بقلم: يوسف عبد المسيح ثروت
ها قد بغى الظلم وتوسع واستشرى الشر وتأصل، وتناهب (السادة) سواد الناس، في ارزاقهم وأموالهم وضمائرهم، فساموهم الخسف والذل، واخذوهم كل مأخذ، اذ سقطت هيبة الحكم، بتناثر الشورى –إثر مقتل أبي الحسنين، فالتبس الامر، وتخاذل القوم، وارتج على اصحاب الرأي، بصعود يزيد الى دست العرش القيصري من غير ان يكون للناس إلاّ الطاعة والخضوع والقبول المزري بالحال العابث الجاني العهد العنيد يتبختر بصولجانه !
وتوالت المصائب يأخذ بعضها برقاب بعض، فاذا الحوادث المرعبة تتدلى وتدور في غابة كثيفة من ظلام دامس، واذا الاختبار العسير ينتظر رجلاً، مثل عز نظيره، رجلاً صادق العزم، نبيل التحدي، جريئاً في الحق، صامد الايمان، ثابت الثقة بالنفس وباتباعه ايضاً، وكان الحسين مثل هذا الرجل، عرف الطواغيت ودواخلهم ومساربهم ومخارجهم، عرفهم اصناماً واوثاناً جاهلة، مزوقة بزي جديد، كله نفاق وخداع يضفي على السلطان ابهة الحكم وعلى الرعية ذل الطاعة.
ووقف الرجل في المدينة يتسائل ويتأمل، ويغرق نفسه في استجلاء الامور واستقرائها، بعد ان نال السم من اخيه الحسن ما ناله، وينهض الحسين بالعبء الثقيل، ويمتثل الاحداث الجلائل المواضى والاحوال التي تنتظر الامة، وقد طعن ربانها بيد آثمه.
ويطيل التأمل والاستقراء والتوقع والتفكير، فيرى المشهد المتسربل بالدماء قدامه، ويجد نفسه في وسط الساحة تحيط به من جهة اكاليل الشهادة الشائكه، وحرقة العطش، وفظاعة الاثم، وجناية الظالمين، وتعلوه من جهة أخرى نجوم تتلألأ جلالاً وبهاء وسمواً، ايذاناً بالساعة الحاسمة، ساعة التحدي والمجابهة، ومقارعة الظلم والظالمين ساعة الثورة وتحمل المسؤولية: الرجل المليء بالعزم والثقة والصبر والشجاعة، لا يجد بداً من الانتظار العسير لان الانحياز للحق والدفاع عن المستضعفين والتصدي للباغين امور لابد من امعان البصر والفكر والقلب فيها وإلاّ انقلب الهدف، وضاقت الغاية، وتلاشى القصد..
ماذا يفعل وقد احيط به من كل جهة، والمحيطون به عصابة من الآبقين برئاسة رجل داهية وهو مروان بن الحكم؟..
الظلم يريد ان يركز قدامه في المدينة نفسها، برغم وجود الحسين حياً يرزق، ليثبت ان هذا الوجود حقيقة واقعة، وان الشورى، كانت، اذا كانت، تعله للضعفاء، ومصيدة للاقوياء، لانها ظلت حجة يتلاعب بها الاقوياء ويتحاشاها الضعفاء الذين لم يكونوا موجودين، إلاّ للقتال وخوض المعامع، وسفك الدماء، لتحقيق اهداف متناقضة بحجج فريدة غريبة كانت متشابكة اصلاً. وظاهرة ثورة الحسين ظاهرة طبيعية، لانها استنهاض على الجور وانتقاض عليه، وهي –مع ذلك- فريدة في بابها لانها دلالة على الايمان بحق ضائع ايماناً لا يتزعزع، مهما انتفت ظروف هذا الايمان، ومهما قل النصير وعز الاتباع والمريدون، وهذا الايمان المثالي حقيقة تدل على اصرار على موقف، واستماتة من اجل الدفاع عن هذا الموقف مهما تكن النتائج وكيفما مالت الريح، وهذا برهان على بعد نظر اصيل، ذلك ان القائد، ولو افتقد جيشه مؤقتاً، مدعو ألا يترك الساحة في ساعة المحنة، وإلا فقدت القيادة سمتها الرئيسه، وهذا ما فعله الحسين، فايمانه بحق الامة في حكم نفسها، ظل القاعدة الأمينة التي فرضت على الامام الخروج على يزيد والتوجه الى العراق، استعداداً لدك معاقل الخارجين على شرعة الامة وسارقي حقها في حكم نفسها ولصوص قوتها وما من شك في ان المشاهد التي انتفضت من المدينة، لتواكب الحسين حتى مصرعه، في كربلاء مشاهد تنتظم عقداً عجيباً من الفواجع التي لم تعرف حدوداً، ففيها انين ليل عجيب، لانه لم تزل اصداؤه تتعالى وتتعالى: ليل فيه تنكر اصحاب له يتنكروا للظلم الذي لف ارض السواد بسواده، وقيل هذا التنكر الغريب، تمت المؤامرة عليه، لافي الكوفة حسب بل في المدينة ايضاً، ذلك ان اخراجه باي وسيلة من المدينة، سيفسح المجال للطامعين في الخلافة من اهتبال هذه الفرصة الذهبية وهاهوذا ابن الزبير ينصح الامام الحسين قائلاً: (( على أي شيء عزمت يا ابا عبد الله؟ )) فلما اعلمه بعزمه الاكيد على اتيان الكوفة قال له ابن الزبير: (( فما يحبسك. فوالله لو كان مثل شيعتك بالعراق ما تلومن في شيء )) ولكن ماذا عن هؤلاء الشيعة وقد نبذهم شرفاؤهم، ملتحقين بابن زياد والي الكوفة الجديد، وقاتل مسلم بن عقيل، الامير الذي وضع نصب عينيه خدمة العرش الاموي ويزيد بالذات، لان ابن الدعي كان يريد ان يثبت اصالته الاموية، وليكن هذه المرة متفنناً مع المنقضين على هذا الحكم المبني على الجماجم، المتجلبب بالجاهلية، المتخذ من طاغوت يزيد رحماناً له يستذكره ويستخيره ويلوذ به، عملاً بشريعة الحكام، الذين جاءوا الى الحكم وانوف الناس في الرغام وعيونهم في اقفيتهم، وجباههم في مواطيء اقدامهم.
وكيف لا يكون الامر كذلك وقد استهل ابن زياد ولاية الكوفة بقوله: (( اما بعد، فان امير المؤمنين.. امرني بانصاف مظلومكم واعطاء محرومكم )) توطئه لقوله: (( والشدة على مريبكم.. وسيفي وسوطي على من ترك امري وخالف عهدي )) وهذا التهديد وحده كان للتعرف على حق ابن زياد، ولمعرفة موقفه الحاسم وتلون منطقه بين الانصاف والشدة ينبئ بعقليته المتجبرة المخاتلة، التي تعطي بيد لتسترد بيد اخرى.. ابن زياد هذا ممثل الحكم المكيافيلي، المتحصن بسيوف اشراف الكوفة ومرتزقتها، يقف في قباله الحسين، الامام المؤمن بحق الثورة على الظلم والانتفاض على الشر واقتلاعه، هذا الامير- في عرف الحكم والواقع الراكض كالكلب وراء هذا الحكم يلهث من جوع وعطش يريد ان ينتزع البيعة لسيده يزيد بالقوة والعنف والتسلط، وان ينـزل الحسين على حكمه خاضعاً يعطي اعطاء الذليل، فماذا كانت نتيجته مساعي عمر بن سعد بين الاثنين؟ كانت نتيجة قول الامام: (( لا، معاذ الله ان انزل على حكم ابن مرجانة أبداً )) وفي هذا الجواب فصل الخطاب في الرد على المتعللين بحجج الانتكاس والنكوص ومن ثم فلا مرد للموت ولا سبيل الى حياة الاجيال من غير الوصول الى شريعته المقدسة دفاعاً عن حق الناس في حكم انفسهم ورفع الظلم والجور والسلطان عن كواهلهم، ولو كانت القلة الرائدة في الدفاع عن هذا الحق اقل من آل الحسين وصحبه وبذلك كانت ريادته –في هذا الشأن- حافزاً قوياً لا يمكن نسيان أثره، في كل الفعاليات الثورية التي هزت اركان حكم الطغاة من يوم استشهاده، وسط احوال تعجز شم الجبال احتمال بعض من وطأتها. ولكن صدر الحسين برحابته التي تتجاوز كل رحابه، يأبى إلا يحمل الامانة، فتعقد –من اجل ذلك- مقاليد الريادة في جيده، حقاً لا ينازعه فيه منازع.. ومن اجل ذلك، قد امتلأ صدر ابن زياد بسم الحقد والضغينة والشماته، فكان أمره وقد فارقت روح الحسين جسده الفاني ان (( يوطأ صدر الحسين، وظهره، وجنبه فاجريت الخيل عليه )) وهكذا ترى كيف يمكن ان يكون شموخ التحدي بديلاً لا مفر منه لذى الطاعه العمياء، الذي يولد مع الناس الاذلاء، الذين يستطعمون الهوان فيستذوقونه، ولو على حساب عمى قلوبهم قبل عيونهم … وامام هؤلاء الناس يقف الحسين يداً تطرد العمى من النفوس والبصائر قبل الابصار يداً تفتح العيون لترى اين هي سائره، ولخدمة من تتمرغ على جنوبها، في وقت يعز عليها حتى القيام والنهوض مشاهد الامام كثيرة ومتنوعة تغري كلها بالتأمل والاعجاب، مشهده وهو يقف الموقف الصلب تجاه الوليد بن عتبه والي المدينة، الرجل الثعلب الذي يحاول الاغراء بمختلف السبل والاشراك، لكن دون جدوى.
