بقلم : الدكتور مهدي حسين التميمي
ولقصد مبدئي سجل الإمام الحسين عليه السلام موقفه التاريخي المشهود حين خرج من موطنه ومستقره في المدينة المنورة سنة ستين للهجرة، فإنه لما أرسل يزيد بن معاوية عامله عليها ليأخذ البيعة منه، أعلن الرفض لبيعة من اشتهر بفسقه وفجوره ما يفوق ما ذكر عن هيرودس حاكم فلسطين أيام النبيين الكريمين السيد المسيح، ويحيى بن زكريا (عليهما السلام)، ما أنكره عليه خاصة الصحابة والأتقياء، ويروي لنا أحمد بن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة من ذلك: أن أبا هريرة لما علم بولاية يزيد استعاذ منها لما علمه من قبيح أحواله لسبق إعلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأن أهل المدينة قد خلعوه لإسرافه في المعاصي، وروى ابن الجوزي عن القاضي أبي يعلى الفراء في كتابه "المعتمد في الأصول" بإسناده إلى صالح بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي: إن قوما ينسبوننا إلى تولي يزيد، قال: "يا بني وهل يتولى يزيد أحد يؤمن بالله، قلت: وأين لعن الله يزيد في كتابه فقال في قوله تعالى: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)).
وقد أخرج الواقدي: أن عبد الله بن حنظلة قال: والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء، إن كان رجلاً ينكح أمهات الأولاد والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة.
وقال الذهبي: إن يزيد فعل بأهل المدينة ما فعل مع إتيانه المنكرات، وقد اشتد عليه الناس وخرج عليه غير واحد، وفي وقعة الحرة التي شنها على أهل المدينة سنة ثلاث وستين وقع فيها القتل والفساد العظيم والسبي واستباحة المدينة، فإنه قد قضي نحو ثلاثمائة بكر، وقتل من الصحابة نحو ذلك وممن قرأ القرآن نحو سبعمائة، وأبيحت المدينة أياما وبطلت الجماعة من المسجد النبوي واختفت أهل المدينة أياما فلم يمكن أحداً دخول مسجدها حتى دخلته الكلاب والذئاب وبالت على منبره.. تصديقاً لما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يرض أمير ذلك الجيش إلا أن يبايعوه ليزيد، على أنّه خِوَلٌ له إن شاء باع وإن شاء أعتق، فذكر له بعضهم البيعة على كتاب الله ورسوله فضرب عنقه، ثم سار جيشه إلى قتال ابن الزبير فرموا الكعبة بالمنجنيق وأحرقوها بالنار".
وفي ذلك الوقت وقبل أن تستباح المدينة المنورة وعلى ذلك النحو الهمجي غادرها الإمام الحسين عليه السلام إلى مكة، فسمع أهل الكوفة بذلك فأرسلوا إليه أن يأتيهم ليبايعوه وليمحو عنهم ما هم فيه من الجور، ومن الغريب الملفت للنظر أن الإمام الحسين عليه السلام قد خالف في خروجه من المدينة إلى مكة ثم إلى الكوفة نصائح العديد من خاصة الصحابة ومن أهل بيته لغاية ارتبطت بموقف امتثل فيه لذلك القصد الرسالي الكبير كمثل ما امتثل الأنبياء والأولياء لأقدارهم في اختيار المركب الصعب وصولاً إلى الغاية الرسالية، فإن ابن عباس قد نهى الإمام الحسين عليه السلام عن الذهاب إلى الكوفة وبيّن له غدرهم وقتلهم لأبيه وخذلانهم لأخيه فأبى، وطلب منه أن لا يذهب مع أهله فأبى فبكى ابن عباس، وقال: "يا حبيباه".
وقال ابن عمر نحو ذلك فأبى فبكى ابن عمر، وقبّل ما بين عينيه، وقال: "استودعك الله من قتيل!"، ونهاه ابن الزبير أيضاً، فقال له: حدثني أبي أن لمكة كبشاً يستحل حرمها، فما أحب أن أكون أنا الكبش"، ولما بلغ مسيره أخاه محمد بن الحنفية كان بين يديه طشت يتوضأ فيه فبكى حتى سقط فيه من دموعه، ولم يبق بمكة إلا من حزن لمسيره.
وهكذا مضى الإمام الحسين عليه السلام إلى غايته؛ ليسجل حضوره في ساحة المواجهة مع قوى الشرك مع سابق علمه بمصيره كمثل ما كان من أمر السيد المسيح عليه السلام قبل ذلك، فإنه قد مضى إلى أجله المحتوم، وقد بدأ يصرح لتلاميذه بأنه يجب عليه أن يذهب إلى أورشليم (القدس)، وليتألم كثيراً على أيدي شيوخ المدينة ورؤساء الكهنة ومعلمي الشريعة، ويموت قتلاً، ولم يثنه عن عزمه ما كان من عتاب بطرس أخص تلاميذه وقوله: "لا سمح الله يا سيد ان تلقى هذا المصير"، فيلتفت ويقول لبطرس: "ابتعد عني يا شيطان!، أنت عقبة في طريقي لابد أفكارك هذه أفكار البشر لا أفكار الله.. من أراد أن يتبعني، فلينكر نفسه ويحمل صليبه، ويتبعني، لأن الذي يريد أن يخلص حياته يخسرها، ولكن الذي يخسر حياته في سبيلي يجدها، وماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه، وبماذا يفدي الإنسان نفسه"(1)... والحق أن كلا من السيد المسيح والنبي يحيى بن زكريا والإمام الحسين (عليهم السلام) قد ربحوا العالم، ذكرا متجدداً خالداً، إذ وهبوا أنفسهم في سبيل مجدها.
