من هو حكيم بن حزام الذي ادعى أهل السنة ولادته في الكعبة بدل الإمام علي عليه السلام؟

بقلم: السيد نبيل الحسني

ما ذكره أهل التراجم عن هذه الشخصية ودراسة هذه الأقوال



إنّ تفرّد حكيم بن حزام في (الولادة في الكعبة) كما يعتقد بعض المسلمين لتدفع بالقارئ أو الباحث إلى الوقوف عند هذه الشخصية ودراسة حالها وما يحيط بها كي يصل الدارس إلى حقيقة هذا المدعى؛ أو في الأقل يقف عند هذا التميز والتفرد في منقبة لم يحظَ بها أحد من بني آدم.



وهنا ينبغي السؤال، أي: كونها منقبة كما صرح بذلك الحافظ النووي قائلاً: (ومن مناقبه أنه ولد في الكعبة، قال بعض العلماء: ولا يعرف أحد شاركه في هذا)[1]. أو كما يقول الحافظ الذهبي: (وله منقبة، وهو أنه ولد في جوف الكعبة)[2].

أَتعدُّ هذه الولادة في جوف الكعبة من المناقب الأخروية أم أنها من المناقب الدنيوية التي خلقتها الظروف التي أعقبت وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما شهده الإسلام من متغيرات عقائدية واجتماعية ونفسية وسياسية أفرزتها الحروب الداخلية ومن تسبب بها وجهز إليها فكانت نتيجتها قتل أهل البيت عليهم السلام وقتل الصحابة فضلاً عن التجاذبات الفكرية بين هذا الصحابي وذاك لينتهي الحال بالأمة على تفرقها إلى ثلاث وسبعين فرقة. أم أن هذه الولادة من المناقب الأخروية التي أكرم الله بها حكيم بن حزام من بين خلقه.

إذن: يلزم الباحث الوقوف عند هذه الشخصية التي نالت هذه الخصوصية من بين بني آدم فضلاً عن المسلمين فكان الوحيد ــ كما يقولون ــ الذي ولد في جوف الكعبة؟

أولاً: ما ذكره ابن حجر (المتوفى سنة 852هـ) ودراسة هذه الأقوال



قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في ترجمته لحكيم بن حزام:(حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي الأسدي، بن أخي خديجة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ واسم أمه صفية، وقيل: فاختة، وقيل: زينب بنت زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزي. يكنى: أبا خالد، وله حديث في الكتب الستة.

1: روى عنه ابنه حزام، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وسعيد بن المسيب، وموسى بن طلحة، وعروة وغيرهم. قال: موسى بن عقبة عن أبي حبيبة مولى الزبير سمعت حكيم بن حزام يقول: ولدت قبل الفيل بثلاث عشرة سنة وأنا أعقل حين أراد عبد المطلب أن يذبح عبد الله ابنه، وذلك قبل مولد النبي صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم بخمس سنين. وقتل والد حكيم ــ أي: حزام بن خويلد ــ في حرب الفجار وشهدها حكيم.

وحكى الزبير بن بكار أن حكيماً ولد في جوف الكعبة، قال: وكان من سادات قريش وكان صديق النبي صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم قبل المبعث وكان يودّه ويحبه بعد البعثة ولكنه تأخر إسلامه حتى أسلم عام الفتح.

وهنا نقول:

أ . نلاحظ أن القول في ولادة حكيم بن حزام في الكعبة لم يكن من قبل حكيم بن حزام إذ لم يصرح بذلك في أي رواية من الروايات وإنما كان يذكر لنا التاريخ فقط في هذه الولادة كقوله: «ولدت قبل الفيل بثلاث عشرة سنة». ولم يذكر أين مسقط رأسه في حين أن هذه الولادة كانت تقتضي الشهرة بل والافتخار لاسيما وأن قريشاً تحرص وتقاتل من أجل التفاخر. فكيف يكون الزبير بن بكار يعلم بولادة عم أبيه حكيم وهو لا يعلم؟!

ب . أما كونه صديقاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل المبعث وكان يوده ويحبه فسيمر بيانه في دراسة أقوال الحافظ ابن عساكر الأموي.

2 . ثبت في السيرة وفي الصحيح أنه صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم قال: من دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن، وكان من المؤلفة قلوبهم، وشهد حنيناً وأعطى من غنائمها مائة بعير ثم حسن إسلامه.

أما قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن فذلك مرجعه إلى أن دار حكيم كانت أسفل مكة ودار أبي سفيان كانت في أعلى مكة والبيت الحرام في الوسط[3]، بمعنى إن النبي الأكرم أراد أن يكف المسلمون عن سفك الدماء في هذا البلد الحرام وكي يسهل على الناس الالتجاء ضمن هذه النقاط الثلاث. سوى من تجرأ وحمل السيف لقتال المسلمين فهو مقتول ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة.

فضلاً عن ذلك فإن اختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذا الدور إنما كان لطلب العباس بن عبد المطلب وخاصة فيما يتعلق بأبي سفيان قائلاً: يا رسول الله أبو سفيان بن عمنا وأحب أن يرجع معي ولو أخصصته بمعروف، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن[4].

فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالانطلاق عاد العباس بن عبد المطلب وقال: يا رسول الله إني لا آمن أبا سفيان أن يرتد فرده حتى تريه جنود الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: افعل.[5]

والرواية تدل على كرامة العباس بن عبد المطلب لدى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأخذ بمشورته وذلك لسنه وموقعه منه ومعرفته برموز قريش وما يصلح لهم.  ولذلك نجده هو الذي بادر من الأساس إلى أن يرسل إلى أهل مكة من يخبرهم بخروج النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إليهم ليفتح مكة فجاء عند ذلك أبو سفيان وحكيم بن حزام لأنهما لو دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفتحها فسيكونان أول الخاسرين لأنهما من أشهر أصحاب المال والتجارة. لذا قدما على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليأمنا على أموالهما قبل دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم.  

بل، نجد أن أبا سفيان يصرح بذلك لزوجته هند بنت عتبة حينما عاد إلى مكة وهو يقول من دخل داره فهو آمن (إن أقبلت عليه فأخذت بلحية أبي سفيان ثم نادت يا آل غالب اقتلوا هذا الشيخ الأحمق، فقال أبو سفيان: فأرسلي لحيتي فاقسم بالله إن أنت لم تسلمي لتضربن عنقك)[6]. وليقينه بأنه إن لم يسلم ستضرب عنقه وتذهب أمواله، فقد ذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما وصله الخبر بالخروج إلى مكة.

