بقلم: الشيخ علي الفتلاوي
بعد أن عرّف الإمام نفسه للذين أعمى الله تعالى أبصارهم وبصائرهم، لكي يلقي عليهم الحجة يوم عاشوراء قال لهم: «فَإنْ صَدَّقْتُمُوني بِما أقُولُ وهُوَ الحَقُّ، وَاللهِ مَا تَعَمَّدْتُ كَذِباً مُنْذُ عَلِمْتُ أنَّ اللهَ يَمْقُتُ عليه أهْلَهُ...».
قبل التعرض إلى معرفة هذه الرذيلة وآثارها السيئة نريد أن نقف على أمر مهم وهو كالآتي: قال الإمام الحسين عليه السلام فقرة تستوقف المشككين وغير العارفين بمقام الإمام عليه السلام ألا وهي: «وَاللهِ مَا تَعَمَّدْتُ كَذِباً مُنْذُ عَلِمْتُ أنَّ اللهَ يَمْقُتُ عليه أهْلَهُ...».
فينتج منها تساؤل وهو: س: هل يفهم من قوله عليه السلام أنه لم يتعمد الكذب فقط، لكن يحتمل صدور الكذب منه سهواً أو نسياناً؟
سؤال: قوله عليه السلام (منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله) هل أن الكذب صدر عن الإمام قبل علمه بأن الله تعالى يمقت الكاذبين؟
وسنجيب عن هذه الأسئلة بما يلي:
الجواب الأول:
1ــ إن عصمة الإمام التي ثبتت في محلها تمنعه من الوقوع في الكذب عمداً وسهواً ونسياناً وإلاّ انتقض الغرض من الإمامة.
2ــ يفهم من قوله (ما تعمدت) الآتي:
ألف: ربما يكون إشارة إلى أن قول الكذب عمداً يعد ذنباً وما صدر من كذب نسياناً أو اشتباهاً لا يعد كذلك، فلذا أراد الإمام أن يوصل رسالة للمخاطبين أنه معصوم من الذنب عمداً فهو أولى بالخلافة والنصرة من الفاسقين العاصين.
باء: لعله عليه السلام أراد بقوله (ما تعمدت) مداراة عقول المخاطبين الذين يرون الإمام إنساناً كعامة الناس يصيب يُخطئ، وهذا تجسيد لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم»[1].
جيم: لعله أراد بقوله (ما تعمدت كذبا...) إستغناءه عن الكذب؛ إذ لا يحتاج إلى الكذب إلاّ من آثر رضا نفسه على رضا ربه وانقاد وراء مصالحه، وهو لم ولن يكون هكذا أبدا.
دال: لعله عليه السلام أراد أن يقول إن الكذب يصدر عمداً أو نسياناً أو سهواً، ولا يؤاخذ العبد بالكذب الذي صدر عنه سهواً أو نسياناً، فلذا أراد أن يشير إلى أن تعمد الكذب من دون النسيان أو السهو، هو ما يمقته الله تعالى وأما ما صدر سهواً أو نسياناً فلا مقت على أهله ليتضح للناس يسر الدين الإسلامي وخلوه من الحرج.
هاء: ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»[2].
وما نقله الإمام الحسين عليه السلام من حديث عن جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حقه وحق أخيه ليس كذبا، ولذا على الأمة أن ترتب الأثر على مضمون هذا الحديث وهو حفظ دم الحسين عليه السلام كونه أحد السيدين لأهل الجنة.
وفي خاتمة الجواب لا يسعنا إلا أن نقول إن الإمام المعصوم عليه السلام أدرى بمراده وأعلم بما يقول، وما قولنا المتقدم إلا مقدار ما فهمناه من قوله عليه السلام.
الجواب الثاني:
في مقام الجواب على السؤال الثاني الذي تقدم يكون على شكل نقاط نتسلسله وهو كما يلي:
1ــ إن الإمام الحسين عليه السلام من أهل البيت عليهم السلام الذين شملتهم آية التطهير.
2ــ يلزم من هذا أن يكون الإمام معصوماً عن الوقوع في الحرام بتسديد من الله تعالى دون أن يكون مجبراً على العصمة، وما استحق الإمام هذا التسديد الإلهي إلا لعلم الله تعالى بأنه سيختار الورع عن المعصية كما أشار الإمام الباقر عليه السلام إلى ذلك بقوله: «إذا عَلِمَ اللهُ تَعالى حُسْنَ نِيَّةٍ مِنْ أحَدٍ اكْتَنَفَهُ بِالعِصْمَةِ»[3].
