تأثير الوظيفة النفسية للشاعر على المراثي الحسينية

بقلم: د. علي حسين يوسف

توطئة


ينطلق الباحث في هذا الفصل – والفصول الأخرى أيضاً – من ان الادب عامة، والشعر خاصة، لابدَّ أن يكون هادفاً لتحقيق غاية منشودة؛ نفسية أو اجتماعية أوأخلاقية أو سياسية مستنداً في ذلك إلى أمرين: مبدأ الالتزام في الأدب الذي يقابل مبدأ (الفن للفن)[1]، وإلى استقراء مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) في الحقبة موضوع الدراسة، إذ إن تلك المراثي لم تنفك تعالج قضايا الإنسان العربي، فقد عبرت عن هموم الجماهير وطموحاتها، إذ حاول الشعراء توظيف الحقائق التاريخية المتمثلة بأحداث معركة الطف من أجل ربط الحاضر بالماضي لمنحه قوة وثراء، ولتأكيد عمق الانتماء التاريخي المتمثل بأنصع صفحات التاريخ، صفحة الثورة الحسينية.

إن أهم ما ميز مراثي الإمام الحسين في العراق خلال النصف الأول من القرن العشرين تلك النظرة النقدية للواقع العراقي وهو أمر يدل على إدراك واعٍ عند الشعراء بمسؤوليتهم التاريخية، وشعورهم بأن غائية الأدب لا تتعارض مطلقاً مع قيمه الفنية الخاصة، وقد وجد هؤلاء الشعراء أنَّ الأدب " يجب أن يندغم في مشكلات المجتمع... حتى يحيل حياتنا الفردية إلى حياة اجتماعية تترفع عن الهموم الشخصية الصغيرة، وتضطلع بالهموم الإنسانية الكبرى "[2]، لذلك كان التزام هؤلاء الشعراء بقضايا أمتهم وهم يرثون الإمام الحسين (عليه السلام) معبراً عن التزامهم بمبادئ الثورة الحسينية، لأن تلك المبادئ خير ما ينهض بالإنسان إلى عالم السمو الروحي والأخلاقي[3]، فضلا عمّا يؤديه رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) من رؤية ذاتية تتمثل في رجاء التقرب إلى الله عن طريق الإمام الحسين (عليه السلام) وما ينتج من ذلك الأمر، من شعور بالراحة النفسية، والأمان الداخلي وهكذا نجد إن " الشاعر يهدف إلى خلق عالم أفضل من العالم الذي نعيش فيه"[4], وهذا المنحى في التوظيف الشعري يعكس اهتمام الشعراء بالقضايا الانسانية التي اكدتها الاداب العالمية وافرزتها المتغيرات التاريخية[5] فظهر ذلك واضحا في الموضوعات الجديدة , ولا سيما السياسية الاجتماعية منها , واستعمال المفردات المعبرة عن تلك الافكار الجديدة الامر الذي دفع الشعراء الى ان تكون مراثيهم الحسينية معبرة عن رسالتهم الانسانية والقومية فضلا عن ما تضمنته تلك المراثي من قيم دينية واخلاقية وتربوية.

الوظيفة النفسية


تتمثل الوظيفة النفسية للشعر عامة – والرثاء خاصة – في ما تثيره من عواطف كامنة في النفس، وما يتولد من ذلك من استقرار نفسي، فالنصوص الأدبية المؤثرة "تكشف من أمامنا آفاقا فسيحة من الخيال المجنح، والعاطفة المتقدة"[6]، ويبدو هذا الأمر جلياً في النصوص التي ترتبط بعقيدة الإنسان يقول أحد الباحثين المعاصرين "إن قراءة القرآن – مثلا – لا تتحفني بطائفة من الأفكار ولا تحلق بي في أجواء من التأملات فحسب، ولكنها إلى ذلك تنفحني نسائم من العواطف، وتثير عندي طائفة من الانفعالات، وقد تفرض علي سلوكا معيناً"[7].

إن الإنسان إذا ما آمن بعدالة قضية فإنه يكون من الناحية النفسية مستعدا لتقبل كل ما يدعم ويعزز تلك القضية، وحينما يكون النص الأدبي موظفا لتلك القضية، فإنه سيكون محور التقاء بين المبدع والمتلقي، طالما أن هناك اتفاقاً ضمنياً مشتركاً على قضية واحدة " فالمتلقي حين يتعرض لمادة من هذه المواد فإنه يتحرك باتجاه إصدار حكم عليها والاستجابة لها "[8].

