بقلم: د. علي حسين يوسف
تكتسب المقدمة في المرثية أهميتها، بوصفها نابعة " من حالة الحزن التي يعيشها الشاعر "[1]، لذا فهي الخطوة ألأولى التي يحاول الشاعر من خلالها التنفيس عن آهاته، ولتعبر عن أوليات مشاعره، وفي رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) تعد المقدمة مدخلاً طبيعيّاً للدخول إلى عوالم الذكرى الحسينيَّة.
ويلاحظ أنَّ شعراء المراثي الحسينيَّة قد سلكوا في بناء مقدماتهم اتجاهين فنيَّين، الأول: تقليدي، يستوحي الموروث البنائي الشعري، والآخر: يستبطن شيئاً من التجديد، وبدرجات متفاوتة.
وتمثل المقدمة التقليديَّة استجابة طبيعيَّة لسيطرة الموروث الشعري على ثقافة الشعراء العراقيين في النصف الأول من القرن العشرين، وقد تكون نتاجاً لغياب البديل، وعدم توفر الجرأة للخروج على المألوف الأدبي.
أما ما قيل في تفسير هذه المقدمات من أنها تعبِّر عن القلق الوجودي الذي يعانيه الشعراء، والذي يدفعهم إلى التشبث بالحياة، التي تتمثَّل بالحب والغزل، والحنين إلى ذكريات الصبا[2]، قد لا تتفق هذه التفسيرات مع التوجهات العقائديَّة لأغلب الشعراء العراقيين الذين رثوا الإمام الحسين (عليه السلام) في الحقبة موضوع الدراسة، ولاسيما أنَّهم ينطلقون في رثائهم له على وفق رؤى إسلاميَّة، تتعارض أساساً مع كل أسباب القلق السابقة ونتائجه، لذلك إنَّ لهذه المقدمات أسباباً فنيَّة يمكن أن تفسرها، وتتمثَّل في عوامل التقليد، وسيطرة الثقافة التراثيَّة، ونظرة التبجيل إلى الماضي الأدبي.
وفي إحصاء أجراه الباحث لما يقرب من (250) مرثيَّة، وجد أنَّ أكثر المقدمات التقليديَّة نسبة مقدمة الحكمة، ويبدو أنَّ ميل الشعراء إلى الابتداء بمقدمة الحكمة كان نابعاً من انسجام هذا النوع من المقدمات مع رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) الذي جسَّد في وقفته مع أصحابه في كربلاء الحكمة البالغة، وهي أن يضحي بنفسه وأنصاره من أجل مبادئه السامية. يقول محمد حسن أبو المحاسن في مقدمة إحدى مراثيه[3]: (من البسيط)
دع المنى فحديث النفس مختلقُ*** واعزم فإنَّ العلى بالعزم تستبقُ
ولا يؤرّقْكَ إلاّ همُّ مكرمةٍ*** إنَّ المكارم فيها يحمد الأرقُ
إنَّ ذم الهوى، والحث على طلب المكارم مدخل ملائم لما سوف يأتي بعد هذه الأبيات في رثاء الإمام الحسين (عليه السلام)، الذي هجر الدنيا طلباً لنيل الشهادة، وقد تكون مثل هذه المقدمات إشارة إلى أنَّ الشاعر في رثائه الإمام الحسين (عليه السلام) إنما يسلك طريق المكارم، وهذا قريب من قول عبد الحسين الأزري في إحدى مقدماته[4]: (من الكامل)
عشْ في زمانك ما استطعت نبيلا*** واستبق ذكرك للرواة جميلا
ولعزك استرخص حياتك أنَّه*** أغلى وإلاّ غادرتك ذليلا
شأن التي أخلفْتَ فيك ظنونَها*** فجفتك واتخذتْ سواك خليلا
تعطي الحياة قيادها لك كلما*** صيَّرتها للمكرمات ذلولا
يتجسَّد المفهوم الأخلاقي في مقدمة الشاعر منذ البيت الأول، ليصب في معنى تربوي خلاصته أنَّ العيش بنبل ما هو إلاّ مقدمة لذكرى جميلة لا تزول، وكأنَّ الشاعر يستوحي معناه من خلود الذكرى الحسينيَّة الذي ما كان ليتحقق لولا تضحيته وصبره، وهذا ما يؤكد الأبعاد التربويَّة لمراثي الإمام الحسين (عليه السلام) في إبراز الأنموذج القدوة لكل من يطلب الحياة المثاليَّة التي لا تنتهي بالموت. ويقول محمد مهدي الجواهري[5]: (من الطويل)
