في الغرور وأسبابه والفرق بين غرور أهل الدنيا وأهل الدين

بقلم: السيد عبد الله شبر، تحقيق شعبة التحقيق في قسم الشؤون الفكرية

الفصل الأول: في حقيقته وذمه


إعلم أن مفتاح السعادة التيقظ والفطنة، ومنبع الشقاوة الغرور والغفلة، والغرور هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان، فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور[1]، قال الله تعالى:((لا[2] تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ))[3]، وقال تعالى:((وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَْمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ))[4].

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون سهر الحمقى واجتهادهم، ولمثقال ذرة من صاحب تقوى ويقين أفضل من ملء الأرض من المغترين.

وكل ما ورد في فضل العلم وذم الجهل فهو دليل ذم الغرور، لأن الغرور[5] نوع من الجهل، والذين غرتهم الحياة الدنيا بعض الكفار والعصاة الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة قائلين: إن الدنيا نقد والآخرة نسيئة[6] والنقد خير من النسيئة، ولذات الدنيا يقين والآخرة شك واليقين خير من الشك.

وهذا عين الجهل، لأن الدنيا لو كانت ذهباً فانياً والآخرة خزفاً باقياً لكان الخزف الباقي خيراً من الذهب الفاني، فكيف والدنيا خزف فانٍ والآخرة ذهب باقٍ، كما قال تعالى:((ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ))[7] وقال تعالى: ((وَللآْخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى))[8] وقال تعالى: ((وَما الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ الْغُرُورِ))[9].

وكون النقد خيراً من النسيئة مطلقاً ممنوع، فإن النسيئة العظيمة الكثيرة خير من النقد القليل الحقير، وفعل هذا المغرور حجة عليه، فإنه يعطي خمسة دراهم نقداً ليأخذ عشرة نسيئة، ويترك لذائذ الأطعمة بتحذير الطبيب نقداً خوفاً من ألم المرض النسيئة، ويتحمل المشاق والأسفار وقطع البحار نقداً لتوهم النفع نسيئة، وكذا التاجر في سعيه وتصديعه[10] على يقين وفي ربحه على شك، وكذا المتفقه في اجتهاده شك وفي تعبه يقين، والمريض من مرارة الدواء على يقين ومن الشفاء على شك، فكون اليقين خيراً من الشك مطلقاً ممنوع، بل إذا كان مثله فالذي له شك في الآخرة يجب عليه بحكم الحزم أن يقول: الصبر أياماً قلائل في هذا العمر القصير قليل بالإضافة إلى ما يقال من أمر الآخرة، فإن كان ما يقال في الآخرة كذباً فما فاتني إلا نعم حقيرة فانية، وإن كان صدقاً خلدت في النار أبد الآبدين وهذا لا يطاق.

هذا كله مع قطع النظر عن كون الآخرة يقيناً يحكم بها العقل السليم والفهم المستقيم، وأخبر بها الأنبياء والمرسلون والأولياء والصالحون.

وأما الغرور بالله فمثل قول بعضهم: فإن كان لله معاد فنحن أحق به من غيرنا وأوفر حظاً وأسعد حالاً، كما أخبر الله تعالى من قول الرجلين المتحاورين. إذ قال: ((وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لأََجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً))[11].

وذلك لأنهم تارة ينظرون إلى نعم الله عليهم في الدنيا فيقيسون عليها نعم الآخرة، وينظرون إلى تأخير الله العذاب عنهم، فيقيسون عليه عذاب الآخرة، كما قال تعالى: ((وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ))[12].

وينظرون تارة إلى المؤمنين وهم فقراء شعث غبر، فيقولون: ((أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا))[13] ويقولون: ((لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ))[14]، ويقولون: قد أحسن الله إلينا بنعيم الدنيا، وكل محسن محب، والمحب يحسن في المستقبل أيضاً، ولم يعلموا أن نعيم الدنيا ولذاتها والاستدراج فيها يدل على الهوان، وأن هذه اللذات سموم قاتلات، وأن الله يحمي المؤمن من الدنيا كما يحمي الطبيب المريض عن الطعام.

ولو كانت الدنيا لها قدر عند الله لما سقى الكافر منها شربة ماء، وقال تعالى: ((أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ))[15] وقال تعالى:((سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ))[16] وقال تعالى:((فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَتّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ))[17].

ومنشأ هذا الغرور الجهل بالله وصفاته، فإن من عرفه لا يأمن مكره ولا يغير به بأمثال هذه الخيالات، وينظر إلى فرعون وقارون وإلى ملوك الأرض كيف أحسن الله إليهم ثم دمرهم تدميراً ((وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ))[18]، ((وَلا يَأْمَنُ[19] مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ)) [20].[21]

الفصل الثاني: في بيان فرق المغترين وجهات غرورهم


وهم كثيرون وجهات غرورهم مختلفة:

فمنهم: عصاة المؤمنين، يقولون إن الله كريم رحيم ونرجو رحمته وكرمه، وإن ((رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ))[22]، وأين معاصي العباد من رحمته، والرجاء مقام محمود. ووجه غرورهم ما يأتي إن شاء الله تعالى في الرجاء من أن هذا تمنٍ على الله وغرة به، فإن «من رجا شيئاً طلبه ومن خاف شيئاً[23]، هرب منه»[24]، وكما أن الذي يرجو ولداً ولم يتزوج أو تزوج ولم يجامع أو جامع ولم ينزل فهو أحمق، فكذا من رجا رحمة ربه ولم يعمل الصالحات ولم يترك السيئات، وقد قال تعالى: ((إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ))[25] وقال تعالى:((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ))[26] يعني أن الرجاء إنما يليق بمثلهم[27].