مشهده مع مروان بن الحكم وما كاد يتطور اليه من نتائج، ومع ذلك فالامام قائم بامر الامة لا يحيد ولا يميد، وبذا ذهبت كل محاولات يزيد وعبيد ادراج الرياح ومشهده وقد وصل ارض الكوفة، وعرف بمقتل مسلم بن عقيل، وبالقدر عليه، والعطش الذي عاناه مع آله وصحبه، الذي فرض على الجميع توطئه لذلك القدر، ومشهده وهو يخطب قومه ويريد منهم اعتزاله، لانه اوصلهم الى ما اوصلهم اليه كل تلك المشاهد تزلزل الجبال الرواسي، ولكنها عجزت عن المس بوتر من اوتار اعصاب الامام الحسين وهذا امر واقع وحقيقة فذة ذلك ان المشاهد التي اراها على مدى التاريخ العربي والاسلامي –لم تسطع مهما اتاها الحظ- ان ترقى سفح الجبل الذي قمته مشهد ثورة الحسين واستشهاده الفاجع مع من استشهد معه، ومن ظل من اتباعه ينتظر الشهادة بعده، احتذاءاً بأسرته واقتفاءاً لاثره فالمثل الذي ينتصب شامخاً امامنا والقدوة التي تجتذبنا اليها بكل تلك الروعة والجلال، والدرس الذي خطه على جبين الزمن تلك الشهادة اليتيمة، والرمز العظيم الذي حفر في كل قلب حزاً ندياً ابد الدهر، والصفعة التي كالها الامام لوجه طاغوت الظلم والشر والاستبداد، كل ذلك يحفزنا على ألا نمر بالعاشر من المحرم مر العابثين السادرين في غي الاقيون، اللاهثين وراء ملذات الجسد والتراب، المتنكبين الجاده، باسم الدعه والاطمئنان، وهم اولى بالسكينة الذليلة، والنكوص الاذل، وعاد السكوت ! هذه الخواطر واصداؤها كانت تثير في منذ زمن بعيد، وكنت امن الى الكتابة عنها بين الحين والحين، غير ان المناسبة التي كنت انتظرها كانت تفلت مني لهذا السبب او ذاك.. اما لانها كانت غير مؤاتيه، او ضعيفة الاستجابة، او عرضيه او ظاهرة الانفعال والتكلف.
وكل ذلك لا يفيد في أثارة دخائل النفس وتحريك اغوارها وكشف مظانها لتكون قاعدة الصدق في الحديث وبؤرة التعبير الاصيل وعلى كثرة ما قرأت عن المأساة، فان الذي كنت افتقده اشد ما يكون الافتقاد وهو خلود ادبنا العربي –وفي القرن العشرين بالذات من أثر مسرحي واحد يعالج المأساة عرضاً درامياً جديراً بجلالها ومداولاتها وصنوف تأثيرها في مجمل التاريخ والادب وكل دروب الحياة، انطلاقاً منها ورجوعاً اليها تقويماً للدرس وصيانة للاثر، وفضحاً للاستار الكثيفة من تبريرات الحكام، وتلبيات اذنابهم وجلاوزتهم وكتبت مسرحيات من اوائل القرن وتابعتها اخر وكلها عن المأساة لاهيه متغاضيه، متجاهله، وكأن الطالبيين واشياعهم لم يهزوا التاريخ هزات متواليات. وكان انتظار طويل، كنت احسبه ليلاً واجباً مديد العمر، خلت منه النجوم والاقمار. واغلب المسرح العربي يعني بكثير من توافه الشخوص فيضعها هنا وهناك في مجالات الصراع منحدراً بالملهاة من شامخ اهتماماتها الى حضيض المهزلة المبتذلة، جراً لمغانم آتيه، من طريق اثاره اوسع الاجراء الهزليه، التي تتلاعب بالاحاسيس الرخيصة.
غير ان استطالة الزمن مع هذا النحو من المسرح، وهذا النوع من الأثارة قد اعاقت نحو مسرحنا واخرت انفتاحه على المسرح العالمي، الذي لا يعرف قيمه للعبث والعابثين، وطال هذا الانتظار اكثر مما يجب، حتى وجدت نفسي وبمحض المصادفة قباله ثنائيه ( الحسين ثائر –والحسين شهيداً ) لعبد الرحمن الشرقاوي. وقرأت الثنائيه بنهم ما بعده نهم، واستطعت ان اقول بعد جهد جهيد: ((وجدتها)) فما الذي وجدت؟ وهل اوفي الشرقاوي بالعهد؟ وهل تمكنت الثنائيه من تسليط الاضواء على المأساة؟ وهل استطاعت ان تملأ الفراغ المرعب بالاسلوب المشرق شكلاً، وبالروح الحيه مضموناً وادراكاً؟ ليس لي بعد هذا إلاّ ان احاول الاجابة عن هذه الاسئلة فلا فعل …
ها نحن في رحاب المسرحية الاولى، فماذا نجد اول ما نجد؟ جماعة من اهل المدينة تنادوا للاجتماع في دار احدهم للتشاور في امر الامة بعد ان قضى معاوية نحبه. وطبيعي ان تثور المناقشة في هذه المناسبة لتناول قضايا مهمة، فمؤيدوا الحسين ينصرون توليته الحكم بحجج: منها ان الامة ليست غير الفقراء، وان حكم الامة ينبغي ان يستند الى الشورى، وان الشورى التي كان معاوية يتوسل بها –وهو في دست السلطان- لم تكن إلاّ لاستكمال ابهه الحكم. ولهذا كانت الشورى –بهذا المعنى- فخاً لاصطياد الضعفاء، من طريق رجال كان كل همهم وعملهم ومشاركتهم في السلطة، لا يتعدى نطاق كلمة ((نعم)) الخبيثة. واذا كانت دولة الظلم قد ولت وادبرت، فان معاوية لم ينس ان يمد ظل هذه الدولة على ابنه يزيد. ومن ثم انتفت الشورى، لان الناس لم يؤخذ برأيهم، ولو اجبر بعض سادتهم على بيعة يزيد اجباراً، او دفعتهم مصلحتهم الى هذه البيعة اخياراً فامارة يزيد لابد ان تثير (( النقمة … في النفوس الطيبة )) لانها (( بيعة اكراه وخوف.. وطمع )) ولما كانت الارادة الطوعية اول شرط من شروط البيعة، وانتفاؤها في قضية تولية يزيد وارده اصلاً. فبيعته منقوضه شرعاً: والرجل الوحيد الذي يمكن ان يحظى بهذه الارادة الطوعية هو الحسين، فولايته هي الولاية الشرعية الوحيدة حتى لا تتحول دولة الشورى الى ارث موروث لآل أمية. فالبيعة لا يمكن ان تنال قسراً او طمعاً، وإلاّ انقلب الى تسلط قيصرى او كسروي، وهذا معناه الاستهتار بابسط شرائع القوم.
اما اصحاب يزيد فلا يذهبون مذهب الاكثرية، لان الحسين واصحابه اصحاب تقوى وورع، و( الدولة تحتاج الى كيد سياسي حصيف ) ذلك بان لكل زمان دولة ورجالاً، وقد مضى عهد التقوى والورع، ليحل محله جديد هو عهد السياسة الحصيفه والكيد والمكر... وبما ان الحسين لن يسلك إلاّ مسلك ابيه، فيحكم الامة كما كان ابوه يفعل، بما عرف به من عدل وانصاف وتسوية امور الناس على وفق الحق والخير، بالضرب على ايدي الظالمين والاخذ بناصر الضعفاء والمسحوقين وهذا لا يتفق في شيء- مع مصالح الاغنياء الاقوياء، الذين يريدون من الدولة ان تكون اداة طيعه في ايديهم للاستزاده من الاستغلال، والتحكم في الرقاب، والارتفاع على الكواهل كما كانت الحال ايام معاوية، وكما كان يريدها ان تكون بعده ! وبعد الاتفاق بين الوليد وابن الحكم، الاتفاق الذي يفلسفه الاخير بقوله: (( كثرة الآراء تغري بالتردد، ان ضرباً في رقاب الضعفاء سوف يعطينا ولاء الأقوياء )) يجتمع حاكما المدينة بابي عبد الله، فيعلمه الوليد ببيعة يزيد المزدوجة، بيعته التي يريد يعقدها الان والاخرى التي عقدت قديماً، اما الاولى فليس لها قوام شرعي لانها (( اخذت في ظل ارهاب البوارق )) اما الثانية التي يراد لها مثل الذي اريد الاولى، فهي لابد ان تكون قسراً واغتصاباً وتحت حد السيف وعندئذ لابد ان يكون الامر قائماً على الارهاب او الطغيان او البغي وفي تلك الحال ينحسر الحق عن اهله ويصبح المال والقوة والاستبداد مطايا لافساد الضمائر وتخريب النفوس وسحب ثقة الناس من انفسهم ومن قادتهم. ابن الحكم يمتطى صهوة المال ليحول بينه وبين خير الناس، فهو صاحب بيت المال، فمن حقه اذن ان يجود على من ارضيه وان يقبض يده عمن لا يرضيه، لانه يتصور نفسه ظل الله على الارض، بكل زهو وخيلاء. وظل الله ذاك. لا يمكن ان يكون الممثل الشرعي لمصالح سادات قريش، الذين لا يمكن ان يرتضي لهم ابن الحكم الهبوط من عليائهم ليكونوا سواسية مع رعاة الماشية.. بيد ان الحسين لا يجد الحال كذلك، بل يراه على الضد من ذلك، فالعمل ونيس المحتد هو الذي يسبغ على الانسان القيمة الحقيقة لوجوده. الحسين يرى (( الناس سواسية كاسنان المشط )) ولكن (( الظلم (الذي) يعشعش في اعماق النفوس الخربة )) هو الذي جعل الناس لخطر الموت جوعاً، وهو خطر رهيب ! ويتقدم بما في جعبته من رأى سديد، فاذا باغراء العطاء يزداد اكواماً اكواماً، ان كان ابو عبد الله راغباً في السلامة: وتجنب عواقب الفتن ولظى الثورات والانشقاقات والانقسامات والحرص على الحياة الآمنة في جو الرفاه وبحبوحة العيش..
