بقلم: الشيخ حسن الشمري
من مميزات ثورة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام وجود الكفاءات، فقد تميزت بها ثورة الإمام عليه السلام وكانت في مقدمة اهتمام الإمام أبي عبد الله الحسينعليه السلام.
وقد تألّقت الكفاءات في ثورة الإمام عليه السلام وأدّت المهام المنوطة بها على أكمل وجه، ممّا أثار دهشة العدو وإعجابه، قال حجار بن أبجر: ((يا حمقى، أتدرون من تقاتلون؟!! تقاتلون فرسان أهل المصر، وتقاتلون قوماً مستميتين))[1].
إنّ هذا الاعتراف يشكّل دليلاً على المستوى الرفيع الذي وصل إليه أصحاب الإمام الحسين عليه السلام. وكما يقول النقّاد: فإنّ الرموز الذين التحقوا بثورة الإمام أبي عبدالله الحسين عليه السلام هو أحد أشكال النصر الذي حققته ثورة الإمام عليه السلام.
ويقول المحللون: إن الإمام أبا عبد الله الحسين عليه السلام إن لم ينتصر عسكرياً في كربلاء، فقد انتصر معنوياً وإنسانياً، ومما ساهم في الانتصار الثلة المؤمنة التي لازمت الإمام الحسين عليه السلام، فهي كانت بحق الساعد الأيمن للإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
لقد قامت الثلة المؤمنة بأعمال كبيرة توازي في أهميتها جيشاً كاملاً، فالثورة الحسينية قد حققت الانتصار من عدة أوجه:
منها امتلاكها خزيناً هائلاً من المعنويات تمثّل في المواقف العملاقة التي سطرها أصحاب الإمام الحسين عليه السلام.
وأصبحت المواقف تكبر وتأخذ حجماً عظيماً، فاخترقت الزمن لتستقرّ في آخر لحظة منه، وتبقى مواقف الأصحاب في كربلاء حجة على كل البشر، فكربلاء الحسينعليه السلام حجّة على القادة، وعلى كلّ من يروم تغيير الواقع بل على كل إنسان.
إنّ مواقف الأصحاب في كربلاء أعطت مفهوماً ناصعاً للمعاني الجليلة كافة مما ساهم في سموّها وتجذّرها في عمق الإنسان كي يكبر ويسمو بنفسه أمام كل محاولات الباطل.
لندخل إلى مدرسة كربلاء ونتصفح دروسها، فهي جديرة بالتمعن والتعمق، ولنستمع ماذا يقول شبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكرم الخلق في الدنيا، إنه علي الأكبر عليه السلام.
جاء في كتاب (معالم الحق) للشيخ محمد الغزالي: ((إنّ الحسين عليه السلام حين مضى بأصحابه جلسوا يستريحون قليلاً، فخفق الحسينعليه السلام خفقة، انتبه على أثرها فزعاً، وهو يسترجع ويحمد الله. فسأله ابنه الأكبر: جعلت فداك! ممّ استرجعت وحمدت؟.
قال الحسين عليه السلام: رأيت فارساً على فرس يقول: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم. فعلمت يا بني أنها نفوسنا نُعيت إلينا.
فقال ابنه: يا أبت، لا أراك الله سوءاً، ألسنا على الحق؟.
قال: بلى، والذي إليه مرجع العباد.
فقال الغلام: إذاً لا نبالي أن نموت محقين.
ودار القتال واستمات الحسين عليه السلام وصحبه في الدفاع عن أنفسهم حتى كاد جند ابن زياد يفشلون في النيل منهم على كثرتهم))[2].
إنّ الموقف الكبير من شبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم يترجم بوضوح الروح العالية والشجاعة الفائقة التي استلها علي الأكبر من عزم الإمام أبي عبد الله عليه السلام، ومثلما أسلفت فإنّ الأب هو الينبوع الثرّ الذي يمدّ الأبناء بروافد المعاني السليمة.
وقد تأثّر علي الأكبر عليه السلام بشخصية أبيه حتى أُدرجت بين جنبيه، وبذلك برزت ملامح أبيّ الضيم على سلوك علي الأكبر عليه السلام في كربلاء، وفي أشدّ المواقف.
فمواقف علي الأكبر في كربلاء أعطت صورة واضحة عن عمق الأصالة، وسمو المعاني، ومعروف عن أهل البيت عليهم السلام أنهم في أشدّ المواقف حراجة يتألّقون في تجسيد الصفات السامية، وهي لا تسمو إلا بهم، ولا تُعرف حجمها إلا في ظلهم، فالمعنى الحقيقي للصفات العظيمة لا تُعرف إلا عند أهل البيت عليهم السلام، ثم أسمع إلى الدرس الآخر من القاسم ابن الإمام الحسن المجتبى عليهما السلام.
جاء في كتاب (الإمام الحسين عليه السلام الشهيد والثورة) للعلامة السيد هادي المدرسي: ((كان الإمام عليه السلام يتحدث، وعيون الرجال مشدودة إلى شفتيه، فالخبر لم يكن عادياً، إنه خبر الاستشهاد، ودخول الجنة. وما أشهى الموت لدى المؤمنين؟.
كان في آخر الخيمة يجلس شاب لم يبلغ الحلم.
لقد كان له وجه باسم، وعينان واسعتان، وقدر شريف، عليه ملامح بني هاشم، كان يستمع إلى الإمام عليه السلام باهتمام، وتتغير ملامحه حسب الموضوع الذي يتحدث فيه عندما ذكر الإمام عليه السلام أنّ خيامه ستحرق.
انتفض الشاب وصاح: ((ألا رجل ليمنعهم من ذلك؟)).
قال الإمام عليه السلام: كل الرجال يقتلون يا بُني. قال القاسم: كلهم يا عّم؟.