3ــ إتيان الطاعة وترك المعصية لابد أن يكون مسبوقاً بعلم، لأن لا طاعة إلا بمعرفة فيلزم من هذا أن الإمام علمَ بقباحة الكذب منذ أن اختاره الله تعالى لأمور عباده وهذا ما يؤكده الإمام الرضا عليه السلام بقوله: «إنَّ العَبْدَ إذا اخْتارَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لأمورِ عِبادِهِ شَرَحَ صَدْرَهُ لِذلِكَ، وَأوْدَعَ قَلْبَهُ يَنابِيعَ الحِكْمَةِ، وَألْهَمَهُ العِلْمَ إلهاماً، فَلَمْ يَعْيَ بَعْدَهُ بِجَوابٍ وَلا يَحيرُ فيهِ عَنِ الصَّوابِ»[4].
فيظهر من حديث الإمام الرضا عليه السلام أن الإمام أُلهِم العلم بالفضائل والرذائل منذ اختيار الله تعالى له ليكون إماماً، وهذا قبل وجوده الدنيوي كما سيأتي في النقطة اللاحقة.
4ــ اختار الله تعالى أهل البيت عليهم السلام قبل عالم الدنيا، وعلى هذا فالإمام عالم بقباحة الكذب، وعارف بأن الله تعالى يمقت الكاذبين قبل عالم الدنيا والدليل على ذلك ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأحاديث التالية:
جاء في كتاب المحتضر للحسن بن سليمان: من كتاب السيد حسن بن كبش ممّا أخذه من المقتضب، ووجد في المقتضب أيضاً مسنداً عن سلمان الفارسي رحمه الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا سلمان خلقني الله من صفوة نوره فدعاني فأطعته وخلق من نوري عليّاً فدعاه (إلى طاعته) فأطاعه، وخلق من نوري ونور عليّ فاطمة فدعاها فأطاعته، وخلق منّي ومن عليّ و(من) فاطمة[5] الحسن والحسين فدعاهما فأطاعاه فسمّانا الله (عَزَّ وَجَلَّ) بخمسة أسماء من أسمائه، فالله المحمود وأنا محمّد والله العليّ[6] وهذا علي، والله فاطر وهذه فاطمة والله الإحسان[7] وهذا الحسن والله المحسن[8] وهذا الحسين عليهم السلام، ثمّ خلق [منا] ومن نور الحسين عليه السلام تسعة أئمّة فدعاهم فأطاعوه قبل أن يخلق الله [عزّ وجلّ] سماءً مبنيّة، أو أرضاً مدحيّة، أو هواءً أو ماءً أو ملكاً، أو بشراً، وكنّا بعلمه أنوارا نسبّحه ونسمع له ونطيع»[9].
وورد في كتاب كنز الفوائد عن ابن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يا بن مسعود إنّ الله تعالى خلقني وخلق عليّا والحسن والحسين عليهم السلام من نور قدسه، فلمّا أراد أن ينشئ خلقه[10] فتق نوري وخلق منه السماوات والأرض، وأنا والله أجلّ من السماوات والأرض، وفتق نور عليّ وخلق منه العرش والكرسيّ وعليّ والله أجلّ من العرش والكرسيّ، وفتق نور الحسن عليه السلام وخلق منه الحور العين والملائكة والحسن والله أجلّ من الحور العين والملائكة، وفتق نور الحسين عليه السلام وخلق منه اللوح والقلم والحسين والله أجلّ من اللوح والقلم»[11].
ــــــــــــــــ
[1] الكافي للكليني: ج1، ص23، ح15.
[2] عيون أخبار الرضا عليه السلام للشيخ الصدوق: ج1، ص212.
[3] بحار الأنوار: ج78، ص188، ح41. ميزان الحكمة: ج6، ص2645، ح13078.
[4] الكافي: ج1، ص202، ح1. ميزان الحكمة: ج1، ص177، ح948.
[5] ورد في كتاب مصباح الشريعة المنسوب للإمام الصادق عليه السلام: ص64، باب: في معرفة الأئمة، «من نوري ونور علي وفاطمة».
[6] ورد في كتاب المحتضر لحسن بن سليمان الحلي: ص267، باب: النص على الأئمة الإثني عشر، «الأعلى».
[7] ورد في كتاب دلائل الإمامة لمحمد بن جرير الطبري (الشيعي): ص448، باب: معرفة وجود القائم عليه السلام، «والله ذو الإحسان».
[8] ورد في بحار الأنوار للمجلسي: ج15، ص10، باب 1، «والله المحسن».
[9] عوالم العلوم والمعارف والأحوال، الشيخ عبد الله البحراني: ج17، ص5 ــ 6، ح1. بحار الأنوار: ج53، ص142، ح162.
[10] في المصدر: ينشئ الصنعة.
[11] عوالم العلوم والمعارف والأحوال، الشيخ عبد الله البحراني: ج17، ص6، ح2. بحار الأنوار: ج36، ص73.
إرسال تعليق