بقلم: الشيخ حسن الشمري
شخصية الإمام الحسين عليه السلام
يقول علماء النفس: ((إنّ الإنسان بشخصيته))، وكلما تماسكت شخصيته برزت صفات عالية فيه، وقد يعيش الإنسان بشخصيته أكثر من عمره، من هنا فإننا نرى البعض يتكلم وكأنه ((عملاقاً))، وعمره لا يتعدى العشرين، وقد صادفت بنفسي بعض هؤلاء فوجدته كبيراً، وكأنه اكتنز معادن العلم والحكمة، بقضّها وقضيضها.
ثم إنّ شخصية الإنسان تتماسك إذا ترعرع في جو عائلي مستقيم، فإن أجواء العائلة ومناخها السليم يهيئان المقدمات الأساسية للشخصية، فالعبق العائلي لا مثيل له، كما لا يغني عنه شيئاً، ولو جئت بأمثل المؤسسات فهي لا تغني، لذا فإنّ علماء النفس يقرّون أنّ الإنسان إذا فقد الجو العائلي بالذات في الصغر فلا تعوّضه أيّ مؤسسة تربوية، ولا يمكن أن تسدّ الفراغ، حتى لو جئنا بمؤسسة مثالية فإنها لا تعوّض الإنسان بما فقده من ((الجو العائلي))، فالجو العائلي له أثر كبير.
وقد عاش المولى أبو عبد الله الحسين عليه السلام جواً مثالياً، وغاية في السمو، الأمر الذي أدّى إلى تماسك شخصية الإمام عليه السلام وجعلتها تتقمّص ((ثلاث شخصيات)) من أعظم ما خلق الله على الأرض: الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، والإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وفاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين عليها السلام.
فتجلت في شخصيته ملامح سيد الكائنات، ووصيه بالحق، والصديقة الزهراءعليها السلام بأرفع معانيها، وأجلى صورها.
ونقول: إنّ من يتقمص شخصيةً عظيمةً يحتاج إلى مقدمات وجهد استثنائي، فكيف إذا تقمّص شخصية سيد الكائنات، بل سيد ولد آدم، ثم شخصية سيد الأوصياء، وسيدة نساء العالمين (صلوات الله عليهم أجمعين).
وقد جاءت هذه القابلية عند الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام من استظلاله بهذه الشخصيات، والاهتمام البالغ من قبل سيدة نساء العالمين فاطمة عليها السلام، فهي التي مَكَّنَت فيه الأسباب، وهيَّأت في كيانه الأرضية الصلبة، التي استطاعت أن تتقبل صفات عمالقة ((الحياة)).
ولا غرو فإنّ الأم تصنع المعجزات، يقول البابليون: ((إنّ الأم التي تهزّ المهد بيمينها بإمكانها أن تهزّ العالم بيسارها)).
والأم هي التي صنعت أديسون، وبإمكانها أن تصنع الكثير، فهي بحق ((أعظم جامعة)) على وجه الأرض.
فكانت الزهراء عليها السلام التي ساهمت في صياغة شخصية الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام الرجل الخامس في سلسلة الرجال الخالدين، من لدن آدم عليه السلام، فحملته طاهرة ووضعته نقية، وغذته زهراء، نعم فإنّ قلبها الطاهر الذي حمل قنديل الإيمان انعكس نوره على قسمات وجهها، فسكبتها في قلب الإمام ونفسه، والنور الذي يسطع في قسمات الإنسان يختلف عما عليه ((ضياء الكهرباء))، فنور القسمات يدخل في عمق الإنسان، ثم يعمل فيه تموّجات عالية.
وقد غذّته الزهراء عليها السلام بكل إجلال وإكرام، حتى دخلت في أعماقه فتكوّنت علاقة عميقة بين الإمام عليه السلام، والصديقة الطاهرة عليها السلام.