هي النفس تأبى أن تُذلَّ وتقهرا*** ترى الموت من صبرٍ على الضيم أيسرا
وتختار محموداً من الذكر خالداً*** على العيش مذموم المغبَّة منكرا
إنَّ سيطرة الوقفة المبدئيَّة للإمام الحسين (عليه السلام) على مخيِّلة الشعراء، قد تفسِّر مثل هذه الصيغ التقريريَّة التي بدأ الجواهري مرثيَّته بها، بوصفها أسلوباً ناجحاً في الوعظ، يستند إلى دروس واقعة الطف، يقول محسن أبو الحب[6]:(من البسيط)
يا صاح دع عنك ما تهواه من أملِ*** واقصد إلى ما يحب اللهُ من عملِ
هذا المحرَّم قد لاحت لوائحهُ*** فلا يكن لك غير النوح من شغلِ
فالابتداء بمثل هذه المقدمات مما يناسب مجالس الوعظ والإرشاد الحسينيَّة، فهي دروس ونصائح اكتسبت قوَّة تأثيرها من الصبغة العقائديَّة التي طالما حاول الشعراء أن تكون مستمدَّة من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف.
وتأتي المقدمة الطلليَّة بعد مقدمة الحكمة، وهي من أكثر المقدمات شيوعاً في الشعر العربي التقليدي، بوصفها تمثيلاً للواقع الموضوعي لحياة البداوة العربيَّة القائمة على التنقل والترحال، حتى أصبحت تلك المقدمات تقليداً محبباً عند الشعراء العرب، وإن كان الشاعر من سكان الحاضرة[7]، لوجود رواسب البداوة، ولأنَّ الأطلال تمثل أهم مظاهرها[8].
ويمكن أن تفسر المقدمة الطلليَّة في مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) بأنَّها مظهر من مظاهر الإشادة بالماضي، والتلذذ بذكره، بوصفه ردَّ فعلٍ لقسوة الواقع الذي لم يلبِّ طموحات الشعراء، وبهذا فإنَّ المقدمة الطلليَّة تمثل استجابة نفسيَّة لحاجة ملحَّة في الإنسان في الحنين إلى الماضي بوصفه الأنموذج المثالي الذي لا يتكرر، وهي نوع من حنينه إلى طفولة الحياة، ببساطتها، وعفويتها، وبعدها عن التعقيد، ولاسيما أنَّ الطلل في المرثيَّة الحسينيَّة لم يعد ذلك الرسم الداثر، والخرائب التي عفا عليها الزمن، فلم يبقَ منها إلاّ الأثافي والنؤى، وكلها توحي بالموت والفناء، بل كان شيئاً آخر يفيض بالحياة والنور، ينمو ويتوهج مع مرور الزمن، يقول عبد الحميد السماوي في مقدمة إحدى مراثيه الحسينيَّة[9]: (من الكامل)
لمن النواهد لا برحن نواهدا*** يفنى الزمان ولا تزال رواكدا
طفقتْ تُصعّد في الفضاء كأنَّها*** اتخذت بآفاق السماء قواعدا
نتئت على هام القرون فخلتها*** في مبسم الدهر الجديد نواجدا
ومشت تحيي الفرقدين فأطْلعَتْ*** بالرغم من وضح النهار فراقدا
نطحت بصخرتها الوجودَ وأصحرتْ*** لتظلَّ من بعد الحدوث أوابدا
ركدت كرابعة الكرات على الثرى*** فهوت لها الست الجهات سواجدا
هذه المعالم التي يخاطبها الشاعر، والتي صارعت الوجود على البقاء، معالم حيَّة، تفيض بالنور، فالشاعر حين يخاطبها، يخاطب عالماً مليئاً بالأرواح النورانيَّة التي من الممكن أن تستجيب له في أيَّة لحظة، هذا التوظيف الجديد للطلل يفسر العلاقة التي تربط الشاعر بتلك المعالم، مثلما يفسِّر العلاقة بين المقدمة والغرض، فلم تعد علاقة الشاعر بما يخاطبه علاقة الذكرى اليائسة التي ربطت الشاعر الجاهلي بطلله القديم، وإنما صارت علاقة مستمرة بين روحين يمكن أن يتجاوبا، فيما أصبحت الرابطة بين المقدمة وغرض المرثيَّة، رابطة انسيابيَّة ممتدَّة غير متكلَّفة، بل اكثر انسيابية مما كانت عليه عند الشاعر الجاهلي. يقول السيد رضا الموسوي الهندي[10]: (من الكامل)