والنقطة الأساسية التي يلتقي عندها الشاعر والمتلقي في مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) هي المنزلة العظيمة للإمام، وعدالة قضيته وتضحيته في سبيلها مما ترتب على ذلك أن يكون الإمام الحسين (عليه السلام) شفيعا لمحبيه وأنصاره.

إن مبدأ الشفاعة من أهم الأسباب التي دفعت الشعراء إلى القول، وجعلت المتلقي يعيش حالات التأثر والتصديق لما يحققه مبدأ الشفاعة من شعور بالأمان النفسي عند المسلم، من هنا كان الحزن على الإمام الحسين (عليه السلام) خيارا يميل إليه الشعراء من أجل نيل شفاعته، للوصول إلى مرضاة الله، وهذا وحده يمكن أن يكون كافياً لبعث الراحة النفسية للشاعر والمتلقي معاً، فالكل بحاجة إلى من يأخذ بأيديهم يوم القيامة، يقول عبد الحسين الحلي[9]: (من الرمل)

أنت لي ركنٌ شديدٌ يوم لا*** يُلْتجى إلاّ إلى ركن شديدِ
هذه مني يدٌ مُدت فخذْ*** بيدي منك إلى ظل مديدِ

فالإنسان بما هو كائن تتجاذبه الغرائز والنزوات، فإنه سيظل عرضة للخطيئة والتقصير، مما يولد في داخله أنواعاً من الصراعات التي تزعجه وتقض مضجعه باستمرار، ولاسيما حينما يترائ له ذلك الموقف الرهيب، وهو يعرض للحساب الإلهي، يوم القيامة فيأتي دور الشفيع – الإمام الحسين (عليه السلام) ليخفف من تلك الصراعات الداخلية، وليكون بارقة أمل في النجاة، وفي الأبيات تأثر واضح بالقران لاسيما في قول الشاعر (ركن شديد) ويقول محمد علي اليعقوبي[10]: (من الخفيف)

لست أرجو سوى حضوركم يو*** م وفاتي وفي الحساب خلاصي

إن ملازمة الحزن لطلب الشفاعة في المرثية الحسينية دليل واضح على إيمان الشعراء بشفاعة الإمام الحسين (عليه لسلام)، فقد " ارتبطت ثورة الحسين وشخصيته، ومبادئه وبطولته وتضحيته بالألم، والألم بالأمل، والأمل بالإنقاذ والخلاص النهائي، لأن البشرية لا تستطيع لوحدها أن تتغلب على الألم البشري، وبذلك أصبح الاستشهاد طريق الشفاعة والخلاص "[11]، فالإمام حينما ضحى بنفسه وأصحابه، فإن ذلك كان من أجل خلاص المسلمين، حتى إن تضحيته في سبيل الإسلام لم تقف عند حد، فقد أعطى الله كل شيء، فأعطاه الله كل شيء، ومما أعطاه الله للحسين، أن يغفر لمن نصره، ولو ببيت شعر، أوبدمعة حزن[12]. يقول محمد علي النجار[13]: (من الكامل)

وأرى ببعدي عن رثائك جفوةً*** فنظمت أبياتا على مقداري
لأكونَ مصداقَ الأحاديثِ التي*** تُروى لنا في جملة الأخبارِ
من قال فينا بيت شعرٍ واحدٍ*** فله جنان الخلد دار قرارِ

ويقول عباس رشيد الخزاعي[14]: (من الخفيف)

تدخلون الجنات من قال فيكم*** بيت شعر وقلبه مسرورُ
وشعوري لديكم والقوافي*** هي لي عندكم شفيع نصيرُ

فقد جعل الشعراء من شفاعة الإمام الحسين (عليه السلام) وسيلة للخلاص الأخروي، وكانوا يتكلمون بلهجة الواثق المطمئن لرسوخ ذلك المبدأ عندهم، فكان خير وسيلة حاول الشاعر من خلالها الانتقال من "حالة إحساسه الحاد بالواقع؛ واقعه النفسي لذي يموج بألوان الصراع... وعندئذ يكون الدافع إلى الإبداع هو الرغبة في التخلص من هذا الواقع "[15]. ويقول عبد المنعم الفرطوسي[16]: (من البسيط)

أنت الشفيعُ وما عندي لما اكتسبت*** يداي غيرك يوم الحشر من أملِ

فقد حاول الشاعر من خلال الكلمة الصادقة تحقيق غايتين تتمثل الأولى بالاستجابة لدافع القول بوصفه إنسانا مبدعا، فيما تتمثل الثانية في رجائه بنيل شفاعة الإمام الحسين (عليه السلام) لتتوحد الغايتان في تحقيق جو من الأمان النفسي والاطمئنان الداخلي.