جاء في كتاب «كيف تعلم جرترود أولادها:How Ge))t))ude Teache(( he)) child))en»
((فالوالدة بما أودع فيها من الغريزة الفطرية مدفوعة إلى العناية بمولودها فيبتهج خاطره، ومن ذلك تتولد في فؤاده عاطفة المحبة والثقة والشكر، يعرف الطفل وقع قدمي والدته، ويبتسم كلما شاهد خيالها، ويحب كل من على شاكلتها، ويعتقد أنّ كل مخلوق مثلها هو مخلوق طيب، فكما يبتسم في وجه والدته يبتسم في وجه كل إنسان يحب كل من تحبه، ويعانق كل من تعانقهم، ومن ذلك تتولد فيه عاطفة الإنسانية والإخاء، فالمحبة بنت الحاجة وعنها نشأت، والشكر مولود التغذية، ولولاها لما أزهر في فؤاد الطفل، والثقة بنت العناية)).
وإذا علمنا أن الزهراء (صلوات الله عليها) ترعرعت في جو مثالي مشبّع بالمحبة والاحترام، فالسيدة خديجة عليها السلام راعت كثيراً مقام النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنها تعرف مكانته عند الله عز وجل مما أثر كثيراً في سلوكها داخل البيت، فجعلت منه واحة يستريح إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتعلق به من أعماق قلبه لذا كان يذكر السيدة الطاهرة بكل خير كلما مرت ذكراها.
وكان لهذا المناخ الأثر البناء في كيان الزهراء عليها السلام، فكانت نِعْمَ الأم لأبيها وأولادها الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين).
إنّ تماسك شخصية الإمام عليه السلام يعود بالدرجة الأولى إلى جده رسول الله محمدصلى الله عليه وآله وسلم، فكان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يعمق فيه صفات الخير من خلال التعامل الفذ الذي تميز بمفردات سامية من قبيل الاحتضان والاحترام والمحبة والسلام والبشاشة، فقد احتضنه من لدن ولادته، وغذّاه من جسمه الطاهر، فكان يرفع في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمره بالاقتداء به.
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما يطلّ على المولى أبي عبد الله عليه السلام كان يحتضنه ويضمه إلى صدره ويمسه جسده، وكان يقبّل ثناياه الطاهرة، ويضع لسانه في فمه.
وكانت قبلات النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم تغوص في كيانه لتقبع في كل خلاياه، ومن ثم تتفاعل بكل حرارة.
إنّ التعامل الطاهر مع الطفل يجعل منه إنساناً طاهراً وفذاً، وقد يصنع منه ((عملاقاً)) خلال فترة قياسية كما أثبت علم النفس التربوي.
وهذا ينطبق على عمالقة الفكر فحين عاشوا الأجواء الطيبة انبجس فيهم ينبوع الطهر والإبداع، وهم في مقتبل العمر، وبعضهم لم يبلغ سن المراهقة، فابن سينا نبغ مبكراً.
إنّ الرعاية الخاصة التي أولاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للإمام أبي عبد الله عليه السلام جعلته كبيراً حتى أنّ كبار الصحابة كانوا يكنون الاحترام لأبي عبد الله عليه السلام، ويفردون له مكاناً خاصاً، وكانوا يولون الإمام أهمية خاصة، فكان يأتي الإمام عليه السلام، ويجلس إلى جانبهم ثم يستمع إلى كلام جده صلى الله عليه وآله وسلم.
إنّ شخصية الإنسان تبدأ من السنين الأولى، وقد أخطأ من قال أنها تظهر عند المراهقة، فالطفل يشعر بكيانه منذ الصغر، ويتحسسها كلما تقدم به العمر، وعندها تتكامل شخصيته، وتتأصل فيه عوامل الخير بالذات إذا ترعرع في جَوٍّ سليم ومفعم بالمثل العليا كما أسلفنا.
جاء في كتاب (سيد الشهداء الإمام الحسين رضي الله عنه): ((ولست مبالغاً إن قلت: لم يدانِ الإمام الحسين رضي الله عنه أحد في فضله وعلمه ممن عاصره، أو أتى بعده، فقد فاق غيره بملكاته الوهبية، ومواهبه العلمية، إنه انتهل وهو في سنه المبكر من علوم جده صلى الله عليه وآله وسلم التي أضاءت آفاق هذا الكون، وتتلمذ على يد أبيه الإمام علي (كرم الله وجهه ورضي عنه) أعلم الأمة، وأفقهها بشؤون الدين، وكرع من نهر والدته الزهراء بضعة رسول الله (صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها)، فمن يدانيه وشقيقه الحسن عليه السلام، وقد حظيا بكل هذا؟ من كف سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أخذا، ومن سلسبيل أبيهما رحقا، ومن معين أمهما ارتشفا، فبأيّ وجه يتفقا مع غيرهما، وبأيّ حق يتعادلان مع من سواهما، إنهما من حسب وحيد وحده، ونسل فريد تفرد بهما دون سواهما))[1].