قال الحسين: نعم كلهم. قال القاسم: وأنا فيمن يُقتل؟.
لم يكن مهماً عنده أن يعرف أنه يُقتل أو لا يقتل، بمقدار ما كان يريد أن يعرف دوره، فإذا كان فيمن يُقتل فأمر النسوة والخيام إلى الله، وإذا لم يكن فيمن يقتل فما هو دوره تجاه الهجوم على الخيام؟.
كان الإمام عليه السلام يعرف أنه فيمن يُقتل، ولكنه لم يشأ أن يقول له ذلك بداية، ولذلك قال: بني كيف الموت عندك؟.
نظر الشاب إلى الرجال الذين كانوا هناك، ثم أشار بيده البريئة إلى الإمام الحسينعليه السلام، وقال: فيك؟ فيك: أشهى من العسل!. فقال الإمام عليه السلام: فداك عمك، نعم أنت فيمن يُقتل، وحتى ولدي الرضيع يقتله العدو!))[3].
إنّ اليراع لينكفأ وهو حسير أمام هذه المواقف، فماذا يخط وكيف يعبر.
لا يمكن للقلم أن يسطّر ولو جزءاً يسيراً من التعبير، سوى القول: ((إنّ الموت لو كان رجلاً لسجد لهؤلاء الثلة المؤمنة، إنهم رجال أعطوا معانٍ عظيمة للرجولة والشهامة، وهذا الصفات لهي من أصعب المعاني، فكيف إذا بلغوا الذروة في تطبيقها، فالرجال الذين اصطفّوا مع الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام كان يشكّل كلّ واحد منهم ينبوعاً ثراً من المعاني العظيمة.
إنّنا أمام صورة حيّة لمُثِلٍ عليا كنّا ننتظرها طويلاً، وها نحن نعيشها واقعاً حياً ينبض بقوة، إنك إذا تريد أن تعرف المعاني لابدّ لك أن تعرف قيم أصحاب الإمام الحسينعليه السلام، لقد أعطوا المعنى الصحيح للقيم الإسلامية بعد أن حرفت عن مواضعها، وكادت أن تغيم تماماً، فالإيمان والعلم والإخلاص من أهم الميّزات التي تمثلت في سلوك الأصحاب وهو قوام الكفاءة التي نستطيع على ضوئها تقييم مستوى الكفاءة.
لقد بلغ الإيمان عند أصحاب الإمام الحسين عليه السلام حداً جعلهم في منتهى الإخلاص والعبودية لله عز وجل، وما حقيقة الإيمان إلا العبودية الخالصة لله عز وجل، ثم إنّ الإيمان لا ينمو في قلب ويتخلل شعابه ويغمر رحابه إلا بمدى ما يعي المرء من أهداف الرسالة التي يحملها.
لقد استوعب أصحاب الإمام الحسين عليه السلام رسالتهم وأطلوا على أبعادها الحقيقية، وكان أحد الأسباب في معرفتهم وجود القائد المخلص العامل لله عز وجل.
فالإمام الحسين عليه السلام من لدن قيامه والى آخر رمق من نفسه الشريف كان يلهج بذكر الله عز وجل ويوطن نفسه بلقائهِ.
وكلّ المؤرخين والنقّاد يثبتون هذه الحقيقة، إذ ما من موطن إلا ويذكر الله عز وجل، ويوطن نفسه بالموت.
قال إمامنا عليه السلام: ((خط الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وكأني بأوصالي هذه تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء))[4].
وقال إمامنا عليه السلام وهو يهوي من على جواده بعد أن أثخن بالجراح:
تركت الخلق طراً في هواكا*** وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحب إرباً*** لما مالَ الفؤادُ إلى سواكا[5]
فالإيمان هو أحد العوامل المهمة في تقييم الكفاءة وفي تقدمها، فإن وجد في شخص فإنّه يُساهم كثيراً في تحمل المسؤوليات، أياً يكون حجمها، لأنّ الإيمان يعصم الإنسان، ويخلق في نفسه الرّادع الذاتي، ولابدّ أن يرافق الإيمان العلم، وهو أحد الركائز الأساسية للكفاءة.
وإذا علمنا أنّ العلم يعني الحكمة والفهم الواسع فإنه من الضروري توفّره في الشخص الذي يتبوأ مركزاً مهماً في البلاد، فهو يحتاج إلى الحكمة والفهم الواسع، ومعرفة مفردات التطور والتخلف، فالبلد الذي يحتاج تقدمه إلى نهضة عمرانية وعلمية يتوقف على العلماء المخلصين الذين يضعون مصلحة البلاد فوق كل الاعتبارات.
ثمّ إذا جئنا إلى مشروع النهضة فإنّنا بحاجة إلى علماء مخلصين يستطيعون من خلال عقولهم الحصينة تقديم أفضل الخدمات، وتدعيم النهضة بشكل فاعل، وهذا ما حصل في نهضة الإمام أبي عبد الله عليه السلام، فإنّ جميع أصحاب الإمام عليه السلام كانوا علماء ربانيين، ويأتي في مقدمتهم العباس بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، فكان عالماً ومخلصاً ناهيك عن إيمانه العميق.
قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: ((إنّ ولدي العباس قد زقّ العلم زقاً)).
كما أنه امتلأ إيماناً، قال الإمام الصادق عليه السلام: ((كان عمي العباس نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد بين يدي أبي عبد الله الحسين عليه السلام، فقطعت يداه فأبدلهما الله بجناحين يطير بهما في الجنة)).