بيد ان كلمة الحرص التي يلوح بها الوليد، لا تلبث إلاّ ان تنفجر بركاناً في قلب ابي عبد الله (حرص لعين) لانه يهون قيمة الانسان فهو كالخوف يهدر اباء الرجل العزيز. من غير ان يطيل عمره لحظة واحدة وبعد ان يعجز الوليد عن استلال كلمة واحدة توميء الى شيء يسير من الاهتمام بما يراوغ به لتكن كلمة واحدة وحب الحسين. ويجد باب الاباء مؤصدة في وجه تشتيتاته واحتيالاته والاعيبه، يعود الى آخر سهم في كنانته، فيطلب من ابي عبد الله بضراعه غريبة ان يعتزل الناس. ويعتكف على تدريس علوم الدين والتقوى.
ولكن الكلمة التي يستسهلها الحاكمان بأمرهما، تظل في وجدان الحسين معنى المعاني. لانها تعني الشرف والرجولة والمروءة والنبل، ومتى ما استلبت بالقهر والجور ضاعت كل هذه المعاني وتبددت كل هذه القيم، فالكلمة التي (زلزلت) المظالم وحضت (الحرية) واسبغت على الانسان انسانيته، تصبح مقبرة لمثل هذه الانسانية اذا ما ديست في ثنايا التراب، بفعل الظلم وما يفتعله الطاغوت من افانين ! ومن ثم فالحسين يقف الموقف الصحيح الوحيد، لانه لا يمكن ان يقف موقفاً غيره، وقد عرف شرف الكلمة وادرك قدسيتها وارتضى لنفسه طائعاً مختاراً الدفاع عن وجودها تاريخياً. وبذا شق الحسين الطريقة الصحيحة في التاريخ العربي الاسلامي متأثراً بذلك سيرة ابيه التي لم تعرف المهانة او المساومة، او المخاتلة، او المراوغة، وهذه الجدية من الحسين والحزم والعزم. جعلت ابن مروان يستل سيف الاجماع لمحاربة الحسين بدعوى ان الخروج على الاجماع بدعه وشق لعصا الطاعة، ومن ثم فمقاتلة الخارجين على طاعة امير المؤمنين واجب ينبغي تنفيده وباسرع وقت ممكن تجنباً لاراقة الدماء، ورأباً للشقاق والانقسام.
مروان ينصح الوليد بهذه المشورة بعد ان يكون الوليد قد عجز عن اقناع الحسين بالبيعة، ولكن ابا عبد الله يفوت على الوليد فائدة المشورة التي محضها له مروان، فلا يجد معنى للانتصاح ولا للراحة و(الحق والحرمان والعدل) ايعز من معنى للراحة واستباحه كل منهن شرط من شروط هذه الراحة؟ فمن حق الحسين اذن الا يجامل في مثل هذا الحق، وألا يهان او يصانع، او يداجي او يجاري.. ان المسألة مسألة مبدأ ومتى ما تتزحزح اساس المبدأ، فلم يبق لكيانه ان ينتظر شيئاً غير الانهيار. وثبات المبدأ –عند الحسين- امر مفروغ منه. ولهذا فقد تحتم على الوليد ان يتعثر باذيال خيبته، وان ينهار هو امام صمود الحسين وان يبدى هذا الانهيار في كلماته: (( علام يقوم اذن ملكنا؟ أنبنيه فوق ذيول الكلاب؟ أنبنيه فوق ذليلى الرقاب.. فوق رؤوس الثعالب )) وبهذه الكلمات التي لا تحتاج الى شرح وافاضة، بدفع الوليد –صاغراً- حكم للظالم بميسم الذلة والصغار والتفاهة ! وفي منظر آخر نجد بعض اتباع الحسين يرتاؤون عليه هذا الرأي او ذاك وكلهم مخلص فيما فاعل إلا الشيخ اسد الذي يبرر التنازل بوفائه لخير الجميع، وحقناً للدماء التي سالت بما فيه الكفاية. الشيخ اسد هذا انضرب على وتر تجنب الفتنة لانها ستؤدي الى ( القتل والحرق والوان الخراب ) وهل على ذلك فالحكمة تفترض التنازل، ولو اكراهاً واعسافاً وتفترض المسايرة والحجارة.. وهذه هي حال الدنيا على كر العصور وتعاقب الايام. الحكمة هذه يرفضها الحسين رفضاً باتاً، لان ( اكثر الناس ضلالاً عارف بالله لا يهديه قلبه ) وعلى ذلك ان كان هذا الرفض سكوتاً، فلن يصيب الحسين الهدوء الذي يرتجيه، لانهم لن يطمئنوا ان لم يدركو ما يطلبون ومن الحسين بالذات السكوت قد يكون مجلبه للاصلاح وبراً وسلاماً، ولكنه لن يفسر إلا بصفته الحقيقية، بصفته رفضاً للبيعة واشارة للانتفاضة، وليس للحسين اذن من خيار غير الانتفاض والثورة على الظلم.
ادلهم الخطب اذن، وجاء دور الامتحان امتحان الضمير واختيار صلاحه واثبات صموده امام الملمات والكوارث والمحن. ترى اممكن لأبي عبد الله يمنح يزيد ( بيعة ذل ) ليطمئن على نفسه واله وشيعته ( مثل شاه في قطيع )؟ ام ترى يجهر بالثورة في وجه الطغاة؟ السؤالان واردان وهما جناحا مأساة الحسين ومأساة كل قائد انساني في موقف يماثل موقف الحسين.
وفيما ابو عبد الله يتأمل في اشباه هذين السؤالين، يظهر له عن كثب اخوه محمد بن الحنفية كانه اعصار جبار هب ليقتلع اركان الطغيان، وكل جبار عنيد، هب يطالب الحسين واتباعه ان ينقذوا العالم ( المجنون الذي ظل طريقه ) ان ينقذوا ( الدنيا من الفوضى وطغيان المخاوف ) وكيف لا وقد ( قامت لاهل الشر دولة )؟ فماذا يكون من عزم الحسين وقد رأى اخاه ناراً تتأجح وثورة تتماوج، ورجوله كلها اباء وشمم، ايكون اخوه امضى منه حداً، واهدى منه سبيلاً، واشد منه على البغي مقتاً؟ يقسم ابو عبد الله ألا يترك الظالم حتى يأخذ حق المظلوم منه، واذن هي الثورة، هي الحرب العوان التي لا محيص منها ولا مناص. وهنا تبرد حرارة محمد بعد التهابها، لان الحرب تعني ما تعني بالقياس الى الحسين، وهو –وقد جد الجد- لا يريد لاخيه ان يحل به ما حل بابيه، فلهذا السبب بالذات تضرع باخيه ان ينأى بنفسه عن الخطر، لان اعداء الحسين من اغلظ الناس اكباداً واشدهم حقداً وابعدهم صيتاً في تأريث العداوة، وافضعهم فتكاً، ولكن ماذا يعني ذلك النأي عن الخطر، ألا يعني قبول بيعة طاغية مستبد؟ ألا يعني بيع كل ما ثمن وغلى وشرف واعتلى في سوق النخاسة في مقابل ذله ذهبيه ويقرر الحسين امره اقراراً لا رجعة فيه ولا انتكاس، وتسمع اخته زينب بهذا الامر، فتهتز لوعه واسى، لانها تعرف معنى ذلك الامر وذلك القرار، ويتدارك مخاوف زينب بالتلويح بالنداء فيقول: (( فاذا نوديت فلا مهرب )) معلقاً قيامه بالامر بهذا النداء. وتدرك زينب ما في قرارة اخيها فتقول: (( فلينهض غيرك للاشرار، فليس لاهل البيت سواك )) وهنا ينطق الحسين بلسان القدر قائلاً: (( جف القلم بما قد كان ! )) فلا فائدة اذن في تضرعات زينب او محمد ولا مندوحه من الجهاد في ساعة عسيرة تتطلب الجهاد. صحيح ان الدولة قد شيدتها المطامع والمخاوف، فما هو صانع في هؤلاء الذين اختطفتهم المطامع لبيعة يزيد او دفعتهم المخاوف لهذه البيعة؟ هؤلاء بحكم مصلحتهم اعداء الداء، ولهذا السبب بالذات لابد ان يحسب لهم كل حساب وان يقرر ما يمكن ان يقرر من حقهم، فيما لو استتب له الامر ورجع الحق الى نصابه.