إنْ كان عندك عبرة تجريها*** فانزل بأرض الطف كي نسقيها
فعسى نبلَّ بها مضاجع صفوةٍ*** ما بلَّت الأكباد من جاريها
ولقد مررت على منازل عصمةٍ*** ثقل النبوَّة كان القى فيها
فبكيت حتى خلتها ستجيبني*** ببكائها حزناً على أهليها
فالطلل هنا غير منفصل عن غرض القصيدة، وهذه من أهم سمات المقدمة الطلليَّة في مراثي الإمام الحسين (عليه السلام)، فالسيد رضا الهندي أضفى على مقدمته طابعها الطفّي الخاص بدلالة الألفاظ (أرض الطف، مضاجع صفوة، منازل عصمة، ثقل النبوَّة...) التي أصبحت البديل المثالي لبقايا الطلل الجاهلي، التي كان يخاطبها وهو يعلم أنها لا تجيبه، لكن منازل أهل البيت كادت تجيب السيد رضا الهندي، فكانت هذه المنازل مهوى لأفئدة الشعراء، لذلك كثيراً ما كان الطلل الجاهلي موضوع رفض عندهم، يقول باقر حبيب الخفاجي[11]:(من الطويل)
خليليَّ عوجا بي على وادي نينوى*** ولا تذكرا لي عهد حزوى ولا اللوى
................
قفا بي على وادي الطفوف سويعةً*** لعلي أناجيه أيدري لمن حوى
حوى سيداً شاد الهدى في جهاده*** غداة على متن الجواد قد استوى
فالغاية عند الشاعر في هذه المقدمة تستند إلى رؤية عقائديَّة، تؤمن بخلود الشهداء، لذا أصبحت مناجاته لأرواح شهداء الطف، بعد أن كانت عند الجاهلي وقفة يأس لذكريات شاحبة.
وقد تكون الغاية من الوقوف على الطلل، مباشرة الغرض، حينئذ تمتزج المقدمة بالغرض، فتنعدم الفواصل بينهما على نحو جعل من ذلك سمة انفردت بها مراثي الإمام الحسين (عليه السلام)، لتعبِّر عن وحدة موضوعيَّة تتمثَّل في الحزن على الإمام وبكائه، ووحدة فنيَّة تتمثَّل في انتفاء الحاجة إلى التخلص من المقدمة إلى الغرض، يقول الشيخ محمد بندر النبهاني[12]: (من الوافر)
ألا عوجا على تلك الطلالِ*** بها نبكي لأحمد خير آلِ
فهذي كربلاء بها حسين*** أحاطت فيه أجناد الضلالِ
وتأتي بعد ذلك المقدمة الغزليَّة، التي لم تكن في غرض الرثاء أصيلة، كأصالتها في الأغراض الأخرى، إذ لم يألف العرب أن تبدأ مراثيهم بالغزل لانشغال الشاعر بالحسرة والمصيبة على رأي ابن رشيق، الذي نقل أنَّ دريد بن الصمَّة أول من فعل ذلك[13]، ثمَّ صار أمراً مقبولاً عند الشعراء فيما بعد.
ولعلَّ ما ذكر في تفسير هذه المقدمات أنها تمثل هروباً من الموت إلى الحياة المتمثلة في عاطفة الحب، أو أنها دليل على صدق تجارب الشعراء العاطفيَّة[14] غير كافٍ لتفسير وجودها في مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) ما لم يضف إلى ذلك عامل التقليد للموروث، إذ إنَّ تلك المقدمات تعد جزءاً من المتطلبات الفنيَّة التي يحاول الشعراء من خلالها إظهار مقدرتهم الأدبيَّة، بطريقة استعراضيَّة، ربما لا تعبر عن واقع حقيقي لانشغال الشعراء بما هو أهم من الغزل، وهم يرثون الإمام الحسين (عليه السلام).