ولم يثن الحسين عليه السلام عن غايته وقبل أن يصل إلى موطن شهادته ما كان قد بلغه عن مقتل رسوله الذي سبقه إلى الكوفة، مسلم ابن عقيل، وقد بايعه من أهلها أكثر من اثني عشر ألفاً، ثم نكثوا بيعتهم له بعد أن زاول والي المدينة شتى الأساليب القمعية لتشتيت شمل الملتفين حول مسلم، وبالرجال الموالين لآل بيت النبوة فيها، وقد جابه مسلم بن عقيل عليه السلام قدره ببسالة بعد أن تخلى عنه من كان معه وحوصر وظل يقاتل في الساحة وحده قتال الأبطال حتى استشهد وهو يقاتل الجموع لوحده وقد احتشدت له من كل الطرقات، وأرسل عبيد الله بن زياد برأسه الشريف بعد إلقائه من فوق قصر الامارة ليزيد بن معاوية، وقد توافر للإمام الحسين عليه السلام قبل ذلك من يبلغه بما آل إليه وضع الناس في الكوفة، فإن الفرزدق قد لقي الحسين عليه السلام في مسيره فقال له: "بين لي خبر الناس"، فقال: "أجل على الخبير سقطت يا ابن رسول الله، قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء"، وسار الحسين، وهو غير عالم بمقتل مسلم بن عقيل، ولكنه بالتأكيد كان عالماً بالمصير الذي ستؤول إليه رحلته الخطرة، وقد تلقاه على مسافة ثلاثة أميال من القادسية من ينبئه بمقتل موفده مسلم بن عقيل ونصيحته بأن يرجع، فازداد تصميماً على المضي حيث قصد وهو يقول: "لا خير في الحياة بعدكم"، ثم سار فلقيه أوائل خيل ابن زياد فعدل إلى كربلاء ثاني المحرم سنة إحدى وستين للهجرة، ولما شارف الكوفة سمع به أميرها عبيد الله بن زياد فجهز إليه أكثر من ثلاثين ألف مقاتل فلما وصلوا إليه التمسوا إليه نزوله على حكم ابن زياد وبيعته ليزيد فأبى فقاتلوه، وكان أكثر الخارجين لقتاله ممن كاتبوه وبايعوه!!.
ولنمضِ معا مع مؤلف الصواعق المحرقة لينقل لنا ذلك المشهد النادر من الإقدام والجرأة والثقة العالية بالنفس في مسرح المواجهة غير المتكافئة بالمنظور البشري ما يكون فيه حضور الإيمان أقوى وأمضى في القدرة على المواجهة، وما تكون فيه الحجة أبلغ في توصيل المضمون الرسالي إلى المدى الأرحب في الزمان والمكان، فإن الإمام الحسين عليه السلام سليل النبوة قد واجه بالعدد القليل ممن معه من أهله وأخوته، وخاصة أصحابه، وهم نيف وثمانون ثبتوا في ذلك الموقف الصعب للغاية ثباتاً باهراً مع كثرة أعدائهم ووصول سهامهم ورماحهم إليه، وأنه لولا ما كادوه به من أنهم حالوا بينه وبين الماء لم يقدروا عليه فكان كما وصف المحدث: الشجاع القرم الذي لا يذل ولا يزول ولا يتحول، وأنهم لما منعوه وأصحابه من الماء ثلاثاً قال له بعضهم وبكل الحقد والشماتة: انظر إليه كأنه كبد السماء لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشاً، ودعا الحسين عليه السلام بماء ليشربه فحال رجل بينه وبينه بسهم فأصاب حنكه.. واستمر الحر والعطش بأهله وهم ما زالوا يقتلون واحداً بعد واحد حتى قتل منهم ما يزيد على الخمسين.