وتشدد الحال سوءاً وتتظافر زمر الاعداء في المدينة، حتى لا يجد الحسين مفراً من اللجوء الى مكة، وهناك يلتقي بابن عمه ابن جعفر، فيعلمه الاخير بكل تفاصيل المؤامرة المدبرة بحقه من قبل زبانية يزيد، ويزيد على ذلك رأيه في مهادنة الطغاة، حتى تهدأ سورة يزيد، وينفسح له المجال، بعد ان يشتد أزره، فينتقص على ما فعله من مهادنة، ويكون، قد تمكن من تحقيق مأربه والوصول الى هدفه، في ظروف غير الظروف التي يمر بها الحسين وهو لائذ باعتاب الكعبة. وهنا وقد رأى ابو عبد الله ما راى من ابن عمه، تهبط على نفسه كآبة حزينه سحابه داكنه من الأسى تثقل على نفسه، وماذا حاله غير تلك اذ (( اصبح الخير طريد، وغداً الحق شريداً، والدنيا تزدهي بالطيلسان ))؟
ماذا ينتظر من باطل يعتلي عرشاً؟ ومن ملك ملكه الزيف والنفاق والدجل؟ ومن حكم مبني على الرياء والبغي والمذلة والمسكنة؟ ومن دنيا ذليله، الخوف فيها ملك ذو سلطان وصولجان؟ ومن حياه كلما طالت اصبحت ناراً وعذاباً وشراً لا نصيب الا الرجال الاخيار؟ عند ذاك لابد ان ( يختنق ضوء النجم في الليل الثقيل ) وتصبح الحكمة مذلة، ويرتفع صوت الفجور عالياً، وينخفض اباء النفوس ليحل محله سلطان الارهاب وعاد الطاعه، ( ويصير الصمت والاذعان من حزم الامور ) ويتم للسلطان كل ما يشتهيه من افانين الاستعباد والاستذلال والأسترقاق، فلا تعود الدولة إلا ضيغه كبيرة يتلاعب بمصيرها السلطان كما يتلاعب الطفل بالكرة !
الامور تتأزم شديداً وبصورة سريعة مذهلة، فماذا يفعل ابو عبد الله؟ لابد له ان يفعل شيئاً ليتأكد من احوال شيعته في الكوفة ومدى تأييدهم له. وماذا يفعل خيراً من ارسال ابن عمه مسلم. ويذهب مسلم بن عقيل ويستقبل الفاتحين، ويحاصر ابن زياد في قصر الامارة، ولكن مكر الاخير الذي عرف به سرعان ما يحول الحصار الى مطاردة تتعقب آثار مسلم حتى يتم القبض عليه وتلقى جثته من اسوار القصر المنيف. وقبل ان يتم ذلك تكون رسائل مسلم ومؤيدي الحسين قد وصلت الى ابي عبد الله. ويكون التشاور الاخير بين الحسين وخاصة اتباعه قد وضع اللمسات الاخيرة على المنظر الجديد، المرعب الفاجع، الذي كان –في الواقع تجسيداً درامياً حياً لارادة الحسين في شق الطريق نحو الشورى والحرية والكرامة الانسانية، ولما كان هذا التشاور منحى خطراً حاسماً في طريق الشوك والآلام والمآسي، طريق الدم والموت والفجيعة، طريق الحسين. فلا مناص من الالمام يسيراً. مما جرى قبل ان يتخذ ابو عبد الله قراره النهائي. محمد بن جعفر يعرض حقيقة ابن زياد بقوله: (( انه يملك في الكوفة الان الفساد. يملك المال والسلطة، والضمير الميت القادر على ان يلوي اعناق العباد )) وهذا يعني انه يريد من ابن عمه التمهل والانتظار، بينما حال الحسين تنطق بهذه الكلمات: (( لا… بل انهض لاناضلهم.. لا بل انهض ضد الظلم وضد البغي وضد الجور )) حفاظاً على حقوق الضعفاء واخذا بأيديهم، لان المنكر لا ينبغي السكوت عنه حتى الموت. وآراء الحسين هذه تثير حزناً عميقاً في نفس ابن جعفر، لانها تشير الى نهاية معلومة مسبقاً، فليقدم ابن جعفر اذن وساطته فعسى ولعل.. غير ان الحسين وقد ادرك ما هو فيه من حرج، من ذئاب الليل وثعالب النهار، من صمته الثقيل الفظيع، من الخنجر الغدار الذي سيطارده اينما يمضى، لا يرى مفراً من التحدي لانه الطريقة الوحيدة الباقية امامه وخاصة وقد وصلته رسالة مسلم وصرخات المعذبين في ارض العراق، فضلاً عن انه –لو فرضنا المستحيل- والتزم ابو عبد الله الصمت فهو لن ينجو من احدى اثنتين اما البيعة واما الموت. وهكذا قدرللحسين ان يسير ليرد ( غاشية المظالم ) واذا كان الحسين سيقتل حتماً بسبب الظروف الغريبة في الكوفة، فان العبرة ليست في قتل الحسين.
انما العبرة فيمن قتلوه ولماذا قتلوه؟ العبرة في الثأر الاعظم، ثأر الحسين، في الثأر من كل سفاح مهما يكن ومن تابعه من قتلة الحسين على مدى التاريخ الذي وضع ابو عبد الله اساساً جديداً له ببعد نظره وحكمته وأصالة ايمانه بحق الفقراء والضعفاء الذين ظلوا ينتظرون مخلصاً من السماء قروناً وقروناً، فجاء استشهاد ابي عبد الله تعبيراً جديداً لهذا الخلاص، لانه انبثق من ارادتهم في ان يكونوا بشراً اسوياء، لا ماشية هملاً يساقون للذبح، وهم محنيوا الرؤوس، متثاقلوا الخطى، عبيداً لارادة جبار شديد، كريه، مقيت، اسمه (ملك) لانهم جميعاً مملكون. وقبل ان نساير أبا عبد الله، في مسيرته الدامية، ينبغي لنا ان نلتفت الى سلوك ابن زياد وكيف تمكن من لي رقاب اهل الكوفة، ابن عروة يجد الامر غريباً كل الغرابة، وفي الحق انه غريب، اذ كيف ينقلب الناس بين عشية وضحاها هذا الانقلاب المفاجئ ومن ثم فمن حق ابن عروة ان يتسائل: (( كيف بالله قلبت الامر حتى صار لك؟ )) فيجيبه ابن زياد ضاحكاً: (( قد اخفت الناس حتى رهبوا، وبذلت المال حتى رغبوا )) وطريق ابن زياد هذه، هي طريق جميع الساسة الطغاة، المحنكين الذين لا يعتبرون (( الحياة غير صياد وصيد )) ومن ثم ففي الغابة الكبيرة لا يعيش اخو عدل لا يملك سيفاً قاطعاً وقوساً ونشاباً.
والا كان هو اول الصيد. وموقف ابن زياد وهذا موقف منطقي ومنسجم مع مجمل سلوكه، غير ان سلوك اسد الحربائي، الذي تمثل بالتلاعب بالمشاعر، والتنقل من صف واللعب على حبال المساومة والمخادعة، هذا السلوك هو الذي ينبغي ان يفتح عيون الناس جميعاً، فأسد الحجازي صاحب الضياع الواسعة في الكوفة، لا يمكن ان يكون –باي حال- مؤيداً للحسين ولو تظاهر –في اول الامر بذلك- لان مصلحته العليا تتنافى ومصلحة الحسين واتباعه، والسائرين في اثره.. مصلة هذا الرجل جعلت منه منادياً منه متطوعاً يبحث عن رأس مسلم قبل مقتله، وجعلت منه سنداً يركن اليه ابن زياد باطمئنان وثقة ! ومشهد الاختلاف في قضية مسلم بن عقيل مشهد فيه خصوبة درامية رائعة التفنن، عميقة التحليل، سليمة المنطق، قوية الاداء زخمة العطاء، فالمختار الثقفي يمثل الجانب الثوري الصادق، يمثل الموقف الصارم الحازم الذي لا يعرف التساوم والتخاذل او التراجع، فالمختار يذكر القوم بالعهد والذمة، ويحذرهم من الخيانة والجبن ويستثير إباءهم وشهامتهم ومروءتهم، وها هو يعبر عن كل ذلك بقوله: (( تذكروا إن نحن خنا عهدنا ماذا يكون؟ ستعربد الأشباح فوق شموخنا. سيبصق الاطفال فوق قبورنا.. )).
ويؤكد (الشيخ) المختار في رأيه الصائب الجريء، غير انه يتملص من هذا التأييد باستناده الى حجة القدر البالية، فالقدر هو الذي رمى بابن زياد، ومع انه ( فاجر يقتل بالظنه والريب ويلهو بالدماء ) فهم مضطرون للاذعان له، لذلك (( ان المكره المضطر لا اثم عليه )) وهكذا تغدو ( الحكمة والرأي.. والتقوى ) تجارة رابحة ومصداق ذهل هو ما يتفضل به (التاجر) من آراء، ومن هذه الآراء الحكيمة: (( هذا الرجل (يعني ابن زياد) يعطي في سخاء )) وعلى ضوء هذه الحكمة يسير سائر شيوخ مذحج ومراد، فاذا بالرؤوس تنحني امام الذهب، واذا بالحشود التي نفرت لنصرة الحسين تضافرت لاستقباله، تتناثر وتتبعثر وتتلاشى، واذا بالمختار يبقى وحيداً يتآكل قلبه الكمد لان (( الآكلين على المآدب كلها، السابحين وراء تيار الزمن الباحثين عن السعادة الماثلين الى الشموس اذا طلعن.. يتسلقون الى ذؤابات الشجر )) وهذا التشبه المتسلسل للوصوليين، فيه ايماضات ولمعات تخطف البصر لما فيها من أوج الحق وسلامة المنطق واصابة الهدف ودقة الوصف، واذا اضفنا الى ذلك قول المختار وهو يدفع المنافقين بما يستحقون من سمه ! الطابعون على شفاههم ابتسامات النفاق مطبعة تحت الطلب. الراسمون على ملامحهم جهامات الكآبة والتأمل والترقب.
استطعنا ان نحس بالنار التي كانت تسرى في عروق المختار وهو يجد الحق يذبح ذبحاً، والباطل ينتصر انتصاراً رخيصاً هيناً، وعيون القوم غافية، بل غاطة في نوم عميق، سخيف، ثقيل، ذليل وتمضي صيحة المختار هذه لتلف نفسها بطيات الرياح الهوج، ويبقى المختار مثخن النفس جرحاً.