وعليه: لم يعد هذا القول، أي الدخول إلى دار حكيم بن حزام لخصوصية حكيم بن حزام وإنما لموقع داره ولأنّه قد قدم مع أبي سفيان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

3 . وكان قد شهد بدراً مع الكفار ونجا مع من نجا فكان إذا اجتهد في اليمين قال: والذي نجاني في يوم بدر.

قال الزبير ــ بن بكار ــ: جا
ء الإسلام وفي يد حكيم الرفادة وكان يفعل المعروف ويصل الرحم؛ وفي الصحيح أنه سأل النبي صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم فقال أشياء كنت أفعلها في الجاهلية إلي فيها أجر؟ قال صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم: «أسلمت على ما سلف لك من خير».

وكانت بيده دار الندوة فباعها بمائة ألف درهم لمعاوية فلامه عبد الله بن الزبير.  وكان من العلماء بأنساب قريش وأخبارها؛ مات سنة خمسين، وقيل سنة أربع، وقيل ثمان وخمسين، وقيل سنة ستين، وهو ممن عاش مائة وعشرين سنة شطرها في الجاهلية وشطرها في الإسلام.قال البخاري: مات سنة ستين وهو بن عشرين ومائة سنة، وقيل مات لعشر سنوات من خلافة معاوية)[7].

أقول: أما فيما يتعلق بالرفادة وأنه كان يصل الرحم وأنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أشياء كان يفعلها في الجاهلية فأسلم على ما سلف من هذه الأعمال الخيرة فسيمر جوابه في دراسة أقوال ابن عساكر.

ثانيا: ما ذكره الحافظ بن عساكر (المتوفى سنة 571هـ) ودراسة هذه الأقوال



أفرد الحافظ ابن عساكر الأموي لحكيم بن حزام ترجمة طويلة في تاريخه لدمشق ولكنها وعلى الرغم من طولها لم يرد فيها ما يدل على منقبة حازها الرجل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنى له بالمناقب مع النبي صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم وقد أسلم في فتح مكة وكان من المؤلفة قلوبهم أما ما عدا هذا فقد أطال ابن عساكر في حديثه عن حكيم بن حزام الذي يمكن تلخيصه إلى نقاط، وهي كالآتي:

1ــ أن (أسلم يوم الفتح وشهد مع رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم حنيناً مسلماً)[8].

أقول: إلا أنه لم يحض بمنقبة بل حضوره في حنين كشف عن حقيقة إيمانه فقد أعطاه رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم من غنائم حنين وعدّه من المؤلفة قلوبهم فضلاً عن جشعه وطمعه فيما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك حسبما دلت عليه رواية الزهري عن سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، قالا: حدثنا حكيم بن حزام، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم بحنين مائة من الإبل فأعطانيها، ثم سألته مائة فأعطانيها، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم: «يا حكيم بن حزام إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه سخاوة نفس بورك له فيها، ومن أخذه بإشراف نفس ثم لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول»[9].

والحديث كاشف عن جشع حكيم بن حزام وحرصه على جمع المال؛ لذا استقل عطاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فزاده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كي يألف الإسلام.

2ــ سجل له ابن عساكر موقفاً آخر بعد إسلامه وهو سؤاله من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بعض الأمور، منها:

أ . عن أمرٍ يتعلق بالبيع فقال، قلت: يا رسول الله الرجل يسألني البيع وليس عندي ــ ما ــ أبايعه؟ قال: «لا تبع ما ليس عندك»[10].

ب . له سؤال آخر سأل فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: ما يُدخل الجنة؟

قال صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم: «لا تسأل أحداً شيئاً»[11].

ج . سأل أيضاً: قلت يا رسول الله إني اعتقت في الجاهلية مائة رقبة، وحملت على مائة بعير تحنثت بها واعتقت في الإسلام مائة رقبة، وحملت على مائة بعير فهل ترى ليس في ذلك أجراً يا رسول الله ــ يعني ما فعل ذلك في الجاهلية وفي الإسلام ــ؟

فقال صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم: «أسلمت على ما مضى لك»[12]. وفي رواية:«أسلمت على صالح ما سلف»[13].

أقول: وأبدأ من هذا الحديث فهو لا يصح؛ فمتى أسلم حكيم بن حزام كي يستطيع أن يعتق مائة رقبة، وأن يحمل على مائة بعير فمتى حملها وهو لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا غزوة واحدة وهي غزوة حنين وقد أغار بفرسين فأصيبتا فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أصيبت فرساي فأعطاه مائة بعير بدل الفرسين إلا أن حكيم بن حزام لم يرض بهذه المائة عوض الفرسين فطلب زيادة فزاده النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة أخرى ليكون الفرس الواحد عوضه مائة بعير من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومع ذلك لم يرض جشعه وطمعه فزاده النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة ثالثة ولم يقنع فرد عليه صلى الله عليه وآله وسلم: «يا حكيم بن حزام إن هذا المال خضرة حلوة...»[14]. إلى آخر قوله صلى الله عليه وآله وسلم المذكور آنفاً.

بل الحقيقة: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي كان يبذل له المال كي يألف الإسلام لا العكس، فهؤلاء قوم لا يرون غير المال ولو لم يفتح الله تعالى لنبيه مكة لما آمن أبو سفيان أو حكيم بن حزام أو غيرهما من الطلقاء وأبنائهم.

ولذلك لم تتعدَّ هذه الأسئلة نطاق المال وما يحيط به، فسؤاله الأول كان عن البيع والثاني كان عن الدخول للجنة فكان جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكشف عن مغزى سؤال حكيم وماذا يقصد وأي شيء يريد من الجنة فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا تسأل أحداً شيئاً أي الكفاف وليس الجشع، والسؤال الثالث: كان عن المال في العتق والحمل على الأباعر والذي لا صحة له كما أسلفنا.