ومن العلماء الربانيين حبيب بن مظاهر الأسدي وهو من الصحابة الأجلاء الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإحسان، ولازم أهل البيت عليهم السلام، وجاهد دونهم حتى مضى شهيداً مع أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
حبيب وما أدراك ما حبيب، فقد امتاز بعلو الهمة والشجاعة، ونفاذ البصيرة، ولا غرو في ذلك إذا علمنا أنه كان يختم القرآن في كل يوم، والقرآن يفجر الينابيع الثرة في الإنسان، ويزيل عنه غشاوة الدنيا، ومن الينابيع المهمة ((الحكمة))، قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ))[6].
فالآية تربط بين تعلم القرآن والحكمة، لذلك فإنّ الذين يتلون الكتاب حقّ تلاوته تتفجر بين جنبيهم الحكمة، وتطفح على ألسنتهم، وقد لمست هذا الواقع عند من يكثر تلاوة القرآن، فرأيت كلامه عليه طلاوة، وفيه حلاوة، ويقطّر حكمة.
وحبيب كان عالماً وفقيهاً، وبلغ أعلى درجات التقوى، والتقوى تفتح الآفاق أمام الإنسان، وتعطيه قوّة تمييز لا مثيل لها.
قال تعالى: ((إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ))[7]، ومعنى فرقاناً يفرق بين الحق والباطل.
وقال تعالى: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ))[8].
وحبيب كان أمة فاختاره الله عز وجل ليكون أحد أعلام النهضة الحسينية المباركة، فأفرد له الإمام السجاد عليه السلام قبراً لوحده.
ومن مزايا حبيب التي انفرد بها طاعته للإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام وتفانيه في حب آل البيت عليهم السلام.
وقد شبهه البعض بالمقداد ابن الأسود الكندي الذي ضرب مثلاً رائعاً في طاعة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.
تقول الروايات: ((إنّ حبيب بن مظاهر كان ينتظر اليوم الذي يلتحق بركب الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وكان يعلم أنه من أصحابه، لذلك كان يعدّ العدّة، وينتظر اللحظة، فسنحت له في الكوفة، ثم شدّ الرّحال إلى كربلاء، وكان في انتظار الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام وعقائل النبوة، وما إن وصل كربلاء حتى استبشر الجميع وغمرتهم الفرحة بالذات الهاشميون.
وبعد وصوله نزل حبيب من على جواده وهوى إلى قدمي الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام يقبّلهما.. يا الله.. يا الله.
أما لماذا يقبّل حبيب قدمي الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام؟ أولاً لأنّ الإمام أبا عبد الله عليه السلام كان يرتحل النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وهو في السجود، وأعظم بها من منزلة.
وثانياً: فإنّ الإمام الحسين عليه السلام هو سيد شباب أهل الجنة، فأنى يكون مقام الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام في الجنة؟.
بالتأكيد إنّ حبيباً كان يعرف ذلك، ثم إن حبيباً كان يعلم أنّ قدم الإمام الحسينعليه السلام لن تطأ إلا مكاناً عالياً، وحبيب بن مظاهر الأسدي كان من علية القوم ومُبرزاً في قومه.
وأراد لقومه اللحاق بثورة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام إلا أنّ ابن زياد ضرب طوقاً ووضع ((المسالح)) كي يمنع أهل الكوفة من اللحاق بالإمام أبي عبد الله الحسينعليه السلام، ولولا الإجراءات القاسية التي حالت دون التحاق الكثير لتغير ميزان القوى لصالح الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وقد ظنّ الإمام بحبيب بن مظاهر فكان يؤخره عن المبارزة بالرغم من إلحاح حبيب، فجاءت اللحظة التي صدق بها حبيب ما وعد الله.
جاء في كتاب (الشهيد والثورة) للعلامة المدرسي: ((إنّ التاريخ شهد بطولات كثيرة، ولكن لم يشهد قناعة كقناعات أصحاب الحسين عليه السلام.
لم يشهد التاريخ أن ترتفع رغبة الشهادة لدى المقاتلين كلّما تقلّ لديهم فرص النجاة، فيزداد إصرارهم على مواصلة الحرب، كلّما يسقط منهم ضحايا أكثر، وتبدو نهايتهم المفجعة بشكل أوضح.. إننا أمام نوع فريد من الرجال))[9].
إنّ التاريخ ينحني إجلالاً لأصحاب الحق، وكيف لا وهم قد سطّروا صفحات أثرت التاريخ، وجعلته يعيش سعيداً بعد أن مكث في البؤس والشقاء.
وكما أسلفت فإنّ التاريخ البشري شهد انتكاسات عدة، وفي فترات عصيبة وكاد أن يلفظ أنفاسه.
ولكن جاء من ينتشل التاريخ ويجعله حياً تمشي في عروقه الحياة، وهذه مهمة ليست باليسيرة بالذات إذا علمنا أنّ الحياة تطفح بالجيف، وتحاول أن تأخذ بهم إلى الحضيض. وفي خضمّ هذه الأمواج كيف ينبعث من يكتب التاريخ، ويعيد له الإشراقة، ويتنفس من جديد، إنها مهمة بعيدة المنال، ولكن عند من عزموا على العلو سهلة يسيرة.
ثمّ اقرأ هذه الصفحة من تاريخ البطولات النّادرة وهب المسيحي الذي أسلم في الطريق على يدي الإمام الحسين عليه السلام، ثم جاهد دونه حتى مضى شهيداً.
يقول العلامة المدرسي: ((وأبدى وهب استعداده المخلص لتحمل كلّ ذلك، أليس من يتخذ قراراً بالدخول في الإسلام، لابدّ أن يتحمل مسؤولية هذا القرار؟ وإلا فكيف يمكن أن يعتبر إسلامه صادقاً؟. هذه هي بداية قصة العائلة... وهي بداية موفّقة.
ولكن نهايتها تعتبر من أغرب ما عرفه التاريخ فوهب أصبح أول شهيد مسيحي أسلم قبل عاشوراء بأيام.
