بقلم: محمد جواد الشري
ليس من المبالغة في شيء اذا قلنا ان الدراسة مهما كانت عميقة وشاملة لن تمكن الذين يقومون بها من استيعاب ما تنطوي عليه النهضة الحسينية من معانٍ سامية ومرام بعيدة، فلسنا نحاول في هذه الوقفة القصيرة ان نستجلي ما في تلك الحركة التاريخية الخالدة من خطوط وتفاصيل ونتائج. بل نحن في هذا الموقف ابعد ما نكون عن ذلك، ولكنا سنحاول ان نتأمل بعض تلك اللمحات القوية ونتفهم بعض ما فيها على ضوء التطور التاريخي الانساني ولكي نوفق الى ذلك لابد لنا من الرجوع الى النهضة النبوية التي سبقت هذه الحركة بعشرات السنين فان هذه من نتائج تلك.
لقد كانت الرسالة النبوية رسالة إلهية مطلقة جاءت تستهدف خير الانسانية في اوسع حدودها وهي رسالة اصلاحية والاصلاح فيها شامل وعميق يتناول الجذور والاسس في عالم كان متداعياً يميل بنيانه الى السقوط ومعنى ذلك ان غايتها لم تكن ترميم بناء المجتمع باصلاحات موضعية محدودة وانما كانت الغاية بناء ذلك المجتمع الانساني بناءاً جديداً شاملاً بكل معاني الجدة والشمول، وبتعبير آخر ان الرسالة النبوية كانت وسيلة من اكبر الوسائل لوصول الحياة الى مقاصدها التي وجدت من اجلها وهي الاستمرار في التقدم بأحداث انواع جديدة راقية.
وايضاحاً لذلك نقول: ان الحياة التي وجدت على هذا الكوكب وحلت في هذه الاجسام –التي لم تكن قبل حلول الحياة فيها الا قسما من اقسام المادة الطبيعية- انما حلت لتخترق تلك المادة وتنفذ من خلال حجبها الكثيفة وتحررها من تلك الكثافة الى حد بعيد فاستمرت في سبيل تحريرها تملؤها خفة ورشاقة ورقة ورهافة لتسير بها نحو الروحانية وقد تم ذلك في وثبات حيوية متقطعة ودفعات ابداعية الهية كانت تنبثق فيها الانواع وتتمايز معلنة عن تقدمها ووجودها واذ كان النوع الانساني قد تم وجوده بدفعة من تلك الدفعات الابداعية ووقفت عنده الحياة في رقيها النوعي –بدأ هذا النوع الجديد حراً تتضاءل حرية الانواع اذا وضعت الى جنبه اذ ظهر في عالم الاحياء مسلحاً بعقل مفكر يمكن من النظر في الامور وتخير ما يريده من بينها الى درجة انه يمكن من استخدام المادة الطبيعية والاحياء في سبيل مقاصده وتحقيق امكانياته الكثيرة فهو لذلك حائز على حرية لم تصل اليها الاحياء وتفكير هو مفتاح لابواب التقدم والتجديد ووسيلة لظهور انواع جديدة راقية.