3ــ أما ما يتعلق بقبل إسلامه فهو كالآتي:

أ: فقد روى ابن عساكر عن عراك بن مالك أن حكيم بن حزام قال: كان محمد النبي صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم أحب رجل من الناس إليّ في الجاهلية، فلما نُبئ وخرج إلى المدينة شهد حكيم الموسم وهو كافر، فوجد حلّة لذي يزن تباع فاشتراها ليهديها إلى الرسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم فقدم بها عليه إلى المدينة فأراده على قبضها هدية فأبى وقال: «أنا لا أقبل من المشركين شيئاً ولكن إن شئت أخذتها منك بالثمن» ــ قال ــ حزام: أعطيته إياها حين أبى عليّ الهدية فلبسها فرأيتها عليه على المنبر، فلم أر شيئاً أحسن منه فيها يومئذ، ثم أعطاها أسامة بن زيد فرآها حكيم على أسامة فقال: أيا أسامة أنت تلبس حلّة ذي يزن؟ قال: نعم، والله، لأنا خير من ذي يزن، ولأبي خير من أبيه؛ قال حكيم: فانطلقت إلى مكة أعجبهم بقول أسامة)[15].

أقول: والحديث لا يصح فلو كان حكيم بن حزام يحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل هذا لحب، فلماذا تأخر إسلامه إلى عام الفتح، ولماذا يستخدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المال كي يميل قلبه إلى الإسلام، فنحن لا نصدق بقول حكيم بن حزام وادعائه، ونؤمن بفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكاشف عن عدم حب حكيم بن حزام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذلك: إذا كان حبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجرد ضرب من الوهم فكيف بشرائه حلة لذي يزن، وأين النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حلل المشركين والملوك كي يلبس حللهم ثم يرتقي المنبر إنه من خيال حكيم بن حزام وإعجابه بحلل الملوك وليس من فعل الأنبياء عليهم السلام؛ فضلاً عن ذلك فقد قيل إن حكيم بن حزام قدم بالحلة في هدنة الحديبية وهو يريد الشام في غير فأرسل بحلة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأبى رسول الله أن يقبلها وقال: «إني لا أقبل هدية مشرك» قال حكيم فجزعت جزعاً شديداً حين زهد هديتي فبعتها بسوق النبط من أول سائم سامني ودس رسول الله زيد بن حارثة فاشتراها فرأيت رسول الله يلبسها بعد[16].

لا شك أن حكيم بن حزام هائم بالمال وقد أعماه عن معرفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فراح يلفق تلك الأكاذيب التي نشأت من جزعه الشديد حينما زهد النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بهديته التي كان يرى فيها العزة والملوكية فراح يقدمها لملك آخر وليس لنبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما تبين له أن هذه المحاولة فاشلة وأن رسول الله لا يغرر به في صلح الحديبية راح يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويوهم الناس بأنه غير زاهد في حلة ذي يزن لذا دس ــ والعياذ بالله ــ زيد بن حارثة في سوق النبط يبتع حلة ذي يزن لكي يشتريها له فيذهب عندها جزع حكيم بن حزام الشديد على هديته ولو على حساب المساس بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ب: وروى ابن عساكر عن حكيم بن حزام فقال: كنت أعالج البزّ[17] في الجاهلية فكنت رجلاً تاجراً أخرج إلى اليمن وإلى الشام في الرحلتين فكنت أربح أرباحاً كثيراً، وأعود على فقراء قومي ونحن لا نعد شيئا نريد بذلك شراء الأحوال والمحبة في العشيرة.  وكنت أحضر الأسواق وكانت لنا ثلاثة أسواق: سوق بعكاظ يقوم صبح هلال ذي القعدة فيقوم عشرين يوماً ويحضره العرب، وابتعت زيد بن حارثة لعمتي خديجة بنت خويلد، فأخذته بستمائة درهم فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سألها زيداً فوهبته له، فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[18].

ج: إرساله الطعام إلى شعب أبي طالب عليه السلام، فعن إبراهيم بن حمزة (أن مشركي قريش لما حصروا بني هاشم في الشعب كان حكيم بن حزام تأتيه العير يحمل عليها الحنطة من الشام فيقبلها الشعب ثم يضرب إعجازها فتدخل عليهم، فيأخذون ما عليها من الحنطة)[19].

والرواية أظهرت جانباً وأخفت جانباً آخر، فأما الذي أظهرته الرواية فهو كيفية إدخال حكيم بن حزام لتجارته إلى الشعب لكنها لم تظهر أكان متبرعاً بهذا الطعام أم أنه تاجر جشع ظالم استغل هؤلاء المساكين فأخذ يبتزهم مقابل حصوله على المال الذي كان عند عمته خديجة صلوات الله وسلامه عليها حتى نفذ جميع مالها.

نعم لقد كان هذا الرجل من أكثر التجار احتكاراً للطعام ولا هم له سوى الدينار والدرهم ولعل استزادته العطاء من رسل الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين لخير دليل على جشعه وطمعه.

فضلاً عن ذلك فقد أخرج الشيخ مرتضى الأنصاري رضوان الله تعالى عليه في احتكار الطعام، عن صحيحة سالم الحناط عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال: «وكان ــ حكيم بن حزام ــ إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كله، فمر عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: يا حكيم بن حزام إياك أن تحتكر»[20].

فإذا كان حكيم بن حزام في المدينة يحتكر الطعام كله وهو مسلم فكيف حاله حينما كان في مكة وهو مشرك، والظاهر أن الأمر سيان فقد اعتاد على هذا العمل من الاحتكار سواء أكان مشركاً أم مسلماً ولا شأن له بغير المال والربح.

إذن: لم تكن حياة حكيم بن حزام تزخر بالمناقب كما عنون لذلك بعض مصنفي المسلمين كالحاكم النيسابوري[21]، أو النووي[22] ــ وغيرهما ــ، لذا: يكون مولده في الكعبة المشرفة (وانحصار هذا الأمر فيه) كما يقال يدعو إلى البحث والدراسة في إثبات هذا المدعى كما يدعو إلى دراسة المدّة الزمنية التي عاشها حكيم بن حزام وما هو دوره في الأحداث التي أعقبت وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابتداءً من أمر السقيفة وانتهاءً بتولي معاوية بن أبي سفيان الحكم، وذلك أن حكيم بن حزام قد توفي سنة ستين وهو ابن مائة وعشرين سنة[23]، وقيل قبل هذا التاريخ فقد تأرجحت الأقوال فيما بين عام خمسين وستين للهجرة النبوية، إذ لعلنا نقف عند هذه المناقب التي حظي بها حكيم بن حزام كما عنون لها الحاكم النيسابوري والنووي وغيرهما، ولعلنا نقف عند السر في تميزه بالولادة في جوف الكعبة؟!