والملاحظ أن الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته عليهم السلام لم يكونوا شفعاء في الآخرة فحسب، بل إن الشعراء استنجدوا به للخلاص من صعوبات الدنيا ومصائبها، أو لطلب النجاح في حياتهم يقول يعقوب جعفر الحلي[17]: (من البسيط)

إني لأرجوكمُ في كل نائبةٍ*** فإنكم خيرُ مرجوٍ ومنتدبِ

ويقول محسن أبو الحب[18]: (من البسيط)

أنتم رجائي وأنتم عدتي وبكم*** أرجو النجاةَ فأنتم علةُ العللِ

ويقول عبد القادر رشيد الناصري (من الخفيف)

يا ابن رب البيان كن لي شفيعا*** يوم لا شافعَ سواكم ومطلبْ
واذكُرَنّي لدى إلهك إن جئـ*** ـتَ ومن حوله التسابيح تسكبْ
قل له... عبدك المشرد يحيا*** في زحام الحياة من غير مأربْ
غيره ناعم بدنيا الأماني*** وهو في عالم الشقاء معذبْ

إن هذا المنحى في طلب الشفاعة والنصرة يكاد يكون ظاهرة عامة في خواتيم المراثي في إشارة من الشعراء الى إن حزنهم على سيد الشهداء دليل على إخلاصهم لمنهج أهل البيت عليهم السلام لذلك فمن حقهم أن يتوسلوا به لتحقيق مطالبهم التي تعبر عن نفوس أرهقها الزمن، فلم تجد سوى اللوذ بحمى الحسين (عليه السلام) لاستعادة الثقة بالنفس، وليكون ذلك للشاعر " طريقا في المثوبة على شعره وقصائده.... كي ينال الشفاعة والأجر والمثوبة "[19].

وقد تلبي المرثية الحاجة النفسية للاقتصاص من أعداء الدين – ممثلين بقتلة الإمام الحسين – في إشارة إلى حنق الشاعر وغضبه عليهم، وذلك من خلال التحريض على أخذ ثأر الإمام لتحقيق العدالة الإسلامية، يقول عبد المنعم الفرطوسي[20]: (من الطويل)

أما آن للموتور أن يطلب الوترا*** فيشفي بأخذ الثأر أفئدة حرىَ
وللحق أن تطغى به عزماتهُ*** فتنذر أهل الشرك بالبطشةِ الكبرى
وللعلم المنصور أن يبلغ المنى*** فيخفق منشورا على الطلعة الغرّا

إن القراءة النفسية لمثل هذه النصوص يمكن أن تكشف عن رغبة الشاعر في تطبيق العدل الالهي (وللحق ان تطغى به عزماته)، مثلما تكشف عن المزاج الشخصي للشاعر، ولاسيما إذا عرفنا أن الشاعر – أي شاعر "يقضي عمره في جهاد ونضال وعراك مع الدنيا والناس ومع الأوهام والأباطيل والأضاليل"[21]، فالفرطوسي الذي عاش حياة بائسة[22].

يمكن أن تعبر أبيات التحريض المتقدمة التي بلغت حوالي 37 بيتاً من أصل 67 بيتاً أي أكثر من نصف المرثية على إعادة الموازنة النفسية للطبقة التي ينتمي لها الشاعر بحكم ما تعرضت له من عوامل القهر والاضطهاد، فمثل هذه الأبيات يمكن أن تكون ردة فعل تتناسب وجسامة القلق الذي يعيشه الشاعر[23]، وقد يحاول الشاعر من خلال التحريض أن يعبر عن ولائه لأهل البيت انطلاقا من التبرء من أعدائهم، فيكون ذلك جزءً من رسالته الأدبية التي تمثل " رسالة التزام هادف يدعم القيم القومية والإنسانية ويدافع عن الإنسان كلما لحقه لون من شتى ألوان الاضطهاد"[24]. من هنا يمكن أن تفسر دعوات التحريض بأنها دعوات ولائية لا دعوات انتقام من الآخرين، ولاسيما وأن مبادئ الثورة الحسينية تأبى ذلك وقد تنعكس الحالة النفسية للشاعر في المرثية بصورة تساؤل وشك في حقائق التاريخ، يقول محمد مهدي الجواهري[25]: (من المتقارب):