وأمه أول أم في التاريخ تقول لابنها: ((لن أرضى عنك حتى تقتل)).
وزوجته أول شهيدة قتلت في كربلاء مع أصحاب الحسين عليه السلام [10].
لقد جاهد وهب كما تقول الروايات جهاداً قلّ نظيره، فقد أثخن الأعداء وعمل فيهم السيف حتى ضجّ منه عمرو بن سعد، فصاح: احتوشوه من كلّ جانب.
فحاصروه وأرادوا قتله، ولكن أبدى بطولة نادرة، وبينما هو يقاتل، وإذا به يسمع صوت زوجته من ورائه وهي تقول: ((فداك نفسي يا وهب، قاتل دون الطيبين)).
فرأى زوجته وهي تحمل عموداً من أعمدة الخيمة، وتحاول أن تقاتل به الرجال، فأوصل نفسه إليها وبادرها قائلاً: ((ماذا حدث لك؟ أنت كنت تنهيني عن القتال وتقولين لي: لا تفجعني بنفسك ولا ترملني؟ ثم جئتِِ تقاتلين معي؟.
فقالت: يا وهب لا تلمني، إنّ واعيةَ الحسين عليه السلام كسرت قلبي، وهدّت أركاني، فلقد سمعته يقول: وا غربتاه.. وا وحدتاه.. وا قلّة ناصراه.. أما من مجير يجيرنا، أما من ذاب يذبّ عنّا.
وسمعت أصوات نسائه قد ارتفعت بالبكاء في الخيمة، فخرجت لأقاتل معك، وأنال السعادة. ثم أراد منها أن ترجع إلى الخيمة، ولكنها رفضت، ثم أخذت تشجّع زوجها إلى أن سقط شهيداً وقد جندل الكثير من أعداء الله والإنسانية.
ثم جاءت فانحنت عليه تصبغ شعرها بدمه، فما كان من اللئيم شمر بن ذي الجوشن الذي أبدى صفحة من صفحات الجبن والعار يأمر أتباعه بقتلها فتضرجت بدم الشهادة (رضوان الله عليها).
يقول أحد العلماء: إنني كلما أحسّ بالضعف والوهن أتصفح تاريخ كربلاء فترجع همتي وتكبر قوتي، وكأني ملكتها تواً.
ويقول آخر: كلما غامت عليَّ الآفاق وادلهمّت الخطوب حتى بات الأمل يغرق في ظلام الاستبداد أتذكر كربلاء فينشق الأمل عن دجى الليل في سماء قلبي فيستيقظ الإحساس أنّ هناك أملاً كبيراً في حياة الإنسان. فكربلاء تحي الأمل في النجاة من الظلام الدامس.
إنّ كربلاء توصلك بأمان إلى ساحل الأمان، ثم تدعك تقطع المسافة حتى لو بعدت الشقّة، وهذا سر من أسرار كربلاء، لذلك فإنّ كبار الثوار لا يصدرون إلا عنها، ومنهم جمال الدين الأفغاني الذي قال: ((الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء))[11].
وفي نظري فإنّ جمال الدين الأفغاني لم يبدأ مشروعه الإصلاحي إلا بعد أن درس في جامعة كربلاء، وكذلك الشيخ محمد عبده، والمهاتما غاندي، وكل ثائر ومصلح. ولا زالت كربلاء تحمل السمات نفسها التي ولدت فيها.
إنّ كربلاء تكبر بمرور الأيام وتتسلق سلم الكمال، وها نحن في هذا العصر الذي بدت عليه ملامح الانكسار نرى كربلاء تتألق كما لو أنها ولدت تواً. ومن أسرار كربلاء أنك تجدها كبيرة في كلّ جوانبها الأخلاقية والإنسانية والحكمية.
إن الأجل يخطف كل موجود، وقانون الاندثار ينسخ كل حضارة، وهذا قانون لا يقبل الاستثناء، ولكنه ينحني أمام كربلاء الحسين عليه السلام فلا يستطيع أن ينسخ قيمها وحضارتها، وأنى له ذلك وكربلاء الحسين عليه السلام أضحت مصدر القيم وينبوع الفضائل، وهي الحكم الذي يفصل بين الحق والباطل، فتكشف الباطل مهما تلفّع بالأستار، وتزوق بالطلاءات.
لنفتح صفحة أخرى من تاريخ كربلاء.
فعابس بن شبيب الشاكري البطل الضرغام الذي زلزل الأعداء بنزوله حتى بلغت القلوب الحناجر، وعندما رأى الجبن يتطاير من عيونهم، وتتقلب كما لو أنها نزل بها الموت، عمد إلى درعه فرماها ونزع لامة حربه ومغفرته، وبدأ الهجوم على الأعداء كما لو أنه ذاهب إلى فرحة لقاء ربه.
صاح به زميله: ما أنت صانع؟ أمجنون أنت؟.
فيقول عابس: ((لا تلوموني فحبّ الحسين هو الذي أجنني)).
ومشى إلى عناق الشهادة فابتسمت وكأنها لامست أحلى ما يكون ((حب الحسين بن علي))عليه السلام.
فحبّ الحسين عليه السلام يجعل للحب حلاوة، ونكهة الجنان هو ابن فاطمة سيدة نساء العالمين عليها السلام الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبلها من جبينها، ويقول: ((كلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت ابنتي فاطمة))[12].
وذكرت في كتاب (قبس من نور فاطمة): ((إنّ فاطمة هي الإنسانة الوحيدة في الدنيا التي تفوح منها رائحة الجنة، أما لماذا؟ فلأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحتاج ليعيش أجواء الجنة التي دخلها فلابدّ أن يعيش عبقها في الدنيا ليكتنز قوةً استثنائية أمام الأعداء الذين تكالبوا عليه، وصاروا أشد الناس قسوة على سيد الكائنات، لاسيما قريش، ومن جانب حتى تتسلق سيدة النساء مدارج الكمال كي تنقلها إلى ذريتها الطيبة))[13].
