرحلته الثانية جانباً من جوانب الاحتجاج عند الإمام الحسين على هؤلاء القوم وتضمن إشارات واضحة إلى تذكير القوم بما عقدوه من عهود في كتبهم التي أرسلوها إليه ودعوه فيها إلى القدوم إلى بلدهم.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] تاريخ الطبري 5 / 40.
[2] تاريخ الطبري 5 / 402.
[3] اعيان الشيعة 1 / 581.
[4] الكامل في التاريخ 3 / 280، مقتل الإمام الحسين، الخوارزمي 1 / 335.
[5] ثورة الإمام الحسين ظروفها الاجتماعية وآثارها الانسانية / 141.
[6] التصوير الفني في خطب المسيرة الحسينية / 101.
[7] ينظر التصوير الفني في خطب المسيرة الحسينية / 131.
[8] مسند احمد 2 / 165.
إرسال تعليق