المسألة الثانية: دور حكيم بن حزام في الحياة السياسية خلال نصف قرن



لم يكن يخفى على المتتبع للأحداث التي أعقبت وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ اجتماع الأنصار والمهاجرين في سقيفة بني ساعدة وما تمخض عنها من البيعة لأبي بكر وجلوسه في سدة الحكم ثم يليه بحسب وصيته بالخلافة لصاحبه عمر بن الخطاب وما أعقب من تشكيله لمجلس الشورى لستة من الصحابة أحيد فيها الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ضمن سياقات سياسية كشفها رفض الإمام علي عليه السلام من الجلوس للخلافة على أساس البيعة له ضمن شروط وضعها أصحاب المجلس السياسي أن صحة التعبير ترتكز على إلزام الإمام علي عليه السلام بالعمل بسنة الشيخين أبي بكر وعمر فكان الجواب أن رفض عليه السلام هذا الشرط ولتذهب الخلافة حيثما تكون وذلك لخلافها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء عثمان بن عفان ليمضي بما أراده المجلس السياسي الذي شكله عمر بن الخطاب.

ثم لتبدأ مرحلة جديدة ضمن اجتهادات الحاكم الجديد وظهور التيار الأموي والمرواني على الحياة السياسية للمسلمين الذين بدأوا يرون معالم جديدة لدستور جديد ومعطيات فكرية أسست لعقيدة جديدة في الفكر الإسلامي.

فالمال العام أو مال المسلمين بدأ يتحول إلى أموال خاصة بالحاكم وإن كان المسمى بـ(بيت مال المسلمين) لكن هؤلاء المسلمين وبحسب هذه المعايير الجديدة هم بنو أمية خاصة، ومن ثم فالمال مال الحاكم يهبه لمن يشاء ويمنعه عمن يشاء، وهو أمر بدأ في حكم عثمان بنصف ظهوره لينجلي بظهور تام في زمن معاوية حسبما دلت عليه رواية ابن عساكر عن سعيد بن المسيب، قال: ابن البرصاء الليثي وكان من جلساء مروان بن الحكم ومحدثيه وكان يسمر معه فذكروا عند مروان الفيء، فقال: مال الله قسمه وضعه عمر بن الخطاب مواضعه. فقال مروان: المال مال أمير المؤمنين معاوية، يقسمه لمن شاء ويمنعه ممن شاء ما أمضى فيه من شيء فهو مصيب)[24].

ولقد حاول ابن عساكر التستر على فعل عمر بن الخطاب ــ بحسب الرواية ــ حينما غَيَّر سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تقسيم الفيء فقام ابن عساكر فحذف المقطع الأول من الرواية حينما أوردها في ترجمة حكيم بن حزام فقال: (مال لله قسمه، فوضعه عمر بن الخطاب مواضعه) ، ثم يبدو أنه استدرك ذلك فأورد الرواية بشكلها الكامل من دون حذف وتعتيم وذلك في ترجمته لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس، أو لعل ابن عساكر قد نسي أنه حذف من الرواية ما يتعلق بعمر بن الخطاب فأوردا هنا كاملة، فقال: (كان ابن البرصاء الليثي من جلساء مروان بن الحكم ومحدثيه، فكان يسمر معه فذكروا عند مروان الفيء فقالوا مال الله وقد سن رسول الله (صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم) قسمه، ووضعه عمر بن الخطاب مواضعه فقال مروان المال مال أمير المؤمنين معاوية... الخ) [25].

في حين رواها الحافظ المزي (المتوفى سنة 742هـ) في ترجمته لحكيم بن حزام بلفظ آخر: (كان ابن الرجاء الليثي من جلساء مروان بن الحكم ومحدثيه، وكان يسمر معه فذكروا عند مروان الفيء فقال: مال الله، وقد بين الله قسمه، ووضعه عمر بن الخطاب مواضعه، فقال مروان: المال مال أمير المؤمنين معاوية يقسمه فيمن شاء، ويمنعه ممن شاء، وما أمضى فيه من شيء فهو مصيب فيه[26].

فهذا حال مال الله في زمن عمر بن الخطاب وعثمان ومعاوية فما بالك حينما كان مروان هو الحاكم ومن بعده بنوه الجبابرة الأربعة كما سماهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبيهم فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أبو الجبابرة الأربعة»[27].

فكيف يكون حال مال الله، بل كيف يكون حال عباد الله؟ سؤال سبقته الإجابة ومن لسان سيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: «إذا بلغت بنو أمية أربعين اتخذوا عباد الله خولاً وما الله نحلا وكتاب الله دغلا»[28].  والرواية للحاكم النيسابوري.

وفي لفظ آخر أخرجه أحمد ولم يصرح ببني أمية فقال عنه صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا بلغ بنو أبي فلان ثلاثين رجلاً اتخذوا مال الله دولاً، ودين الله دخلاً، وعباد الله خولاً»[29].

وقد أخرجه الطبراني، بلفظ: «إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين اتخذوا دين الله دخلاً، وعباد الله خولاً، ومال الله دولا»[30].

إذن: بدأ المشهد السياسي للأمة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تدخلت فيه الأموال والحكام والأفكار والاجتهادات لينتهي الأمر وبحسب هذه المعطيات الجديدة بالانقلاب على الحاكم الأموي الأول عثمان بن عفان ومحاصرته في داره وقتله على يد الصحابة كمحمد بن أبي بكر وطلحة بن عبيد الله وغيرهما.

إنّه مشهد يحتار فيه المراقب أو القارئ فضلاً عن الباحث، فكل واحد من هؤلاء قد قرأ الحدث بحسب معطياته الفكرية والثقافية ليخرج بنتائج عدة، منها ما اتخذ مفهوم الاجتهاد فهؤلاء الذين حاصروا عثمان بن عفان كانوا قد اجتهدوا فقتلوا الخليفة وذلك تبعاً لمنهج الاجتهادات التي قام عليها النظام السياسي العقائدي الجديد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأبي بكر له اجتهاداته وعمر له اجتهاداته وخالد بن الوليد الذي قتل مالك بن النويرة وبات مع زوجته في الليلة نفسها معرساً كان قد اجتهد، فضلا عن اجتهادات عثمان بن عفان وغيره. لذا: كان قتل الخليفة هو ثمرة هذا النهج الجديد في الأمة، نهج الاجتهاد فمن أخطأ فله أجر واحد ومن أصاب فله أجران.