إنّ الأجواء السليمة تترك أثراً كبيراً في حياة الإنسان، وهي إحدى أهم الروافد في بناء الشخصية المستقيمة، وكلما طهرت الأجواء ازداد الإنسان استنشاقاً لها وتعلقاً بها.
إنّ إحدى أهم عوامل نجاح الإنسان مرهون بتربيته بالذات في السنين الأولى، فهي التي تقرر مصير الإنسان.
وقد أكد علماء النفس: ((إن الإنسان إذا تلقى التوجيه السليم والتربية الصحيحة من صغره تترسخ فيه المناعة وتزداد عمقاً، حيث تفترش المناعة قلبه ثم تزداد رسوخاً كلما كثر الاهتمام والتوجيه عندها لا تستطيع التيارات الفاسدة مهما أوتيت من قوة أن تأخذ منه، أو تفل من شخصيته)).
يقول ((راسل)): ((إنّ السرعة التي يتعلم فيها الرضيع تثير الدهشة، إن اكتساب العادات السيئة في الطفولة المبكرة يخلق سداً أمام اكتساب العادات الحسنة، لذلك يعتبر تكوين العادات في أوائل الطفولة أمراً مهماً جداً))[2].
إنّ فترة الطفولة تُعَدُّ منعطفاً مهماً في حياة الإنسان، لذلك فإن علماء النفس يعدون الإنسان كبيراً في كل مراحله بالذات في سنيه الأولى، فليست هناك مرحلة دون أخرى، فكل مراحل الإنسان تستحق الاهتمام، والرعاية، وإن الرعاية السليمة تجعل من الإنسان يتكامل بشكل طبيعي ويتدرج في سلم الكمال، وقد تكون الرعاية الخلقية من أهـم العوامل في تكامل الإنسان.
وكما أسلفت في كتاب (الإمام الهادي عليه السلام) فإنّ الأخلاق تعد العمود الذي تشد الجوانب الإنسانية في شخصية الإنسان.
وبعبارة أخرى: ((فإن الأخلاق تشكل الأساس في تهيأة الأجواء لأشكال الصفات الإنسانية كافة))، لذا فإنّ على الأب والأم مراعاة جانب الأخلاق، ومنها ((المودة والرقة والعطف والحنان والإيثار))، فهذه الصفات الإنسانية تجد طريقها إلى القلب عن طريق الأخلاق، ولا تحسب أنّ هذه الصفات سهلة الدخول إلى القلب ما لم تكن هناك أجواء ومفتاح لهذه الصفات.
كما أنها ليست بالصفات ذات التأثير المحدود، فهي من أرقى الصفات، وتعطي نتائج غاية في الأهمية، تنعكس على شخصية الإنسان بشكل مباشر، فالمودة ((تعطي للإنسان موقعاً في القلوب))، لذلك أكّدها الله عز وجل في أهل البيت عليهم السلام، قال تعالى: ((قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى))[3]، وهي تترك صدى طيباً في قلب الإنسان أياً يكون انتماءه، فتنعكس بسرعة على أخلاقه وسلوكه، وهذه الحالة تُعَدُّ سلوكاً متقدماً، وتطوراً كبيراً في حياته.
من هنا فإذا أراد الإنسان أن يتقدم في أخلاقه ويسمو فما عليه إلا ((أن يودَّ)) الآخرين ويتحبب إليهم، إنّ سمو الكبير يعدّ من العوامل المهمة في ارتقاء الإنسان وقد تكون العامل الأول.
وقد تمثّل هذا الشيء في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّ أخلاق الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم كانت عاملاً مهماً في حياة المولى أبي عبد الله الحسين عليه السلام، فهي التي رسمت أخلاقه، وتركت آثاراً عميقة فيه مما أدّى بالإمام أبي عبد الله عليه السلام إلى تجسيدها بأعلى صورها، بالذات في كربلاء، فقد تجلت أخلاق جده بأعلى صورها وأرفع معانيها.