مثقل الروح هماً، لان العاقل من ينافق، لان المجرم من يجابه السلطان، لان ( من يشرب قلبه بعض الحاكم تكثر احزانه ) وبخاصة و( الناس يؤخذون بالنوايا.. بالافكار المكتومة، بالخلجات والخفقات وهمس الهمس ) هذه هي فلسفة ابن زياد وهي فلسفة ذوي السلطان طوال هذه الدهور الموغلة في العراقة والقدم ولو لم يكن الامر كذلك لما كان يمكن لنخاس كابن زياد ان يبتاع ولاء الامة بحد السيف او ببارق المطامع، فيتمرغ الأذلون في الذهب كما تتمرغ الحمر في اكوام التبن، والا ما تتداعى اشراف الكوفة على الذهب، كما تتداعى الغربان على الجثة النتنة، والا ما مس الابرار صرٌ واباؤهم اغلى من ذهب الدنيا قاطبة. والا ما (( دب على قدميه الرجل وليس سوى جدث في نعش )) كما يقول المختار محسناً في القول والتشبيه معاً. والا ما استطاع ابن زياد ان يكون قضاء الله حالاً في الدنيا بأخذ الناس بالهمس بل بالخلجات الراجفات. وممن يقف في صف المختار زيد بن الارقم، الفقيه، المفكر، الذي يخشاه ابن زياد اشد الخشية، لان الرجل ذو فكرة، فهو اذن اخطر اهل الارض طراً ولان الفكر والفقه لا يمكن ان يجد له موضع قدم في ظل الارهاب وظلمة الجور، وغاشية القهر.
وهذا امر يصح قبوله حتى عند الشيخ اسد، الذي لا يفلسف اى ما يصلح شأنه، ويعلي مقامه لدى الامير الجليل ابن زياد !
والى هذا البلد، المكفهر، المقهور، الخانع لابن زياد، يتوجه ابو عبد الله، وهو يحسب انه يتوجه الى بلد المكرمات والمروءات البلد الامين، الذي سيحمى ذماره، ويفتح له صدره،ليكون منطلقة الى ما يصبو اليه من نصر على الطواغيت، وهم في عقر دارهم..
وبعد مسيرة العديد من الايام، في اشد ما تكون هذه الايام حراً وغباراً ونصباً، تصل قافلة ابي عبد الله الى مشارف الفرات ليستقبلها عدد ضئيل من اصحابه في الكوفة، وعلى رأسهم برير فزعين من جور ابن زياد لائذين بالحسين ثم يتبعهم اعرابي مع ثلة من صحبه، يتوج هؤلاء جميعاً مراد ومذحج، يتم اجماع بين كل اولئك وابي عبد الله ومن معه وتتطاير اخبار الشر ويتضح مقتل مسلم وتلوح الكارثة التي تنتظر الجميع ويدلي الاعرابي بدلوه وينصح الحسين قائلاً: (( عد ولا تمض الى من خذلوك )) فيرد الامام بعزم راسخ: (( انما هذا طريقي ليس لي غير ارتياده )) ويتفضل شيخ مراد على القوم بنصيحته: (( نحن يا سبط رسول الله لا نغدر بك، غير اني حائر والله في الامر، اذا كانت هي الحرب الضروس، فكلا الحزبين مسلم )) فاذا النصيحة حكمة الشيوخ، حيرة ظالمة مظلمة، حيرة تنكر حقاً ناصعاً، لتحل محله باطل الذل، وحقهم المسكنة، وفقر الضمير، والتشبث الرخيص بنشب الدنيا الحقير لزوغان في البصر وعمى مصطنع، وضلال مفتعل.. فما مرد كل ذلك وما مصدره؟ ان مصدر كل ذلك، وكل ماله صلة بذلك عن تبريرات وتحذيرات وتحفظات، هو الخوف من المسؤولية في الساعة الحاسمة، الخوف الذي يفسد في الانسان فعالية الحرية واختيار المواقف وتحديد التخوم، الخوف الذي يقهر النفوس الضعيفة، فيبدد قممها ويحطم روحها، ويمزق كيانها الانساني، شيخ مراد هذا يعترف بهذا الخوف قائلاً: (( ان بعض الخوف يقهر.. )) فيرد عليه الامام قائلاً: ((ان تخاف الله اولى بك من خوف الولاة )) وعند هذا الحد الحاسم من المسألة، يضع شيخ مراد القضية في موضعها الانساني بقوله: (( ان هذا الامتحان لنبي.. نحن لسنا انبياء )) وفي هذا الوضع الذي يصطنعه شيخ مراد تتبين حقيقة ذات دلالات، وهي ان اعتماد ((الاشراف)) لقضية شريفة، امر فيه كثير من المحاذير في ساعة الحسم ساعة تقرير المصير، لان مصلحة ((الاشراف)) قد تتضارب مع القضية الشريفة في اغلب الاحيان، وعندئذ تكون طريق الخذلان، طريق الامن والسلام والعافية، هي الطريق الوحيد التي يسلكها ((الاشراف)) لكي تبقى نعمتهم في محلها الرفيع وجاههم في علياء مقامهم عند ذوي السلطة والنعمة والايادي البيض والخيرات الكثيرات. و(( اذا ما سامهم (السلطان) سوم الابل )) واقتضاهم ميثاق الذل وبيعة فليس لهم الا ان يخنعوا ويستظلوا بظلال اولي النعم، لان هذا شرط من شروط الوجاهة والحكمة والشرف والسيادة.
واذا كانت زينب اخت الامام تريد ان تعمل شيئاً من اجل ان ينفر الرجال في نصرة اخيها، فانها لم تجد فيما اجارت فيه خيراً من قولها: (( لان يشهر سيف فوق هام المفسدين الظالمين، لهو عند الله ازكى من جهاد المشركين )) ذلك ان في هذا القول حقاً، وان يكن جريحاً، فهو حق منتصر لا محالة في النهاية. ويأتي دور شيخ مذحج ليجيب عن سؤال بشر: (( انكم اصحاب حق.. فلماذا تنكصون؟ )) فاذا به يقول لافض فوه: (( نحن نرجو ان يعود العز فينا، غير انا ينبغي ان نتشاور )) فاذا هذه الشورى في ساعة الخوف، غير ( غطاء للنذالة ) كما يقول سعيد والبطش الذي هو اداة الخوف، ( يخفى الحق حتى عن عيون العقلاء ) ويجعلهم كما يقول برير ( يتسكعون ببعض وديان الضلال ) وهكذا اضاع الحق، وانثلم حده وتناثر انصاره بدداً، في مواجهة نهر الفرات، ليتسلم نثاره ابو عبد الله ورهطه في وحدة قاسية، ويقل اصحاب الحق ساعة حتى لا يظل –في الساحة منهم غير سبعين وحسب. ومن هذا المشهد المهيب، وطريق اللاعودة، والاخلاص لراية المبدأ يبدأ الموكب الفاجع، موكب الشهداء في السير نحو الحتوف ببطولة خارقة وشجاعة تمرغ جباه الجبابرة.
ها قد بغى الظلم وتوسع واستشرى الشر وتأصل، وتناهب (السادة) سواد الناس، في ارزاقهم وأموالهم وضمائرهم، فساموهم الخسف والذل، واخذوهم كل مأخذ، اذ سقطت هيبة الحكم، بتناثر الشورى –إثر مقتل أبي الحسنين، فالتبس الامر، وتخاذل القوم، وارتج على اصحاب الرأي، بصعود يزيد الى دست العرش القيصري من غير ان يكون للناس إلاّ الطاعة والخضوع والقبول المزري بالحال العابث الجاني العهد العنيد يتبختر بصولجانه !
وتوالت المصائب يأخذ بعضها برقاب بعض، فاذا الحوادث المرعبة تتدلى وتدور في غابة كثيفة من ظلام دامس، واذا الاختبار العسير ينتظر رجلاً، مثل عز نظيره، رجلاً صادق العزم، نبيل التحدي، جريئاً في الحق، صامد الايمان، ثابت الثقة بالنفس وباتباعه ايضاً، وكان الحسين مثل هذا الرجل، عرف الطواغيت ودواخلهم ومساربهم ومخارجهم، عرفهم اصناماً واوثاناً جاهلة، مزوقة بزي جديد، كله نفاق وخداع يضفي على السلطان ابهة الحكم وعلى الرعية ذل الطاعة.
ووقف الرجل في المدينة يتسائل ويتأمل، ويغرق نفسه في استجلاء الامور واستقرائها، بعد ان نال السم من اخيه الحسن ما ناله، وينهض الحسين بالعبء الثقيل، ويمتثل الاحداث الجلائل المواضى والاحوال التي تنتظر الامة، وقد طعن ربانها بيد آثمه.
ويطيل التأمل والاستقراء والتوقع والتفكير، فيرى المشهد المتسربل بالدماء قدامه، ويجد نفسه في وسط الساحة تحيط به من جهة اكاليل الشهادة الشائكه، وحرقة العطش، وفظاعة الاثم، وجناية الظالمين، وتعلوه من جهة أخرى نجوم تتلألأ جلالاً وبهاء وسمواً، ايذاناً بالساعة الحاسمة، ساعة التحدي والمجابهة، ومقارعة الظلم والظالمين ساعة الثورة وتحمل المسؤولية: الرجل المليء بالعزم والثقة والصبر والشجاعة، لا يجد بداً من الانتظار العسير لان الانحياز للحق والدفاع عن المستضعفين والتصدي للباغين امور لابد من امعان البصر والفكر والقلب فيها وإلاّ انقلب الهدف، وضاقت الغاية، وتلاشى القصد..
ماذا يفعل وقد احيط به من كل جهة، والمحيطون به عصابة من الآبقين برئاسة رجل داهية وهو مروان بن الحكم؟..