ومنهم: العلوية والهاشمية، حيث اغتروا بالنسب وصلاح الآباء وعلو رتبتهم، وغفلوا عن كونهم مخالفين سيرة آبائهم في التقوى والورع، وأنهم ليسوا بأكرم على الله من آبائهم، وآباؤهم مع غاية التقوى والورع كانوا خائفين باكين[28]، وهم مع غاية المعاصي والمساوئ قد أصبحوا راجين آمنين[29]. وربما سول الشيطان لهم أن إنساناً إذا أحب أحداً أحب أولاده تبعاً، وأن الله يحب آباءكم فهو يحبكم تبعاً، فلا يحتاج في بذل الجهد في الطاعات وترك المعاصي. وغفلوا عن أنه ليس بين الله وبين أحد قرابة، وأن الله إنما يحب المطيع ويبغض العاصي، وقد قال نوح: رب إن ابني من أهلي فقال تعالى: ((إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ))[30] وإن إبراهيم استغفر لأبيه فلم ينفعه ذلك[31].
ومن ظن أنه ينجو بتقوى أبيه فهو كمن ظن أنه يشبع بأكل أبيه ويروى بشرب أبيه ويصير عالماً بعلم أبيه، ويصل إلى الكعبة ويراها بمسعى أبيه.

فصل: في غرور أهل العلم



وهم فرق: فمنهم من أحكم العلوم العقلية والشرعية وتعمق فيها وغفل عن تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصي وإلزامها الطاعات، وغفل عن أن العلم إذا لم يعمل به كان وزراً ووبالاً ولم يزدد من الله إلا بعداً، و«أن العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل»[32]، وأن «أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه[33]»[34].

ومنهم: من أحكم العلم والعمل وواظب على الطاعات وترك المعاصي الظاهرة من الجوارح وأهمل تفقد الرئيس ليمحو عنه المعاصي المهلكة والسموم القاتلة التي تفوت حياة الأبد، كالحسد والرياء والحقد والكبر والعجب وحب الجاه ونحوها، وربما لم يعرف حقائق هذه الأمور وأقسامها فضلاً عن علاجها ومعالجتها، وقد أكب على الفضول وترك الفرض، وهو لم يتصف بحقيقة الإنسانية، ويظن أنه قد بلغ من العلم مبلغاً لا يعذب الله مثله، بل يقبل في الخلق شفاعته وأنه لا يطالبه بذنوبه لكرامته عند الله.

ومنهم: من علموا هذه الأخلاق الباطنة وعلموا آفاتها وكيفياتها إلا أنهم للعجب بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عن الأخلاق المذمومة، وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بها وإنما يبتلي بها العوام، ثم إذا ظهر على أحدهم مخائل الكبر والرئاسة وطلب العلو والشرف قال: ما هذا كبر وإنما هذا طلب عز الدين وإظهار شرف العلم ونصرة دين الله وإرغام أنف المخالفين. ومهما انطلق اللسان بالحسد في أقرانه وفي من رد عليه شيئاً من كلامه لم يظن بنفسه أن ذلك حسداً، ولكن قال: إنما هذا غضب للحق ورد على المبطل في عداوته وظلمه.

ثم لو طعن عليه غيره من أهل العلم لم يكن غضبه مثل غضبه الآن بل ربما يفرح به، وإذا خطر له خاطر الرياء قال: هيهات إنما غرضي من إظهار العلم والعمل اقتداء الخلق بي ليهتدوا إلى دين الله ويتخلصوا من عقاب الله.

ولا يتأمل المغرور أنه ليس يفرح باقتداء الناس بغيره كما يفرح باقتدائهم به، فلو كان غرضه صلاح الخلق لفرح بصلاحهم على يد من كان.

وربما يتذكر هذا المعنى فلا يخليه الشيطان أيضاً، بل يقول: إنما ذاك لأنهم إذا اهتدوا بي كان الأجر والثواب لي، وإنما فرحي بثواب الله لا بقول الخلق.

هذا ما يظنه بنفسه والله مطلع على سريرته، وقد ((زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً))[35] وضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعاً[36].

ومنهم: قوم اقتصروا على علم الفتاوى والحكومات والخصومات وتفاصيل المعاملات الدنيوية الجارية بين الخلق لمصالح المعائش، وصرفوا أعمارهم في معرفة دقائق السلم والإجارة والظهار واللعان والجراحات الدعاوي والبينات والحيض والاستحاضة، وضيعوا الأعمال المظاهرة والباطنة، ولم يتفقدوا الجوارح ولم يحرصوا اللسان عن الغيبة ولا البطن عن الحرام ولا الرجل عن المشي إلى السلاطين، ولم يعالجوا أمراض قلوبهم بالكبر والرياء والحقد والعجب والحسد وسائر المهلكات مما هو من الواجبات العينية، واشتغل بفرض الكفاية والاشتغال بالكفائي[37] قبل الفراغ من العيني[38] معصية.