ومهما يكن من أمر، فإنَّ أهم ما يميز الغزل في مقدمة الرثاء الحسيني نقطتان:
الأولى: إنَّه غزل عفيف، ليس فيه شيء من ذكريات اللهو والتصابي، أو وصفٌ للنساء، ويمكن تعليل ذلك بعدم مناسبة تلك الذكريات لرثاء الإمام الحسين (عليه السلام)[15]. يقول محمد حسن أبو المحاسن[16]: (من الطويل)
أقلاّ عليَّ اللوم فيما جنى الحبُّ*** فإنَّ عذاب المستهام به عذبُ
وصلت غرامي بالدموع وعاقدتْ*** جفوني على هجر الكرى الأنجم الشهبُ
تقاسمن مني ناظراً ضمنتْ له*** دواعي الهوى أن لا يجف له غربُ
فليت هواهم حمَّل القلب وسعهُ*** فيقوى له أو ليت ما كان لي قلبُ
فابعد بطيب العيش عني فليس لي*** به طائلٌ إن لم يكن بيننا قربُ
فعلى الرغم من وجود ألفاظ (الحب، المستهام، الغرام، دواعي الهوى، القرب)، فإنَّها لم تدل على ترف الشاعر، وتصابيه، بل إنَّ تلك الألفاظ وجهت النص إلى دلالات الشكوى (وصلت غرامي بالدموع)، مما جعل المقدمة منسجمة مع الأجواء الحزينة للمرثيَّة.
أما النقطة الأخرى التي ميَّزت الغزل في رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) انَّ ذلك يقوم على أساس النفي، أي نفي الشاعر، ورفضه أن يعود إلى تلك الأيام[17]، يقول باقر حبيب الخفاجي[18]: (من السريع)
لست إلى نجد وللرقمتينْ*** أحن أو أهوى إلى الأبرقينْ
منازل تأوى (بثينٌ) لها*** أين أنا يا صاحبي وهي أينْ
دع عنك عهداً للتصابي مضى*** إني بشغلٍ شاغلٍ عن (بثينْ)
إنَّ رفض الشاعر ذكريات الصبا يعد دليلاً على الاستعداد النفسي وهو يهيئ نفسه للدخول إلى رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) مما يجعل القارئ يتأمَّل ما يروم إليه الشاعر، ويضعه في حال من الترقب لما سيأتي بعد المقدمة.
ولإضفاء طابع الحزن على المرثيَّة منذ البداية أكثر الشعراء من ألفاظ الفراق والشكوى والوجد والكمد والرقاد، ونار الصبابة، يقول محمد بندر النبهاني[19]: (من الطويل)
دعاني الهوى أني أهيم بكم حبّا*** فكنت كما شاء الغرام بكم صبا
وحملتموا قلبي من الوجد فوق ما*** ينوء به ثقلاً فأجهدتم القلبا
وأضرمتمو في اللبِّ نار صبابةٍ*** ببينكم حتى أذبتم بها اللبا
ويقول السيد جواد الهندي[20]: (من المتقارب)
رحلتم وما بيننا موعدُ*** واثركم قلبي المكمدُ
وبتُّ بداري غريب الديارِ*** فلا مؤنس لي ولا مسعدُ
وفارق طرفي طيب الرقادِ*** وفي سهده يشهد المرقدُ
فهذه المقدمات، مقدمات حزن، وما يجمعها بغرض القصائد ذلك الهم الذي يتعلَّق بأسبابها المباشرة (الرحيل، البعاد، الفراق) وغير المباشرة (الحزن على الإمام الحسين)، مما يجعل من تلك المقدمات ركائز حزن تشد المرثيَّة من أول أبياتها إلى نهايتها[21].
تأتي بعد ذلك مقدمة وصف الظعن، وهذا النوع من المقدمات مرتبط بالمقدمات الغزليَّة، لاشتراكهما في الموضوع نفسه، لكن كثرة وروده في الشعر العربي، جعلت النقّاد يفصلون بينهما[22].
