بقلم: الشيخ حسن الشمري
لا شكّ أن العدو إذا لمس تحركاً مضاداً يسعى إلى تشتيت الجهود والطاقات وإدخال الخصم في معارك جانبية، حتى يستنزف قواه، وهذه الخطة باتت واضحة لكل بصير، ثم يحاول أن يصطنع عدواً داخلياً، ويلبسه ثوباً ينسجم والواقع ليستطيع من خلاله التحرك بعد أن يمتلك الشرعية.
إنّ المعارك الجانبية ((الوهمية)) هي من أخطر المعارك وأكثرها خسارة، حيث تكبّد الأمة خسائر فادحة بالأموال والأنفس، وكما أسلفت في كتاب (الإمام الهادي عليه السلام) فإنّ المعارك الطائفية لا تنطفئ بسهولة، ناهيك عن الخسائر الجسيمة التي تلحق بالأمة.
وما أن يتحرك المخلصون لإنقاذ الموقف، حتى يحرك العدو أذنابه أو ما يسمى بـ((الطابور الخامس)) ليخوض معارك قذرة نيابة عن الاستعمار الذي لم يدّخر وسعاً في سبيل الحفاظ على هذا الذنب، ودعمه بكلّ الوسائل.
إننا نواجه الآن خطر هذه الجماعات التي تتلفع بثوب الدين، ثم تذبح الآلاف تحت ذرائع شتّى، منها الشرك والكفر، وكأنّ الكفر والشرك محصورانِ بطائفة معيّنة، وبعمل معين، ولا يعلم هؤلاء أنّ عملهم هذا هو الشرك والكفر بعينه، لأنهم أشركوا بالله بفتاوى لم تستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإلا بأيّ حق يقتلون ويذبحون الآلاف؟! هل عندهم فتوى من القرآن؟! أم من الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم؟! بالتأكيد كلا.
فإذن هم يشركون بالله عز وجل عندما يستمدون فتاواهم التكفيرية من علمائهم البغاة. قال تعالى: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ))[1].
وباتت هذه الفئات تكشف عن نواياها تباعاً، وهذه سنّة لا تبديل لها، فإنّ من يتلفّع بثوب الدين لا يمضي وقت طويل حتى تظهر حقيقته، وتنكشف نواياه، فإذا هي نوايا خبيثة ثبتها الاستعمار وغذّتها الصهيونية.
وقد حاول البعض ممّن يدّعي الحرص على الأمة إشغال الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام عن مهامه الأساسية، ثم إدخاله معمعة الحرب الجانبية، وقد حاول مروان بن الحكم استفزاز الإمام عليه السلام عندما أمر الوليد بن عتبة بقتل الإمام عليه السلام، إلا أنّ الإمام عليه السلام فوّت الفرصة على مروان بعد أن صدّه بكل شجاعة.
ثم خاطب الوليد، وكان أميراً على المدينة: ((أيها الأمير، إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحل الرحمة، بنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب خمر، قاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون، أينا أحق بالخلافة والبيعة))[2].
وبعد هذا الخطاب استيأس مروان وثلته، وخلصوا نجيا ماذا يفعلون إزاء موقف الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
لقد حاولوا جرّ الإمام إلى معارك هي ليست من صميم عمله، فأراد مروان من الوليد قتل الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، أو على الأقل التضييق عليه، لئلا يتطور الموقف.
ولكن فات مروان أنّ الإمام أبا عبد الله الحسين عليه السلام كان عازماً على ردّ يزيد وإيقاف تهوراته، وعارفاً بما يبطنه مروان ويخطّط له، فهو كان يريد للإمام أن يبقى في المدينة، ثم يثير استياء الناس عليه من خلال إشعال فتيل الأزمة بينه وبين والي المدينة الذي كان لا يميل إلى قتال الإمام عليه السلام.
وقد التفت الإمام عليه السلام إلى المخطط المرواني، لذلك فإنّ الإمام عليه السلام ركّز في ردّه على يزيد بن معاوية كهدف أساسي، وبذلك ضيّق على مروان سبل المناورة، فبات لا يدري ما يفعل إزاء رسالة الإمام عليه السلام التي كانت واضحة في أهدافها، تعرية رأس النظام، ونقل المعركة إلى خارج المدينة المنورة.