والحقيقة ان الرقي النوعي الحيوي لم يقف عند الانسان انهاءاً لتقدم الحياة ورقيها وانما وقف عند الانسان استئنافاً لتقدم الحياة ورقيها بسرعة وقوة اكثر من قبل ولكن من طريق جديد. ذلك ان تقدم الحياة قبل ظهور الانسان انما كان بدفعات ابداعية رمت الى التقدم عن طريق التنوع الحيوي وترقية صنع الاجسام الحية وتلطيف اجهزتها وتعقيدها فهو رقي جسمي ومن طريق الجسم فحسب. اما وقد ظهر الانسان في عالم الاحياء مزوداً بهذا السلاح الخطير فقد بدأ طريق جديد للتقدم اوسع من ذلك الطريق واقرب في الايصال فهو طريق العقل والتفكير الذي اصبح به باب التقدم مفتوحاً على مصراعيه والذي به اطمأنت الحياة على مستقبلها وارتقائها فاذا كان ارتقاء الحياة قبل ظهور الانسان قد تم بدفعات ووثبات حيوية فان رقيها بعد ظهوره اصبح يتم ايضاً بدفعات ووثبات ولكنها دفعات ووثبات روحية تتجسد في اشخاص انسانيين او ان اولئك الاشخاص تتقيد نفوسهم بتلك الوثبات الروحية ويمثلون دفعات الحياة ويفجرون من الانسانية انواعاً انسانية جديدة ارقى بما يسبقون على بني الانسان من روحانية وسمو فإذا الناس بعد ظهور اولئك الابطال غير الناس قبل ظهورهم وبهؤلاء الابطال يستمر التطور الانساني وكل من هؤلاء يمثل بمفرده نوعاً جديداً يتقدم بالانسانية نحو كمالها المنشود.
ان الانسان منذ ظهوره بدأ مصحوباً بقوتين متعاكستين تتجاذبان فبينما الحياة تحاول دفعه الى الامام اذا بالمادة تجتذبه الى الوراء وكلما اتقد القلب الانساني وثارت به الحماسة الى الرقي يرتد بفعل الجانب المادي على اعقابه خاسراً. وهو من جراء ذلك يدور على نفسه في دائرة مغلقة. وبالفعل فان النوع الانساني منذ القديم قد انقسم الى كتل لا حصر لها يمثل كل منها مجتمعاً مقفلاً مغلقاً على نفسه او قل اتخذت تلك المجتمعات من نفسها دوائر مغلقة لا تنفرج عما تتضمن ولا تسمح بدخول مؤتمرات خارجية اليها.
فمهمة اولئك الابطال ان يحطموا تلك الدوائر المغلقة بما لديهم من روحية فياضه لتتداخل ولتتحول تلك الكثرة الهائلة من الدوائر الى دائرة واحدة تتعاظم سعة وشمولاً حتى تشمل الانسانية جمعاء.
وبهذا نستطيع ان نفسر الرسالة المحمدية حيث ظهرت في عالم منقسم الى مجتمعات كثيرة كانت مغلقة ومنكمشة على نفسها بل وفي بلاد كانت –بالرغم مما يجمعها من لغة وعادات وتقاليد وعنصر- منقسمة الى شراذم قبلية هي اصغر من مجتمعات صغيرة، وكل تلك المجتمعات وهذه الشراذم كانت منغمسة في المادة بكليتها فهي لا ترى شعاعاً من نور ولا تسمو الى افق روحي والقوى السياسية الحاكمة يوم ذاك اشبه بالقوى المادية في قساوتها واستبدادها وشدة وطأتها وعلى الاجمال كانت تلك المجتمعات والشراذم مادية الحياة وكان الكثير منها يعبد المادة ويتخذ من الاحجار آلهة، ومن ذلك نفهم ان روح تلك الرسالة تتلخص في تحرير مجتمع الرسالة ومنبتها من سيطرة المبادئ المادية –ان صح ان نسمي ما كان يتمشى عليه ذلك المجتمع باسم المبادئ- وقيودها تحريراً ايجابياً يضمن الارتفاع بذلك المجتمع الى افق روحي تشعر فيه النفس العربية بوجودها الروحي لتتصل بينبوع الحياة وتعب من فيضه وتنهل من رشحاته ولتصبح وحده اجتماعية قوية نستطيع بوحدتها ان تحرر العالم بعد تحررها وتفيض عليه من روحيتها ما يرفعه الى المستوى اللائق بانسانيته، وبتعبير اقرب الى الدقة كانت مهمة الرسالة الافاضة من الجانب النبوي على مجتمع الرسالة اولا فيضاً روحياً تحريرياً قوياً يؤدي الى تحطيم تلك الدوائر المغلقة لتصبح القبائل العربية المتباعدة ومجتمعاً متحداً يصبح وسيلة فيما بعد الى بلوغ ذلك الفيض اقصى تلك المجتمعات المغلقة.
