بقلم الدكتور عبد الكاظم محسن الياسري
الأهمية الاستراتيجية للكوفة
الكوفة موطن شيعة أهل البيت، وقد أصبحت حاضرة الدولة الإسلامية بعد أن اتخذها الإمام علي بن ابي طالب عاصمة للدولة في خلافته، وقد أصبحت من أهم المدن الإسلامية آنذاك وشهد أهلها مع الإمام أشهر المعارك التي حدثت في خلافته مثل معركة الجمل وصفين والنهروان، وقد اصبحت الكوفة بعد استشهاد الإمام في محرابها معقل شيعة أهل البيت وأنصارهم.عرض النصرة على الامام الحسين بعد هلاك معاوية بن ابي سفيان
وحين هلك معاوية وامتنع الإمام الحسين من بيعة يزيد بادر وجوه أهل الكوفة وأنصار الإمام فيها إلى عقد الاجتماعات والدعوة لبيعة الإمام الحسين، واتفق رأيهم على إرسال الوفود والكتب إلى الإمام الحسين وهو في مكة يطلبون منه القدوم إلى بلادهم ويعلنون ولاءهم واستعدادهم لنصرته، والوقوف معه ضد الباطل وهم يناشدونه القدوم إلى العراق ليعقدوا له البيعة بولاية أمر المسلمين: «أقدم علينا يا ابن بنت نبينا، أقدم علينا يا ابن بنت رسول الله، نحن لك جنود مجندة، وسيوف مشرعة، معكم معكم أهل البيت لا مع عدوكم، أقدم علينا يا ابن أمير المؤمنين فإن الناس ينتظرونك، ولا رأي لهم في غيرك، فالعجل العجل والسلام عليك» (الأسرار الحسينية / 281).
جواب الإمام الحسين عليه السلام لأهل الكوفة
هذه العبارات وغيرها تمثل ما تضمنته كتبهم، وما حملته رسلهم إلى الإمام الحسين، وكان لا بد للإمام الحسين من إجابة هؤلاء القوم الذين ازدحمت لديه كتبهم حتى بلغت المئات وكلها تعلن البيعة والولاء، وقد قرر الإمام الحسين إجابة هؤلاء القوم مع آخر رسولين وردا عليه منهم فأرسل إليهم كتاباً أخبرهم فيه بعزمه على القدوم إلى بلدهم قال فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين، أما بعد فإنِ هانئاً وسعيداً قدما عليّ بكتبكم وكانا آخر من قدم علي من رسلكم، وقد فهمت كل الذي قصصتم وذكرتم، ومقالة جلكم انه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، وأمرته أن يكتب لي بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إليّ انه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل منكم على مثل ما قدمت به عليَّ رسلكم وقرأت في كتبكم اقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله، فلعمري ما الإمام الا العامل بالكتـاب والآخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه في ذات الله والسلام» (الكامل في التاريخ 2 ص534).الامام الحسين لم يكن له ثقة تامة بنوايا القوم
يبدو من خلال ما ورد في هذا الكتاب أن الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن على ثقة تامة من نوايا هؤلاء القوم الذين كاتبوه وأرسلوا إليه وفودهم ذلك أن التجارب التي مرّ بها أبوه وأخوه توحي بظلال من الشك في صدق النوايا، وقد أثبتت الأيام صحة ما توقعه الإمام الحسين (عليه السلام)، لقد أدرك الإمام الحسين المعاني الدلالية التي وردت في كتبهم وفهم ما حملته رسلهم ووفودهم وما أجمع عليه رأيهم، وقد تلبث الإمام طويلاً قبل أن يرد عليهم.التراكيب البلاغية في كتاب الامام الحسين عليه السلام
لقد استعمل الإمام في كتابه اللغة البسيطة والتراكيب الواضحة ليكون في متناول فهم الجميع ممن يصل إليهم، ولم يرد في هذا الكتاب من الظواهر اللغوية ما يستعصي على الإدراك أو يحتاج إلى إعمال الفكر لفهمه، لأن مقام الكتاب يتطلب هذه اللغة الواضحة، غير أن هناك ما يمكن التوقف عنده، لأن الإمام استعمله بقصد محدد، لقد وجه الإمام خطابه إلى الملأ من المؤمنين أولاً ومن المسلمين ثانياً، ولفظة الملأ لها أكثر من دلالة ولكنها في هذا السياق تعني رؤوس القوم وأشرافهم واستعمل الإمام لفظتي «المؤمنين والمسلمين» والفرق الدلالي واضح بين المفردتين، فالعلاقة بينهما علاقة عموم وخصوص فكل مؤمن مسلم ولا عكس، وغرض الإمام من هذا الاستعمال أن يكون خطابه شاملاً فليس كل المخاطبين مؤمنين.ثم أخبرهم بأنه قرأ كتبهم وفهم ما ورد فيها من إجماع وقد قرر أن يرسل إليهم ثقته من أهل بيته وابن عمه مسلم بن عقيل، وطلب منه أن يوافيه بأخبارهم وأحوالهم، وما يجمع عليه أصحاب الرأي منهم، فإن كان الواقع مطابقاً لما ورد في الكتب فإنه قادم بمشيئة الله سبحانه.
ثم ختم الإمام كتابه إلى أهل الكوفة بما يجب أن يتصف به من يتولى إمامة المسلمين وقيادتهم وهذه الصفات هي، العمل بكتاب الله وسنة نبيه، وبسط العدل والاعتراف بالحق وإطاعة الله في أوامره ونواهيه، ويبدو من بنية الخطاب أن هذه الصفات تكون ثابتة وملازمة لمن يتولى هذه المهمة لذا استعمل الإمام التراكيب الاسمية للتعبير عنها «العامل بكتاب، الآخذ بالقسط، الدائن بالحق، الحابس نفسه في ذات الله» ويمكن أن تلمح في هذا إشارة إلى أن من يتولى قيادة الأمة الآن بعيد عن كل هذه الصفات ومن هنا يتوجب على المؤمنين رفض بيعته، وأن يرتضوا الإمام الذي تؤلف هذه الصفات جزءاً من كيانه، وتكون فيه طبيعة ثابتة، ولأن هذه الصفات لا ينطوي الحاكمون على شيء منها، فإنهم غير صالحين لقيادة الأمة الإسلامية وتولي أمورها، وفي الكتاب إشارة إلى أن هناك من هو أصلح منهم لتولي هذا الأمر وهم أهل بيت النبوة وفي مقدمتهم الإمام الحسين (عليه السلام).
إرسال تعليق