تقول الروايات: إنّ الإمام أبا عبد الله الحسين عليه السلام لم يصعد الموقف مع والي المدينة، وبهذه الخطوة استطاع الإمام عليه السلام أن يتحرّك باتجاه هدفه الأساسي، ويفوّت الفرصة تماماً على مروان بن الحكم الذي أرسله يزيد بن معاوية خصيصاً لهذه المهمة.
إنّ مروان بن الحكم كان أحد الأعمدة الرئيسة للحكم الأموي، وكان له الدور الفاعل في قتل عثمان بن عفان[3].
استطاع الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام من خلال تعامله الحكيم أن يحصر مروان في زاوية ضيقة، ولكن مروان بن الحكم أخذ يضغط على والي المدينة كي يتخذ موقعاً متصلباً إزاء الإمام عليه السلام، ولكنّ الإمام عليه السلام ادّارك الأمر، فترك المدينة متوجهاً إلى مكة المكرمة حتى لا تتأزم الأوضاع، وبالتالي يفقد حيادية والي المدينة، إنّها خطوة مهمة على صعيد حصر الجهود، ولكن قبل أن يترك المدينة ترك رسالة مهمّة لأهلها فيما يخصّ حكم يزيد بن معاوية: ((إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي)).
وتعدّ هذه الرسالة نقطة تحوّل في اتجاه الإمام عليه السلام نحو السلطة، فقد حدّد الإمامعليه السلام هدفه ((النهضة))، ووضع النقاط على الحروف، ويعدّ هذا الأمر مهماً للغاية.
وبهذا التحول سحب البساط من تحت مروان والشلّة الحاكمة في المدينة ومكة والشام.
إنّ تعيين الهدف، ثم التركيز عليه يعدّ من الأولويات في عمل المؤسسات، وذلك لعدة أمور:
أولاً: حصر الجهود والقوى بالذات إذا كان ميزان القوى غير متكافأ.
فمن الضروري حصر الجهود والحفاظ على كلّ جهد يصبّ في اتجاه الهدف، ثم التركيز عليه في كل حين وإنّ تذكير العاملين بالهدف يعدّ أمراً ضرورياً لأنّ العدو يحاول بين الحين والآخر افتعال أزمات جانبية حتى يمتصّ جهود العاملين، ثم ينسيهم الهدف الحقيقي مثلما أراد مروان بن الحكم، ونسيان الهدف يضعف الهمّة ويمتص الأمل، وهذا معروف في علم النفس.
ثانياً: إنّ المعارك الجانبية دائماً تفتعل مع الأقرباء إن صحّ التعبير، وهذه المعارك في معظم الأحيان تأخذ طابع القساوة والبطش، لأنّ كلا الطرفين يحسب أنه على حق فيستميت في الدفاع، وهذا ما نلمسه اليوم، لذا فإنّ العدو يحاول إذكاء هذه المعارك كلّما وجد فرصةً.
ثالثاً: إنّ المعارك الجانبية تحدث شرخاً عميقاً في جدار الأمة، فتضطر الأمة والعاملين حتى لا يتّسع معالجة هذا الشرخ بذل المزيد من الجهد، وهذا الجهد بالتأكيد يأتي على حساب الهدف، لذا على العاملين تدارك هذا الأمر، وتحاشي هذه المعارك المهلكة، ونصيحتي للعاملين أن لا يخوضوا هذه المعارك لأنّها تؤرّقهم كثيراً، وتأتي على الهدف، وبالتالي يضيع في خضمّ المعارك المفتعلة.
رابعاً: على العاملين أن يضعوا في حسابهم أنّ أيّ معركة جانبية لا تأتي بالنصر حتى لو تغلّب أحد الطرفين، فالمنتصر هو الخاسر الأكبر لأنه انتصر على أخ له، فتتلاشى مصداقيته، فالانتصار لا يشكّل أهمية تذكر إن لم يكن وبالاً على المنتصر كما ذكرنا، وما قيمة الانتصار إزاء فقدان المصداقية؟!.
