بقلم: الشيخ حسين معتوق
بسم الله الرحمن الرحيم
(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والأنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فأستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم).
نزلت الآية الكريمة ليلة العقبة بمكة لما بايع الأنصار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانوا سبعين رجلاً - بعد وقوع المبايعة - قال عبد الله بن رواحة - وكان من النقباء - إشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم - قال فإذا فعلنا فماذا لنا قال (صلى الله عليه وآله وسلم) الجنة قالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل.
إن حقيقة الشراء لا تجوز على الله تعالى - لأن الذي نعلمه ويعلمه كل واحد إن الإنسان في هذه الدنيا عبد لله ونائب عنه وأن كل ما يراه من المخلوقات فيما بين السماء والأرض هو ملك لله تعالى حتى هو نفسه ولكن الله سبحانه قد جعل له حق التصرف في نفسه وفي جميع ما خلق ضمن حدود معينة توصله الى نيل رضاه وليس له أن يرسم خطة يسير عليها من تلقاء نفسه وليس له أن يستعمل ما سخر له من القوى والمواهب في غير طاعة الله وليس من الأمانة أن يتصرف في ملك غيره على خلاف ما يريده المالك - ولذا عقب بعضهم على هذه الآية بقوله - إن الله اشترى أنفساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها - وكان التعبير بالشراء ضرب من التمثيل لأجل التأكيد في حصول الجزاء وجعله بمنـزلة الحاصل لأنه بذلك قد جعل لعبده المؤمن حق المطالبة بالثمن وهو الجنة وصير نفسه ملزماً بدفعه من حيث إنه جعل نفسه مشترياً - والمؤمنين بائعين والنفوس والأموال هي المبيعة والجنة هي الثمن - والتوراة والأنجيل والقرآن هي السند الذي سجل فيه هذا البيع وجعل الشهود على البيع موسى وعيسى ومحمد أصحاب هذه الكتب صلوات الله على المرسلين أجمعين.. وحيث قد ملك الله على المؤمنين أنفسهم وأموالهم بهذا الشراء فعليهم أن يبذلوها في سبيل الله وأن يعملوا في هذه الحياة عمل الأجير ليقبضوا الأجر من الله غداً نعيماً وملكاً كبيراً.
وإنما أعلن الشراء من عبده المؤمن خاصة من حيث أن له من إيمانه ما يبعثه على الوفاء دون غيره ولا يصح البيع والشراء إلاّ حيث يمكن تسليم البيع - وغير المؤمن لا يسلم نفسه له وإنما يسلمها للشيطان الذي يزين لها المعصية ويأمرها بالفواحش ما ظهر منها وما بطن حتى تصبح من أقوى أنصاره وأعوانه - هذا ولقد فاز المؤمنون بهذا البيع فوزاً عظيماً كما نطقت الآية الكريمة - من حيث أنهم قد باعوا الشيء من مالكه وأخذوا الثمن من مالكه ولأنهم باعوا فانياً بباق وزائلاً بدائم، والذين باعوا نفوسهم حقيقة لله وظفروا بهذا الفوز العظيم هم المؤمنون الأولون الذين خاضوا معارك الجهاد بجرأة وإقدام غير مبالين بفداحة الخطب وعظم التضحية حفاظاً على العقيدة ولا غرو فأن مَنْ آمن بالله حق الأيمان وآمن بحقه في الأرض رعى رسالته فيها وحرسها من كيد الأعداء ولن يصرفه عن ذلك صرامة التضحية ومن باع نفسه لله لا يمتنع عن تسليمها لأن المؤمن مفطور على الوفاء ومجبول على الفداء - وهل يتقاعد المؤمن عن الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الحق والله معه والملائكة تؤيده والرعب من جنده - لا لن يتقاعد المؤمن عن تسليم نفسه لله بعد أن فتحت له الجنة أبوابها وهي تنتظره ولن تلهيه عن الشهادة زهرة الحياة الدنيا لأن الإيمان إذا إمتزج في القلب ملأه محبة صادقة والمحبة الصادقة تورث الغيرة الصادقة والغيرة الصادقة تدفع الى التضحية الغالية – ومن غير المؤمن يألف التضحية ويعتاد البذل والفداء بسخاء - والنهاية إحدى الحسنيين أما النصر فيكون الظفر أو الشهادة فتكون الجنة لذلك ببذل نفسه لله وهو يقول مع القائل:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً **** على أي جنب كان في الله مصرعي
لقد تقدم المؤمنون الأولون فخاضوا معارك الجهاد ضد الظلم والطغيان وحملوا في ايديهم أرواحهم ووهبوها له شوقاً الى الجنة مع قائدهم الأعلى محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقد استعذبوا الموت لننعم بعدهم بالحياة ورضوا بالذهاب لنسعد بعدهم بالبقاء - ولذا كانت سماء الحق لهم مطلعاً وجوار الله لهم مقعداً - وهم في صدر الزمان خالدون وأحياء عند ربهم يرزقون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون.