فلا غرو أن قال عندما احتوشته الجيوش من كل جانب، وأرادوا أن يفرضوا عليه البيعة والاستسلام: ((ألا وإنّ الدعيَّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله، وحجورٌ طابت وطَهُرت، وأنوفٌ حمية، ونفوس أبية، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام))[4].
وأحدهم يقول: ((إن نفس أبيه بين جنبيه)).
إنّ العلاقة الوثيقة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليه السلام أضحت طابعاً بارزاً اكتنزت كل معاني الحب والاحترام، ولا يخفى أنّ اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإمام كان فريداً من نوعه، من هنا فإنّ شخصية الإمام عليه السلام ضمّت شخصية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بكل أبعادها.
جاء في كتاب (المقتطفات السيكلوجية): ((يوجد الإنسان في العالم فتنشأ شخصيته من شخصية آبائه وأجداده، إخوانه وأخواته، أقاربه وذويه، فيلتف بها ويمزجها بجوهر حياته، ثم يعود فيصوغها من جديد هدية يطوق بها أعناق الذين يخلفونه، فما أغرب الإنسان وما أعجبه!! فهو مؤثر بشخصيته، ومؤثر فيه في آن واحد، فبينما تتكون شخصيته من شخصيات القريبين إليه إذا به يحيك شخصية فريدة، وذاتية خاصة به، يتأثر بها سواه، وقد جعلت حلقة اتصال تربط بها الأجيال، فما أعظم المسؤولية الملقاة علينا لأننا ننقل بحياتنا إلى العائشين في أحشاء المستقبل مؤثرات يكونون منها شخصياتهم، فإما أن نكون يداً للبناء، أو معولاً للهدم، فأيّ الأمرين نختار؟.
إنّ حياتك التي تحياها إنما هي بذرة تتكون منها شجرة الأجيال، وأنت لست منفصلاً عن العالم، بل متصلاً به، فهل ترغب أن يكون اتصالك هذا سبباً لرفع شخصيات أفراد مجتمعك أم لخفضها؟))[5].
وهذا كلام مقبول، فإنّ شخصية الأب بمثابة حجر الأساس إذ تساهم كثيراً في استواء شخصية أبنائهم، وقد تكون القاعدة ((كلما كان الأب سامياً يأخذ بأبنائه إلى السمو)) صحيحة على وفق قانون ((التأثر بالقوي))، و((التأثير القوي للقدوة)) وهو قانون اكتشفه القرآن الكريم.
قال تعالى: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ))[6]، فالباري عز وجل جعل الأسوة الحسنة برسوله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يمثل القدوة التي جمعت كل جوانب العظمة والسمو.
وهذه المكانة للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم جعلت منه ((قوة عظيمة)) أثرت كثيراً في صياغة شخصية الإمام الحسين عليه السلام، لذلك نرى واقع الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام يجسّد شخصية جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول الأربلي في (كشف الغمة): ((شجاعة الحسين عليه السلام يضرب بها المثل، وصبره في الحرب أعجز الأوائل والأواخر)).
ويقول صاحب كتاب (سيد الشهداء الإمام الحسين رضي الله عنه): ((إنّ أي واحدة من رزاياه، لو ابتلى بها أيّ إنسان مهما تذرع بالصبر والعزم وقوة النفس لأوهنت قواه، واستسلم للضعف النفسي قلبه، ولكن الإمام الحسين رضي الله عنه لم يلتفت لما ابتلى به في سبيل الغاية الشريفة التي سمت بروحه عن أن تستسلمَ للجزع، أو تستكين للخطوب، أو تفر من المصائب))[7].
والشجاعة كما هو ثابت من أبرز معالم الشخصية السوية، وقد وضع رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم أساسها في كيان الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام ومنذ الصغر، وقد ثبتها عن طريق القرآن الكريم، وكتاب الله أفضل وسيلة لتثبيت الصفات العالية، لأنه كلام الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه.
وكلمات الله عز وجل تملك إيقاعاً استثنائياً بحيث يترددُ صداه في كل فضاءات الإنسان يبدأ من العقل ثم النفس والقلب، ثمّ إنّ القرآن الكريم يصنع مناخاً مفعماً بالطيب، وهو الوحيد الذي يمتاز بهذه الصفة، لذلك فإنّ الذي يكثر من تلاوة القرآن ويعيشه بعقله وقلبه، تظهر عليه صفات القرآن الكريم، وأخلاقه.