فتهيأ أسباب الكمال.
فعابس تشرّب قلبه بحب الإمام الحسين عليه السلام فتوزع حبه في كل خلاياه، لذلك لم يأبه للجيوش حتى لو ملأت الأرض طلاعاً.
ومن يحب الله عز وجل خالصاً من كلّ شائبة ينتشر في قلبه، ثم يسري في كل خلاياه فيأبى الخنوع والخضوع لأنه يلمس قوةً تمنعه من ذلك، وتظل هذه القوة الحاجز المكين الذي يمنع كلّ أشكال الوهن والضعف، وأما الصفحة الخالدة التي تأبى الأفول فهي صفحة أبي الفضل العباس عليه السلام إنها صفحة لو قرأنا سطراً منها لكفانا مؤونة البحث عن العظماء والكبار والرموز التي ضربت مثالاً في التضحية والفداء.
إنه العباس بن علي بن أبي طالب عليه السلام الذي يعدّ بحق ساقي عطاشى كربلاء.
إذا كان ساقي الناس في الحشر حيدر*** فساقي عطاشى كربلاء أبو الفضلِ
يكفي أبا الفضل عزاً ومقاماً أن فدّاه الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، فقد قال الإمام (صلوات الله عليه) بعد أن اقترب الجيش السفياني: ((أخي أبا الفضل اذهب بنفسي أنت وكلّم القوم وقل لهم: ماذا تريدون؟))[14].
جاء في (معالم السبطين) في أحوال أبي الفضل عليه السلام: كان العباس بن عليعليه السلام لا يجلس حتى يستأذن أخاه الحسين عليه السلام، وإذا جلس لا يتكلم بحضرته، وكان أبو الفضل يرافق أخاه الإمام عليه السلام حتى أنه خرج في صفين مع أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وكشف الأعداء عن ماء الفرات.
وأراد أبو الفضل العباس عليه السلام أن يردّ القوم عن جنازة أخيه الإمام الحسن المجتبىعليه السلام فمنعه الإمام الحسين عليه السلام، وقال: إن لك يوماً في كربلاء.
وقد حرس أبو الفضل عقائل النبوة في المدينة، وعندما انفصلت الزينبيات عن المدينة كان أبو الفضل يحوم حولها ويذود عنها، حتى أنّ الأعداء كانوا يهابونه كما كانوا يهابون الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.
وفي حياة أبي الفضل عليه السلام عبر سامية في الأخوة والطاعة للإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، فهو لم يعص له أمراً فكان يتمسك بأوامر أخيه الإمام عليه السلام ويعدّها طاعةً مفروضة، وقد ضرب مثلاً رائعاً في احترامه لسيد شباب أهل الجنة عليه السلام حيث لم يخاطبه إلا بعبارات عالية مثل: ((سيدي أبا عبد الله))، و((يا ابن رسول الله))، باستثناء مرة واحدة عندما سقط على الأرض، فقال: ((أخي أبا عبد الله أدرك أخاك)).
جاء في كتاب (الإمام الحسين عليه السلام الشهيد والثورة): ((عندما نظم الإمام عليه السلام صفوف أصحابه سلّم رايته إلى أخيه من أبيه أبي الفضل العباس عليه السلام، وبذلك فرض عليه أن يكون آخر من ينزل إلى المعركة، لأنّ الراية يجب أن ترفرف حتى آخر رجل، كان عمره يومئذ خمساً وأربعين عاماً، وكان غاية في الرشاقة والجمال، حتى أنّ الناس أعطوه لقب قمر بني هاشم، فلم يكن أجمل منه في العائلة كلها.
قام بدور رئيس الأركان في كلّ مراحل المواجهة، فكان هو المعني بتنظيم أمور القافلة، وترتيب عمل الأصحاب، ومعالجة أمورهم، كما كان هو المعني بقضايا النساء والأطفال، وبقي مع الإمام عليه السلام طيلة ساعات القتال ولم يفارقه لحظة، ولم يبتعد عنه إلا لحاجات ضرورية.
وعندما قتل كل رجال الإمام عليه السلام، وتحوّلوا من مدافعين عن حرم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى جثث موزعة على رمال الأرض، اشترك في هجوم مزدوج على العدو، فالعباس عليه السلام هاجم على ميمنة العدو، بينما الحسين عليه السلام هاجم على ميسرته، ثم رجعا إلى مقرّهما في المخيم))[15].
يقول العلماء: إذا كانت هناك حدود للفضائل أو نهايات للخصال الحميدة فقد بلغها أبو الفضل واجتازها، عندما آثر الإمام الحسين عليه السلام بنفسه، بل لو ملك ألف نفس لقدمها قرباناً لله عز وجل.
ونفس أبي الفضل تختلف عن باقي الأنفس فهي ضمّت كلّ الفضائل، وبلغت في كربلاء أوج عظمتها، وهذه تشكّل معنىً كبيراً.
فالشجاع والجواد والشهم في ساعة العسرة وأيام المحنة قد يتردد بعض الشيء وإن لم يتردد فيحسب لها حساب، ولكن أبا الفضل العباس عليه السلام بلغ القمة في الشهامة والجود والإيثار والطاعة، فهو لم يتردد لحظة، بل ازداد قوة وبسالة، مما يدلّ على نفاذ البصيرة وقوة الإيمان والشجاعة، والجواد والشهم في الأحوال الطبيعية يتصرف بصورة طبيعية، وفي حالات الشدة يبدي سلوكاً فائقاً، أما أن يبلغ القمة في الشهامة فهذا شيء يعدّ استثناءً إلا في سلوك أبي الفضل عليه السلام حيث ترجم الشّهامة بحذافيرها، وأعطاها معنىً كبيراً كما لو أنها جمعت شهامة العظماء بأكملها، ويدلّ على ذلك زيارة الإمام الصادق عليه السلام:
((سلام الله وسلامُ ملائكته المقرّبين وأنبيائه المرسلين وجميع الشهداء والصديقين فيما تغتدي وتروح)). إنها كلمات تعبّر عن معاني كبيرة لاسيّما إذا عرفنا أنها جاءت من الإمام الصادق عليه السلام.