ومنها، أي القراءات لهذا الحدث ما خرجت بمفهوم الفتنة؛ بل إن البعض من الصحابة لا يعلم أكان قتل عثمان صواباً أم خطأ كما دلت عليه رواية ابن أبي شيبة عن حذيفة بن اليمان أنه قال حين قتل عثمان: (اللهم إن كانت العرب قد أصابت بقتلها عثمان خيراً، أو رشاداً، أو رضواناً، فإني بريء منه، وليس لي فيه نصيب، وإن كانت العرب أخطأت بقتلها عثمان فقد علمت براءتي، قال: اعتبروا قولي ما أقول لكم، والله إن كانت العرب أصابت بقتلها عثمان لتحتلبن به لبنا، ولأن كانت العرب أخطأت بقتلها عثمان لتحسبن به دماً)[31].

في خضم هذه التجاذبات يبرز دور لحكيم بن حزام يتفرد به من بين أولئك العرب الذين كان يحدثهم حذيفة ولعل عنونة الحاكم النيسابوري ترجمته لحكيم بن حزام بـ(مناقب حكيم بن حزام القرشي) لا تتعدى كونها تلك الوقفة التي وقفها في هذه الأحداث العصيبة ليتحول الأمر فيما بعد عند أقطاب الصراع السياسي إلى مجموعة مناقب حظي بها هذا الرجل فكان من بينها ــ بحسب ما قالوا ــ: (ومن مناقبه أنه ولد في الكعبة)[32].

ونحن قبل أن نذهب إلى التحقيق في ولادة حكيم بن حزام في الكعبة نعرّج بالقارئ الكريم إلى (مناقب) حكيم بن حزام في خضم هذه الفتنة، أو الاجتهاد، أو الصراع السياسي، أو الانقلاب، أو غير ذلك من المفاهيم التي تختلف بحسب القراءة للحدث.

أولاً: دوره في مقتل عثمان بن عفان



كي يتضح دور حكيم بن حزام في مقتل عثمان بن عفان ليرقى إلى منزلة (المنقبة) فلابد من الإشارة إلى الكيفية التي قتل فيها عثمان ولو على سبيل الاستشهاد وليس الاستطراد والإسهاب. ولذلك: فقد حوصر عثمان في داره من قبل مجاميع أربعة الأولى من المدينة وفيها كثير من الصحابة وأبنائهم وعلى رأسهم طلحة بن عبيد الله فقد كان أشد المحرضين على قتله ــ كما سيمر لاحقاً ــ والمجموعة الثانية من الكوفيين، والثالثة من البصريين، والرابعة من المصريين، وذلك حسبما صرحت به النصوص التاريخية[33].
والذي يهمنا في البحث هو الترابط فيما قام به طلحة بن عبيد الله في حادثة الدار، أي: الدخول إلى عثمان في داره وقتله مع اثنين من غلمانه وبين دور حكيم بن حزام الذي عدّ من مناقبه، فكان كالآتي:


أ: الترابط بين دور طلحة بن عبيد الله في قتل عثمان وظهور منقبة حكيم بن حزام



إن من الغرائب التي أحيطت بشخصية طلحة بن عبيد الله هي تحريضه الشديد على عثمان بن عفان فلما قتل خرج يطالب بدمه.  وهذه الغرائبية[34] في شخصية طلحة نصَّت عليها كثير من النصوص الروائية والتاريخية وهي مع ذاك تكشف عن حقيقة الصراع بين الصحابة وانعكاسات ذلك على العقيدة والفكر الإسلامي بنحو عام حتى أصبحت المفردات في هذا الفكر لها دلالات ومعان تختلف مصاديقها عما جاء به القرآن والسنة النبوية ومنها (المنقبة) فما هي بمنقبة هنا لا تكون بالضرورة كذلك في محل آخر.
1ــ إنّ أوضح بيان يكشف عن تلك الغرائبية في شخصية طلحة بن عبيد الله هو ما روي عن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه حيث قال: «قد كنت وما أهدد بالحرب، ولا أرهب بالضرب، وأنا على ما وعدني ربي من النصر، والله ما استعجل متجرداً للطلب بدم عثمان إلا خوفاً من أن يطالب بدمه، لأنه مظنته، ولم يكن في القوم أحرص عليه منه، فأراد أن يغالط بما أجلب فيه ليلتبس الأمر ويقع الشك، ووالله ما صنع في أمر عثمان واحدة من ثلاث: لأن كان ابن عفان ظالماً ــ كما كان يزعم ــ لقد كان ينبغي له أن يوازر قاتليه، وأن ينابذ ناصريه، ولأن كان مظلوماً، لقد كان ينبغي له أن يكون من المنهنهين عنه، المعزرين فيه، ولأن كان في شك من الخصلتين، لقد كان ينبغي له أن يعتزله، ويركد جانباً، ويدع الناس معه. فما فعل واحدة من الثلاث، وجاء بأمر لم يعرف بابه، ولم تسلم معاذيره»[35].

2ــ روى الطبري في تاريخه عن حكيم بن جابر قال: قال علي عليه السلام لطلحة وعثمان محصور: «أنشدك الله إلا رددت الناس عن عثمان، قال: لا والله حتى تعطي بنو أمية الحق من نفسها[36].

3ــ وروى الطبري عن بشر بن سعيد قال: حدثني عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة قال: (دخلت على عثمان فتحدثت عنه ساعة فقال: يا ابن عباس! تعال فأخذ بيدي فأسمعني كلام من على باب عثمان فسمعنا كلاماً: منهم من يقول ما تنتظرون به؟ ومنهم من يقول: أنظروا عسى أن يراجع، فبينا أنا وهو واقفان إذ مر طلحة بن عبيد الله فوقف فقال: أين ابن عديس؟ فقيل: ها هو ذا، قال: فجاء ابن عديس فناجاه بشيء ثم رجع ابن عديس فقال لأصحابه: لا تتركوا أحداً يدخل على هذا الرجل أو يخرج من عنده، قال: فقال لي عثمان: هذا ما أمر به طلحة بن عبيد الله ثم قال عثمان: اللهم اكفني طلحة بن عبيد الله فإنه حمل علي هؤلاء وألبّهم، والله إني لأرجو أن يكون منها صفرا، وأن يسفك دمه، إنه انتهك مني ما لا يحل له، سمعت رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا في إحدى ثلاث، رجل كفر بعد إسلامه فيقتل، أو رجل زنى بعد إحصانه فيرجم أو رجل قتل نفسا بغير نفس، ففيم أقتل؟ ثم رجع عثمان، قال ابن عباس: أردت أن أرجع فمنعوني حتى مرّ بي محمد بن أبي بكر فقال خلوه؛ فخلوني)[37].