سألوا عائشة عن خُلُقِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالت: ((كان خُلُقُهُ القرآن)).
وقد تعاهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولده الإمام أبا عبد الله الحسين عليه السلام بالقرآن الكريم منذ نشأته.
جاء في كتاب (سيد الشهداء): ((إنه (صلوات الله وسلامه عليه) كان كثير الاهتمام به والاعتناء بشأنه، فكان يصحبه معه في أكثر أوقاته، فيشمّه عرفه وطيبه، ويرسم له محاسن أفعاله، ومكارم أخلاقه، وقد علمه (وهو في غضون الصبا سورة التوحيد)، ووردت إليه من ثمر الصدقة فتتناول منها الإمام الحسين عليه السلام تمرة وجعلها في فيه، فنزعها منه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقال له: لا تحل لنا الصدقة))[8].
ويعلّق الشيخ موسى محمد علي على هذه الحادثة أو السلوك: ((ومن الطبيعي أنّ إبعاد الطفل عن تناول الأغذية المشتبه فيها أو المحرمة، لها أثرها الذاتي في سلوك الطفل وتنمية مداركه حسب ما دلت عليه البحوث الطبية الحديثة، فإن تناول الطفل للأغذية المحرمة مما يوقف فاعليته السلوكية، ويغرس في نفسه النزعات الشريرة، كالقسوة والاعتداء والهجوم المتطرف على الغير، وقد راعى الإسلام باهتمام بالغ هذه الجوانب، فألزم بإبعاد الطفل عن تناول الغذاء المحرم، وكان إبعاد النبي (صلوات الله وسلامه عليه) لسبطه الإمام الحسين رضي الله عنه عن تناول تمر الصدقة التي لا تحل لأهل البيت عليهم السلام تطبيقاً لهذا المنهج التربوي النبوي الشريف))[9].
ونضيف أنّ إبعاد الطفل عن أكل الحرام يقوي فيه القابلية على سلوك الطرق السليمة، والأخلاق الحميدة، فإن ((نفس الطفل)) صفحة بيضاء وطاهرة.
قال تعالى: ((لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ))[10].
وكما هو ثابت في علم النفس التربوي فإنّ الصفات الأخلاقية هي أول الصفات ظهوراً عند الإنسان، وتبدأ في الأيام الأولى، وكلما أكثر الطفل من أكل الحلال تعمق فيه الميل للحلال، ومن ثم يصبح جزءاً من سلوكه ((الطبيعي)).
ومن جانب فإنّ ((قوة الإلهام)) المودعة فيه تصبح فاعلة في جانب الخير أو ما يطلق عليه كتاب الله ((التقوى)).
قال تعالى: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا))[11].
وكلما ازداد الإنسان توجهاً نحو الخير ازدادت عنده هذه القوة حتى تصل إلى ذروتها، فتصبح عنده التقوى في أعلى درجاتها، فعندها لا يمكن بعد ذلك أن تنهض قوى الشر عنده، وتأمره بالسوء. إنّ فاعلية قوة الإلهام عند الإنسان تبدأ عندما يتم التوجيه وهذه نقطة أساسية ينبغي أخذها بنظر الاعتبار.
وقد تكون قوى الخير والشر عند الطفل ((نائمة)) إن صحّ التعبير، ولكن ما إن يبدأ التفاعل معها عن طريق السلوك حتى تبدأ القوى بالنهوض.
ولكن قد تفتّح عينيها على سلوك أهوج فتضحى هوجاء وعمياء، وهذه هي الطامة الكبرى، وبعدها يصعب تعديلها بالذات إذا استمر السلوك الأهوج، ولكن إذا انقطع وتغيّر السلوك إلى الأحسن تتغير الحالة.
إنّ التعامل السليم مع الطفل يشكّل الأساس للسلوك الطيب، وما لم يكن هناك أساس لا يتم البناء، وبالذات البناء الأخلاقي، فإنه يحتاج إلى قاعدة صلبة ومتينة بحيث تتحمل البناء الأخلاقي الذي هو أصعب ما يكون عند الإنسان.
وقد ذكرت في إحدى مؤلفاتي أنّ الأساس الأخلاقي لا يتم تشييده إلا في الصغر، أو بعبارة أخرى فإن ((مرحلة التأسيس للأخلاق)) تتم عند الصغر.