وقلت: لعل دوي السنينِ*** بإصداء حادثك المفجعِ
وما رتل المخلصون الدعا*** ة من مرسلين ومن سجعِ
.....................
يدا في اصطناع حديث الحسين*** بلون أريد له ممتعِ
.....................
أريد الحقيقة في ذاتها*** بغير الطبيعة لم تطبعِ

إن نفس الجواهري في هذه الأبيات غير مطمئنة لما يراه الشاعر ويسمعه من الدعاة بشأن قضية الحسين (عليه السلام) فيذهب به الشك إلى الشك فيما عنده من مسلمات متوارثة بشأن حديث الحسين (عليه السلام)، يقول الجواهري[26]:

وجاز بي الشكُّ فيما مع الـ*** ـجدود الى الشك فيما معي

 لكن شك الشاعر لم يكن سلبياً بل كان سبيلاً إلى الوصول إلى حقيقة الثورة الحسينية الناصعة إنه أشبه بشك ديكارت حينما قاده إلى الإيمان بالله[27]، يقول الجواهري حينما يتجاوز مرحلة الشك[28]:

فأسلم طوعا إليك القياد*** وأعطاك إذعانة المهطعِ[29]

فقد حاول الشاعر خلق جو من الاطمئنان الداخلي،الذي قد ينتقل إلى المتلقي، لأن النص الأدبي المؤثر حين يخرج من حوزة المبدع فإنه يتحول إلى ملك مشاع بين المتلقين، فيؤدي الوظيفة نفسها والأثر ذاته، فقد يشعر المتلقي بما يشعر به المبدع إلى درجة أنه يتماهى مع النص في حال من (الاتحاد الفني) أي "أن تحس نفسك، والصورة التي تراها، أو الموسيقى التي تسمعها شيئاً واحداً"[30]، وهذا وجه مهم من أوجه الوظيفة النفسية في مراثي الإمام الحسين (عليه السلام)، لأن هذه الوظيفة لا يمكن أن تفهم إلا ببيان الصلة بين (أنا) الشاعر و(النحن) الذي يمثل المتلقين "من حيث إنها عملية تمضي نحو إدماج ال (أنا) مع الاخرين في بناء اجتماعي متكامل هو (النحن)"[31].

وقد تتمثل الوظيفة في الكشف عن الأبعاد الخفية لحزن الشاعر، ما يسهل فهمه وتفسيره، ولاسيما أن شعراء المراثي الحسينية في النصف الأول من القرن العشرين لم يكن حزنهم على الإمام الحسين مجرداً من غاياته، فلعل القارئ لا يجد مرثية تخلو من بارقة أمل توحي بأن دولة العدل لا بد من أن تحقق يوما، فالحزن بهذا المعنى حزن إيجابي لا حزن خضوع وانهزام، فقد يكون " الحزن علامة قوة، لا علامة ضعف؛ لأنه يشهد بإدراكنا لقيمة ما نفقد، ولا نكون كذلك إلا ونحن أصحاء.... "[32].

إن هذا المزيج الغريب من الحزن والأمل، ربما لا نجد ما يماثله في أي نوع من الأدب ما خلا مراثي الإمام الحسين (عليه السلام)، فالشاعر يعي حزنه، محاولا في أغلب الأحيان تبريره بأسباب منطقية يقول عبد الحسين الازري[33]: (من الكامل)

لا غرو إن طوت المنيةُ ماجدا*** كثرت مآثره وعاش قليلا

فهذه خصيصة الإنسان المؤمن الذي ينطلق من الحزن ليصنع الفرح، أو في حزنه يكمن الفرح.

ويصور يعقوب جعفر الحلي حزن عدد من الأنبياء على الإمام الحسين (عليه السلام)، لإضفاء الشرعية على حزنه، فيقول[34]:  (من الوافر)

وموسى راح وهو به كليمٌ*** وفيه أسىً بكى عيسى المسيحُ
وأكرم أنبياء الله طه*** وأشرفهم غدا فيه ينوح ُ
ألا تهوي السماء وذا حسين*** على الغبراء منعفر طريحُ

فالشاعر في رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) لا يكتفي بالحزن، بل يحاول أن يسجل أسبابه، وقد يتعدى الأمر إلى المطالبة، والحث على الحزن، يقول محسن أبو الحب[35]: (من البسيط)

فرضٌ علينا ثياب الحزن نلبسها*** على الحسين بن طه سيد الرسلِ
ونذرف الدمع حزنا لأبن فاطمةٍ*** من القلوب دماءً لا من المقلِ

فقد حاول هؤلاء الشعراء أن يكون حزنهم على الإمام الحسين (عليه السلام) منسجما مع حزن الأنبياء والوجود على سيد الشهداء أنه جزء من الحزن العظيم الذي " لا يكون إلا من نصيب الرجل العظيم، ولو كان البكاء عيباً لنزه الله الأنبياء عن البكاء "[36].