وصورة الظاعنين مما يبعث الأسى، فهو مشهد إيذان بالفراق، وانفصام لرابطة الإنسان بأرضه، وهذا كافٍ لإثارة مكامن الشعور بالقلق من الفراق الذي يهدد الإنسان في كل لحظة، إنَّه صورة أخرى للموت[23]، وفي مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) ربما كانت هذه المقدمات تعبر عن شعور خفي بحضور صورة ظعن الإمام الحسين (عليه السلام) في مخيلة الشاعر، وهو يقطع الفيافي والقفار محملاً بالبدور من آل هاشم، مؤذناً بفراق مؤلم، حيث انتهى بمصرعهم في كربلاء، وقد جسَّدت تلك المقدمات ذلك من خلال إشارات لا واعية من لدن الشاعر، حينما تكشفت فلتات لسانه، ان ظعنه المقصود، لم يكن سوى ظعن الحسين (عليه السلام)، يقول الشيخ كاظم آل نوح[24]:(من الكامل)
بالعيس حادي العيس يطوي البيدا*** ويجوب أغواراً بها ونجودا
تخذى إذا ما زجَّها بهوادج*** قد ضمنت هيفا حساناً غيدا
اما تجلَّت في الدجى أنوارها*** أهوت لهن بنو الغرام سجودا
إنَّ الألفاظ (أنوارها، سجودا) تخفي خلفها دلالات أعمق من دلالتها الظاهرة، وتشير إلى صورة لظاعنين لا يستبعد الظن أنها صورة أهل البيت الذين يمثلون امتداداً للنور الرسالي المحمَّدي.
وقد يكون الظعن المقصود في المقدمة، ظعن الحسين (عليه السلام) حينئذ يتحوَّل وصف الظاعنين من ألفاظ الغزل إلى الإجلال والتعظيم والتقديس، مما يجعل المقدمة، مقدمة ظعنيَّة حسينيّة، قد لا يحتاج الشاعر معها إلى وسيلة للتخلص إلى غرضه[25]، يقول كاظم سبتي[26]: (من الوافر)
برغم المجدِ من مضر سراةُ*** سرت تحدو بعيسهمُ الحداةُ
سرت تطوي الفلا بجبال حلمٍ*** أسُيِّرتْ الجبالُ الراسياتُ؟
...............
يرقصها الجوى أنّى ترامت*** تجيب البيد فيها الراقصات
تخب بها ركائبها خفافاً*** فترجع وهي منك مُوَقَّرات
الدلالة العامة للمقدمة تشعر بالهيبة والوقار، لأنَّ الشاعر تحدَّث عن ظاعنين استحقوا تلك المعاني، فهم (جبال حلم)، وهم من علاة مضر، فلم تكن تلك الظعائن تحمل ما كانت تحمله ظعائن الشاعر الجاهلي.
وأخيراً تأتي مقدمة بكاء الشباب، فقد ذكر المرزباني أنَّ أول من سنَّ ذلك في مقدمات القصائد عمرو بن قميئة[27]، ثمَّ صار ذلك تقليداً سار عليه الشعراء، ولاسيما المعمرون منهم[28]، بوصفه إحساساً طبيعياً عند الإنسان الذي تقدَّم به العمر، ولم يبق لديه سوى ذكريات طالما كانت مثاراً للأسى والتحسر.