4ــ وروى ابن أبي الحديد المعتزلي: (كان طلحة من أشد الناس تحريضاً عليه، وكان الزبير دونه في ذلك)[38].

5ــ وروي: (أن عثمان قال: ويلي على ابن الحضرمية ــ يعني طلحة ــ أعطيته كذا وكذا بهار أذهبا وهو يروم دمي يحرض على نفسي، اللهم لا تمتعه به ولقه عواقب بغيه)[39].

6ــ وروى: (إن طلحة كان يوم قتل عثمان مقنعاً بثوب قد استتر به عن أعين الناس يرمي الدار بالسهام)[40].

7ــ وروي: (إنه لما امتنع على 
الذين حصروه الدخول من الباب حملهم طلحة إلى دار لبعض الأنصار فأصعدهم إلى سطحها وتسوروا منها على عثمان داره فقتلوه)[41].

8 ــ وكان الزبير يقول: (اقتلوه فقد بدل دينكم!! فقالوا: إن ابنك يحامي عنه بالباب! فقال: ما أكره أن يقتل عثمان ولو بدئ بابني، أن عثمان لجيفة على الصراط غداً)[42].

9ــ وروى الطبري عن سعيد بن الرحمن بن أبزي عن أبيه قال: رأيت اليوم الذي دخل فيه على عثمان، فدخلوا من دار عمرو بن حزم خوضة هناك حتى دخلوا الدار فناوشوهم شيئاً من مناوشة ودخلوا فو الله ما نسينا أن خرج سودان بن حمران فأسمعه يقول: أين طلحة بن عبيد الله قد قتلنا ابن عفان[43].

والنصوص في ذلك لكثيرة فمن أراد التوسع فعليه الرجوع إلى المصادر التاريخية والحديثية، والذي نحن بصدده بيان فعل طلحة بن عبيد الله في كونه أشد المحرضين على واقعة الدار التي قتل فيها عثمان بن عفان وما تبعها من أحداث تتعلق بهذه الواقعة التي تجلى فيها دور حكيم بن حزام فكان كالآتي:

ب: تجلي منقبة حكيم بن حزام في دفن عثمان بن عفان



بعد أن قُتل عثمان بن عفان في داره وقُتل معه اثنان من غلمانه أخرج من داره (وألقي على المزبلة ثلاثة أيام)[44]، وقد منعت الأنصار والمهاجرين من دفنه وتُرك الغلامان اللذان قتلا معه في الدار، فجاءت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ووقفت بباب المسجد وخاطبت الصحابة فقالت: (لتخلن بيني وبين دفن هذا الرجل أو لأكشفن ستر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخلوها)[45].

والذي دفعها لهذا الخروج هو القرابة فعثمان من بني عمها، أما بقية أمهات المؤمنين فلم يذكر التاريخ لهن شيء في ذلك، فعند ذلك جاء (حكيم بن حزام) أحد بني أسد بن عبد العزى، وجبير بن مطعم بن الحارث بن نوفل استنجدا بعلي عليه السلام على دفنه.  فأقعد طلحة ــ بن عبيد الله ــ لهم في الطريق ناساً بالحجارة[46].

وكانوا قد حملوه على باب ــ وقد أسرعوا في السير به ــ وأن رأسه تقول على الباب طق طق، حتى أتوا البقيع فاختلفوا في الصلاة عليه فصلى عليه حكيم بن حزام أو حويطب بن عبد العزى، ثم أرادا دفنه فقام رجل من بني مازن فقال لأن دفنتموه مع المساكين لأخبرن الناس غداً فحملوه حتى أتوا به حش كوكب[47]، وهي مقبرة بجنب البقيع كانت اليهود تدفن فيه موتاهم، فلما صار هناك رجم سريره ــ بالحجارة ــ وهموا بطرحه، فأرسل علي عليه السلام إلى الناس يعزم عليهم ليكفوا عنه، فكفوا، فانطلقوا به حتى دفنوه في حش كوكب[48]، ولم يلحدوه بلبن وحثوا عليه التراب حثواً[49]، ولما دفنوه غيبوا قبره[50]، خوفاً من أن ينبش، ثم رجعوا فأتوا كنانة بن بشر، فقالوا: إنك أمس القوم بنا رحماً، فأمر  بهاتين الجيفتين اللتين في الدار أن تخرجا، فكلمهم في ذلك، فأبوا.  فقال: أنا جار لآل عثمان من أهل مصر ومن لف لفهم، فأخرجوهما فأرموا بها، فجروا بأرجلهما، فرمي بهما على البلاط، فأكلتها الكلاب. وكان العبدان اللذان قتلا يوم الدار يقال بهما نجيح وصبيح؛ ولم يغسل عثمان وكفن في ثيابه ودمائه ولا غسل غلاماه)[51].

إذن: كان حكيم بن حزام هو من بادر مع ثلاثة من المسلمين لدفن عثمان بن عفان بعد أن بقى ثلاثة أيام ملقى على المزبلة، وحكيم بن حزام هو الذي حمله، وصلى عليه ودفنه، وأن طلحة بن عبيد الله هو الذي منع من دفنه وكان معه كثير من الصحابة كالزبير بن العوام، ومحمد بن أبي بكر وقد التف من حولهم أهل مصر والكوفة والبصرة والمدينة، فضلاً عن ذلك فقد دلت النصوص على أن طلحة أقعد ناساً يتربصون ببدن عثمان وهو ملقى على المزبلة كي لا يقدم أحد على دفنه فلما جاء حكيم بن حزام ومن معه رموهم بالحجارة؛ كما أمر طلحة بن عبيد الله.