الظلم يريد ان يركز قدامه في المدينة نفسها، برغم وجود الحسين حياً يرزق، ليثبت ان هذا الوجود حقيقة واقعة، وان الشورى، كانت، اذا كانت، تعله للضعفاء، ومصيدة للاقوياء، لانها ظلت حجة يتلاعب بها الاقوياء ويتحاشاها الضعفاء الذين لم يكونوا موجودين، إلاّ للقتال وخوض المعامع، وسفك الدماء، لتحقيق اهداف متناقضة بحجج فريدة غريبة كانت متشابكة اصلاً. وظاهرة ثورة الحسين ظاهرة طبيعية، لانها استنهاض على الجور وانتقاض عليه، وهي –مع ذلك- فريدة في بابها لانها دلالة على الايمان بحق ضائع ايماناً لا يتزعزع، مهما انتفت ظروف هذا الايمان، ومهما قل النصير وعز الاتباع والمريدون، وهذا الايمان المثالي حقيقة تدل على اصرار على موقف، واستماتة من اجل الدفاع عن هذا الموقف مهما تكن النتائج وكيفما مالت الريح، وهذا برهان على بعد نظر اصيل، ذلك ان القائد، ولو افتقد جيشه مؤقتاً، مدعو ألا يترك الساحة في ساعة المحنة، وإلا فقدت القيادة سمتها الرئيسه، وهذا ما فعله الحسين، فايمانه بحق الامة في حكم نفسها، ظل القاعدة الأمينة التي فرضت على الامام الخروج على يزيد والتوجه الى العراق، استعداداً لدك معاقل الخارجين على شرعة الامة وسارقي حقها في حكم نفسها ولصوص قوتها وما من شك في ان المشاهد التي انتفضت من المدينة، لتواكب الحسين حتى مصرعه، في كربلاء مشاهد تنتظم عقداً عجيباً من الفواجع التي لم تعرف حدوداً، ففيها انين ليل عجيب، لانه لم تزل اصداؤه تتعالى وتتعالى: ليل فيه تنكر اصحاب له يتنكروا للظلم الذي لف ارض السواد بسواده، وقيل هذا التنكر الغريب، تمت المؤامرة عليه، لافي الكوفة حسب بل في المدينة ايضاً، ذلك ان اخراجه باي وسيلة من المدينة، سيفسح المجال للطامعين في الخلافة من اهتبال هذه الفرصة الذهبية وهاهوذا ابن الزبير ينصح الامام الحسين قائلاً: (( على أي شيء عزمت يا ابا عبد الله؟ )) فلما اعلمه بعزمه الاكيد على اتيان الكوفة قال له ابن الزبير: (( فما يحبسك. فوالله لو كان مثل شيعتك بالعراق ما تلومن في شيء )) ولكن ماذا عن هؤلاء الشيعة وقد نبذهم شرفاؤهم، ملتحقين بابن زياد والي الكوفة الجديد، وقاتل مسلم بن عقيل، الامير الذي وضع نصب عينيه خدمة العرش الاموي ويزيد بالذات، لان ابن الدعي كان يريد ان يثبت اصالته الاموية، وليكن هذه المرة متفنناً مع المنقضين على هذا الحكم المبني على الجماجم، المتجلبب بالجاهلية، المتخذ من طاغوت يزيد رحماناً له يستذكره ويستخيره ويلوذ به، عملاً بشريعة الحكام، الذين جاءوا الى الحكم وانوف الناس في الرغام وعيونهم في اقفيتهم، وجباههم في مواطيء اقدامهم.
وكيف لا يكون الامر كذلك وقد استهل ابن زياد ولاية الكوفة بقوله: (( اما بعد، فان امير المؤمنين.. امرني بانصاف مظلومكم واعطاء محرومكم )) توطئه لقوله: (( والشدة على مريبكم.. وسيفي وسوطي على من ترك امري وخالف عهدي )) وهذا التهديد وحده كان للتعرف على حق ابن زياد، ولمعرفة موقفه الحاسم وتلون منطقه بين الانصاف والشدة ينبئ بعقليته المتجبرة المخاتلة، التي تعطي بيد لتسترد بيد اخرى.. ابن زياد هذا ممثل الحكم المكيافيلي، المتحصن بسيوف اشراف الكوفة ومرتزقتها، يقف في قباله الحسين، الامام المؤمن بحق الثورة على الظلم والانتفاض على الشر واقتلاعه، هذا الامير- في عرف الحكم والواقع الراكض كالكلب وراء هذا الحكم يلهث من جوع وعطش يريد ان ينتزع البيعة لسيده يزيد بالقوة والعنف والتسلط، وان ينـزل الحسين على حكمه خاضعاً يعطي اعطاء الذليل، فماذا كانت نتيجته مساعي عمر بن سعد بين الاثنين؟ كانت نتيجة قول الامام: (( لا، معاذ الله ان انزل على حكم ابن مرجانة أبداً )) وفي هذا الجواب فصل الخطاب في الرد على المتعللين بحجج الانتكاس والنكوص ومن ثم فلا مرد للموت ولا سبيل الى حياة الاجيال من غير الوصول الى شريعته المقدسة دفاعاً عن حق الناس في حكم انفسهم ورفع الظلم والجور والسلطان عن كواهلهم، ولو كانت القلة الرائدة في الدفاع عن هذا الحق اقل من آل الحسين وصحبه وبذلك كانت ريادته –في هذا الشأن- حافزاً قوياً لا يمكن نسيان أثره، في كل الفعاليات الثورية التي هزت اركان حكم الطغاة من يوم استشهاده، وسط احوال تعجز شم الجبال احتمال بعض من وطأتها. ولكن صدر الحسين برحابته التي تتجاوز كل رحابه، يأبى إلا يحمل الامانة، فتعقد –من اجل ذلك- مقاليد الريادة في جيده، حقاً لا ينازعه فيه منازع.. ومن اجل ذلك، قد امتلأ صدر ابن زياد بسم الحقد والضغينة والشماته، فكان أمره وقد فارقت روح الحسين جسده الفاني ان (( يوطأ صدر الحسين، وظهره، وجنبه فاجريت الخيل عليه )) وهكذا ترى كيف يمكن ان يكون شموخ التحدي بديلاً لا مفر منه لذى الطاعه العمياء، الذي يولد مع الناس الاذلاء، الذين يستطعمون الهوان فيستذوقونه، ولو على حساب عمى قلوبهم قبل عيونهم … وامام هؤلاء الناس يقف الحسين يداً تطرد العمى من النفوس والبصائر قبل الابصار يداً تفتح العيون لترى اين هي سائره، ولخدمة من تتمرغ على جنوبها، في وقت يعز عليها حتى القيام والنهوض مشاهد الامام كثيرة ومتنوعة تغري كلها بالتأمل والاعجاب، مشهده وهو يقف الموقف الصلب تجاه الوليد بن عتبه والي المدينة، الرجل الثعلب الذي يحاول الاغراء بمختلف السبل والاشراك، لكن دون جدوى.
مشهده مع مروان بن الحكم وما كاد يتطور اليه من نتائج، ومع ذلك فالامام قائم بامر الامة لا يحيد ولا يميد، وبذا ذهبت كل محاولات يزيد وعبيد ادراج الرياح ومشهده وقد وصل ارض الكوفة، وعرف بمقتل مسلم بن عقيل، وبالقدر عليه، والعطش الذي عاناه مع آله وصحبه، الذي فرض على الجميع توطئه لذلك القدر، ومشهده وهو يخطب قومه ويريد منهم اعتزاله، لانه اوصلهم الى ما اوصلهم اليه كل تلك المشاهد تزلزل الجبال الرواسي، ولكنها عجزت عن المس بوتر من اوتار اعصاب الامام الحسين وهذا امر واقع وحقيقة فذة ذلك ان المشاهد التي اراها على مدى التاريخ العربي والاسلامي –لم تسطع مهما اتاها الحظ- ان ترقى سفح الجبل الذي قمته مشهد ثورة الحسين واستشهاده الفاجع مع من استشهد معه، ومن ظل من اتباعه ينتظر الشهادة بعده، احتذاءاً بأسرته واقتفاءاً لاثره فالمثل الذي ينتصب شامخاً امامنا والقدوة التي تجتذبنا اليها بكل تلك الروعة والجلال، والدرس الذي خطه على جبين الزمن تلك الشهادة اليتيمة، والرمز العظيم الذي حفر في كل قلب حزاً ندياً ابد الدهر، والصفعة التي كالها الامام لوجه طاغوت الظلم والشر والاستبداد، كل ذلك يحفزنا على ألا نمر بالعاشر من المحرم مر العابثين السادرين في غي الاقيون، اللاهثين وراء ملذات الجسد والتراب، المتنكبين الجاده، باسم الدعه والاطمئنان، وهم اولى بالسكينة الذليلة، والنكوص الاذل، وعاد السكوت ! هذه الخواطر واصداؤها كانت تثير في منذ زمن بعيد، وكنت امن الى الكتابة عنها بين الحين والحين، غير ان المناسبة التي كنت انتظرها كانت تفلت مني لهذا السبب او ذاك.. اما لانها كانت غير مؤاتيه، او ضعيفة الاستجابة، او عرضيه او ظاهرة الانفعال والتكلف.