لقد ثار أولئك الطيبون على العقول المتعفنة فحرروها وعلى الآلهة المصطنعة فحطموها وعلى الإستبداد والظلم فداسوه بالأرجل ليرف علم العدل على الرؤوس ولقد ارتفع علم العدل والحرية خفاقاً عندما أعلن قائدهم الأعلى كلمة الحرية وهي كلمة - لا إله إلاّ الله - التي هي رمز لتوحيد الله في السماء وتوحيد لحقوق الإنسان في الأرض وقد هيأوا بذلك للأجيال من بعدهم حياة الأحرار حياة تشرق في سمائها شمس الإخاء والإيثار وترفرف في أجوائها ألوية العزة والانتصار وتقوم قواعدها على العمل لله بإخلاص، قد قطعوا على أنفسهم رحلة الأرض في نصب وشقاء لينالوا بذلك أحسن الجزاء فهم بشر ولكن بأعمالهم فوق مستوى البشر وأي إنسان خلق من ماء وطين يصمد لتلك الأحداث فيجعل من دمه قرباناً لدين الله حتى قام على أشلائهم أساسه وشمخ بتلك الدماء الزكية بنيانه - والدين في كل زمان محتاج الى التضحية إذا سمحت الظروف كما سمحت للحسين عليه السلام) الذي وصل الدين في عهده الى حالة لا يمكن أن تعالج بغير الإستشهاد ولذا سلك بمن معه سبيلاً لابد أن يسلكها وليس له من مسلك سواها.. .
والحق إن الحسين عليه السلام) واهل بيته وأصحابه هم بحق ورثة حملة اللواء الأول ولواء الحق والحرية ولواء العزة والكرامة فلقد ضربوا الرقم القياسي للتضحية والفداء يوم أن أعلن القائد الثورة على الظلم الذي انتشر في أرجاء الدنيا من أعمال الأمويين - وهي ثورة قد استكملت كل معاني الإنشاء والتجديد وظفرت بعناصر الإصلاح التي ظفرت بها ثورة الإسلام الكبرى التي أعلنها جده من قبل يوم أن صرخ في شعاب مكة في دنيا الشر وفي طليعة أهله الحزب الأموي المتمثل في شخص أبي سفيان وجاء دور - الحفيد - فصرخ في دنيا المسلمين الذين يمثلهم يزيد بن معاوية حفيد أبي سفيان وقد أعاد الحسين صرخة جده الإصلاحية واعاد يزيد صرخة جده الإلحادية – صرخ الجد في دنيا الشرك ليرد الناس الى التوحيد الذي فطروا عليه وصرخ الحفيد في دنيا المسلمين بعد أن عادت إليهم جاهليتهم وبعد أن خمدت جذوة تلك العاطفة الدينية التي التهبت بالأمس بين أعتاب الظلم صاغراً وقد وقف الدين يفتش هنا وهناك عن المنقذ له من محنته فما وجد غير رجل واحد قد نبض فيه عرق هاشم والتهبت فيه عاطفة محمد وثارت فيه نخوة علي - ألا وهو الحسين - الذي جاء يحدو القافلة الى طريق الحق فأقامها ثورة عارمة حطمت القيود والأغلال وجمعت للدين اشلاءه الموزعة هنا وهناك فقام من جديد يستعيد مجده الأول ويستجيب للقيادة الرشيدة من بعد ما دبت الحياة في جذوره وتنسم أهله نسيم الحرية وعادت إليهم القوة بعد الضعف والوحدة بعد الفرقة والبذل والتضحية بعد الأثر والأنانية، وإلى ذلك يشير الحديث القائل –حسين مني وأنا من حسين- فأن الحديث يدل