بقلم: السيد محمد موسى الموسوي
روعة الإيمان الصادق وجلال
التمسك بالمبدأ المقدس وعظمة المفاداة والتضحية. كل ذلك يتجلى رائعاً في كل مشهد
من مشاهد القضية الحسينية… وان واحداً لا يستطيع المضيَّ في استجلاء دقائق هذه
النهضة ولا أن يمر بها استطراداً دون أن تقف به الحوادث مرات ومرات مكبراً بادرة
واحدة من أولئك الصحب تارة أو معجباً بموقف من هاتيك المواقف تارة أخرى.
فلله هم ما اعظمهم من أصحاب ولله
هي ما أجلها من مواقف ثلاث مرات وقف فيها ابو عبد الله (عليه السلام) في أماكن
ثلاث.. جلى فيها الحقيقة ناصعة لمن تبعه من الناس. فليس هناك.. من وراء مسيره غير
تلك الغاية ليس غير الموت.
كان في مكة حين قام في الناس
خطيباً - عند عزمه على الخروج الى العراقى - فقال فيما قال: (من كان باذلاً فينا
مهجته وموطناً على لقاء الله نفسه.. فليرحل معنا فأنني راحل مصبحاً إن شاء الله
تعالى...).
وشاء الله ان يرحل فرحل. بجموع من
الناس غفيرة كان عليه السلام) يعلم أن كثيراً منهم لم يلحق به
إلاّ طمعاً في وفر وإلاّ أملاً في غنيمة.
أغرتهم بذلك آلاف وآلاف من كتب شيعته في الكوفه وشيعة أبيه وأخيه من قبل
تستعجله القدوم على جند له مجنده وسيوف معه مشرعة فلا غروا اذا ما رأينا جموعاً
منهم تلحق به فبنود النصر لا شك خفاقة فوق ركبه رفافة..
وكان لابد لأبي الشهداء من أن
ينصح لأولئك الذين قادتهم اطماعهم الدنيا الى الموت.. ولكن أنى وقد اختمر في
رؤوسهم ان دون بلوغهم الكوفة فوات غنائم آلوا على أنفسهم ألاّ تفوت… حتى كان أن
انتهى الى زبالة حيث اتاه بها نعي ابن عمه مسلم بعد ذلك الخلاف المشين الخذلان
الذي اعاد فيه التاريخ نفسه.. بمدد جداً متقاربة.. أجل لقد وجد أبو عبد الله فسحة
ليعيد فيها النصح تارة أخرى وليمحص أصحابه المخلصين من جديد فأخرج الى الناس
كتاباً فقرأه عليهم وفيه (بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فانه قد اتاني خبر قتل
مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر. وقد خذلنا شيعتنا. فمن أحب منكم
الإنصراف فلينصرف في غير حرج. ليس عليه ذمام...).
فكان ما هو متوقع.. حين كانت
الناس تنسل مثنى وثلاث ورباع.. ولكن نفراً منهم ظل ثابتاً حيث هو فلم يكن وقع تفرق
الناس عن نصره الحسين. أن في الكوفة وان في زبالة. لم يكن وقع ذلك ليثبط من عزم
أولئك. ويفت في عضدهم فالمبدأ الذي حدا بهم الى النهوض أولاً.. هو هو الذي لا زال
يحدوا بهم الى أن يضحوا بأرواحهم الطاهرة ليعيدوا الى الدين الحنيف الحياة مشرقة
نظرة… لقد كره أبو عبد الله أن يسير في ركبه السامي أحد أو يعلم بأنه يقدم بلداً
لم تستقم له طاعة أهله. وهو إذ فعل فقد استخلص لنفسه أصحاباً استهانوا بالموت في
سبيل نصرته. فكانوا المثل الأعلى للمفاداة والتضحية وكانوا المثال الأسمى للأيمان
الراسخ.
ثم مساء اليوم التاسع من المحرم
يقترب رويداً رويداً. وكانت الشمس تجنح الى المغيب حين جمع الحسين (عليه السلام) أصحابه مرة أخرى
وحين قال: (أما بعد فأني لا أعلم اصحاباً أصلح منكم ولا أهل بيت أبر ولا أفضل من
أهل بيتي فجزاكم الله جميعاً عني خيراً. وهذا الليل قد غشيكم فأتخذوه جملاً وليأخذ
كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي وتفرقوا في سواد هذا الليل. وذروني وهولاء القوم.
فأنهم لا يريدون غيري...).
فهكذا يعود أبو عبد الله وبهذا
الأسلوب الرائع المغري - الى فسح المجال لمن اعتملت في نفسه عوامل الرهبة وساورته
خلجات الخوف بعد أن القى الأصحاب أنفسهم حيال أمر واقع بين جنود عليهم مجندة وقد
كانت لهم.