إن هذه النصوص الحزينة تكشف عن الواقع اللامرئي المتمثل بخبايا النفس الإنسانية، ولاسيما عند النفوس التي تتحسس مرارة الواقع، فليس كل إنسان بقادر على الرؤية الفاحصة والدقيقة لواقعه، فالإنسان غير الفنان لا يرى ما يراه الفنان أو الشاعر، أو لا يستطيع أن يعبر عما يراه بالطريقة نفسها التي يعبر بها الشاعر فخلف كل بيت شعر يوجد العديد من المعاني والصور، وخلف كل كلمة حزن يكمن واقع مرير، واقع الشاعر نفسه وقد يفرغ الشاعر كل آلامه وأحزانه في رثائه للإمام الحسين (عليه السلام) يقول الشيخ كاظم آل نوح[37]: (من الخفيف)

سئمتْ نفسهُ الحياةَ ليحيى الـ*** ـدين إذ قتله به إحياءُ
نصر الدينَ دينَ احمد إذ سا*** قت جيوشا لحربه الطلقاءُ

إن الشاعر يستشرف الواقع من خلال تحسسه لما يثيره هذا الواقع في نفسه من هموم ومتاعب، يحاول إفراغها في البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) وكأن الإمام الحسين (عليه السلام) بما شهد من مآس يمثل المثل الأعلى لأحزان الشاعر كلها " فلكي يعقل الإنسان العالم ونفسه لا بد له من أن يخرج عنهما، وأن يحتل منهما برج المراقبة....... "[38]، فإن التعبير (سئمت نفسه) يمكن أن يكون إشارة واضحة لما يشعر به الشاعر نفسه، لذلك فإن مثل هذه المعاني تجسد قصة النفوس التي حاصرها عبء الواقع فلم تجد سوى الحسين (عليه السلام) ملجأ تلوذ برياض ذكره العطرة، وهذا لا يعني هروباً من مواجهة ذلك الواقع أو نكوصاً من الشاعر بل محاولة لاكتشاف الذات من جديد، الذات التي لا تجد نفسها إلا بحضرة الإمام الحسين (عليه السلام)، وهذا ما يطلق عليه علماء النفس بالوقاية النفسية التي يلجأ إليها الإنسان للوذ " بتلك الأنماط السلوكية التي سبق للشخص أن ألفها واطمأن إليها "[39]، يقول السيد محمد جمال الهاشمي[40]: (من الطويل)

فعذرا أبا السجاد طفحةَ شاعرٍ*** يحاول أن يرمي إليك بسلمِ
وأنت الذي قد حاول الفكر سبره*** ففاض ببحر من معانيك مفعمِ
لذاك اتخذت الدمع للشعر مجهرا*** يرى فيه أسرار الوجود المطلسمِ
فما كنت إلا عالما متراميا*** يشع بأقمارٍ ويزهو بأنجمِ

إن الشاعر بوصفه إنساناً فناناً لا بد وأن حاجاته النفسية تبقى بلا إشباع في الأغلب، وأن الخيارات المطروحة أمامه، قد لا تتناسب ومزاجه، مما يؤدي به إلى حالة من التوتر التي لا يستطيع تحملها، لذلك يعمل جاهدا لخفض ذلك التوتر باللجوء إلى رحاب الشخصيات العظيمة كالإمام الحسين (عليه السلام) الذين يمثلون له عالماً من الأمان، وقدوات أنموذجية " وهكذا تتجسد في الفنان المبدع همومه وهموم عصره، ويستقطب قلقاً إنسانياً، فيتفاعل في داخله قلقه الذاتي، وقلق مجتمعه وأمته، وقلق إنساني عام "[41].