ومثالهم مثال من به علة البواسير[39] والسرسام[40]، وهو مشرف على الهلاك محتاج إلى تعلم الدواء واستعماله، فاشتغل بتعليم دواء الاستحاضة وبتكرار ذلك ليلاً ونهاراً مع علمه بأنه رجل لا يحيض ولا يستحيض، ولكن يقول: ربما وقعت الاستحاضة أو الحيض لامرأة تسألني. وذلك غاية الغرور. وكذلك المتفقه المسكين الذي تسلط عليه حب الدنيا واتباع الشهوات والحسد والكبر والرياء وسائر المهلكات الباطنة، وربما يختطفه الموت قبل التوبة والتلافي فيلقى الله وهو عليه غضبان[41].

ومنهم: من اشتغل بعلم الكلام والمجادلة في الأهواء والرد على المخالفين وتتبع مناقضاتهم، واعتقدوا أنه لا يكون للعبد عمل إلا بالإيمان ولا يصلح الإيمان إلا بأن يتعلم جدلهم وما يسمونه أدلة عقائدهم، وظنوا أنه لا أحد أعرف بالله وصفاته منهم، وأنه لا إيمان لمن لا يعتقد مذهبهم ولم يتعلم علمهم، ودعا كل فرقة منهم إلى نفسه، وهم فرق كثيرة يكفّر بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً، فيهم الأشاعرة[42] والمعتزلة[43] والخوارج[44] والنواصب[45]، وهؤلاء مغرورون.

أما الفرقة الضالة منهم فلغفلتها عن ضلالها وظنها بنفسها النجاة، وأما الفرقة المحقة فإنما اغترارها من حيث إنها ظنت أن الجدل أهم الأمور وأفضل القربات، وقد ورد في الحديث النبوي: «ما ضل قوم قط بعد هدى إلا أوتوا الجدل وحرموا العمل»[46].

ومنهم: من اشتغل بالوعظ، وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس وصفات القلب من الخوف والرجاء والصبر والشكر والتوكل والزهد واليقين والإخلاص والصدق ونظائرها، ويظن بنفسه أنه إذا تكلم بهذه الصفات ودعا الخلق إليها صار موصوفاً بها، وهو منفك عنها عند الله إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين، والأكياس يمتحنون أنفسهم في هذه الصفات ويطالبونها بالحقيقة، ولا يقنعون منها بالتزويق.

ومنهم: من قنع بحفظ كلام الزهاد وأحاديثهم، فهو حافظ للكلمات جاهل بالمعاني غير متصف بما يقول.

ومنهم: من استغرق أوقاته في علم الحديث[47] وسماعه وطلب الأسانيد الغريبة العالية، وغفل عن التدبر في دقائق معانيه.

ومنهم: من لم يغفل عن ذلك إلا أنه غفل عما هو أهم منه كما تقدم.

ومنهم: من اشتغل بعلم النحو[48] واللغة[49] والشعر[50] وغريب اللغة[51]، زاعماً أنه من علماء الأمة المغفور لهم، إذ قوام الدين بالكتاب والسنة وقوام الكتاب والسنة بعلم اللغة والنحو، فأفنى هؤلاء أعمارهم في دقائق العربية وغريب اللغة، ومثالهم كمن يفني عمره في تعلم الخط وتصحيح الحروف وتحسينها ويزعم أن العلوم لا يمكن حفظها إلا بالكتابة فلابد من تعلمها، ولو عقل لعلم أنه يكفيه أصل الخط بحيث يمكن أن يقرأ كيفما كان والباقي زائد على الكفاية. بل مثالهم مثال من ضيع العمر في تصحيح مخارج الحروف في القرآن واقتصر عليه، وهو غرور إذ المقصود من الحروف المعاني[52].

فصل: في غرور أرباب العبادة والعمل


فمنهم: فرقة أهملوا الفرائض واشتغلوا بالفضائل والنوافل، وربما تعمقوا بالفضائل حتى خرجوا إلى العدوان والسرف، كالذي يغلب عليه الوسوسة[53] في الوضوء فيبالغ فيه ولا يرتضي الماء المحكوم بطهارته في فتوى الشرع، ويقدر الاحتمالات البعيدة في النجاسة قريبة، وإذا آل الأمر إلى أكل الحلال قدر الاحتمالات القريبة بعيدة، وقد يطول الأمر في وسواسه في الوضوء والتطهير حتى تضيع الصلاة ويخرجها عن وقتها.


ومنهم: من غلب عليه الوسوسة في نية الصلاة، فتفوته الجماعة ويخرج الوقت، وإن كبر ففي قلبه تردد في صحّة نيته، ويفوته الحضور والخضوع والخشوع.

ومنهم: من يغلب عليه الوسوسة في إخراج الحروف فلا يزال يعالجها حتى يذهل عن معاني القرآن.

ومنهم: من اغتر بقراءة القرآن فيهذُّه هذّاً[54]، وربما يختم في اليوم والليلة مرة ولسانه يجري به وقلبه يتردد في أودية الأماني، والله تعالى يقول: ((لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ))[55] وقلبه لا يخشى، ولو قرأ قليلاً مع تدبر وتفكر وآداب لكان خيراً من الكثير بدونه.

ومنهم: من اغتر بالمواظبة على الصوم، وعنى نفسه بالجوع والعطش ولم يحفظ لسانه من الغيبة وقلبه من الصفات الخبيثة، فقد أهمل الفرض وطلب النفل[56].

ومنهم: من اغتر بالحج وزيارات المشاهد، فيخرج إلى الحج والزيارة من غير خروج عن المظالم وقضاء الديون وطلب الزاد الحلال، ويضيع في الطريق الصلاة، ويعجز عن طهارة الثوب والبدن.