جاء في كتاب (الأيام الحسينية): ((أأحكي عن صفاته، أم عن منزلته، أم عن جلالة قدره؟.
للعباس عليه السلام ثلاثة ألقاب، أحدها قمر بني هاشم، وقد عُرِف به من قبل.
الثاني: الطيار، إذ قال الإمام عليه السلام: أعطاه الله كجعفر الطيار جناحين يطير بهما مع الملائكة إلى حيث يشاء من الجنة.
ثالث ألقابه: لقب السقاء.
أحكي الآن عن جوده بالروح من أجل أخيه، كان عماد الحماية والذود هذه الأيام بعهدة العباس، وفي الحديث: ((عندما قتل العباس زادت جرأة العسكر على قصد ناحية المخيم، أو لم تكن لهم هذه الجرأة ــ أصلاً ــ قبل مقتله.
أأتكلم عن جماله! عن قامته المديدة!. أأحكي عمّن إذا ركب الفرس العالي.
كان الحسين عليه السلام يحبّه حباً عظيماً حتى قال له: ((بنفسي أنت)).
إخوته لأمه قدّمهم من قبل للقتل، ثم جاءت نوبته، فعزم على الذهاب إلى الميدان، ولما رأى الأطفال يتهاوون من العطش، وبعضهم قد أسلم الروح.. أرجأ الذهاب إلى الميدان واتّخذ طريقه إلى مشرعة الماء، وعندما ركب جواده ركب الإمام جواده كذلك ومضى وراءه، وما أن ركب هذان الأخوان حتى هجم العسكر وحال بين الأخوين.
رجع سيد الشهداء عليه السلام وكض العباس فرسه مسرعاً نحو شريعة الماء، وهناك كان ما كان من مقاتلته، إذ فرّق ألف فارس حتى بلغ الماء))[16].
ولكنه توقف فجأة ولم يشرب، لأنه تذكر عطش أخيه الحسين عليه السلام، وتذكر عطش النساء والأطفال، فرمى الماء على الماء وأخذ ينشد:
يا نفس من بعد الحسين هوني*** وبعده لا كنتِ أن تكوني
هذا حسين شارب المنونِ*** وتشربين بارد المعينِ
تالله ما هذا فعال ديني*** ولا فعالُ صادقِ اليقينِ[17]
وكما هو معهود فإنّ العطشان ينسى كل شيء باستثناء عطشه، أما إذا أخذ منه العطش فلا يعير اهتماماً لأيّ كان إلا إرواء غليله فلو أن الدنيا انصت عليه فلا يلتفت.
ولكن أبا الفضل (صلوات الله عليه) وهو في أشدّ حالات العطش نسي عطشه وتذكّر عطش أخيه والعقائل ممّا يدلّ على عمق المحبة والفهم الواسع لمقام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، والأكثر من ذلك ملأ القربة وهو عطشان وحملها وهو عطشان وقاتل ومعه الراية والقربة وهو عطشان، حتى قال:
والله إن قطعتم يميني*** إني أحامي أبداً عن ديني
وعن إمام صادق اليقينِ*** نجل النبيّ الطّاهر الأمينِ
إنه الإيثار في أعلى صوره، والشهامة في أروع معانيها، واليقين في أقصى درجاته.
هذه هي كربلاء تُثبت المعنى الصحيح للقيم العالية، ثم تؤكدها بكلّ قوة، فنحن محقّين عندما نقول: إن المعاني الجليلة لا تكبر إلا في كربلاء ولا تأخذ شكلها الصحيح إلا فيها.
يمكن أن نقول وبحق: إنّ أيَّ معنى من معاني الحياة الكريمة لا يمكن أن ينمو ويأخذ مداه إلا في كربلاء الحسين عليه السلام.
لقد ألحقت كربلاء هزيمة منكرة بترّهات الحكم السفياني، وكبدته خسائر فادحة.
لماذا؟ فلأنّ كربلاء هي الحلبة الأساسية لأيّ منازلة حقيقية مع الباطل، فلن تكون المنازلة مع الباطل إلا في كربلاء.
ونحن لا نعرف حقيقة الهزائم المنكرة للباطل إلا في ساحة كربلاء، فساحة كربلاء تكشف حقيقة الانتصار وماهية الهزائم، لذلك يريدون لكربلاء الأفول.
لقد وعد ((ستالين)) كربلاء بالذبح، فقال لجلاوزته: اقتلوا كلّ من يلبس العمامة.
فذهبوا وقتلوا كما يقول التاريخ (90 ألفاً).
ثم جاؤوا إلى ستالين مكلّلين ((بشارات النصر))، فقالوا: لقد أتممنا المهمة.
قال: أنتم لم تعملوا شيئاً.
قالوا: كيف وقد قتلنا الكثير.
فرد: وهل قتلتم كربلاء؟ إنكم إذا قتلتم كربلاء فقد أتممتم المهمة، وتخلصتم من مصدر الثورات على الحكام والدول:
ومناقب شهد العدو بفضلها*** والفضل ما شهدت به الأعداءُ
نعم فكربلاء هي المصدر الثرّ لكل الثورات الحقيقية، ولكل معاني السماء.