ومعنى ذلك احداث انقلاب شامل يتقدم بالانسانية لتعلو على نفسيتها وتصبح نوعاً جديداً راقياً بكل معاني الجدة والرقي.
وهكذا سارت وثبة الحياة التي كانت تمثلها الشخصية النبوية والرسالة النبوية في طريقها الى الامام سيراً متواصلاً في الصدر الاسلامي الاول وسيراً كان يرجى منه بلوغ الاهداف والغايات البعيدة لو لم يلتو الطريق على تلك الوثبة الحيوية وقف امامها السدود القوية لتمنعها من بلوغ مداها البعيد ولترتد بالانسانية الى الوراء تثبيتاً لقوة سياسية مستبدة تفرض ما يتلائم مع اهوائها معترضة طريق نحو المبادئ وانتشارها بتنمية ما يضاد تلك المبادئ ويناقضها فاذا الحرية التي افاضها الاسلام على الشعوب تتحسر مياهها ليطغى على العالم الاسلامي استبداد اموي غاشم يهزأ بالحقوق الفردية ويحكم بالموت على كل من تحدثه نفسه بثورة مشروعة فتراق الدماء البريئة بسخاء لم يعهد له مثيل في اشد ظلمات العهود الكسروية والقيصرية.
وتثار النعرات الرجعية الجاهلية لتعود القبلية سيرتها الاولى عداءاً متبادلاً وعصبية جاهلية تفتك بوحدة المجتمع العربي وتشيع الانقسام منه على نطاق واسع من ذي قبل وفي ذلك ما يؤول الى القضاء قضاءاً مبرماً على القوة العربية والوحدة العربية التي اتخذتها وثبة الحياة وسيلة ناجمة للوصول الى الوحدة العربية.
لقد التوت الطريق فالتوى معها كل شيء واصبحت الحرية الانسانية ومبادئ الرسالة النبوية بحاجة الى شخصية منقذة تتمثل في وجودها الذاتي مبادئ الاسلام وتنطوي على بطولة من نوع تلك البطولة النبوية.
اجل ان المبادئ النبوية اصبحت بحاجة ماسة الى شخصية تتقيد بالوثبة الحيوية وتشمل بمفردها نوعاً جديداً مجدداً فلم تجد الا (حسيناً) سليل الممثل الاول لتلك الوثبة وحامل لواء تلك الرسالة وهل (حسين) غير شخصه قد تعاظمت روحيتها حتى استحالت روحيه خالصه ومبدأ اسلامياً وامتلأت بالبطولة الفياضة امتلاءاً جعلها كالشمس لا نستطيع الا ان نسكب ضوءها ؟
هكذا كان الحسين (عليه السلام) الذي أبى له غناه الروحي وامتلاؤه الذاتي بالبطولة الا ان يهز اركان السياسة الاموية هزة قوية يتداعى بها بنيانها القوي الى الانهيار الأبدي تحريراً للعالم الاسلامي من عبادة تلك الاصنام السياسية عساه يمضي في طريقه التقدمي من جديد ليصل الى الغاية التي رسمت باديء بدء، والا فان في هذه الهزة العنيفة ما يضمن انقاذ ما يمكن انقاذه من مبادئ الاسلام التي كانت السياسة الاموية تريد ان تؤدي بها وسارت بالفعل في سبيل ذلك حتى شارفت المبادئ الاسلامية نهايتها.
لقد استطاع الحسين (عليه السلام) ان يقدم لنا النماذج الخالدة الكيفية التي تلهمنا طرق الدفاع عن الحريات المشروعة المقدسة ونضع ايدينا على فعالية المبادئ الروحية حينما تستحيل كياناً وجودياً وتهيب باخلاقنا القائمة على فكرة تجارية هي فكرة التوازن والجزاء بالمثل ان تتحول الى نوع من الاخلاق جديد تمتزج فيه المحبة الشاملة الفياضة والتفاني في سبيل الحق والحرية الذاتية الكاملة التي تهزأ بالموت وتتحدى القوة في شتى مظاهرها.