ومنهم: من يتقلد إمامة مسجد أو أذانه ويظن أنه على خير، ولو أمَّ غيره أو أذَّن في وقت غيبته قامت عليه القيامة ولو كان أورع منه وأعلم.

ومنهم: من يأمر الناس بالمعروف وينهى عن المنكر وينسى نفسه، وإذا أمر عنف وطلب الرئاسة والعز، وإذا ردّ عليه إذا باشر منكراً غضب وقال: أنا المحتسب فكيف ينكر علي، وإنما غرضه الرئاسة.

ومنهم: من جاور في الحرمين أو المشاهد واغتر بذلك ولم يطهر ظاهره وباطنه من الآثام والخبائث، ولم يزل قلبه وعيناه ممتدة إلى أوساخ أموال الناس، وغفل عن أن مجاورته لحب الحمد، ولو لم يعلم أحد بمجاورته لما هانت عليه المجاورة.

ومنهم: من تزهد في المأكل والملبس والمسكن وظن أنه من الزاهدين في الدنيا، والله يعلم منه الرغبة في الرئاسة والجاه والمنزلة في قلوب الناس الذي هو أعظم لذات الدنيا.

ومنهم: من يحرص على التغافل لصلاة الليل وسائر الرواتب ولا يجد للفريضة لذة ولا يشتد حرصه على المبادرة إليها في أول الوقت.

ومنهم: من أشار إليهم بعض العارفين: قوم تسموا بأهل الذكر والتصوف[57] والمسمون يدعون البراءة من التصنع والتكلف، يلبسون خرقاً ويجلسون حلقاً، يخترعون الأذكار ويتغنون بالأشعار ويعلنون  بالتهليل وليس لهم إلى العلم والمعرفة سبيل، ابتدعوا شهيقاً ونهيقاً[58] واخترعوا رقصاً وتصفيقاً، قد خاضوا الفتن وأخذوا بالبدع دون السنن، رفعوا أصواتهم بالنداء وصاحوا الصيحة الشنعاء.

ومنهم: من يدعي علم المعرفة ومشاهدة المعبود ومجاورة المقام المحمود والملازمة في عين الشهود، ولا يعرف من هذه الأمور إلا الأسماء، ولكنه تلقف من الطامات كلمات يرددها لدى الأغبياء كأنه يتكلم عن الوحي أو يخبر عن السماء، ينظر إلى اصناف العباد والعلماء بعين الازدراء يقول في العباد إنهم أجراء متعبون وفي العلماء إنهم بالحديث عن الله لمحجوبون، ويدعي لنفسه من الكرامات ما لا يدعيه ملك مقرب، لا علماً أحكم ولا عملاً هذَّب، يأتي إليه الجمع الرعاع الهمج من كل فج أكثر من إتيانهم مكة للحج، يزدحم إليه الجمع ويلقون إليه السمع، وربما يخرون له سجوداً كأنهم اتخذوا معبوداً، يقبلون يديه ويتهافتون على قدميه، يأذن لهم في الشهوات ويرخص لهم في الشبهات، يأكل ويأكلون كما تأكل الأنعام ولا يبالون من حلال أصابوا أم من حرام، وهو لحلوائهم هاضم ولدينه وأديانهم حاطم، ((لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ)) [59].[60]

فصل: في غرور أرباب الأموال


فمنهم: من يحرص على بناء المساجد والمدارس والرباطات والقناطر وما يظهر للناس كافة ويكتبون أسماءهم بالآجر عليها ليتخلد ذكرهم ويبقى بعد الموت أثرهم، ويظنون أنهم قد استحقوا المغفرة وهم مغرورون لوجهين:

أحدهما: إنهم اكتسبوها من الشبهات إن خلصوا من الحرام.

والثاني: إن الرياء قد غلب عليهم، إذ لو كلف أحدهم أن ينفق ديناراً ولا يكتب اسمه على الموضع أو لا يعرف لم تسمح نفسه بذلك والله مطلع عليه كتب اسمه أو لم يكتب، فلولا أنه يريد وجه الناس لا وجه الله لما افتقر إلى ذلك، وربما يكون في جوار أحدهم أو في بلده فقير وصرف المال إليه أهم من الصرف إلى المساجد وزينتها.

ومنهم: من ينفق الأموال في الصدقات وعلى الفقراء والمساكين ولكن يطلب به المحافل الجامعة ومن الفقراء من عادته الشكر والإفشاء للمعروف، ويكرهون التصدق في السر أو صرفه إلى غير أولئك أو إلى غير أصدقائهم والمترددين إليهم مع كونهم أهم. وبعضهم يرى إخفاء الفقير لما أخذ منه جناية عظيمة وكفراناً.

ومنهم: من يحرص على إنفاق ماله في الحج والزيارات، وربما  يتركون أرحامهم وجيرانهم جائعين.

ومنهم: من يحفظ ماله ويمسكه بحكم البخل ثم يشتغل بالعبادات البدنية التي لا يحتاج فيها إلى نفقة كصيام النهار وقيام الليل وختم القرآن وهو يظن أنه على خير لأن البخل المهلك قد استولى على باطنه، وهم أحوج إلى قمعه بإخراج المال من طلب الفضائل. ومثالهم مثال من دخل في ثوبه حية وقد أشرف على الهلاك وهو مشغول بصنع المبردات ليسكن به الصفراء.