فإذا أحكمنا الأساس في الصغر يمكن أن نبني لاحقاً، ونزرع أفضل الصفات، ومنها الشجاعة والجود والإيثار والصدق والشهامة.
فهذه الصفات ((العملاقة)) تحتاج إلى أساس مكين حتى يتسنى لها البقاء والاستقرار، أما إذا كان هشاً وهزيلاً فلا يمكنها أن تبقى، لذا فنحن نرى البعض قد يتصف بها، ولكن سرعان ما يتخلى عنها، ويعود هذا الانسلاخ إلى فقدان الأساس.
إن التعامل الفذ مع الطفل يقدح فيه الصفات الطيبة التي هي تنمو في ظل الرعاية السليمة، وتتفرع منها صفات كثيرة، كالأرض إذا تعاهدها الزّراع فإنها تعطي مختلف الثمار، وهذا ما حدث للإمام الحسين عليه السلام.
جاء في (مسند أحمد بن حنبل): ((عن يعلي العامري، أنه خرج مع رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم إلى طعام دعوا له قال: ((فاشتمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أمام القوم، وحسين مع غلمان يلعب فأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذه فطفق الصبي يفر ها هنا مرة، وها هنا مرة، فجعل النبيصلى الله عليه وآله وسلم يضاحكه حتى أخذه قال: فوضع إحدى يديه تحت قفاه، والأخرى تحت ذقنه، ووضع فاه على فيه وقبله، وقال: ((حسين مني وأنا من حسين))[12].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أحب الله من أحب حسيناً))[13].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((حسين سبط من الأسباط))[14].
وقد أولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام رعاية خاصة من لدن ولادته المباركة، كل ذلك حتى ينمي ((خصال النبوة والإمامة)).
إن شخصية الإنسان تتألق إذا استظلت منذ الصغر بشخصيات عظيمة فتستقيم تباعاً وتنمو قواها المعنوية، ولكن إذا لم تلق الاهتمام المطلوب فإنها ((تذوي وتضمحل)) بالذات إذا اقترب الإنسان إلى سن المراهقة، فهذه السن هي التي تحدد مصير الإنسان، فإذا كان قد تلقى الاهتمام والرعاية المطلوبين فيغدو قوياً ومتماسكاً، ثم ينحو باتجاه الخير والاستقامة حيث يجد الأرضية التي يمكن من خلالها الانطلاق بقوة، أما إذا وصل إلى مرحلة المراهقة وهو يعاني من ((العوق)) و((الضمور الشخصي)) فلا يمكنه البناء حيث لا يمتلك القوة في اكتساب أي صفة حسنة، أو بتعبير أدق لا يمكنه زرع أي صفة ((سامية)) من قبيل الاتزان والاستقامة، ومساعدة الآخرين والإيثار.
لقد أصبح واضحاً أن الكثير من شبابنا باتوا يعانون من ضعف الشخصية ومصداق ذلك فإن الكثير من الشباب أخذ يتجه نحو الشخصيات الهزيلة.
ويتقمصها بجوانبها كافة، بما فيها السيئة للغاية فأخذ يقلدها بالنطق والمشي وما شابه، فتراه يتقمص شخصية ((المغني المخنث)).
وكذلك الفتيات فإنهن أخذن يقلدن ((المغنيات)) اللاتي يعانين من ضعف كبير، والأنكى من ذلك فإنّ بعض الشباب أخذ يقلد المغنيات، وقد صرف الكثير حتى تكون قسمات وجهه مثلها.
إن هشاشة الشخصية تعد الآن من الظواهر السلبية التي يعاني منها الشباب والشابات، وتُعَدُّ هذه الظاهرة من أخطر الظواهر التي يتعرض لها الإنسان في هذا الوقت.
وضعف الشخصية يجعل الإنسان يميل إلى تقليد ما هو ضعيف وهزيل، لأن القابلية على اقتفاء الكبير يتطلب جهداً مضنياً، وهذه غير متوفرة في الذين يعانون من ضعف الشخصية، لذلك نرى هؤلاء يجنحون إلى هذه النماذج ((الهدامة)) والتي تشكل الآن ((أكبر معول)) لهدم شخصية الشاب والشابة.