خامساً: إنّ المعارك الجانبية تظلّ آثارها تتفاعل في نفوس الأجيال ممّا يورثها حقداً متراكماً، وهذا الحقد بالتأكيد يصنع حاجزاً نفسياً لا ينمحي بسهولة، وكما هو ثابت في علم النفس الاجتماعي فإنّ الحواجز النفسية لا تزول حيث يمتدّ بها العمر فتترك آثاراً سلبيةً.
سادساً: إنّ المعارك الجانبية في بعض الأحيان تأتي على البنى التحتية، وهذه أخطر ما فيها لأنّ كلا الطرفين يحاول اختزال المعركة بالضربة القاضية، بالضبط كحلبة الملاكمة، فإنّ الملاكمين يحاولان اختزال الوقت بالضربة القاضية، فيحاول كل من المتلاكمين اقتناص الفرصة كي يضرب الهدف المميت والقاتل.
الابتعاد عن حرب المدن
ومن الخطط التي اعتمدها الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام تحاشي المدن بالذات المقدسة. وأراد الحكم السفياني من الإمام عليه السلام أن يخوض المعركة داخل المدينة المنورة، ثم الإجهاز عليه في زمن قياسي، لقد حاول الحكم السفياني ذلك، وحاول أن يبقي الإمام عليه السلام داخل المدينة بشتى الوسائل.
وفي نظري فإنّ سياسة الوليد بن عتبة كانت تدخل في هذا الإطار، فهو لم يصعّد الموقف مع الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وكان أذكى من مروان ابن الحكم الذي نصحه بقتله. صحيح أنّ الوليد أبدى حسن النية، وعامل الإمام عليه السلام على وفق القواعد الأخلاقية، ولكن من جانب أراد أن يبقي الإمام عليه السلام ويحصره في المدينة، حتى يطبق على ثورته ويقضي عليها وهي في أولى مراحلها، إلا أنّ الإمام أبا عبد الله الحسين عليه السلام ادّارك الأمر، ومن قبل ما كان الإمام (صلوات الله عليه) ليرغب في خوض المعركة في المدينة المنورة لحرمتها وحتى لا يعطي مبرراً للطغمة الحاكمة. وكما هو ثابت في الخطط العسكرية فإنّ حرب المدن تكلف كثيراً، وقد تأتي على الثورة، وهذا ما حدث لمعظم الثورات إلا إذا كانت المدينة محصّنة وفيها موانع طبيعية تجعلها صعبة المراس.
ثم إنّ المعركة في المدينة تجرّ الوبال على الأخضر واليابس، فيذهب ضحيتها الأبرياء من الشيوخ والأطفال، وأما إذا كان النظام قاسياً فقد يكلّف كثيراً. وهذا ما حدث إبّان ثورة المدينة، فقد قتل نظام يزيد بن معاوية عشرة آلاف من أبناء المهاجرين والأنصار، واغتصب ألف ((حرة)). راجع التواريخ، ومنها الطبري، وابن الأثير.
كما إنَّ الإمام أبا عبد الله الحسين عليه السلام كان يعاني من أهل المدينة كما أسلفنا، وكان موقفهم سلبياً إزاء وقفتهِ فكلفهم كثيراً، لأنّ النتائج المترتّبة على خذلانهم أوقعتهم في مطبّات مظلمة.
ومعارك المدن تخدم العدو أكثر من أهلها على وفق القاعدة التي أثبتها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: ((والله ما غُزي قومٌ قط في عقر دارهم إلا ذلوا))[4].
فالمعركة في المدينة تشكّل أول انتصار للعدو لأنه يحاول بشتى الوسائل اقتحام المدينة والسيطرة عليها، عبر قطع خطوط الإمداد.
وفي الخطط العسكرية فإنّ العدو يحاول أن ينقل المعركة دائماً إلى داخل المدينة حتى يربك الخصم بإثارة الناس عليه، وهذا ما ذكره موشي دايان رئيس وزراء الكيان الصهيوني الغاصب في مذكراته، راجع (مذكرات موشي دايان).
لذا فإن الإمام أبا عبد الله الحسين عليه السلام ترك المدينة ليفوّت الفرصة على السلطة، وعندما خرج من المدينة المنورة اتسع نطاق الثورة، وباتت الثورة تنتقل أمواجها في كلّ الأمصار الإسلامية.