إن قنوات الاتصال بين الشاعر والمتلقي مهيأة تماما في مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) من خلال اشتراكهما في هم واحد، ومأساة واحدة مما يخلق " تطابقاً بين محتوى الاتصال (موضوع الرثاء) ومحتوى العملية الإبداعية التي تتنقل نتائجها عن طريق العمل الفني المنجز "[42]، ويبدو ذلك واضحاً من خلال عنصر المأساة في الحدث الحسيني، الذي يمثل عاملا مشتركا بين الشاعر والمتلقي مما يخلق جوا من التلاحم بين العمل المنتج والمستقبل، يقول السيد مسلم الحلي[43]: (من البسيط):

لقد مضيتَ وقد خلفتها مُثُلا*** بقين فينا مثال العز والعظمِ
دروس تضحية للمؤمنين بها*** إذا مضت أمم تلقى إلى أممِ

ويقول حسين علي الأعظمي[44] (من الرمل):

دمه الذكرُ الذي ننشده*** كلما لاح صباحٌ ومساءُ

فقد حاول الشاعران أن يتكلما بلسان الجمع في إشارة إلى اشتراك الآخر – المتلقي – في الحزن، فالشاعر يحاول في أغلب الأحيان أن يكون أدبه جماعياً لم " ينظمه... لمجرد أنه الرأي السائد في جماعته، بل لأنه أحس هو إحساساً عنيفاً قاهراً بهذه العاطفة، وهذا الإحساس هو الذي أرغمه على أن ينتج أدبه "[45]، وهذا يعني أنَّ الشاعر العراقي في رثائه الإمام الحسين (عليه السلام) يحمل بين جنباته هموم قطاعات واسعة من الناس تشترك كلها في الإيمان بعدالة القضية الحسينية، وهذا واضح في استعماله بكثرة لضمائر الجمع (نا، نحن).

ــــــــــــ
[1] ينظر: الالتزام في الشعر العربي: 12، الهامش 1، والأدب وقيم الحياة المعاصرة: 165.
[2] الأدب للشعب: 4.
[3] ينظر: الأدب السياسي الملتزم في الإسلام: 41.
[4] في نقد الشعر: 40.
[5] ينظر, تطور الفكرة والاسلوب في الادب العراقي الحديث:77-81.
[6] مناهج الدراسة الأدبية في الأدب العربي: 103.
[7] م. ن: 103.
[8] سيكولوجية التذوق الفني: 67.
[9] أدب الطف: 10 / 96.
[10] الذخائر: 40.
[11] تراجيديا كربلاء: 308.
[12] روي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنه قال: " من قال فينا بيت شعر بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة ". عيون أخبار الرضا: 2 / 15.
[13] الحسين في الشعر الحلي: 451.
[14] م. ن: 372.
[15] التفسير النفسي للأدب: 37.
[16] ديوان الفرطوسي: 1 / 103.
[17] ديوان الشيخ يعقوب الحاج جعفر الحلي: 40.
[18] ديوان أبي الحب: 143.
[19] طفيات الشيخ صالح الكواز الحلي (بحث / مجلة جامعة كربلاء): 193.
[20] ديوان الفرطوسي: 1 / 76.
[21] رسالة الأديب: 218.
[22] ديوان الفرطوسي: 1 / 18.
[23] ينظر: نقد الشعر في المنظور النفسي: 183.
[24] الشعر والمجتمع: 69.
[25] ديوان الجواهري: 3 / 235.
[26] م. ن: 3 / 236.
[27] ينظر: تاريخ الفلسفة الحديثة: 63، والمعجم الفلسفي: 1 / 705.
[28] ديوان الجواهري: 3 / 237.
[29] وردت الكاف في (إليك) مكسورة في الديوان، والصحيح فتحها.
[30] من الوجهة النفسية في دراسة الأدب: 64.
[31] الأسس النفسية للإبداع الفني: 339.
[32] رسالة الأديب: 248.
[33] ديوان الحاج عبد الحسين الأزري: 339.
[34] ديوان الشيخ يعقوب الحاج جعفر الحلي: 66.
[35] ديوان أبي الحب: 141.
[36] رسالة الأديب: 248.
[37] ديوان الشيخ كاظم آل نوح: 1 / 5.
[38] علم النفس والأدب: 144.
[39] موسوعة علم النفس: 144 – 145.
[40] مع النبي وآله: 1 / 194.
[41] الإبداع في الفن: 66.
[42] علم النفس الفني: 212.
[43] يوم الحسين: 48.
[44] مجلة البيان (ع 11 - 14) لسنة 1947: 39.
[45] وظيفة الأدب: 88.

إرسال تعليق