بقلم: الاستاذ علي جليل الوردي
لكم ان تسألوا ايها السادة: ((لماذا نحتفل كل عام بذكرى الحسين؟)).
ان هذا سؤال يردده كثير من الناس في هذا العصر..
فلقد مضى ذلك الزمن الذي كنا نتوارث التقاليد الاجتماعية فيه من غير ان نسأل عنها او نشك فيها.
قالوا: ((ذهب الحسين وذهب يزيد، في غياهب الماضي الذي لا يعود، فما جدوى التحدث عنهما اذن؟
أليس من الاجدى ان نكرس جهودنا في حل مشاكلنا الراهنة التي تعرقل علينا في هذا الزمن سبيل النهوض؟))
اجل ايها السادة .. ان هذه كلمة حق لاريب فيها.
فلقد ذهب الحسين وذهب يزيد ولكننا، مع ذلك، سنجد في كل زمان حسيناً ويزيد يتنازعان الحياة !
وها هوذا تاريخ الانسانية مفعماً يمثل هذا الكفاح، بين الحق والباطل، اذ انجرف المجتمع البشري في هذا السبيل تارة وفي ذلك السبيل اخرى.
فاذا نحن اهملنا التفريق بين حسين ويزيد في التاريخ جاز لنا ان نهمل التفريق بينهما في أي زمان. وبذا قد يلتبس علينا وجه الحق، وتشتبك حدود الظلم والعدل معاً، بحيث لا نستطيع لها فصلاً ولا تمييزاً.
سر أينما شئت، في شؤون هذه الحياة، فلسوف ترى امامك صوراً من ذلك الصراع الخالد تتكرر هنا وهنالك كل يوم.
وقد يبغتك، وانت سائر بين الناس على رسلك، منظر شخصين يتخاصمان: أحدهما قوي غشوم، والآخر ضعيف يتلوى دفاعاً عن حقه، وذا بك واقفاً حائراً لا تدري أي جانب تأخذ، وقد تذهب في سبيلك مطمئناً كأن الامر لا يعنيك.
الا ايها الناس، ان ما يميز بين الانسان الذي يعيش في مجتمع والحيوان الذي يعيش في غابة هو هذا الضمير الاجتماعي الذي يخالج نفوس الناس فيردعهم عن ان يكونوا بهائم يخافون الظالم ويظلمون الوديع.
فاذا لم يهذب هذا الضمير في نفوس الافراد، فليس من أمل عند ذلك في رفع مستوى المجتمع الانساني وفي اصلاحه وفي اسعاده.
فانك اذا سمحت للظالم بان يظلم الناس، ثم ابتسمت له واختلقت له المعاذير، كنت بذلك قد جلبت على نفسك البلاء!
فهو اذا اعتدى اليوم على غيرك فسيعتدي غداً عليك، وسيلقى من الناس ابتساماً وتأييداً على دينك القديم..
هذه حقيقة اجتماعية كبرى، وهي لعمري من الحقائق المعترف بها في هذا العصر.
وما هذا (الرأي العام)، الذي يعني به الغربيون ويحاولون، بشتى الوسائل، توجيهه وانماءه، الا اصلاح من المجتمع يراد به قمع نزوات الظلمة الانانيين.
ولعلني لا اغالي اذا اعتبرت اساس مشاكلنا، في مجتمعنا الحاضر، هو ما نرى من ضعف في الضمير الاجتماعي لدى افراد هذا المجتمع.
فقد اصبحنا، مع الاسف، لا اباليين في جميع ما يتصل بالمصلحة العامة. نرى الغاشمين والمجرمين والخائنين، يسرحون بيننا ويمرحون، هذا ونحن نعلم انهم من اسباب الانهيار الاجتماعي الذي نكابده اليوم، ولكننا رغم ذلك ننحني لهم احتراماً، ونهش في وجوههم، ونصوغ لهم عبارات الثناء!
اما الصالح من الناس .. فاننا لا نعرف احياناً، اين هو من هذه الدنيا. وكثيراً ما نعتبره مجنوناً او سخيفاً، لانه، على زعمنا، لا يجاري الزمن في امر اكتناز الاموال او بناء القصور.
* * *
يقول علماء النفس: ((إن في كل نفس غريزة في حب الشهرة. وكل انسان يود، من صميم قلبه، ان يكون محترماً بين الناس مهيباً))
* * *
وبناء على هذه الحقيقة العلمية، فليس لنا ان نلوم الطاغية اذا استهتر بحقوق الناس، او اعترف اذا اقترف المنكر، او المحتكر اذا اغتصب الاموال، انما اللوم، حقاً على الناس انفسهم، فما داموا هم يحترمون المترف ويهابون الظالم ثم يحتقرون كل من كان فاضلاً نزيهاً، فلا غرو وبعد ذلك، إذا اندفع اغلب افراد المجتمع نحو الظلم ينهلون منه ونحو المال يغصبونه في كل سبيل!
ايها الساده: ولا تحسبوا ان هذه الحقيقة الاجتماعية جديدة.
انها في الواقع قديمة قدم الاسلام.
فلقد جاء بها النبي محمد على قومه، قبل مئات السنين، وسعى سعياً حثيثاً في سبيل تفهيمها لهم وارشادهم الى مأتاها العظيم.
قال النبي: ((اذا رأيت امتي تهاب الظالم ان تقول له انك ظالم فقد تودع منها… من اعان ظالماً على ظلمه سلطه الله عليه… لازالت امتي بخير مادامت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ..))