إنّ أرض كربلاء هي أقرب نقطة إلى السماء، وهي من جنسها، فلا غرابة إذا ألحقت بالجنة، وتكون من أفضل بقاعها، وتصبح موطن الأنبياء، كما جاء في (البحار: كتاب البلدان) للعلامة المجلسي عليهما السلام.
من هنا فإنّ الله عز وجل اختارها لأبي عبد الله الحسين عليه السلام ثم لأصحابه الميامين.
لقد أبلى أبو الفضل العباس عليه السلام بلاءً حسناً في الذود عن إمام صادق حتى إنه زرع اليأس في أعدائه.
لقد احتوشوه كما تقول الروايات أربعة آلاف لكنه لم يأبه بهم، هذا هو الإيمان، فإنه يجعل الإنسان أقوى ما يكون في ساعة الشدّة.
تقول الروايات: ((فالتفت إلى القربة، فرآها لا تزال سليمة، فوضعها على قربوس الفرس، بينما أمسك عنقها بأسنانه، وكان ينشد:
يا نفس لا تخشي من الكفارِ*** وأبشري بنعمة الجبّارِ
قد قطعوا ببغيهم يساري*** فأصلهم يا ربّ حرّ النارِ
لم يُصب العباس عليه السلام باليأس رغم أنهم قطعوا يديه، فالمعاني الذليلة تلاشت فهي لم تجد موقعاً ولو ضئيلاً في نفس أبي الفضل عليه السلام فانهزمت شر هزيمة.
إنّ المعاني الذليلة لا تكمن في نفوس الكبار لأنها تفتضح وتظهر سوءاتها، وإنما تستوطن نفوسهم المعاني الكبيرة كي تكبر فتظهر حقيقتها، إنّ نفس أبي الفضل العباس كانت موطناً أساسياً للمعاني الجليلة.
لقد قطعوا يمينه ولكن ماذا كان رده؟:
يا نفس لا تخشي من الكفارِ*** وأبشري بنعمة الجبّارِ
يبشر نفسه بالشهادة ولكنه يعطيها معنىً كبيراً حيث يطلق عليها بـ((النعمة)).
هذه هي كربلاء ولن تكون كربلاء إلا لقيم الحق، ولكن هل انحنى أبو الفضلعليه السلام؟! كلا لقد تمسك بالراية وبالقربة.
كان همّه إيصال الماء إلى عقائل النبوة، وقد كشف الأعداء وهم ألوف عن يد واحدة، ولكن الجبن واللؤم تمثّل بكلّ قبح فهوى على شماله فقطعها لكنه لم يقطع عزم أبي الفضل عليه السلام، فاحتضن الراية وضمّها إلى صدره الشريف، ثم توجه إلى الخيام، ولم يلتفت كما تقول الروايات إلى يمينه وشماله، وكاد أن يصل ولكن السهام جاءته كالمطر، فسهم أصاب القربة، وسهم أصاب عينه فنزل الدم على وجهه المبارك ولم يلتفت (لكن وا أسفاه) فجاءه وغد لئيم من خلفه فضربه بالعمود على رأسه، فهوى قمر العشيرة وعينه على القربة، وقلبه عند الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، فصاح: أخي أبا عبد الله أدرك أخاك.
تقول الروايات وأيضاً في (معالي السبطين) نقلاً عن حميد بن مسلم يقول: ((رأيت الحسين عليه السلام نزل من على جواد فأخذ كفاً فقبلها ثم بكى عالياً فاقترب من العباس)).
جاء في كتاب (الإمام الحسين عليه السلام الشهيد والثورة):
((كان الإمام عليه السلام يراقب تحركات العباس عليه السلام من خلال رأس الراية الذي كان يلاحقه وهو يدور بين النخيل، ولما سقطت الراية عرف الإمام حقيقة ما حدث فأسرع إلى مصرعه.
ولكن عندما وصل إليه كان العباس عليه السلام يجود بنفسه، فسمع صوت اقتراب أحد إليه فظنّ أنه العدوّ جاء ليحتزّ رأسه، إذ لم يكن قادراً على أن يرى لأنّ عينه اليمنى كانت ممزّقة بسهم، وعينه اليسرى كانت ممتلئة بالدم، فقال: يا هذا... بالله عليك أمهلني حتى أودّع أخي.
ومع الدموع أجابه الإمام عليه السلام: فداك أخوك أنا أخوك.
ورمى بنفسه على الأرض، وحاول أن يحمله إلى الخيام ليموت إلى جنب إخوته، وبني عمه، ولكنه إلتمس الإمام عليه السلام أن يتركه حيث هو، ولما سأله الإمام عليه السلام عن السبب، قال: ((أخي... لقد وعدت سكينة والأطفال بالماء ولا أريد أن يروني فيتذكروا الوعد...)).
وطارت روحه إلى الجنة.
يقول شهود عيان: ((إنّ راية الحسين عليه السلام لما حُملت إلى يزيد ونشروها أمامه لم يجد فيها موضعاً سالماً من السهام، إلا موضع قبضة الكف التي كانت تمسك بها)).
فسأل يزيد: من كان يحمل لواء الحسين.
فقالوا له: كان يحمله العباس.
فقال: أبيت اللعن يا أبا الفضل هكذا يصنع الأخ لأخيه[18].
وأخيراً وليس آخراً: يمكن أن نقول إن الكفاءة كان لها دوراً كبيراً في نجاح النهضة الحسينية المباركة، فقد أسهمت بشكل فعال في إنجاح الثورة وفي أدق مراحلها، وبذلك فإن اختيار الإمام أبي عبد الله عليه السلام للكفاءة يعد إنجازاً بحد ذاته، ونصراً حقيقياً للقيم الإسلامية.