وكل ذلك لا يفيد في أثارة دخائل النفس وتحريك اغوارها وكشف مظانها لتكون قاعدة الصدق في الحديث وبؤرة التعبير الاصيل وعلى كثرة ما قرأت عن المأساة، فان الذي كنت افتقده اشد ما يكون الافتقاد وهو خلود ادبنا العربي –وفي القرن العشرين بالذات من أثر مسرحي واحد يعالج المأساة عرضاً درامياً جديراً بجلالها ومداولاتها وصنوف تأثيرها في مجمل التاريخ والادب وكل دروب الحياة، انطلاقاً منها ورجوعاً اليها تقويماً للدرس وصيانة للاثر، وفضحاً للاستار الكثيفة من تبريرات الحكام، وتلبيات اذنابهم وجلاوزتهم وكتبت مسرحيات من اوائل القرن وتابعتها اخر وكلها عن المأساة لاهيه متغاضيه، متجاهله، وكأن الطالبيين واشياعهم لم يهزوا التاريخ هزات متواليات. وكان انتظار طويل، كنت احسبه ليلاً واجباً مديد العمر، خلت منه النجوم والاقمار. واغلب المسرح العربي يعني بكثير من توافه الشخوص فيضعها هنا وهناك في مجالات الصراع منحدراً بالملهاة من شامخ اهتماماتها الى حضيض المهزلة المبتذلة، جراً لمغانم آتيه، من طريق اثاره اوسع الاجراء الهزليه، التي تتلاعب بالاحاسيس الرخيصة.
غير ان استطالة الزمن مع هذا النحو من المسرح، وهذا النوع من الأثارة قد اعاقت نحو مسرحنا واخرت انفتاحه على المسرح العالمي، الذي لا يعرف قيمه للعبث والعابثين، وطال هذا الانتظار اكثر مما يجب، حتى وجدت نفسي وبمحض المصادفة قباله ثنائيه ( الحسين ثائر –والحسين شهيداً ) لعبد الرحمن الشرقاوي. وقرأت الثنائيه بنهم ما بعده نهم، واستطعت ان اقول بعد جهد جهيد: ((وجدتها)) فما الذي وجدت؟ وهل اوفي الشرقاوي بالعهد؟ وهل تمكنت الثنائيه من تسليط الاضواء على المأساة؟ وهل استطاعت ان تملأ الفراغ المرعب بالاسلوب المشرق شكلاً، وبالروح الحيه مضموناً وادراكاً؟ ليس لي بعد هذا إلاّ ان احاول الاجابة عن هذه الاسئلة فلا فعل …
ها نحن في رحاب المسرحية الاولى، فماذا نجد اول ما نجد؟ جماعة من اهل المدينة تنادوا للاجتماع في دار احدهم للتشاور في امر الامة بعد ان قضى معاوية نحبه. وطبيعي ان تثور المناقشة في هذه المناسبة لتناول قضايا مهمة، فمؤيدوا الحسين ينصرون توليته الحكم بحجج: منها ان الامة ليست غير الفقراء، وان حكم الامة ينبغي ان يستند الى الشورى، وان الشورى التي كان معاوية يتوسل بها –وهو في دست السلطان- لم تكن إلاّ لاستكمال ابهه الحكم. ولهذا كانت الشورى –بهذا المعنى- فخاً لاصطياد الضعفاء، من طريق رجال كان كل همهم وعملهم ومشاركتهم في السلطة، لا يتعدى نطاق كلمة ((نعم)) الخبيثة. واذا كانت دولة الظلم قد ولت وادبرت، فان معاوية لم ينس ان يمد ظل هذه الدولة على ابنه يزيد. ومن ثم انتفت الشورى، لان الناس لم يؤخذ برأيهم، ولو اجبر بعض سادتهم على بيعة يزيد اجباراً، او دفعتهم مصلحتهم الى هذه البيعة اخياراً فامارة يزيد لابد ان تثير (( النقمة … في النفوس الطيبة )) لانها (( بيعة اكراه وخوف.. وطمع )) ولما كانت الارادة الطوعية اول شرط من شروط البيعة، وانتفاؤها في قضية تولية يزيد وارده اصلاً. فبيعته منقوضه شرعاً: والرجل الوحيد الذي يمكن ان يحظى بهذه الارادة الطوعية هو الحسين، فولايته هي الولاية الشرعية الوحيدة حتى لا تتحول دولة الشورى الى ارث موروث لآل أمية. فالبيعة لا يمكن ان تنال قسراً او طمعاً، وإلاّ انقلب الى تسلط قيصرى او كسروي، وهذا معناه الاستهتار بابسط شرائع القوم.
اما اصحاب يزيد فلا يذهبون مذهب الاكثرية، لان الحسين واصحابه اصحاب تقوى وورع، و( الدولة تحتاج الى كيد سياسي حصيف ) ذلك بان لكل زمان دولة ورجالاً، وقد مضى عهد التقوى والورع، ليحل محله جديد هو عهد السياسة الحصيفه والكيد والمكر... وبما ان الحسين لن يسلك إلاّ مسلك ابيه، فيحكم الامة كما كان ابوه يفعل، بما عرف به من عدل وانصاف وتسوية امور الناس على وفق الحق والخير، بالضرب على ايدي الظالمين والاخذ بناصر الضعفاء والمسحوقين وهذا لا يتفق في شيء- مع مصالح الاغنياء الاقوياء، الذين يريدون من الدولة ان تكون اداة طيعه في ايديهم للاستزاده من الاستغلال، والتحكم في الرقاب، والارتفاع على الكواهل كما كانت الحال ايام معاوية، وكما كان يريدها ان تكون بعده ! وبعد الاتفاق بين الوليد وابن الحكم، الاتفاق الذي يفلسفه الاخير بقوله: (( كثرة الآراء تغري بالتردد، ان ضرباً في رقاب الضعفاء سوف يعطينا ولاء الأقوياء )) يجتمع حاكما المدينة بابي عبد الله، فيعلمه الوليد ببيعة يزيد المزدوجة، بيعته التي يريد يعقدها الان والاخرى التي عقدت قديماً، اما الاولى فليس لها قوام شرعي لانها (( اخذت في ظل ارهاب البوارق )) اما الثانية التي يراد لها مثل الذي اريد الاولى، فهي لابد ان تكون قسراً واغتصاباً وتحت حد السيف وعندئذ لابد ان يكون الامر قائماً على الارهاب او الطغيان او البغي وفي تلك الحال ينحسر الحق عن اهله ويصبح المال والقوة والاستبداد مطايا لافساد الضمائر وتخريب النفوس وسحب ثقة الناس من انفسهم ومن قادتهم. ابن الحكم يمتطى صهوة المال ليحول بينه وبين خير الناس، فهو صاحب بيت المال، فمن حقه اذن ان يجود على من ارضيه وان يقبض يده عمن لا يرضيه، لانه يتصور نفسه ظل الله على الارض، بكل زهو وخيلاء. وظل الله ذاك. لا يمكن ان يكون الممثل الشرعي لمصالح سادات قريش، الذين لا يمكن ان يرتضي لهم ابن الحكم الهبوط من عليائهم ليكونوا سواسية مع رعاة الماشية.. بيد ان الحسين لا يجد الحال كذلك، بل يراه على الضد من ذلك، فالعمل ونيس المحتد هو الذي يسبغ على الانسان القيمة الحقيقة لوجوده. الحسين يرى (( الناس سواسية كاسنان المشط )) ولكن (( الظلم (الذي) يعشعش في اعماق النفوس الخربة )) هو الذي جعل الناس لخطر الموت جوعاً، وهو خطر رهيب ! ويتقدم بما في جعبته من رأى سديد، فاذا باغراء العطاء يزداد اكواماً اكواماً، ان كان ابو عبد الله راغباً في السلامة: وتجنب عواقب الفتن ولظى الثورات والانشقاقات والانقسامات والحرص على الحياة الآمنة في جو الرفاه وبحبوحة العيش..
بيد ان كلمة الحرص التي يلوح بها الوليد، لا تلبث إلاّ ان تنفجر بركاناً في قلب ابي عبد الله (حرص لعين) لانه يهون قيمة الانسان فهو كالخوف يهدر اباء الرجل العزيز. من غير ان يطيل عمره لحظة واحدة وبعد ان يعجز الوليد عن استلال كلمة واحدة توميء الى شيء يسير من الاهتمام بما يراوغ به لتكن كلمة واحدة وحب الحسين. ويجد باب الاباء مؤصدة في وجه تشتيتاته واحتيالاته والاعيبه، يعود الى آخر سهم في كنانته، فيطلب من ابي عبد الله بضراعه غريبة ان يعتزل الناس. ويعتكف على تدريس علوم الدين والتقوى.
ولكن الكلمة التي يستسهلها الحاكمان بأمرهما، تظل في وجدان الحسين معنى المعاني. لانها تعني الشرف والرجولة والمروءة والنبل، ومتى ما استلبت بالقهر والجور ضاعت كل هذه المعاني وتبددت كل هذه القيم، فالكلمة التي (زلزلت) المظالم وحضت (الحرية) واسبغت على الانسان انسانيته، تصبح مقبرة لمثل هذه الانسانية اذا ما ديست في ثنايا التراب، بفعل الظلم وما يفتعله الطاغوت من افانين ! ومن ثم فالحسين يقف الموقف الصحيح الوحيد، لانه لا يمكن ان يقف موقفاً غيره، وقد عرف شرف الكلمة وادرك قدسيتها وارتضى لنفسه طائعاً مختاراً الدفاع عن وجودها تاريخياً. وبذا شق الحسين الطريقة الصحيحة في التاريخ العربي الاسلامي متأثراً بذلك سيرة ابيه التي لم تعرف المهانة او المساومة، او المخاتلة، او المراوغة، وهذه الجدية من الحسين والحزم والعزم. جعلت ابن مروان يستل سيف الاجماع لمحاربة الحسين بدعوى ان الخروج على الاجماع بدعه وشق لعصا الطاعة، ومن ثم فمقاتلة الخارجين على طاعة امير المؤمنين واجب ينبغي تنفيده وباسرع وقت ممكن تجنباً لاراقة الدماء، ورأباً للشقاق والانقسام.