وقد استغلت ((الدوائر الصهيونية)) هذا الضعف، أو قل هذا المظهر الخطير فراحت ((تبرز)) النماذج الهزيلة عبر الفضائيات والمجلات وكل أشكال الأعلام، وبطريقة أخاذة لا يمكن أن يفلت من حبائلها إلا الذين صبروا.
وها نحن نرى المجلات والفضائيات العربية منها كيف تستعرض وبشكل مقزز ومقرف النماذج السيئة، ومن ثم تزين، حتى تتهاوى تحت ضرباتها الشريحة الحيوية للمجتمع ((الشباب والشابات)).
والأخطر في ذلك أن وسائل الإعلام العربية أخذت تقنن هذه المظاهر، وتضفي عليها طابع التحضر والتقدم كي لا تدع القائمين على مصلحة الأمة فرصةً للرد والردع وإذا قام أحد المخلصين ليردعهم يتهمونه بالتخلف والرجعية ومحاكات الآباء.
إنّ الزحف المتواصل للمغنين والراقصين والمغنيات والراقصات واحتلالهم المساحات الواسعة لوسائل الإعلام يعد أحد العوامل السيئة لـ((هدم المجتمع)) كما جاء في (بروتوكولات حكماء صهيون).
فالدوائر تعد هذه الوسيلة هي الأمثل في قطع الشريحة من جسد المجتمع، ثم إماتتها عن طريق قتل شخصيتها.
والمجتمع كما هو ثابت في علم الاجتماع يقوم على أسس مهمة ومنها الشباب، فإذا تمّ قتل الشاب فإنّ جزءاً حيوياً من المجتمع قد انتهى، وقد يكون ((قتل الشباب)) المدخل أو الثغرة التي ينفذ منها المحتل الصهيوني كما ورد في (بروتوكولات حكماء صهيون).
وكما هو ثابت فإنّ ضعف الشخصية عند الشاب تجعله لا يفكر طويلاً في ((سلم الأولويات))، وهذه نقطة أساسية، فإنّ ((سلم الأولويات)) مهمة عند الإنسان، وعليه أن يفكر بعمق في هذا الاتجاه، ولكن إذا سلبت منه مقومات التفكير فكيف يتمعن في هذه القضية، وأنى له ذلك.
إنّ قتل الكفاءات باتت من الأمور المطروحة بقوة، وقد اختلفت الآراء في أسبابها، ولكن اتفقت كلمة الباحثين على جملة من الأسباب منها ضعف الشخصية فهي تساهم كثيراً في قتلها، ثم الإغراءات الجهنمية في دول الغرب لجذبها وهي في مقتبل عمرها، أو بعبارة أدق في إبان ظهورها.
وثالثاً في خلق الأزمات، فإنّ الأزمات المتتالية في الدول العربية والإسلامية جعلت الكفاءات تختنق، ومن ثم تعيش النفس الأخير، الأمر الذي اضطر الكثير منها إلى ترك البلاد بأي ثمن كان حتى لو كان على حساب البلد.
ثم جاء الأسلوب الحقير في اغتيالها عبر مجموعات إرهابية تعمل لصالح الدوائر الصهيونية، وما قتل الكفاءات واغتيالها في ((العراق)) إلا مثال صارخ لهذا الواقع السيئ.
إن قتل الكفاءات في العراق وغير العراق يهدف إلى تفريغ البلاد من أهم مقوماته، ومن جانب يرهب الذين يرغبون في العودة إلى بلادهم، إنهم بعملهم هذا يهدمون الأسس السليمة، والبنى التحتية من القواعد.
وأنا أعجب من بعض الشخصيات التي تحتل مواقع المسؤولية، وتتحدث عن البناء وإعادة البنى التحتية للبلد، وهي لا تعير أهمية للكفاءات، ولا تضع في حسابها إيجاد السبل الكفيلة للحفاظ عليها.
ويأخذني العجب كيف يتكلمون عن إعمار البلد ولا يتكلمون عن الذين ((يعمرون البلاد)) إذ كيف يعمرون البلاد؟ وفي كل يوم يقتلون طبيباً أو مهندساً أو أستاذاً؟!.
فإذا كنتم تتكلمون عن الإعمار وأهميته، فكيف ينسجم هذا مع القتل الذريع للكفاءات المرموقة؟ والتي هي أساس إعمار البلاد؟.