وفي تلك الواقعة سجلت لمن كان منها حاضراً في الموقف في مبتدأ الشوط وفي أثنائه، ثم من بعده، مآثر ظلت شاخصة شخوص كل ميزة وأثر معتبر في التاريخ الإنساني، فإنه حين اقتربت حشود الأعداء من موطن الحريم صاح الإمام الحسين: "ألا من ذاب يذب عن حريم رسول الله صلى الله عليه وسلم"، حينئذ خرج "الحر بن يزيد بن حرث الرياحي" من معسكر أعدائه راكباً فرسه وقال: يا ابن رسول الله لئن كنت أول من خرج عليك فإني الآن من حزبك، لعلي أنال بذلك شفاعة جدك"، ثم قاتل بين يدي الإمام الحسين عليه السلام حتى قتل، وسجل الحر الرياحي بذلك الموقف مأثرة الشهادة ومعها مأثرة الخلود في الذكر والذكرى، فقد خلد ذكره مع شهداء معركة الطف، وأقيم له مرقد ومزار مهيب يؤمه زوار المشهد الحسيني على مدار الأيام والسنين.
ولم يمكّن الإمام الحسين عليه السلام أعداءه من نفسه أن يستسلم أو يساوم فإنه لما فني أصحابه وبقي بمفرده حمل على أعدائه فقتل كثيراً من شجعانهم، وحمل عليه كثيرون حالوا بينه وبين حريمه، فابتدر بنخوة المقاتل الشهم الغيور يصيح بهم: "كفوا سفهاءكم عن الأطفال والنساء" فكفوا، ثم لم يزل يقاتلهم إلى أن أثخنوه بالجراح حتى سقط على الأرض شهيداً.
ثم إنّه بقدر ما يعرف الأشقياء المارقون قدر الأتقياء الأبرار فإنهم لا يتوانون عن ارتكاب الجريمة بحقهم لغايات شريرة ومطامع دنيوية رخيصة، وكمثل ما كان من شأن هيرودس في حفل الرذيلة حين جيء له برأس القديس النبي يحيى بن زكريا ثمناً لغنيمة دنيوية زائلة، فإنه لما وضع رأس الإمام الحسين عليه السلام بين يدي عبيد الله بن زياد أنشد قاتله متشفياً وطامعاً في استجداء الغنيمة:
إملأ ركابي فضة وذهبا **** فقد قتلت الملك المحجبا
ومن يصلي القبلتين في الصبا **** وخيرهم إذ يذكرون النسبا
قتلت خير الناس أما وأباً
وقد أغضب ذلك الموقف الدنيء المتشمت ابن زياد وقال: إذا علمت ذلك فلم قتلته؟، والله لا نلت مني خيراً ولألحقنك به ثم ضرب عنقه(2)، فكان هذا مثل جزاء قاتل أولاد مسلم بن عقيل – مبعوث الحسين عليه السلام لأهل الكوفة – فإنهم قد رجوا قاتلهم وقد ظفر بهم في أحدى الأرجاء على بعد من كربلاء أن يذهب بهم إلى عبيد الله بن زياد فأبى إلا أن يقتلهم ويحز رؤوسهم ويذهب بها إليه طمعاً في نوال غنيمة الجريمة، فكان جزاؤه الحرمان منها والتوبيخ.
والمتابع لسير الأحداث التي أعقبت ثورة الإمام الحسين عليه السلام يقف عند الحقيقة المشهودة في أن تلك الثورة قد أنتجت ثورات متتابعة منها "ثورة التوابين" التي تزعمها سليمان بن صرد الخزاعي، وقد قتل سليمان سنة 65هـ في معركة عين الورد التي دارت مع الجيش الذي أرسله مروان بن الحكم، وحمل من بعده راية الثورة المختار بن عبيد الله الثقفي الذي تتبع قتلة الحسين عليه السلام حتى قتل معظمهم وفر البقية، وبلغ الثأر ذروته بمقتل عبيد الله بن زياد على يد إبراهيم بن الأشتر في معركة الخازر على نهر الزاب سنة 67هـ.
ومن غرائب الاتفاق ما يحمل معه الدلالة الاعتبارية في مشهد النقمة على القتلة ما ذكر من قول عبد الملك بن عمير: "دخلت قصر الإمارة بالكوفة على ابن زياد والناس عنده سماطان ورأس الحسين عليه السلام على ترس عن يمينه، ثم دخلت على المختار فيه فوجدت رأس ابن زياد وعنده الناس، ثم دخلت على مصعب بن الزبير فوجدت رأس المختار عنده، ودخلت على عبد الملك بن مروان فيه فوجدت عنده رأس مصعب كذلك، فأخبرته بذلك فقال: لا أراك الله الخامسة ثم أمر بهدمه"، والمثير للانتباه اليوم أن قصر الأمارة والكائن خلف مسجد الكوفة قد ظل أثراً مهجوراً، فيما يقوم إلى جنبه مقام ومزار مهيب لمسلم بن عقيل عليه السلام ابن عم الإمام الحسين عليه السلام، سفيره المقتول في الكوفة، يقابله مقام ومزار معتبر لهاني بن عروة زعيم قبيلة مراد الذي آوى مبعوث الإمام الحسين عليه السلام فاقتص حاكم الكوفة منه.. وفي ذلك كله دلالة من دلائل الاعتبار لخلود مشاهد الشهادة في التاريخ الرسالي.
_________________
(1) متى
16: 21-26.
(2) الصواعق
المحرقة، ص197-198
إرسال تعليق