ومنهم: من غلب عليه البخل، فلا تسمح نفسه إلا بأداء الزكاة فقط ثم يخرجها من المال الخبيث الرديء الذي يرغب عنه، ويخص بها من الفقراء من يخدمه ويتردد في حوائجه ويظن أنه أداها لله[61].

وأصناف الغرور لا تحصى فليتحذر منها. وفي مصباح الشريعة قال الصادق عليه السلام: المغرور في الدنيا مسكين وفي الآخرة مغبون، لأنه باع الأفضل بالأدنى.

ولا تعجب من نفسك حيث ربما اغتررت بمالك وصحة جسمك لعلك تبقى وربما اغتررت بطول عمرك وأولادك وأصحابك لعلك تنجو بهم، وربما اغتررت بحالك ومنيتك وإصابتك مأمولك وهواك وظننت أنك صادق ومصيب، وربما اغتررت بما تري الخلق من الندم على تقصيرك في العبادة ولعل الله يعلم من قلبك بخلاف ذلك، وربما أقمت نفسك على العبادة متكلفاً والله يريد الإخلاص، وربما افتخرت بعلمك ونسبك وأنت غافل عن مضمرات ما في علم الله، وربما توهمت أنك تدعو الله وأنت تدعو سواه، وربما حسبت أنك ناصح للخلق وأنت تريدهم لنفسك أن يميلوا إليك، وربما ذممت نفسك وأنت تمدحها في الحقيقة.

واعلم أنك لن تخرج من ظلمات الغرور والتمني إلا بصدق الإنابة إلى الله والإخبات له ومعرفة عيوب أحوالك من حيث لا يوافق العقل والعلم ولا يحتمله الدين والشريعة وسنن القدوة وأئمة الهدى، وإن كنت راضياًَ بما أنت فيه فما أحد أشقى بعلمك منك وأضيع عمراً، فأورثت حسرة يوم القيامة[62].