كنت أترقب من خلال الحديث عن الإعمار أنّ هناك مشروعاً استراتيجياً للحفاظ على الكفاءات، وأن تطرح الشخصيات المسؤولة مشروعاً استراتيجياً يحفظ الكفاءات ويبعد عنها شر ((اللصوص)) والمافيات.
ـــــــــــــــــــ
[1] سيد الشهداء الإمام الحسين رضي الله عنه: الشيخ موسى محمد علي، ص71.
[2] الأخلاق: الشيخ محمد تقي الفلسفي، نقلاً عن كتاب التربية، ج1/ص160.
[3] الشورى: 23.
[4] تحف العقول: ابن شعبة الحراني، ص58. الاحتجاج: الشيخ الطبرسي، ج2/ص24. مثير الأحزان: ابن نما الحلي، ص40.
[5] المقتطفات السيكولوجية: محمد سليم، ص36.
[6] الأحزاب: 21.
[7] سيد الشهداء الإمام الحسين رضي الله عنه: الشيخ موسى محمد علي، ص61.
[8] الإمام الحسين عليه السلام سيد الشهداء: الشيخ موسى محمد علي، ص40.
[9] المصدر نفسه.
[10] التين: 4.
[11] الشمس: 7 ــ 8.
[12] الإرشاد: الشيخ المفيد، ج2/ص127. ذخائر العقبى: أحمد بن عبد الله الطبري، ص133. بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج37/ص74. العوالم، الإمام الحسين عليه السلام: الشيخ عبد الله البحراني، ص1. مستدرك سفينة البحار: الشيخ علي النمازي الشاهرودي، ج8/ص233. مسند أحمد: أحمد بن حنبل، ج4/ص172. سنن الترمذي: الترمذي، ج5/ص324. المستدرك: الحاكم النيسابوري، ج3/ ص177. تحفة الأحوذي: المباركفوري، ج10/ص19. المصنف: ابن أبي شيبة الكوفي، ج7/ص575.
[13] شرح الأخبار: القاضي النعماني المغربي، ج3/ص112. الإرشاد: الشيخ المفيد، ج2/ص127. الأمالي: السيد المرتضى، ج1/ص157. مناقب آل أبي طالب: أبي شهر آشوب، ج3/ص226. العمدة: ابن البطريق، ص406. كتاب الأربعين: الشيخ الماحوزي، ص371. معالم المدرستين: السيد مرتضى العسكري، ج1/ص324. موسوعة أحاديث أهل البيت عليهم السلام ــ : الشيخ هادي النجفي، ج1/ص329.
[14] الناصريات: الشريف المرتضى، ص90. ذخائر العقبى: أحمد بن عبد الله الطبري، ص133. العوالم، الإمام الحسين عليه السلام: الشيخ عبد الله البحراني، ص34. شجرة طوبى: الشيخ محمد مهدي الحائري، ج2/ص259. ميزان الحكمة: محمد الريشهري، ج1/ص158. مسند أحمد: أحمد بن حنبل، ج4/ص172. سنن ابن ماجة: محمد بن يزيد القزويني، ج1/ص51. المستدرك: الحاكم النيسابوري، ج3/ص177. المصنف: ابن أبي شيبة الكوفي، ج7/ص515. صحيح ابن حبان: ابن حبان، ج15/ص428. المعجم الكبير: الطبراني، ج3/ص33. نظم درر السمطين: الزرندي الحنفي، ص209. موارد الظمآن: الهيثمي، ج7/ص197. كشف الخفاء: العجلوني، ص395. الإكمال في أسماء الرجال: الخطيب التبريزي، ص44. تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر، ج14/ص149. أسد الغابة: ابن الأثير، ج2/ص19. تهذيب الكمال: المزي، ج6/ص462. سير أعلام النبلاء: الذهبي، ج3/ص283. تهذيب التهذيب: ابن حجر، ج2/ص299. تاريخ الإسلام: الذهبي، ج5/ص79. الوافي بالوفيات: الصفدي، ج12/ص262. البداية والنهاية: ابن كثير، ج8/ص224. إمتاع الأسماع: المقريزي، ج6/ص19. مطالب السؤول في مناقب آل الرسول عليهم السلام ــ: محمد بن طلحة الشافعي، ص377.
إرسال تعليق