على أن النبي قد أعد حفيده الحسين لرسالة مستقبلية تشابه رسالته الحاضرة وبذلك يكون كل من الجد والحفيد قد تولد من الآخر - فالحسين متولد من النبي بالولادة الجسمية والنبي متولد من الحسين بالولادة الروحية لأن حياة النبي بحياة رسالته - وحياتها من غير شك كانت على يد الحسين - وإلى هذا المعنى يشير السيد جمال الدين الأفغاني بقوله - الدين الإسلامي محمدي الحدوث - حسيني البقاء. هذا وما أحوجنا - نحن المسلمين - ولا سيما في هذه الأيام التي لا زالت تتسلط فيها أيدي الظالمين كما تسلطت بالأمس أيدي الأمويين - أن نجعل من هذه الصفوة خير مثل ,ان يكون لنا معها أوثق نسب فنسير في الخط العريض الذي خطته لنا بأرواحها ولو كانت الشهادة في الطريق - ولقد آن لنا الأوان أن نستعيد في أذهاننا وأفكارنا ذكرى - عاشوراء - لنأخذ من معطياتها - وما اكثرها - الدروس والعبر لنتجند لخدمة الدين ولا سيما في محنة فلسطين- لأنه يجب على المسلمين أن يكون في كل قطر مسلم - حسين جديد إذا تعرض ذلك القطر لكربلاء جديدة - إن ذكرى الحسين - يجب أن تظل مثلاً يحتذى ودرساً يردده الزمان فتتلقنه الناشئة في البيوت ويتدارسه الطلاب في المدارس ويتذكره الشعب في الندوات ويمرن عليه الشباب في المعسكرات وبذلك يصلون الى أهدافهم في الحياة - لقد وهبنا الله كرامة الإنسان ومنحنا عزة الإيمان وسلحنا بسلاح الحمية والإباء والدين الذي زكى به نفوسنا وعمر به قلوبنا - يستحث حميتنا ويستثير مشاعرنا – وقد رسم لنا معالم الطريق وضرب لنا الأمثلة من رسل الله وأوليائه فعلينا أن نتأسى بهم ونقف مع الحق اليوم كما وقفوا معه بالأمس لنكون في عداد من لبّى نداء الحسين يوم كربلاء حين طلب الناصر - فإن الحسين عليه السلام) لم يطلب الناصر من القوم الذين حاربوه- وإنما أرسلها صرخة مدوية عبر القرون والأجيال يدعوا المسلمين بها الى نصرة المبدأ الذي نصره وقدم له دمه الطاهر وتلك الدماء الزكية التي سقى بها أرض كربلاء والتي لم تزل إلى الآن طرية تهيب بهم إلى حفظ الدين وإعلاء كلمة الحق التي إستشهد من أجلها الحسين عليه السلام) والقعود عن نصرة الحق معناه فتح الباب في وجه الباطل – لأن اللص لا يدخل الدار إلاّ في غيبة أهلها- والحياة التي يريدها الله ورسوله والحسين منا هي الحياة مع الحق –إتجاه الى البناء وإنتصار للبقاء- ليظل كيان الحق سليماً ليس في بنائه خلل يتسرب منه وباء الباطل ويتسلل منه سرطان الظلم - والنهوض حياة وبقاء والقعود موت وفناء- والويل للعبد المسخر الذي رضي بالذل والهوان وخنق وليد الكرامة من نفسه فلم يقدر شعائر الدين ولم يحترم مسؤوليته تجاه الحق فويل له من الله وويل له من محمد وويل له من الحسين وويل له من التاريخ.
إرسال تعليق