ونحن اذا قارنا بين المجتمع الجاهلي، الذي كان سائداً قبل محمد، والمجتمع الاسلامي، وجدنا اثر هذه الحقيقة واضحاً بليغاً.
فلقد كان الضمير الاجتماعي في الجاهلية ضعيفاً كل الضعف. حيث كان لا يقدر فيها الا سبيل العنف، ولا يعلو في اعين القوم الا المرابون والاغنياء.
ثم جاء الاسلام بعد ذلك، فوضع للمجتمع اساساً جديداً يختلف عن ذلك الاساس القديم: {يا ايها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على انفسكم او الوالدين والاقربون } ، ((خير الناس انفعهم للناس)).
هذه كانت روحية الاسلام، في الواقع، وبها انتصر العرب اول الامر، وكانوا خير امة اخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر!
سادتي الاماجد:
والآن نأتي الى مقتل الحسين لننظر هل استمرت الامة على السير في هذا الطريق القويم؟
لقد كان قتلة الحسين يعلمون، علم اليقين، فضل الحسين ودناءة يزيد، ثم رأوهما بعد ذلك يختصمان فانحنوا طاعة ليزيد واحتراماً لامره، ثم انثالوا على الحسين يقطعونه بالسيوف ويقتلون اولاده ويسبون نساءه !!!
لم يكن هذا الحادث حادثاً طارئاً ذهب اثره مع الزمن حتى ينسى.
انه والحق يقال،امتحان لهذه الامة ونكبة جرت وراءها نكبات ونكبات.
انها لم تكن معركة بين شخصين او بين جيشين، ثم انقشع الغبار عن فوز احدهما وهزيمة الآخر.
كلا … انما هي معركة بين مبدأين اساسيين في الحياة، احدهما ينظر الى مصلحة المجتمع اذا يقدم فيها الصالح ويزداد عنها الدنيء، اما الآخر فيتخذ قانون الغابة له سبيلاً!
* * *
عثرت على كلمة في الحسين لاحد فقهاء المسلمين، هو القاضي ابن العربي، يقول فيها: ((ان الحسين قتل بسيف جده)).
وقد تابعه على هذا الرأي كثير من المستشرقين.
اننا لا نلوم المستشرقين اذا قالوا مثل هذه الكلمة، ذلك انهم لا يعرفون ما هو الاسلام على حقيقته، ومن هو محمد. ولكننا نلوم هذا القاضي الذي يدعي انه مسلم، ودرس فقه الاسلام!
ان من الخطأ الفظيع، ايها السادة، ان نعتبر الاسلام اسماً ينطقون به او مظاهر يتقمصون فيها.
الاسلام نفع الناس، خلق وعدل وتعاون على البر والتقوى.
ان من يريد ان يلتزم في الحياة طريق محمد، في نفع الناس والعدل بينهم، لا يهون عليه ان يقدر طريقاً آخر يسير في اتجاه يناقض ذلك الاتجاه على خط مستقيم.
هما طريقان متناقضان ايها السادة، فينبغي ان تتوضح الآراء بينهما اذن من غير لبس ولا تأويل.
يقول النبي: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطع فبقلبه، وذلك اضعف الايمان)).
اذن … فالمجتمع الذي يرى منكر المنكر يزيد واتباعه ثم لا يستهجن منهم ذلك، لا اظن ان سيهتدي في دنياه الى سبيل قويم.
يقول بعض المؤرخين انه : عندما قتل الحسين، هتف هاتف، بين السماء والارض:
((ايتها الامة المتحيرة لا وفقتم لفطر ولا اضحى!))
كلمة هائلة دوت في سماء العراق آنذاك..
ونحن في هذا الزمن لا نستطيع ان نتبين ماهية هذا الهاتف.
فمن يدرينا لعله هاتف النفوس التي احست بهول الكارثة.
وكأن الامة قد شعرت انها بهذا الحادث، فقدت ضميرها الاجتماعي كما يفقد الانسان احياناً غريزة المحافظة على الحياة، فلا يرجى له بعد ذلك فلاح!
يقال ان الحسين عندما احاط به الاعداء من كل جانب، وضيقوا عليه الخناق خطب فيهم قائلاً:
((ويلكم ايها الناس، اتظنون انكم بعد قتلي تتنعمون في دنياكم وتستظلون في قصوركم، هيهات فعن قريب سيحاط بكم وتكونون اذل من قوم الامة وسيسلط عليكم رجل ثقيف ليسقيكم كأساً مصبرة)).
تالله، انها كانت من الحسين حكمة بالغة، وقد أرانا الزمن مبلغ صدقها عياناً.
فلقد تتابعت الفتن على هذه الامة، بعد مقتل الحسين. كل امرئ يمسك بالزمام ترى الناس يتبعونه ويخضعون اليه. لا ينظرون الى هدفه ولا يكترثون بالاخلاق…
فتناوب الطغاة والسفاكون اذن، جيلا بعد جيل، يأخذون من هذه الامة ضريبة الثار على شكل غريب!
حتى لقد اصبحت هذه الامة التي كانت أعز أمم الارض قاطبة أذل أمة في العالم. أفليس من الجدير، بعد هذا، ان نحتفل بالحسين كل عام وكل شهر وكل يوم… وهذا مقتله قد كان ناقوس الخطر ونذير الهلال لهذه الامة التي كانت من قبل خير امة اخرجت للناس والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إرسال تعليق