بقلم: الدكتور عز الدين آل ياسين
لم تكن حركة الحسين(عليه السلام) بدعاً من الحركات الثورية الاصلاحية التي تبدأ أول ما تبدأ شرارة صغيرة بين أخباء النفس ثم تندلع حماها ويستشري أوارها فاذا هي عزيمه ماضية لا تنكفئ وبركان منفجر لا ينطفئ، واذا نحن اخذنا حركة الحسين من طرفها الأول وجدناها تبدأ من يوم اخذ الحق في ظل محمد يصطرع مع الباطل في ظل ابي سفيان، واستطاع الحق بعد جهاد عنيف، وصبر جميل، ان يقلم اظفار الباطل ويحصد شوكة الشرك، ويدفع كلمة الله عالية داوية.
ثم جاء نصر الله والفتح، فلم يجد ابو سفيان ولا ابنه معاوية، ولا غيرهما من ساسة الكفر يومئذ، بداً من ان ينضووا الى راية محمد راية الحق والهدى طلقاء راغمين.
واتسع الدين لظاهر اسلامهم، وقد القوا السلم فحيل بينهم وبين ان يضعوا لنفوسهم المبترمة بالاسلام الموتورة له المنطوية على حربه المتربصه برجاله وحزبه، حتى اذا اذنت دولة الراشدين الثلاثة بالغروب ونيط امر المسلمين بابن عم النبي وزوج ابنته البتول علي بن ابي طالب (عليه السلام) وبرز معاوية يستأنف حياته الأولى من جديد مخرج على امامه، ونشط لمطاولته ونضاله، واستجاب في موقفه منه لهذه الثؤر الساغبة والضغائن الموروثة والأدواء الدفينه التي أملت عليه اشتاتا من المحاولات والمصاولات، اجترحها في شيء كثير من القمة ولحق علي بابن عمه النبي(عليهم السلام)، فذهب الى بارئه ميمون النقيبه تقي الأزار وخلا الجو لمعاوية فمني منه جمهور المسلمين والاخيار من صلحاء الصحابة والتابعين بفتنة عسيرة، ومحنة مريرة، واستدرج جماعات من الرعاع والاشرار بسيل منهمر من الدرهم والدينار، فاطلقت الالسنة بسب ابي تراب وحسن وحسين(عليهم السلام)، واخذ الابرار من شيعتهم بجنود من عسل واصفاد من حديد.
وكان معاوية يعلم ان يزيد ليس من كفايات الخلافة العامة في شيء فاثر ان يستعجل ترشيحه لولاية الأمر من بعده في حياته ويفرض سلطانه على الناس من حيث يرضون او لا يرضون وماذا يحول دون هذا وقد غدر بالحسن الزكي(عليه السلام) غدرته المنكرة وفي بلاطه هذه العصابة الظنينة من صنائع امية وفلول الاسلام، الذين أشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم عزّ وجل قال المغيرة بن شعبه حين اشار على معاوية بالأسراع في استخلاف ابنه يزيد وتم الاتفاق بينهما على ذلك .. وضعت رجل معاوية في غرز غي لا يزال فيه الى يوم القيامة. ونعي معاوية الى المسلمين فتولى قيادة السفينة ابنه يزيد وهو من طراز جديد، قد طبعته بيئته وتربيته على شمائل ينبو بها الخلق، ويصطدم بها الدين ويضيق بها صدره الرحيب.
وها هو ذا مقبل على دنياه قد صامم عن الحق حائد عن السنن منصرف الى صبواته منصاع الى شهواته وهذا بيت مال المسلمين تنصب فيه اموال الجباية والخراج والجزية فيشرق بالصفراء والبيضاء يسعى اليه من كل فج وحدب فلينفق اذن عن سعة في تلبية مجانته واشباع غروره ويمكن الأمر لنفسه واستتب له الملك واصطنع طائفة من الناس بالجاه والمنصب والمال واخذ جمهور المسلمين بالعنت والقوة فدانوا له مكرهين الا نفراً من سادات قريش امسكوا عن بيعته مترفعين وهم قبلة الناس وممثلوهم في الرأي والشعور، منهم سعد بن ابي وقاص، وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن ابي بكر وجماعة آخرون على رأسهم الحسين بن علي(عليه السلام) ففيم التربص بهؤلاء والسلطة مؤاتية والجند مطيع والدين لعق على الالسنة والمسلمون قد غشيهم الغدر فلا قيامة لهم بعد اليوم.