ـــــــــــــــــــــ
[1] ((وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللّهِ الْغَرُورُ)) سورة لقمان/ 33. الغرور، بالفتح: الشيطان، وكل من غر فهو غرور، وسمي  الشيطان غرورا لأنه يحمل الإنسان على محابه ووراء ذلك ما يسوؤه. قال ابن السكيت: والغرور أيضا: ما رأيت له ظاهرا تحبه وفيه باطن مكروه ومجهول. والغرور بضم المعجمة: الباطل، مصدر غررت وما اغتر به من متاع الدنيا.
مجمع البحرين، الشيخ الطريحي: 3 / 301، مادة "غرر".
[2] في النص القرآني: "فلا".
[3] سورة لقمان/ 33.
[4] سورة الحديد/ 14.
[5] إحياء علوم الدين،الغزالي:3/335،كتاب ذم الغرور،بيان ذم الغرور وحقيقته وأمثلته.
[6] النسيئة: التأخير.
لسان العرب، ابن منظور: 1/ 147، مادة "كلأ ".
[7] سورة النحل/ 96.
[8] سورة الأعلى/ 17. ونصها: "والآخرة خير وأبقى".
[9] سورة آل عمران/ 185.
[10] الرجل يصدع بالحق: يتكلم به جهارا. صدعتهم فتصدعوا، أي: فرقتهم فتفرقوا.
كتاب العين، الفراهيدي: 1/ 291 ـ 292، مادة "صدع".
[11] سورة الكهف/ 36.
[12] سورة المجادلة/ 8.
[13] سورة الأنعام/ 53.
[14] سورة الأحقاف/ 11.
[15] سورة المؤمنون/ 55 ــ 56.
[16] سورة الأعراف/ 182.
[17] سورة الأنعام/ 44.
[18] سورة آل عمران/ 54.
[19] في النص القرآني: "فلا يأمن".
[20] سورة الأعراف/ 99.
[21] أنظر: المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني: 6/ 291 ــ 302، كتاب ذم الغرور، بيان ذم الغرور وحقيقته وأمثلته. جامع السعادات، النراقي: 3/ 6 ــ 12.  إحياء علوم الدين، الغزالي: 3/ 335 ــ 339، كتاب ذم الغرور، بيان ذم الغرور وحقيقته وأمثلته.
[22] سورة الأعراف/ 156.
[23] في الكافي: "من شيء" بدل "شيئا".
[24] الكافي، الكليني:2/68، كتاب الإيمان والكفر، باب الخوف والرجاء/ ذيل الحديث5.
[25] سورة الأعراف/ 56.
[26] سورة البقرة/ 218.
[27] مجموعة ورام، ورام بن أبي فراس: 1/215، بيان آفة العجب. وفيه النص: "يعني الرجاء الذي يليق بهم".
[28] في تفسير عليّ بن إبراهيم: حدّثني أبي، عن حنان بن سدير، عن أبيه، عن أبي جعفر عليه السلام: إن صفيّة بنت عبد المطّلب مات ابن لها. فأقبلت. فقال لها عمر: غطّي قرطك! فإنّ قرابتك من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تنفعك شيئا. فقالت له: هل رأيت لي قرطا يا بن اللّخناء!؟ ثمّ دخلت على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم). فأخبرته بذلك و بكت.  فخرج رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فنادى: الصّلاة جامعة! فاجتمع النّاس. فقال: ما بال أقوام يزعمون أنّ قرابتي لا تنفع!؟ لو قد قربت المقام المحمود، لشفعت في أحوجكم.
و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.
تفسير القمي، القمي: 1/ 188، تفسير سورة المائدة، أقسام الصوم.
وفي مجمع البيان: قال (صلى الله عليه وآله وسلم): كلّ حسب ونسب  منقطع، إلا حسبي ونسبي.
مجمع البيان، الطبرسي: 7/211، تفسير سورة المؤمنون.
ونشير ههنا بإيجاز أننا أوضحنا منابع المؤلف السيد عبد الله شبر (قدس سره) في كتابه هذا عن الفيض الكاشاني من مصنفاته، وهذا الأخير قد اعتمد بالأخذ عن الغزالي وقد حدث مزج وخلط بين عقائد المدرستين حين النسخ دون الإشارة إلى ذلك، فأوجزنا الإشارة لعدم الإطالة.
[29] إن هذا الكلام مخالف لعقائد الخاصة تماما حيث فيه الإشارة إلى أن آباء العلويين، أي: الأئمة عليهم السلام يصدر منهم الذنب، وهذا مناف للعصمة، لذا ننوه أن الكلام مأخوذ عن العامة فتأمل، والظن بعيد أن يكون رأي السيد المؤلف (قدس سره) أعلاه على ما هو عليه من الورع كما هو مذكور.
[30] سورة هود / 46.
[31] قال القمي: قال إبراهيم لأبيه إن لم تعبد الأصنام استغفرت لك فلما لم يدع الأصنام تبرأ منه إبراهيم. تفسير القمي، القمي: 1/ 306 ، مسجد ضرار.
[32] عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الأحسائي: 4 / 66 ــ 67، الجملة الثانية في الأحاديث المتعلقة بالعلم وأهله وحامليه/26.
[33] في المنية: "لم ينفعه علمه".
[34] منية المريد، الشهيد الثاني: 135، الباب الأول في آداب المعلم والمتعلم، القسم الأول آدابهما في أنفسهما، الأمر الأول.
[35] سورة فاطر/ 8.
[36] إشارة إلى قوله تعالى: ((الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)) سورة الكهف/ 104.
[37] الواجب الكفائي: الواجب الذي لو قام به البعض بحد الكفاية (أي: بالعدد الكافي) سقط عن الآخرين، كغسل الميت.
معجم ألفاظ الفقه الجعفري، د. أحمد فتح الله: 439.
[38] الواجب العيني: ما يكلف به أعيان المكلفين ولا يسقط بفعل بعضهم له عن الباقين، أي: هو الواجب على كل فرد مكلف، كالصلاة.
معجم ألفاظ الفقه الجعفري، د. أحمد فتح الله: 438.
[39] الباسور واحد البواسير: وهي كالدماميل في المقعدة.
مجمع البحرين، الشيخ الطريحي: 1/ 198، مادة "بسر".