من هنا: نجد أن هناك ترابطاً فيما بين دور طلحة بن عبيد الله وحكيم بن حزام، فلولا منع طلحة من دفن عثمان لما استبسل حكيم بن حزام في دفنه؛ وهذا الفعل لم يكن بنو أمية بتاركيه من دون أن يعودوا على حكيم بن حزام بعوائد ترقى به إلى مصاف أصحاب الفضائل والمناقب والسيادة ، وكيف لا يكون ذلك وقد هم الوليد بن عبد الملك أن ينبش قبر أبي بكر وعمر ويخرجهما من حجرة عائشة ويلقيهما في حش كوكب أو في غيره وذلك لأن ابن عمه عثمان بن عفان دفن في مقابر اليهود وهما في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما دلت على ذلك رواية ابن شبة النميري عن عمر بن عبد العزيز قال: (أتكأ الوليد على يدي حين قدم المدينة، فجعل يطوف المسجد ينظر إلى بنائه، ثم إلى بيت النبي صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم فوقف عليه، ثم أقبل علي فقال: أمعه أبو بكر وعمر؟ قلت: نعم، قال: فأين أمير المؤمنين عثمان؟ قال: فوالله يعلم أني لظننت أنه لا يبرح حتى يخرجهما، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الناس كانوا حين قتل عثمان في فتنة وشغل، فذاك الذي منعهم من أن يدفنوه معه، فسكت)[52].

فإذا كان حال أبي بكر وعمر عند الوليد بن عبد الملك هكذا فكيف حال حكيم بن حزام الذي تول إخراج جثمان عثمان بن عفان من داره وحمله والصلاة عليه ودفنه، ثم كيف لا يكون له من المناقب، ما تجعله ينفرد بالولادة في الكعبة ــ سيمر لاحقاً ــ؟ وأما طلحة بن عبيد الله فلم يمر عليه من الوقت كثيراً فقد قتله مروان بن الحكم غدراً بعد أن خرج معه حينما خرج هو والزبير بن العوام للمطالبة بدم عثمان بن عفان حينما ذهبت الخلافة منه إلى الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ولم يبايعه الناس وهو قائد الانقلاب على الخليفة والباسل المغوار في تحريض الناس على قتله.

فكيف تذهب جهوده سداً ولم يحظَ بالخلافة، ولم ينل من علي بن أبي طالب عليه السلام لا دنيا ولا آخرة، أنه موقف الخاسر الذي وجد نفسه قد أضاع الطريقين ولذلك قال يوم الجمل:

ندمت ندامة الكسعي لما *** شريت رضا جرم برغمي

اللهم خذ مني لعثمان حتى يرضى[53]، كلمة هو قائلها لما أتاه سهم مروان بن الحكم فوقع على عين ركبته، فكانوا إذا أمسكوها انتفضت وإذا أرسلوها انبعثت، فقال: دعوها فإنها سهم أرسله الله[54].  هكذا يرى طلحة سهم مروان بن الحكم؛ في حين كان يراها مروان برؤية مختلفة دلت عليها كلماته التي نطق بها بعد أن أصاب طلحة فقال: لا أطلب بثأري بعد اليوم[55]؛ ثم التفت إلى آبان بن عثمان بن عفان فقال: قد كفيناك بعض قتلة أبيك[56].


ثانياً: دور حكيم بن حزام في معركة الجمل



لم يظهر حكيم بن حزام في معركة الجمل بالظهور نفسه الذي شهده مقتل عثمان بن عفان إذ لم يكن مع طلحة والزبير وعائشة الذين خرجوا يطالبون بدم عثمان بن عفان من الأمة.  وفي الوقت نفسه لم يكن هكذا مع الإمام علي عليه السلام على الرغم من مبايعته له كما بايعه طلحة والزبير ومن انظم تحت لوائهم. لكن عدم مناصرته للإمام علي عليه السلام وشكه في حرب علي للناكثين يعد منقبة عند مبغضي علي عليه السلام وأعدائه لاسيما وأن أعداء الإمام علي (عليه السلام) يروون أن (عبد الله بن حكيم بن حزام) كان يقاتل معهم في حربهم لعلي عليه السلام وأنه سقط قتيلاً في معركة الجمل.

وهي حقيقة دلت عليها كلمات الإمام علي عليه السلام حينما مر على القتلى بعد انتهاء المعركة فوقف عند عبد الله بن حكيم بن حزام فقال: «هذا خالف أباه في الخروج، وأبوه حيث لم ينصرنا قد أحسن في بيعته لنا، وإن قد كف وجلس حيث شك في القتال، وما ألوم من كف عنا وعن غيرنا ولكن المليم الذي يقاتلنا»[57].

أقول: حينما يصل الأمر بين الصحابة والتابعين إلى أن يقف الأبناء في وجه الآباء فيخالفونهم في المعتقد كعبد الله بن الزبير الذي وقف يدافع عن عثمان بن عفان ووالده الزبير لا يبالي أنْ يبدأ المنتفضون على الخليفة بقتل ولده إنْ تطلَّب تحقيق هدف قتل عثمان هذه التضحية.  وإنْ يخالف عبد الله بن حكيم بن حزام والده فيخرج لحرب الإمام علي عليه السلام وقتاله فيقتل في المعركة ــ مع علمهم بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: «لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق».

وقد أصبح هذا الحديث من البديهيات التي تأسس عليها الإسلام ومع هذا وغيره يكون الحال بهذه الكيفية من الاختلاف في العقيدة والدين في البيت الواحد وفي الأسرة الواحدة، فكيف بمن كانوا قد تداخلت فيما بينهم النزعة القومية ومآثر الآباء ونار الثأر لبني العشيرة كقتل مروان بن الحكم طلحة بن عبيد الله وهو يقاتل إلى جنبه في حربهما لأمير المؤمنين عليه السلام.

إنه سؤال لن تجد عند أحد من الصحابة وأبنائهم ومن تبعهم على ذلك الإجابة الصحيحة عليه ولاسيما إن القراءات للحدث مختلفة والمعطيات الفكرية التي كونت الثقافات متغايرة، فكل يرى رؤيته ويعطي حكمه ويذهب إلى معتقده ولا تجد بين هذا وذاك سوى تلك الكلمات التي خرجت من فم الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) حينما مر بطلحة بن عبيد الله قتيلاً في معركة الجمل وسهم مروان بن الحكم متجذر في عين ركبته فقال عليه السلام: «اجلسوا طلحة». فاجلس. فخاطبه قائلاً: «يا طلحة بن عبيد الله، قد وجدتُ ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدت ما وعدك ربك حقا!؟ ثم قال: «اضجعوا طلحة وسار[58].