فالعنصر الكفوء بإمكانه أن يعطي صورة عالية عن المبادئ ويجعلها كبيرة في واقع الناس، وقد يخلق واقعاً مثالياً بمستوى القيم.
إن الإمام علياً عليه السلام خلق واقعاً مثالياً جعله بمستوى القيم مما أسهم كثيراً في تثبيت القناعة لدى الناس، واستمرت القناعة وإلى يومنا هذا.
ومما زاد في قناعة الناس ثورة أبي الضيم الإمام أبي عبد الله الحسين السبط عليه السلام، فكربلاء عمقت القناعة، وغلغلتها في قلوب الناس حتى غدت جزءاً من حياة الكبار، وظلت تتحدى الأعاصير.
فعلى المؤسسات أن تهتم بالكفاءة، وتجعلها المعيار في ملء الفراغات حتى لو طال بها الأمد، ثم هناك واجب وأحسبه ملحاً أن تضع برنامج عمل لرفع مستوى الأفراد علمياًَ وأخلاقياً.
إنّ العلم يشكّل أهمية استثنائية، فهو يجعل الإنسان يفكر قبل أن يعمل، ثم يحسب بدقة نتائج العمل، وهذا شيء مهم للغاية، ولكن الأهم منه الصمام الذي يضمن العملية العقلية ويتمثل بالأخلاق، ولابدّ للمؤسسات توفر ((صمام الأمان)).
فالأخلاق تحفظ العلم، وتضبط مساره بحيث لا يؤدي به إلى الهبوط، وإلى خدمة المصالح الذاتية، فالعلم سلاح ذو حدين، فإذا اقترن بالأخلاق صار ربّانياً، ويخدم الأمة، أما إذا تجرّد عن الأخلاق صار شيطانياً، إن العلم إذا تجرّد عن الأخلاق يتحول إلى مكيدة يستغلها الشيطان.
لذا أوصي نفسي وطلاب العلم الالتزام بالأخلاق، وقد أكدت في كتاباتي ومحاضراتي أنّ طالب العلم أحوج ما يكون إلى الأخلاق لأنها تضبط مساره، لأن العلم يشكل أقصر الطرق إلى التكبر والمباهاة.
وقد يتحول إلى أخطر وسيلة، فكم من عالم جرّ الوبال على أمته لتكبّره، وباتت هذه الظاهرة طاغية على سلوك العلماء والأغنياء.
وهي عند العلماء أقرب منها إلى الأغنياء، وقد يتجرّد منها الغني إذا فقد المال، ولكن العالم لا ينسلخ منها إلا إذا توفاه الله عز وجل.
وقد شاهدت بنفسي بعض هؤلاء، فقد أسمعني أحد أنصاف العلماء ((عبارة)) لم أسمعها في حياتي، ولم أتوقعها من أرذل الناس، وإن كنت لا أحب أن أطلق هذه العبارة، وعندما نقلت العبارة إلى أحد السادة الخطباء، قال لي:
إنّ هذا الأستاذ في الحوزة العلمية في السيدة زينب عليها السلام قال لي:
((إنّ الخطباء كالفاحشات، فالخطيب يأكل من لسانه والفاحشة من فرجها)).
وقد استخرت الله عز وجل في تثبيت هذه الواقعة المؤلمة بتفاصيلها، لأنها قد تحرج البعض فخرجت الآية: ((مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ))[19].
لقد اقشعرّ بدني، ويشهد الله أنّ هذه العبارة أرقتني كثيراً، وكلما أتذكّرها تسود الدنيا في عيني، وأحسّ بالوحشة، فكل شيء كنت أتوقّعه في حياتي إلا هذه العبارة التي كادت أن تغيّر مسيرة حياتي لولا تمسّكي بأئمتي (صلوات الله عليهم أجمعين).
لذلك وحتى أكون صريحاً فإني لا أقيم وزناً للعلماء ما لم يتخلّقوا بآداب القرآن الكريم وأخلاق أهل البيت عليهم السلام، فإنّ الأخلاق هي المعيار أولاً وأخيراً.
قال تعالى: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ))[20].
ـــــــــــــــ
[1] الإرشاد: الشيخ المفيد، ج2/ص103.
[2] من معالم الحق: الشيخ محمد الغزالي، ج1/ص113، دار نهضة مصر.
[3] الإمام الحسين عليه السلام الشهيد والثورة: العلامة السيد هادي المدرسي، ص285.
[4] بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج44/ص366. العوالم، الإمام الحسين عليه السلام: الشيخ عبد الله البحراني، ص216.
[5] تاريخ دمشق: ابن عساكر، ج6/ص306.
[6] الجمعة: ٢.
[7] الأنفال: ٢٩.
[8] البقرة: ٢٨٢.
[9] الإمام الحسين عليه السلام الشهيد والثورة: العلامة السيد هادي المدرسي، ص251 ــ 252.
[10] الإمام الحسين عليه السلام الشهيد والثورة: العلامة السيد هادي المدرسي، ص304 ــ 305.
[11] موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام: لجنة الحديث في معهد باقر العلومعليه السلام. ص7.
[12] الأسرار الفاطمية: الشيخ محمد فاضل المسعودي، ص201.
[13] قبس من نور فاطمة: للمؤلف، باب نطفتها من ثمار الجنة.
[14] تاريخ الطبري: الطبري، ج4/ص315.
[15] الإمام الحسين عليه السلام الشهيد والثورة: العلامة السيد هادي المدرسي، ص293.
[16] الأيام الحسينية: العالم الرباني الشيخ جعفر التستري، ص119 ــ 120.
[17] بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج45/ص41.
[18] الإمام الحسين عليه السلام الشهيد والثورة: العلامة السيد هادي المدرسي، ص299/301.
[19] النمل: ٨٩.
[20] القلم: ٤.
إرسال تعليق