هذا الذي دفع يزيد ان يتجاوز قدره ويخرج على وصية ابيه فيبدأ بالحسين ليأمن السرب بعده، وينام هادئ النفس قرير العين، وكان الحسين (عليه السلام) قد طفح بالثورة على سياسة معاوية حيال ابيه واخيه وحيال المسلمين عامة فلم يكن يسيراً عليه ان يرى عفاة المال من اشباه الرجال، يتجنون على دين جده ابتداعاً واختراعاً ويتطاولون على مقام ابيه سباً وطعناً ثم يرى جنازة اخيه الشهيد تمنع من زيارة جده فيسكت على مضض مستجماً مستعداً للثورة فيفاجأ بكتاب الخليفة الى عامله يامره ان يهدد الحسين(عليه السلام) ليمد له بالبيعة يدا صاغرة قد زعزعها الجبن وارعشها الوعيد، وكفكف من قوتها صرامة السلطان المستظهر بالسلاح والعتاد. ولكن مثله في ذلك مثل من يضرب في حديد بارد او يرقم على الماء او ينفخ في رماد وما بالحسين(عليه السلام) حرص على حياة يحياها ذليل النفس ماوي الجيد في ظل امية وفي اسر يزيد، وكيف يحلو له كأس الحياة مرنقة بالذلة مشوبة بالصغار ملوثة بالعار والنار يأبى الله له ذلك ونفس بين جنبيه تخفق بالايمان الصادق وتنبضها بعزه المضاء والعزيمة وانف يسمو على اشياء هذه الحياة بالشمم والانفة والكرامة. ايضن بحياته حرصاً على ايام معدودة ؟ هو منها في سجن مرهق وعذاب شديد ؟ تاركاً دين الله كرة يلعب بها طاغية بني امية كيف شاء وكيف هذا وقد تعب هو وابوه وجده واسرته في بناء هذا الدين واقامة دعائمه حتى بلغ اشده واستوى على ساق أليس هو من هذه المدرسة المباركة التي نشأ الدين وترعرع في احضانها وربى وتعوهد بعينها وسقي وغذي من لبانها واستقام ونهض باسلات سيوفها واسنة رماحها.. هو ابن علي وسليل البتول وسبط النبي(صلوات الله عليهم) وريحانته وجلده ما بين عينيه ووارث علمه وهو منهم وهم منه طينة طابت وحجور طهرت ونبات زكا وآتى اكله طيباً مباركاً.
هذا علي(عليه السلام) ابوه ما برح يصاول اعداء الله ورسوله بساعده المفتول، وصارمه المصقول، ويشري نفسه للإسلام كراراً لا يفر، مقداماً لا يحجم ضرغاماً لا يهاب، فما عجب ان ينهض في الحسين(عليه السلام) روح ابيه وهو يرى دست النبوة، وكرسي الأمانة، يستاثر به فاجر متجاهر حرب على الدين ورجاله عدو للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والصفوة من صحبه وآله يحسب وقد صفا له الملك واستوسق له السلطان انه قادر ان يهدم ما بنى محمد من دين ويطفئ ما اسبغه الدين من نور وهيهات له ذلك و يأبى الله الا ان يتم نوره.
أي خليفة لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، هذا الذي يملأ ماضيه بأبيات ابن الزبعري ثم يضيف اليها:
لعبـت هاشـم بالملك فلا **** خبر جاء ولا وحي نزل
لست من خندف ان لم انتقم **** من بني احمد ما كان فعل
أي خليفة لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الذي يغزو حرم الله ورسوله فلا يأخذه فيها إلاّ ولا ذمة ويأت البوائق والمنكرات ويبيح الأعراض وينهك الحرمات فلا يصده عن ذلك دين ولا حرمة، ثم يتأمر بالدين والأمة فيأمر الجيش العربي بمغادرة البلاد اليونانية. في مقابل مبالغ من المال كماروى جماعة من المؤرخين .. ويستدرج الشعراء لهجاء انصار رسول الله فيتاثمون فيلجأ الى شاعر نصراني يستجيب له فيقذع في هجو الانصار أقذاعاً منكراً يستمده من حنقه على الاسلام والمسلمين فيرتاح لشعره يزيد ويجزل له الثواب ويستكثر في بطانته الخاصة من هؤلاء النصارى الذين يمتون اليه بسبب الخئوله وهو مع ذلك امام المسلمين وخليفة رسولهم.
اهذا خليفة يصح ان تذل له اعناق المسلمين فيتركوا حبله على غاربه ويقروه على غلوائه ويمدون له مستسلمين في طغيانه وكبريائه واين اذن قوله الله عزّ وجل: فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ الى امر الله عزّ وجل واين قول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
اذن فلم يخرج الحسين(عليه السلام) على امام زمانه يلتمس الملك ويطمع في الجاه ويطمح الى الزعامة كما يزعم ناس قالوا: ان حسيناً قتل بسيف جده. كبرت كلمة تخرج من افواههم انما خرج الحسين(عليه السلام) على الباطل المزهق والشر المجند ليثأر للدين المجفو والحق فجلجل بصرخته الداوية بين عجيج الباطل ليدرأ عن امة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) واتباع محمد ذلا كما يلحق بهم، ويأتي عليهم من حيث يشعرون او لا يشعرون وهكذا نزل للدين عن نفسه واهله وصحبه راضياً مختاراً وقد علم ان ولاية يزيد بتربيته تلك واخلاقه هذه نذير بالشر المستطير للدين وكتابه وتعاليمه وسنته وهو بعد عالم انه لا يكفر لتحقيق الخلافة المشروعة ان تمتد بالمبايعة لولي العهد او للخليفة. أيد مأجورة من البطانة والحاشية والاتباع ففيم الخنوع والرضا بالهون والطريق الى الشهادة ممهد لاحب فليخضب بدمه الطاهر، ودماء عترته الميامين ارض كربلاء ليلقي على المصلحين في كل زمان وفي كل مكان درساً بليغاً في التضحية والفداء ولو علم قاتلوه والممثلون به انهم سيحيون بفعلتهم النكراء ذكراه السامية تدوي في ثنايا الأجيال وترن في مسمع الزمان، وتتصدر سجل الخالدين لما فعلوا... ولكنه الحق يعلو ولا يعلى عليه.
إرسال تعليق