بقلم: الشيخ محمود المظفر
نحن -يا سادتي- إن تصفحنا التاريخ عصراً عصراً فإننا -ولا شك- سوف نرى الصراع قائماً بين الحق والباطل منذ الأدوار الأولى من التاريخ حتى يومنا هذا..الصراع لم يفتر أو يهدأ في أي عصر من العصور. وان هو هدأ فترة بتغلب أحد الجانبين فان ذلك لا يعني إن الفريق المغلوب قضي عليه قضاءً تاماً؛ بل إن حرب القلوب باقية متقدة.
وما حرب معاوية مع أمير المؤمنين والحسن والحسين (عليهم السلام) إلا نتيجة لتلك الحرب؛ الحرب في القلوب والنفوس، الحرب التي لم تهدأ أو تفتر منذ انكسار شوكة قريش في حربهم مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبالأخص انكسار تلك اللمة التي تجمع أبا سفيان وبنيه وبعض رؤوس قريش.
فهؤلاء دخلوا الإسلام كرهاً إضافة إلى ذلك انهم رأوا أن دخولهم في الإسلام أقرب إلى نيل مأربهم وهو قلب الدين الجديد، وذلك ليعملوا على هدم الإسلام باسم الإسلام، ولم يقصد أبو سفيان عند مد يده لمبايعة أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد يوم السقيفة إلا الكيد للإسلام وأهله، وكذلك إعلان ابنه معاوية الحرب على أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم صفين ثم تدرج في النظر بعد هذا إلى حفيده يزيد، ألا قاتل الله الأحفاد والأجداد، يزيد الذي ورث الحقد والكراهية -وما في الآباء يرثه الأبناء- ويستمر استعار حرب القلوب بين الحسين (عليه السلام) ويزيد ثم يشتد ويشتد كلما تقدم الزمن وتولدت حادثة تزيد في النار ناراً.
فكلما تصور يزيد شبح الحسين (عليه السلام) الذي يخنقه ويهدد ملكه وملك أبيه احترق من حقده الشخصي مضافاً إلى حقده الوراثي.
ومهما أمعن يزيد في لهوه ومجونه وازداد هتكه للحريات في زمن أبيه ازداد الحسين (عليه السلام) تأثراً منه وامتعض ألماً لتلك المهازل التي تمثل تحت ستار الإسلام.
وهكذا يزداد غيظ الجانبين بتجدد الزمن، فقد عانى الحسيـن (عليه السلام) من آل أمية آلاماً يعتقد أنها تقارب الآلام التي عاناها منهم جده أيام دعوته إن لم تزد عليها، فان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تزيد آماله وتنقص آلامه كلما تقدم الزمن الذي بتقدمه تتقدم الدعوة وتنال فوزاً مبيناً.
والحسين (عليه السلام) على العكس من ذلك تكثر آلامه وتنقص آماله كلما تقدم الزمن الذي بتقدمه ينهد الإسلام ويتراجع إلى الوراء.
عرفتم- يا سادتي- كما تقدم إن بين الحسين (عليه السلام) ويزيد حرباً هي الحرب في القلوب وعرفتم أن تلك الحرب ما دامت قائمة فهي ستجر وراءها حرباً حقيقية ضروساً.
فيزيد الفاجر ابن الطلقاء يريد البيعة لنفسه من امامنا الحسين العظيم (عليه السلام) وإلا فلا يرى غير الحسام.
نهض الحسين (عليه السلام) بالإيمان أو نهض الإيمان بالحسين (عليه السلام)، نهض رجل النهضة وللنهضة رجلها، وأصحاب النهضات تختلف نهضاتهم باختلاف مبادئهم وغاياتهم فوثبة يراد بها قلب الحق ونهضة يقصد منها محو الباطل وتقويض دعائم الكفر والبهتان فالأولى يمثلها يزيد الذي يمثل الكفر والطغيان، والثانية يمثلها الحسين (عليه السلام) الذي رضع الإيمان حتى صار جزءاً معه لا يتجزأ.
وهنا يتقابل المبدءان وشتان ما بين المبدأين إذا الحرب لم تكن بين رجلين فحسب فكل منهما قد تلبس بمبدئه حتى غدا المبدأ نفس الشخص والشخص نفس المبدأ.
فقد رأى يزيد بعقله الناقص أن قتل الحسين (عليه السلام) فقد قتل الإسلام، وما دام الحسين (عليه السلام) موجوداً فان الدين لم يمت إذ الدين هو الحسين والحسين هو الدين.
هب الحسين (عليه السلام) فصرخ بالكفر مسدداً سهمه إلى كبده، وكان ما أمله يزيد يزيد من الانتصار قد عاد عليه وبالاً وانكساراً وسيبقى صوت الحسين (عليه السلام) وهو يهيب بالناس يدوي في الآفاق وسيبقى صوت الناس وهتافهم باسم الحسين (عليه السلام) يرن في الفضاء، وهنا يجتمع صدى الصوتين فيكون التقاؤهما تفاعلاً عظيماً وصدى يهدد ويزلزل ملك الكفر والطغيان.
رأى يزيد- كما قلنا- أنه: إن قتل الحسين (عليه السلام) قتل الإسلام، وعلم الحسين (عليه السلام) انه منتصر بنهضته على كل حال سواء حارب بالأجناد المجندة، أو حارب بنفسه لو خذله الناس.
علـم الحسـين (عليه السلام) أنه لا شك منتصر فخرج من مدينة جده إلى بيت ربه-ووجهته الكوفة- وفيها حط رحال المجد في كربلاء وفيها جرت أفجع حادثة في تاريخ البشر.
ولأجل هذه الحادثة قامت قيامة الخلق وكان أهل الكوفة محاربوه بالأمس مرددي صدى نهضته بعد ذلك اليوم.
وبهذا أصبح يوم العاشر من محرم مبدأ النهضات، فجل النهضات التي تأخرت عن نهضة الإمام (عليه السلام) والتي كان يراد بها محو الطغيان تردد صدى ذلك الصوت الذي انبعث من كربلاء المقدسة.
وهذا اليوم الذي نهض فيه أبو الشهداء غدا يوم الخلود لأن النهضة فيه تركت وراءها الخلود الدائم وسيبقى الخلود ما بقيت إنسانية في الوجود، وهذا اليوم هو الذي علم المسلمين التضحية والتفاني في سبيل المبدأ والعقيدة، وهذا اليوم أعظم يوم أظهر فيه ظلم الظالم وأعظم يوم أظهر فيه حق المحق، ثم أعظم يوم تفجرت فيه الآلام ولا زالت مستمرة، وهذا اليوم أعظم يوم أشرق فيه ضياء الدين، واعظم يوم لاح من نور الآمال فكان بحق يوم الآمال والآلام.
إرسال تعليق