إذن: بدت الحياة السياسية والعقائدية عند الصحابة خلال نصف قرن مختلفة التجاذبات والرؤى والاجتهاد والمعتقدات بدءً من دلالة الألفاظ كـ(المنقبة) وانتهاءً بالدماء التي أريقت والأنفس التي قتلت؛ فما يعد اجتهاداً، قد يعد كفراً عند قراءة مختلفة، وما يعد منقبة هنا، هو عين المثلبة هناك.

ومنها: الولادة في الكعبة (أعزها الله تعالى) فكيف هي الرؤية لهذه الولادة عند أقطاب الصحابة وأهل الحل والعقل في المجتمع؟

ــــــــــــــــــــ
[1] المجموع: ج2، ص66.
[2] تاريخ الإسلام للذهبي: ج4، ص200.
[3] المعجم الكبير للطبراني: ج8، ص8.
[4] المصدر نفسه.
[5] نيل الأوطار للشوكاني: ج8، ص174.
[6] مجمع الزوائد للهيثمي: ج6، ص173.
[7] الإصابة لابن حجر: ج2، ص98.
[8] تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: مج9، ج17، ص69.
[9] تاريخ دمشق لابن عساكر: مج9، ج17، ص79، ط دار إحياء التراث العربي.
[10] تاريخ دمشق لابن عساكر: مج9، ج17، ص77.
[11] تاريخ دمشق لابن عساكر: مج9، ج17، ص80.
[12] تاريخ دمشق لابن عساكر: مج9، ج17، ص82.
[13] تاريخ دمشق لابن عساكر: مج9، ج17، ص81.
[14] تاريخ دمشق لابن عساكر: مج9، ج17، ص79.
[15] تاريخ ابن عساكر: مج9، ج17، ص73.
[16] تاريخ ابن عساكر: مج9، ج17، ص74.
[17] أي: تجارة القماش.
[18] تاريخ دمشق لابن عساكر: مج9، ج17، ص74.
[19] المصدر السابق.
[20] كتاب المكاسب للشيخ مرتضى الأنصاري: ج4، ص365.
[21] المستدرك على الصحيحين: ج3، ص482.
[22] المجموع للنووي: ج2، ص66.
[23] الإصابة لابن حجر: ج2، ص98؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج3، ص482.
[24] تاريخ دمشق لابن عساكر: ج38، ص250، ط دار الفكر، بيروت.
[25] تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: مج9، ج17، ص82، ط دار إحياء التراث العربي.
[26] تهذيب الكمال للمزي: ج7، ص179.
[27] المعجم الكبير للطبراني، عن ابن عباس: ج12، ص183.
[28] المستدرك للحاكم: ج4، ص479؛ مسند الشاميين للطبراني: ج2، ص339.
[29] مسند أحمد بن حنبل: ج3، ص80؛ مسند أبي يعلى الموصلي: ج2، ص384.
[30] المعجم الأوسط للطبراني: ج8، ص7؛ المعجم الصغير: ج2، ص135.
[31] المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج8، ص701.
[32] المجموع للحافظ النووي: ج2، ص66.
[33] انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد: ج3، ص66 ــ 78؛ تاريخ المدينة لابن شبه: ج3، ص1135 ــ 1147؛ تاريخ الطبري من أحداث سنة 34 إلى 35: ج3، ص370 ــ 441.
[34] الانترنت: معنى مصطلح الغرائبية في الأدب: الغرائبية هي جزء أساسي في دلالات الواقعية السحرية كما شاعت في الأدب..
[35] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج10، ص3.
[36] تاريخ الطبري: ج3، ص433.
[37] تاريخ الطبري: ج3، ص412.
[38] شرح النهج للمعتزلي: ج9، ص35.
[39] المصدر نفسه.
[40] شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج9، ص36.
[41] المصدر نفسه.
[42] المصدر نفسه.
[43] تاريخ الطبري: ج3، ص412.
[44] الاستيعاب لابن عبد البر: ج3، ص1047.
[45] تاريخ المدينة لابن شبة: ج1، ص112.
[46] الاستيعاب لابن عبد البر: ج3، ص1047.
[47] مجمع الزوائد للهيثمي: ج9، ص96؛ المعجم الكبير للطبراني: ج1، ص79.
[48] الاستيعاب لابن عبد البر: ج3، ص1047.
[49] الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري: ج1، ص46.
[50] الاستيعاب: ج3، ص1047؛ تهذيب الكمال للمزي: ج19، ص458.
[51] الفتنة ووقعة الجمل لسيف بن عمر الضبي: ص84؛ تاريخ الطبري: ج3، ص441؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج7، ص214؛ تاريخ دمشق: ج39، ص526.
[52] تاريخ المدينة لابن شبة: ج1، ص112.
[53] الاستيعاب لابن عبد البر: ج2، ص766؛ وقال: (ولا يختلف العلماء الثقات في أن مروان قتل طلحة يومئذ)؛ الفائق في غريب الحديث للزمخشري: ج3، ص156؛ تاريخ خليفة بن خياط: ص139.
[54] الإصابة لابن حجر: ج3، ص432؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج25، ص114؛ تاريخ خليفة بن خياط: ص140.
[55] تهذيب التهذيب لابن حجر: ج5، ص20؛ المستدرك للحاكم: ج3، ص370؛ المصنف لابن أبي شيبة: ج7، ص256؛ أنساب الأشراف: ص247.
[56] الاستيعاب لابن عبد البر: ج2، ص768؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج3، ص487؛ سير أعلام النبلاء: ج1، ص36؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج25، ص113.
[57] الإرشاد للشيخ المفيد رحمه الله: ج1، ص256؛ المجمل لابن شدقم المدني: ص155؛ البحار: ج32، ص208.
[58] الإرشاد للمفيد رحمه الله: ج1، ص257؛ الفصول المختارة للشريف المرتضى: ص141؛ الكافئة للشيخ المفيد: ص26؛ الاحتجاج للطبرسي: ج1، ص239؛ معجم رجال الحديث للسيد الخوئي: ج10، ص183.

إرسال تعليق