لكن تلك المقدمات تميَّزت بطابعها الخاص في مراثي الإمام الحسين (عليه السلام)، فقد تميَّزت بالرؤية الحكيمة التي تنسجم ورثاء الإمام الحسين (عليه السلام)، فلم يعد الشاعر يبكي شبابه ويتحسَّر عليه فحسب، وإنما مثل له انقضاء الشباب فرصة للتأمّل لخلو نفسه من نزوات الشباب لتنشغل بما هو أسمى من ذلك، أي برثاء سيد شباب أهل الجنة، يقول محمد علي اليعقوبي[29]: (من المتقارب)
تناسى ببابل أوطارهُ*** فتىً أوضح الشيب أعذارهُ
أمِنْ بعدما جاوز الأربعين*** يطاوع باللهو أمّارهُ
إذا ما الشباب انطوى سفره*** فخل الهوى واطوِ أسفارهُ
فما أنا من بعدها ذو هوىً*** يقاسي من الحب أطوارهُ
يناجي نجوم الدجى ساهراً*** وكان ينادم أقمارهُ
إذا ما صفى عيشه برهةً*** أتاح له الدهر أكدارهُ
فدع ذكريات الصبا أنني*** ذكرت الحسين وأنصارهُ
فالشاعر يربأ بنفسه عن أن يتصابى بعد أن جاوز الأربعين، فلم يعد ذلك لائقاً بعد أن شغل بذكرى الحسين (عليه السلام) وأصحابه، لذلك كثيراً ما قرنت تلك المقدمات بحزن الشاعر، فلم تعد الذكريات تؤنسه بالقدر الذي كانت تثير في نفسه دواعي الإشفاق على عمره الماضي، يقول السيد رضا الموسوي الهندي[30]: (من الكامل)
أو بعد ما ابيضَّ القذال وشابا*** أصبو لوصل الغيد أو أتصابى
هبني صبوت فمن يعيد غوانيا*** يحسبن بازي المشيب غرابا
قد كان يهيدهن ليل شبيبتي*** فضللن حين رأين فيه شهابا
............
ولقد وقفت فما وقفن مدامعي*** في دار زينب بل وقفن ربابا
فالمقدمة لم تعد وصفاً لمغامرات الصبا، ولا تذكراً لتجارب الشباب، إنما أصبحت حسرة وأسفاً وبكاءً على عمر تولى.
ومهما يكن من أمر فإنَّ مقدمات بكاء الشباب كانت قليلة العدد في مراثي الإمام الحسين (عليه السلام)، ولعلَّ السبب في ذلك يعود إلى دواع نفسيّة تتمثّل بالغرائز المتأصلة في النفس الإنسانيَّة، والتي تدفع الإنسان إلى الهرب من كل ما يثير في داخله لحظات الموت، ودنو الأجل[31]، ولاسيما أنَّ التقدم في العمر علامة دالة على ذلك، فالتشبث بالحياة طالما دفع ذو الشيبة إلى إخفاء شيبته، والظهور بمظهر الشباب، وإن كان الأمر خلاف ذلك.
التخلص
إنَّ توظيف المقدمات السابقة التي تطرَّق إليها البحث، بما يتلائم ورثاء الإمام الحسين (عليه السلام) قلَّل من أهميَّة التخلّص في مراثي هذه الحقبة، ولاسيما التخلّص بالأداة، مما نتج عن ذلك أن لا يحتاج الشاعر إلى وسيلة للانتقال إلى غرضه في أحوال كثيرة، لكنه في الحالات القليلة قد يلجأ إلى التخلص الانسيابي، الذي قد لا يستشعره إلاّ المتلقي الفطن، يقول محمد حسن أبو المحاسن[32]: (من الطويل)
عدمناك من دهر خؤون لأهله*** إذا ما انقضى خطبٌ له راعنا خطبُ
على أنَّ رزء الناس يخلق حقبةً*** ورزء بني طه تجدده الحقْبُ
فقد لا يشعر المتلقي بشيء من التكلّف في انتقال الشاعر من المقدمة إلى رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) لوجود البعد النفسي ذاته في المقدمة والغرض الذي تجسَّد بسخط الشاعر على الزمان الذي لا يؤمن جانبه، وقد غدر بأهل البيت، مما يسمح بالقول إنَّ انتقال الشاعر كان منسجماً مع ما أطلق النقاد عليه تسمية حسن الخروج[33]، وحسن التخلص[34]، لكن الشعراء حين يضطرون إلى استعمال الصيغ التقليديَّة للتخلص (دع ذا، دع عنك، عد...)، فإنهم – في حالات كثيرة – تعاملوا مع ذلك الموروث على وفق رؤية منطقية تسوغها مشروعيَّة العقيدة الراسخة لديهم في رفض موضوع المقدمة لأهميَّة ما يتضمنه الغرض من المرثية، يقول محمد علي اليعقوبي[35]: (من المتقارب)
فدع ذكريات الصبا إنني*** ذكرت الحسين وأنصارهُ
فقد جاء انتقال الشاعر مسوغاً لوجاهة القضيَّة التي انتقل إليها، والتي تستند إلى العقيدة التي يتفق الشاعر والمتلقي على عدالتها، مما يعني أنَّ التخلص في مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) وظِّف هو الآخر على نحو يتلاءم ومتطلبات رثاء الإمام، فالشاعر في تخلصه يقيم معادلة بين طرفين، ثمَّ يغلب الطرف الثاني الذي يتمثَّل في رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) في الأحوال كلها.