وفي نظري فإنّ خروج الإمام عليه السلام أحدث تطوراً كبيراً في نهضته المباركة، حيث اتسع نطاقها وافترشت مساحات، فتركت صدى واسعاً في ربوع الدولة الإسلامية ممّا حفّز الكثير على الالتحاق.
كما أن ترك المدينة جعل الإمام عليه السلام يتحرك بعدة اتجاهات نحو مكة والكوفة وباقي الأمصار، وبذلك توسّعت شبكة اتصالاته، فاستطاع من خلال الشبكة معرفة الكثير مما يجري فيها، واقتناص الأخبار التي تخصّ مصير الثورة، فقد التقى الفرزدق الشاعر المعروف فسأله الإمام عليه السلام عن أهل الكوفة والبصرة، وفي رواية عن أهل مكة والكوفة، فقال: ((يا ابن رسول الله قلوب الناس معك وسيوفهم عليك فارجع))[5].
قال: صدقت. وقد التقط الإمام عليه السلام الكثير من الأخبار من خلال شبكة الاتصالات، وينبغي على القائمين وضع هذه الخطة في الحساب، فلابدّ من تأسيس لجنة تتقصّى الأخبار وتقف على كل ما يحدث في العالم، بالذات العالم الذي ينوي الشر والإيقاع بالمؤسسات.
ولابدّ للمؤسسات الانتشار في كل مساحة تجدها مناسبة للعمل، فمن الخطأ بقاء المؤسسة في بقعة محدودة لأنها تكون في مرمى العدو، فالانتشار يقيها الكثير من العوارض، فعلى المؤسسة أن تجد طرقاً لتوسيع رقعتها وإيجاد أكثر من ((رئة)) تتنفس بها.
من هنا فإنّ الإمام أبا عبد الله الحسين عليه السلام أوجد أكثر من ((رئة)) لكي تتنفس الثورة، فتنفست في البصرة والكوفة ومكة، إلا أن الضغط المتواصل والعمى الذي أصاب الكثير من جراء السياسات السفيانية جعل رئة الثورة تتنفس بصعوبة بالغة، ومع ذلك استطاعت الثورة أن تشقّ طريقها إلى الأمصار كافة بما فيها الشام.
إنّ الضغط الذي انصبَّ على ثورة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام والذي أعدّه فريداً من نوعه جعل الإمام عليه السلام يمدّ أذرعه إلى الكوفة والبصرة ومكة، وتعد هذه الخطوة من الحكمة بمكان لأنه لا يمكن للثورة أن تواجه الضغط، وتبقى رهينة لهذا أرسل الإمام عليه السلام البطل مسلم بن عقيل إلى الكوفة كي يوجد متنفساً، ثم يخفف الضغط على النهضة الحسينية، ولم يكن في نية الإمام عليه السلام كما ذهب إليه بعض النقّاد ليخطط في اتجاه إقامة دولة إسلامية، وإن كان من حقّه ذلك.
وفي نظري فإنّ الإمام عليه السلام لم يرغب في ذلك، وإنما أراد أن يخلق أجواءً مناسبة ليتحرك سلمياً ضد يزيد بن معاوية، وقد تكون هناك مؤشرات لذلك منها وصية الإمام للبطل مسلم بن عقيل بعدم الاستيلاء على الكوفة وإنما لمعرفة أوضاعها.
وإيجاد أرضية مناسبة للتحرك ضد يزيد بن معاوية، ثم تخفيف الضغط على مسيرة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
إن نهضة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام ما كانت لتقوم على الخطط المسلحة، وكان ينبغي للسلطة السفيانية معرفة ذلك إلا أن السلطة ومن فرط خشيتها من أيّ تحرك تحسب أن أيّ خطوة وإن كان طابعها سلمي تعدّها ثورة مسلحة.
وهذا هو دين الحكام الفاسدين الذين يحسبون كلّ صيحة عليهم عملاً عسكرياً، فما أن تنهض جماعة أو يتكلم فرد من المجتمع إلا وتبلغ قلوبهم الحناجر ويظنون بهم الظنون.