[40] السرسام: حمى دائمة مع صداع وثقل في الرأس والعين وحمرة فيها شديدة وكراهية الضوء. مفاتيح العلوم، الخوارزمي: 1/ 96، الفصل الثاني في الأمراض والأدواء.
[41] قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من تزين للناس بما يحب الله و بارز الله في السر بما يكره الله لقي الله و هو عليه غضبان و له ماقت.
قرب الإسناد، الحميري: 45.
[42] الأشاعرة: أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، من أحفاد أبو موسى الأشعري. موسوعة الفرق والجماعات، د. عبد المنعم الحفني: 82/ الرقم59 الأشعرية.
[43] المعتزلة: مدرسة فكرية عقلية أعطت للعقل القسط الأوفر، ومؤسس المذهب هو واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري.
وللمعتزلة ألقابا: العدلية، الموحدة، أهل الحق، القدرية.
الملل والنحل، جعفر السبحاني: 92 ــ 93/ الرقم 11 المعتزلة.
[44] الخوارج: هم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)في صفين بعد قبول التحكيم، ويقال للخوارج: الحرورية أيضا، و النواصب، و الشراة.
موسوعة الفرق والجماعات، د.عبد المنعم الحفني: 348 ـ 349/ الرقم 374 الخوارج.
[45] النواصب: جمع ناصبي، وهو الغالي في بغض علي (عليه السلام).
موسوعة الفرق والجماعات، د.عبد المنعم الحفني: 349/ الرقم 374 الخوارج.
[46] أنظر: منية المريد، الشهيد الثاني: 171، الباب الأول في آداب المعلم والمتعلم، النوع الأول آداب اشتركا فيها، الثاني أن لا يسأل أحدا تعنتا وتعجيزا. المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني: 6/ 321، كتاب ذم الغرور.
[47] الخبرُ والحديثُ: بمعنى: هو كلامٌ يكون لِنسبَته خارجٌ في أحدِ  الأزمنةِ تُطابِقُه أولا.
وهو أعمُّ من أن يكون قولَ الرسولِ والإمام والصحابي والتابعي وغيرِهم. وفي معناه فعلُهم وتقريرُهم.
وقد يُخَصُّ الثاني بما جاء عن المعصومِ،والأوّلُ بما جاء عن غيرِه،أو يُجعل الثاني أعمَّ مطلقاً.
والأثرُ: أعمُّ مطلقاَ.
والمتنُ: لفظُ الحديثِ الذي يَتَقَوَّمُ بِه المعنى.
والسندُ: طريقُ المتنِ. وقيل: الإخبارُ عن طَرِيقه.
والإسنادُ: رَفعُ الحديثِ إلى قائِله. والأولى ردُّ المعنى الثاني إليه أيضاً.
ثمّ الخبرُ، مُنحصِرٌ في الصدقِ والكذبِ في الأصحِّ؛ لأنّه إن طابَقَ الواقعُ المحكيَّ فالأوّلُ، وإلاّ فالثاني، سواءٌ وافَقَ اعتقاَدَ المُخبِرِ أم لا، وسواء قصد الخبرَ أم لا.
ثمّ قد يُعلم صِدقُه قطعاً ضرورةً، كالمتواتر، وما عُلِمَ وجودُ مخبَرِه  كذلك. أو كَسْباً، كخبر الله تعالى، والرسولِ، والإمامِ، والأُمةِ، والمتواتِر معنى، والمحتفِّ بالقرائن، وما عُلِمَ وجودُ مُخبَرِه بالنظر. وقد يُعلم كذبُه كذلك بالمقايسةِ. وقد يحتمل الأمرين، كأكثرِ الأخبارِ.
وينقسم مطلقاً إلى متواترٍ، وهو ما بَلَغَتْ رُواتُه في الكثرةِ مَبْلَغاً أحالَت العادةُ تواطُؤهم على الَكذبِ، واستمرَّ ذلك في الطبقاتِ حيث تتعدّد، فيكون أوَّلُه كآخِره، ووسطُه كَطَرَفَيْه. ولا يَنْحَصِرُ ذلك في عددٍ خاصٍّ.
وشرطُ العِلم به انتفاؤه اضطراراً عن السامعِ، وأن لا تَسْبِقَ شُبهةٌ إلى السامعِ أو تقليدٌ ينافي موجبَ خَبَرِه، واستنادُ المُخْبِرين إلى إحساسٍ.
وهو مُتَحَقِّقٌ في أصولِ الشرائعِ كثيراً، وقليلٌ في الأحاديث الخاصّةِ  وإن تَواتر مدلولُها، حتى قيل: مَن سُئل عن إبرازِ مثال لذلك أعياه طلبُه. وحديثُ (إنّما الأعمالُ بالنيّاتِ) ليس منه وإن  نقله عددُ التواترِ وأكثرُ؛ لأنّ ذلك طَرَأ في وَسَطِ إسناده. وأكثرُ ما ادّعي تواترهُ من هذا القبيلِ.
نعم، حديثُ: «مَن كذب عليّ متعمّداً فَلْيَتَبَوّأ مقعدَه من النارِ» نَقَلَه مِن  الصَحابَة الجمُّ الغفيرُ. قيل: أربعون. وقيل: نَيِّفٌ وستّون، ولم يَزَل العددُ في ازديادٍ.
وآحاد،  وهو ما لم يَنْتَه إلى المتواترِ منه.
ثمّ هو مستفيضٌ إن زادتْ رُواتُه عن ثلاثةٍ،أو اثنين. ويقال له:المشهور أيضاً.وقد يُغايَر بينهما. وغريبٌ إن انفردَ به واحدٌ.
وغيرُهما، وهو ما عدا ذلك. فمنه العزيزُ، ومنه المقبولُ، والمردودُ، والمُشْتَبَهُ.
والأخبارُ مطلقاً غيرُ منحصرةٍ. ومَن بالغ في تتبُّعها وحَصَرَها في عددٍ فَبِحَسَبِ ما وَصَلَ إليه. واعلم أنّ متنَ الحديث نفسه لا مَدْخلَ له في الاعتبار إلاّ نادراً، بل يَكتَسِبُ صفةً من القوّةِ والضعفِ وغيرِهما بِحَسَبِ أوصافِ الرواةِ مِنَ العَدالَةِ وعَدَمِها، أو الإسنادِ، مِن الاتّصالِ والانقطاعِ والإرسالِ وغيرِها.
وتحريرُ البحث عن ذلك ينجرُّ إلى بيان أنواعه من الصحَّةِ وأضدادها، وإلى الجَرْحِ والتعديلِ. والنظرُ إلى كيفيّةِ أخذهِ، وطُرقَ تحمُّلِه والبحثِ عن أسماء الرواة وأنسابِهم، ونحوِ ذلك.
الرعاية لحال البداية في علم الدراية، الشهيد الثاني:28ـ29، المقدمة في بيان أصوله واصطلاحاته.
[48] علم النحو: علم بأصول تعرف بها أحوال أواخر الكلم الثلاث من حيث الإعراب والبناء وكيفية تركيب بعضها مع بعض.