أجل هكذا يعود (عليه السلام) الى اختبار اصحابه ولكن لا ليراهم
ينسلون الواحد بعد الآخر. بل ليراهم كتلة متراصة وشعلة متقدة. تنحرق لأدواء البيض
بالأحمر القاني لقد وقفوا ذلك الموقف الرهيب الفذ.. فكانت وقفة ظهر فيها مدى تغلغل
الإيمان في نفوس لا تعرف غير صونه من الدنس إلاّ انقاذه من براثن اناس جعلوا منه
العوبة بينهم يتلقفونها كالكرة.. وقفة دلت الورى كيف يكون النضال من أجل العقيدة
المقدسة.. ووثبة كم فيها من مشهد رائع جليل سجلها التأريخ بفخر.. فردد ذكرها الدهر
ولا زال ولن يزال.
هذا عمر بن قرظه الأنصاري. يستأذن
الحسين ليأخذ من الجهاد نصيبه. فيأذن له فيبرز ولكن لا ليبعد عن موقف الحسين
كثيراً فان سهاماً من هنالك وهنا كانت تتصوب نحو شهيد الأباء فيتلقاها عمر بيده..
وان سيوفاً تحاول أن تمتد الى الحسين (عليه السلام) فيحول دون ذلك جسم عمر الذي جعله لها عرضة
وهدفاً.. وخارت قواه مذ أثخن بالجراح.. فألقى نفسه بين أحضان المنية.. ولكن نفسه
الرفيعة هذه لم تطمئن بعد الى انها جاهدت حقاً. فهو يلتفت الى الحسين (عليه السلام) قائلاً: يابن
رسول الله أوفيت..؟ ولم ينعم باله بالراحة
قبل أن يسمع أبن رسول الله يقول.. نعم.. أنت امامي في الجنة.. فهكذا تظهر روعة هذه
النهضة. وهكذا يبين جلالها.. نحن نعرف ان الموت في سوح الوغى يتباين تبعاً للظروف
فأن موتاً مع ظن السلامة. ومع الأمل في النجاة. موتاً يأتي بغتة لأهون من موت من
لا يرى محيصاً عن الموت فهو مساق اليه سوقاً. كمن يقاد الى (المقصلة)… وهذا أيسر
بكثير من موت يندفع اليه المرء من تلقاء نفسه مع تمكنه من النجاة ومع سنوح الفرصة
له للهرب. ولقد أرتنا القضية الحسينية من كل من تلك. أنواعاً وألواناً.. فكثيرون
أولئك الذين خاضوا لجج الوغى فذهبوا وعلى حين غرة طعمة للسيوف.. وهناك من اقتيدوا
الى الموت بعد أسر.. كنافع بن هلال وهناك ايضاً من عرضوا أرواحهم للردى مع طرق
للسلامة لاحبة وسبل للنجاة ممهدة.. فذاك عمر بن قرظة.. ثم هذا حنظلة بن سعد الشامي
يقف بين يدي الحسين عليه السلام (عليه السلام) يقيه السهام والرماح والسيوف
بوجهه ونحره في وقت كان يمكنه فيه أن يتقي الموت… أو أن يموت من سبيل أهون.. ولكنه
مع ذلك يرى المنية تسير اليه وئيدة وببطْ. وهذا شيء لا تتوق اليه نفسه الثائرة
سيحمل على القوم حيث يلقى منيته.. وكسعيد بن عبد الله الحنفي. ذلك العظيم الذي وقف
يقي الحسين
(عليه السلام) من النبال بنفسه حين كان ابو عبد
الله يؤدي فريضة الظهر.. وقف ثابتاً في مكانه لا يريم.. في حين كانت النبال تنتاشه
من هنا وهناك حتى سقط الى الأرض صريعاً وهو يقول (اللهم ابلغ نبيك عني السلام.
وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح فأني أردت ثوابك في نصر ذرية نبيك).
وبعد فلنعد الآن لنقف
ملياً عند مشهد رائع. كان بطله مسلم بن عوسجة. ذلك الشهيد الجليل الذي برز فتحامته
جيوش العدى ولكنه اقحم نفسه بينها أقحاماً وراح سيفه يطحن الرؤوس طحناً. وانجلت
الغبرة بعد حين. عن مصرع مسلم هذا بعد نضال عنيف وكان به رمـق حين وقـف عـليه
الحسين (عليه السلام) وحبيب
بن مظاهر. وحين قال ابو عبد الله (رحمك الله يا مسلم. فمنهم من قضى نحبه. ومنهم من
ينتظر وما بدلوا تبديلاً) ودنا منه حبيب فقال – يعز عليَّ مصرعك يا مسلم. ابشر
بالجنة..! فقال مسلم بصوت خافت ضعيف ( بشرك الله بخير) ثم قال له حبيب لولا أني
أعلم أني في الأثر لأحببت أن توصيني بكل ما أهمك . وهنا تلقي أرهب المواقف
واشرفها. فما هو يا ترى ذلك الشيء الذي يهم مسلماً وهو يجود بروحه..) فأستمع اليه
يجيب حبيباً وهو يشير الى الحسين قائلاً ( أوصيك بهذا فقاتل دونه حتى تموت) ولقد
راح أولئك الأبطال الأشاوس يروون ظمأ سيوفهم من دم اعدائهم، حتى اعادوا بها الأرض
حمراء قانية، وعادوا ليطهروها من تلكم الأرجاس بدمائهم الزكية. لتعود تلك الأرض
مزاراً لملائك القدس ومهبطاً، فسلامٌ عليهم من الله ورضوان.
إرسال تعليق