إن الإمام أبا عبد الله الحسين عليه السلام لم يقدم على أيّ خطوة ذات طابع مسلح حتى يمكن أن يقال لم يأخذ العدة في الحسبان.
فتحرك الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام كان ضمن إطار الردع السلمي، وتعدّ هذه الطريقة من الطرق المؤثّرة في ردع العدوان، وقمع الروح الاستبدادية التي تنمو عند الحكام.
وقد حاول الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام ردع معاوية ويزيد عبر طرق مألوفة في مجال ((الردع المنطقي)).
وقد انبرى الإمام عليه السلام مع أهل بيته معلنين رفضهم السلمي لكل أشكال الاستبداد والقهر الذي كان يمارسه الحكم السفياني بحق الأمة الإسلامية.
جاء في كتاب (من معالم الحق) للشيخ محمد الغزالي يصف فيه حكم بني سفيان: ((ولا نعرف من كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم سنداً لهذا الإقطاع السياسي الرهيب، ولا ندري لم امتدّ في آفاق الإسلام هذا الدخان الخانق الكئيب؟!.
لكن الذي ندريه جيداً أنّه أمر المسلمين بشورى وأنه ليس لأحد أن يفتات عليهم، أو يستبد بهم، وأن الشعوب تختار أكفأ رجل فيها لتلقى إليه زمامها، وأنها تسائله عمّا أؤتمن عليه وتقصيه أو تدنيه على وفق سيرته فيها.
لكن أبناء هذه الأسر ملكوا فَقَلَّ فيهم القوي الأمين، وكثر فيهم الفجرة الخونة، وكانت مقاليد الأمور تصل إليهم ميراثاً مقرراً.
وكما يرث المرء عن أبيه ضيعة أو مالاً أو أنعاماً يرث هؤلاء الشعوب الكثيفة بما فيها من خواص وعوام، وعباقرة وطغام، وأول من ابتدع هذه البدع وغرس شجرتها المشؤومة معاوية بن أبي سفيان.
وإذا كان الأولون قد تلقّوا هذه البدعة بالمقاومة الضّعيفة، وإذا كان هناك من قبلها إغماض وترحض فإنّ ما نشأ عنها على مرّ الزمن من رذائل وآثام يكشف جسامة شرها وفداحة أثرها.
ولا ريب أنه كان هناك من السلف الأول من رفض هذا الانحراف، وقرر محاربته)).
ويعقّب الشيخ الغزالي: ((وأظنّ الحسين بن علي كان يحسّ الأخطار على حاضر الإسلام ومستقبله متمثلاً في الطريقة التي ملك بها يزيد زمام الحكم، والطريقة التي يصرّف بها شؤون الناس.
وإنه لأمر مستكره أن يكون على قمّة السلطة في بلاد الإسلام شاب ماجن خليع، والأمة الإسلامية تفقد أجل خصائصها عندما تسكت على هذا الوضع، بل إنها ما تستحق أن تبقى مع استقراره.
فكانت ثورة الحسين عليه حركة يثبت بها الإيمان وجوده، ويجدد بها حياته، ويرضى بها ربه))[6].
حاول الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام القضاء على أيّ مبرّر شرعي قد يتخذه يزيد بن معاوية للإجهاز على نهضة الإمام عليه السلام بما فيه ((مبرر المعركة)) داخل المدينة، وقد انتفى هذا المبرر وعاد الحكم السفياني يفتش عن مبررات شرعية أخرى ولكنه فشل.
ـــــــــــــــ
[1] التوبة: ٣١.
[2] الفتوح: لابن أعثم، ج5/ص180.
[3] راجع الفتنة الكبرى: للدكتور طه حسين.
[4] الكافي: الشيخ الكليني، ج5/ص5. كتاب سليم بن قيس: تحقيق: محمد باقر الأنصاري، ص213.
[5] مقاتل الطالبيين: أبو الفرج الأصفهاني، ص73. الإرشاد: الشيخ المفيد، ج2/ص67.
[6] من معالم الحق: الشيخ محمد الغزالي، ص104/105. ط نهضة مصر.
إرسال تعليق