الهداية في النحو، المركز العالمي للدراسات الإسلامية: 16، الدرس الأول.
[49] قال ابن سيده اللغة:اللسن وحدها أنها:(أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم) وقال غيره:هو الكلام المصطلح عليه بين كل قبيل، وهى فعلة من لغوت، أي: تكلمت أصلها لغوة ككرة وقلة وثبة لاماتها كلها واوات، وقال: الجوهر أصلها لغى أو لغو والهاء عوض زاد أبو البقاء ومصدره اللغو، وهو الطرح.  فالكلام لكثرة الحاجة إليه يرمى به وحذفت الواو تخفيفا (ج لغات) قال الجوهرى: وقال بعضهم: سمعت لغاتهم بفتح التاء وشبهها بالتاء التى يوقف عليها بالهاء انتهى. تاج العروس، الزبيدي: 10/ 328، مادة "اللغة".
[50] الشعر: كلام منظوم بان عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم بما خص به من النظم الذي إن عدل به عن جهته مجته الأسماع وفسد على الذوق. ونظمه معلوم محدود  فمن صح طبعه وذوقه لم يحتج إلى الاستعانة على نظم الشعر بالعروض التي هي ميزانه، ومن اضطرب عليه الذوق لم يستغن عن تصحيحه وتقويمه بمعرفة العروض والحذق بها.
كتاب عيار الشعر، ابن طباطبا العلوي : 5 ــ 6، مفهوم الشعر.
[51] الغريب من الكلام إنما هو الغامض البعيد من الفهم كالغريب من الناس.
غريب الحديث، ابن سلام: 1/1.
[52] أنظر: المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني: 6/ 302 ــ 336، كتاب ذم الغرور. جامع السعادات، النراقي: 13 ــ 24. إحياء علوم الدين، الغزالي: 3/ 339 ــ 353، كتاب ذم الغرور.
[53] الوسوسة: حديث النفس.
مختار الصحاح، الرازي: 369، مادة "وسوس".
الوسوسة: الكلام الخفي في اختلاط. وهي: حديث النفس والأفكار.
لسان العرب، ابن منظور: 6/255، مادة "وسس".
[54] الهذ والهذذ: سرعة القطع وسرعة القراءة.
لسان العرب، ابن منظور: 3/ 517، مادة "هذذ".
[55] سورة الحشر/ 21.
[56] الأصل في النفل: ما تطوع به المعطي مما لا يجب عليه، ومنه قيل لصلاة التطوع: نافلة.
غريب الحديث، ابن قتيبة: 1/46، النفل.
[57] أصحاب التصوف، وهم: أصحاب الإباحة والقول بالحلول، وكان الحلاج يتخصص بإظهار التشيع، وإن كان ظاهر أمره التصوف، وهم قوم ملحدة وزنادقة، يموهون بمظاهرة كل فرقة بدينهم، ويدعون للحلاج الأباطيل، ويجرون في ذلك مجرى المجوس في دعواهم لزردشت المعجزات، ومجرى النصارى في دعواهم لرهبانهم الآيات والبينات، والمجوس والنصارى أقرب إلى العمل بالعبادات منهم، و هم أبعد من الشرائع و العمل بها من النصارى والمجوس.
بحار الأنوار، العلامة المجلسي: 25/ 345، كتاب الإمامة، أبواب علامات الإمام وصفاته وشرائطه، باب 10 نفي الغلو في النبي والأئمة صلوات الله عليه وعليهم وبيان معنى التفويض وما لا ينبغي أن ينسب إليهم، فصل في بيان معنى التفويض ومعانيه.
[58] نهاق الحمار: صوته. وقد نهق ينهق وينهق نهيقا ونهاقا.
الصحاح، الجوهري: 4/ 1562، مادة "نهق".
النهيق: صوت الحمار.
لسان العرب، ابن منظور: 10/ 361، مادة "نهق".
[59] سورة النحل/ 25.
[60] انظر: المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني: 6/ 337 ــ 344، كتاب ذم الغرور. جامع السعادات، النراقي: 3/ 25 ــ 31. إحياء علوم الدين، الغزالي: 3/ 353 ــ 359، كتاب ذم الغرور.
[61] أنظر: المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني: 6/ 344 ــ  348، كتاب ذم الغرور. جامع السعادات، النراقي:3/ 31 ــ 33. إحياء علوم الدين، الغزالي: 3/ 359 ــ 362 ، كتاب ذم الغرور.
[62] مصباح الشريعة، الإمام الصادق عليه السلام: 142 ــ 143، الباب السابع والستون في الغرور. وفيه النص: «قال الصادق عليه السلام: المغرور في الدنيا مسكين و في الآخرة مغبون لأنه باع الأفضل بالأدنى ولا تعجب من نفسك فربما اغتررت بمالك وصحة جسدك لعلك أن تبقى و ربما اغتررت بطول عمرك وأولادك و أصحابك لعلك تنجو بهم و ربما اغتررت بجمالك ومنبتك وإصابتك مأمولك وهواك فظننت أنك صادق ومصيب وربما اغتررت بما تري الخلق من الندم على تقصيرك في العبادة ولعل الله تعالى يعلم من قلبك بخلاف ذلك وربما أقمت نفسك على العبادة متكلفا والله يريد الإخلاص وربما توهمت أنك تدعو الله وأنت تدعو سواه وربما حسبت أنك ناصح للخلق وأنت تريدهم لنفسك أن يميلوا إليك وربما ذممت نفسك وأنت تمدحها على الحقيقة واعلم أنك لن تخرج من ظلمات الغرور والتمني إلا بصدق الإنابة إلى الله تعالى والإخبار له ومعرفة عيوب أحوالك من حيث لا يوافق العقل والعلم و لا يحتمله الدين والشريعة وسنن القدوة وأئمة الهدى وإن كنت راضيا بما أنت فيه فما أحد أشقى بعلمه وعمله منك وأضيع عمرا فأورثت حسرة يوم القيامة».
أوردنا النص لأهميته ولاعتماد السيد المؤلف عليه من مصباح الشريعة للإمام الصادق عليه السلام، وقد نسخ الحديث في المتن باختلاف في ألفاظه فذكرناه لإتمام الفائدة.

إرسال تعليق