وقد يكون الانتقال بطريقة حواريَّة، حينئذ لا بدَّ أن يعتمد على مبدأ الإقناع؛ إقناع الطرف الأول (الشاعر) للطرف الثاني (العاذل في أغلب الأحوال)، يقول مجيد خميس[36]: (من الطويل)
وعاذلة لما رأتني مولَعاً*** أحنّ إلى رَبعٍ خلا منه مربعُ
تقول: أرى للحزن قلبك مقْسَماً*** وجسمك للأسقام أضحى يوزعُ
فقلت لها والهم يلبسني الشجى*** أقرّ وآل الله بالطف صرعوا
إنَّ المتلقي لا يشعر بانتقالة مفاجئة أو متكلَّفة في تخلص الشاعر، بفضل انسيابية التخلص، والنفس الهادئ الذي جسَّدته المحاورة بينه وبين العاذلة، التي بدت مستفهمة عن سبب سقم الشاعر، وسرعان ما كان الجواب المقنع، إنَّه مصرع آل الله (الحسين وأصحابه).
ـــــــــــــــــ
[1] المراثي الشعرية في عصر صدر الإسلام: 186.
[2] ينظر: العمدة: 1 / 225، ومقدمة القصيدة العربية في الشعر الجاهلي: 217 – 221.
[3] ديوان أبي المحاسن الكربلائي: 146.
[4] ديوان الحاج عبد الحسين الأزري: 339.
[5] ديوان الجوهري: 2 / 271.
[6] ديوان أبي الحب: 141.
[7] ينظر: العمدة: 1 / 226، ورثاء الإمام الحسين في العصر العباسي (رسالة ماجستير): 33، ومقدمة القصيدة العربية في الشعر الجاهلي: 116.
[8] ينظر: وحدة القصيدة في الشعر العربي حتى نهاية العصر العباسي: 197.
[9] ديوان السماوي: 362.
[10] ديوان السيد رضا الموسوي الهندي: 47.
[11] خير الزاد ليوم المعاد: 26.
[12] أزهار الريف: 63.
[13] ينظر: العمدة: 2 / 152.
[14] ينظر: وحدة القصيدة العربية في الشعر العربي حتى نهاية العصر العباسي: 182.
[15] ينظر: رثاء الإمام الحسين في العصر العباسي (رسالة ماجستير): 33.
[16] ديوان أبي المحاسن الكربلائي: 5.
[17] ينظر: رثاء الإمام الحسين في العصر العباسي (رسالة ماجستير): 33.
[18] خير الزاد ليوم المعاد: 19.
[19] أزهار الريف: 58.
[20] ديوان السيد جواد الهندي (مخطوط): 1.
[21] ينظر: ديوان الشيخ كاظم آل نوح: 1 / 151، 3 / 541، وديوان حسين الكربلائي: 59، وديوان أبي المحاسن الكربلائي: 39، وديوان يعقوب الحاج جعفر الحلي: 77.
[22] ينظر: مقدمة القصيدة في الشعر الجاهلي: 137.
[23] ينظر: الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي: 243.
[24] ديوان الشيخ كاظم آل نوح: 1 / 174.
[25] ينظر: م. ن: 2 / 453، وديوان الشيخ يعقوب الحاج جعفر الحلي: 67.
[26] منتقى الدرر في النبي وآله الغرر: 1 / 20.
[27] ينظر: معجم الشعراء: 4.
[28] ينظر: مقدمة القصيدة العربية في الشعر الجاهلي: 149، ومقدمة القصيدة في الشعر الأندلسي: 78.
[29] الذخائر: 32.
[30] ديوان السيد رضا الموسوي الهندي: 41.
[31] ينظر: موسوعة علم النفس: 230.
[32] ديوان أبي المحاسن الكربلائي: 5.
[33] ينظر: كتاب البديع: 60.
[34] ينظر: معجم النقد العربي القديم: 1 / 274.
[35] الذخائر: 32.
[36] أدب الطف: 10 / 185.
إرسال تعليق