فنحن ان نعني بتجديد ذكرى الحسين (عليه السلام) لا نحاول الرجوع الى الوراء لنستعيد الماضي ولنعيش فيه ونحياه ولا ان ندعو الناس الى العيش (في قبور المتاحف او متاحف القبور كما يزعمون) ولا ان نقدس القديم لقدمه فليس شأننا هذا ولا ذاك لاننا متطورون نعتنق المبادئ القابلة للتطور ونناضل من اجلها وهتافنا على الدوام (علواً بالنفوس وسيراً الى الامام) وانما نحاول ان نستلم رسالة البطولة الخالدة والعظمة الحية فالحسين ليس من اولئك العظماء اليوميين الذين تبتلعهم الأزمنة وتطويهم الايام وانما هو شخصية فذة لها قدرة على الاشعاع غير محدودة وينبوع فياض لا يستنفذ ما فيه شخص من الاشخاص او جيل من الاجيال. وفي الحقيقة ان معاصري تلك الشخصية والاجيال القريبة التي تلتها لم يتمكنوا ان يعرفوا الآفاق التي ستمتد اليها وتغزوها ولم يعلموا ان الحسين (عليه السلام) قوة متجددة تبدد لكل عصر بصورة قوية جديدة ملهمة.
اجل ان الحسين من اولئك العظماء الذين لم يشهد التاريخ الانساني منهم غير آحاد والذين يتسمون بطابع الاستمرار والخلود منهم ليسوا عظماء عصور قديمة او حديثة وانما هم عظماء العصور كلها واعمالهم وشخصياتهم لها خاصة الالهام والتجديد وخاصة الادب الحي الخصب الذي يقوي على مناهضة الايام وتستلهمه الاجيال وتثقف على تقديره البيئات فهو ادب العصور والاجيال والبيئات كلها. ذلك ان الادب الحي الخصب لا يقدم اليك ما يرضي عقلك وشعورك فحسب وانما يلهمك ويوحي اليك بتجديد ويعيرك من خصبه خصباً ومن ثروته ثروة ومن قوته قوة وهو في ذلك يشبه اولئك الآحاد –ان جاز التشبيه- من هذه الناحية وان كان الفرق بينه وبين اولئك عظيماً في شدة تلك الخصوبة وقوة ذلك الالهام من ناحية وفي سعة الالهام وشموله من ناحية اخرى فاعمال هؤلاء وشخصياتهم لا تلهم الاجيال تقدماً وسمواً في ناحية محدودة وانما تلهم السمو والتقدم في ميادين كثيرة وتقدم للاجيال مادة لاستلهام رسالات انسانية تكاد تكون الصورة النهائية لما يمكن ان تكون عليه الانسانية في حاضرها ومستقبلها البعيد ولاعمالهم وما تلهمه سمات قوانين الطبيعة والحياة من خلود واستمرار وانطباق دائم وشامل زماناً ومكاناً مع فارق واحد وهو ان القوانين الحيوية والطبيعية قوانين لما كان ويكون اما اعمال هؤلاء وما تلهم فهي قوانين لما يجب ان يكون.
والحقيقة انا حين نمتثل شخصية الحسين في تفكيرنا ونحياه في وجداننا نجدنا امام وثبة من وثبات الحياة تمثل لنا نوعاً انسانياً منفرداً تهيب بنا كل لمحة من لمحاته القوية ان نتأمل فنطيل التأمل وان نتعمق مضمونها الروحي كي نستخلص منها دروساً هي اثمن ما نحتاج اليه ومن دروس في نهضتنا العربية الجديدة وختاماً (لتعش مبادئ الحسين ولتعش فكرته).
إرسال تعليق