مروان ينصح الوليد بهذه المشورة بعد ان يكون الوليد قد عجز عن اقناع الحسين بالبيعة، ولكن ابا عبد الله يفوت على الوليد فائدة المشورة التي محضها له مروان، فلا يجد معنى للانتصاح ولا للراحة و(الحق والحرمان والعدل) ايعز من معنى للراحة واستباحه كل منهن شرط من شروط هذه الراحة؟ فمن حق الحسين اذن الا يجامل في مثل هذا الحق، وألا يهان او يصانع، او يداجي او يجاري.. ان المسألة مسألة مبدأ ومتى ما تتزحزح اساس المبدأ، فلم يبق لكيانه ان ينتظر شيئاً غير الانهيار. وثبات المبدأ –عند الحسين- امر مفروغ منه. ولهذا فقد تحتم على الوليد ان يتعثر باذيال خيبته، وان ينهار هو امام صمود الحسين وان يبدى هذا الانهيار في كلماته: (( علام يقوم اذن ملكنا؟ أنبنيه فوق ذيول الكلاب؟ أنبنيه فوق ذليلى الرقاب.. فوق رؤوس الثعالب )) وبهذه الكلمات التي لا تحتاج الى شرح وافاضة، بدفع الوليد –صاغراً- حكم للظالم بميسم الذلة والصغار والتفاهة ! وفي منظر آخر نجد بعض اتباع الحسين يرتاؤون عليه هذا الرأي او ذاك وكلهم مخلص فيما فاعل إلا الشيخ اسد الذي يبرر التنازل بوفائه لخير الجميع، وحقناً للدماء التي سالت بما فيه الكفاية. الشيخ اسد هذا انضرب على وتر تجنب الفتنة لانها ستؤدي الى ( القتل والحرق والوان الخراب ) وهل على ذلك فالحكمة تفترض التنازل، ولو اكراهاً واعسافاً وتفترض المسايرة والحجارة.. وهذه هي حال الدنيا على كر العصور وتعاقب الايام. الحكمة هذه يرفضها الحسين رفضاً باتاً، لان ( اكثر الناس ضلالاً عارف بالله لا يهديه قلبه ) وعلى ذلك ان كان هذا الرفض سكوتاً، فلن يصيب الحسين الهدوء الذي يرتجيه، لانهم لن يطمئنوا ان لم يدركو ما يطلبون ومن الحسين بالذات السكوت قد يكون مجلبه للاصلاح وبراً وسلاماً، ولكنه لن يفسر إلا بصفته الحقيقية، بصفته رفضاً للبيعة واشارة للانتفاضة، وليس للحسين اذن من خيار غير الانتفاض والثورة على الظلم.
ادلهم الخطب اذن، وجاء دور الامتحان امتحان الضمير واختيار صلاحه واثبات صموده امام الملمات والكوارث والمحن. ترى اممكن لأبي عبد الله يمنح يزيد ( بيعة ذل ) ليطمئن على نفسه واله وشيعته ( مثل شاه في قطيع )؟ ام ترى يجهر بالثورة في وجه الطغاة؟ السؤالان واردان وهما جناحا مأساة الحسين ومأساة كل قائد انساني في موقف يماثل موقف الحسين.
وفيما ابو عبد الله يتأمل في اشباه هذين السؤالين، يظهر له عن كثب اخوه محمد بن الحنفية كانه اعصار جبار هب ليقتلع اركان الطغيان، وكل جبار عنيد، هب يطالب الحسين واتباعه ان ينقذوا العالم ( المجنون الذي ظل طريقه ) ان ينقذوا ( الدنيا من الفوضى وطغيان المخاوف ) وكيف لا وقد ( قامت لاهل الشر دولة )؟ فماذا يكون من عزم الحسين وقد رأى اخاه ناراً تتأجح وثورة تتماوج، ورجوله كلها اباء وشمم، ايكون اخوه امضى منه حداً، واهدى منه سبيلاً، واشد منه على البغي مقتاً؟ يقسم ابو عبد الله ألا يترك الظالم حتى يأخذ حق المظلوم منه، واذن هي الثورة، هي الحرب العوان التي لا محيص منها ولا مناص. وهنا تبرد حرارة محمد بعد التهابها، لان الحرب تعني ما تعني بالقياس الى الحسين، وهو –وقد جد الجد- لا يريد لاخيه ان يحل به ما حل بابيه، فلهذا السبب بالذات تضرع باخيه ان ينأى بنفسه عن الخطر، لان اعداء الحسين من اغلظ الناس اكباداً واشدهم حقداً وابعدهم صيتاً في تأريث العداوة، وافضعهم فتكاً، ولكن ماذا يعني ذلك النأي عن الخطر، ألا يعني قبول بيعة طاغية مستبد؟ ألا يعني بيع كل ما ثمن وغلى وشرف واعتلى في سوق النخاسة في مقابل ذله ذهبيه ويقرر الحسين امره اقراراً لا رجعة فيه ولا انتكاس، وتسمع اخته زينب بهذا الامر، فتهتز لوعه واسى، لانها تعرف معنى ذلك الامر وذلك القرار، ويتدارك مخاوف زينب بالتلويح بالنداء فيقول: (( فاذا نوديت فلا مهرب )) معلقاً قيامه بالامر بهذا النداء. وتدرك زينب ما في قرارة اخيها فتقول: (( فلينهض غيرك للاشرار، فليس لاهل البيت سواك )) وهنا ينطق الحسين بلسان القدر قائلاً: (( جف القلم بما قد كان ! )) فلا فائدة اذن في تضرعات زينب او محمد ولا مندوحه من الجهاد في ساعة عسيرة تتطلب الجهاد. صحيح ان الدولة قد شيدتها المطامع والمخاوف، فما هو صانع في هؤلاء الذين اختطفتهم المطامع لبيعة يزيد او دفعتهم المخاوف لهذه البيعة؟ هؤلاء بحكم مصلحتهم اعداء الداء، ولهذا السبب بالذات لابد ان يحسب لهم كل حساب وان يقرر ما يمكن ان يقرر من حقهم، فيما لو استتب له الامر ورجع الحق الى نصابه.
وتشدد الحال سوءاً وتتظافر زمر الاعداء في المدينة، حتى لا يجد الحسين مفراً من اللجوء الى مكة، وهناك يلتقي بابن عمه ابن جعفر، فيعلمه الاخير بكل تفاصيل المؤامرة المدبرة بحقه من قبل زبانية يزيد، ويزيد على ذلك رأيه في مهادنة الطغاة، حتى تهدأ سورة يزيد، وينفسح له المجال، بعد ان يشتد أزره، فينتقص على ما فعله من مهادنة، ويكون، قد تمكن من تحقيق مأربه والوصول الى هدفه، في ظروف غير الظروف التي يمر بها الحسين وهو لائذ باعتاب الكعبة. وهنا وقد رأى ابو عبد الله ما راى من ابن عمه، تهبط على نفسه كآبة حزينه سحابه داكنه من الأسى تثقل على نفسه، وماذا حاله غير تلك اذ (( اصبح الخير طريد، وغداً الحق شريداً، والدنيا تزدهي بالطيلسان ))؟
ماذا ينتظر من باطل يعتلي عرشاً؟ ومن ملك ملكه الزيف والنفاق والدجل؟ ومن حكم مبني على الرياء والبغي والمذلة والمسكنة؟ ومن دنيا ذليله، الخوف فيها ملك ذو سلطان وصولجان؟ ومن حياه كلما طالت اصبحت ناراً وعذاباً وشراً لا نصيب الا الرجال الاخيار؟ عند ذاك لابد ان ( يختنق ضوء النجم في الليل الثقيل ) وتصبح الحكمة مذلة، ويرتفع صوت الفجور عالياً، وينخفض اباء النفوس ليحل محله سلطان الارهاب وعاد الطاعه، ( ويصير الصمت والاذعان من حزم الامور ) ويتم للسلطان كل ما يشتهيه من افانين الاستعباد والاستذلال والأسترقاق، فلا تعود الدولة إلا ضيغه كبيرة يتلاعب بمصيرها السلطان كما يتلاعب الطفل بالكرة !
الامور تتأزم شديداً وبصورة سريعة مذهلة، فماذا يفعل ابو عبد الله؟ لابد له ان يفعل شيئاً ليتأكد من احوال شيعته في الكوفة ومدى تأييدهم له. وماذا يفعل خيراً من ارسال ابن عمه مسلم. ويذهب مسلم بن عقيل ويستقبل الفاتحين، ويحاصر ابن زياد في قصر الامارة، ولكن مكر الاخير الذي عرف به سرعان ما يحول الحصار الى مطاردة تتعقب آثار مسلم حتى يتم القبض عليه وتلقى جثته من اسوار القصر المنيف. وقبل ان يتم ذلك تكون رسائل مسلم ومؤيدي الحسين قد وصلت الى ابي عبد الله. ويكون التشاور الاخير بين الحسين وخاصة اتباعه قد وضع اللمسات الاخيرة على المنظر الجديد، المرعب الفاجع، الذي كان –في الواقع تجسيداً درامياً حياً لارادة الحسين في شق الطريق نحو الشورى والحرية والكرامة الانسانية، ولما كان هذا التشاور منحى خطراً حاسماً في طريق الشوك والآلام والمآسي، طريق الدم والموت والفجيعة، طريق الحسين. فلا مناص من الالمام يسيراً. مما جرى قبل ان يتخذ ابو عبد الله قراره النهائي. محمد بن جعفر يعرض حقيقة ابن زياد بقوله: (( انه يملك في الكوفة الان الفساد. يملك المال والسلطة، والضمير الميت القادر على ان يلوي اعناق العباد )) وهذا يعني انه يريد من ابن عمه التمهل والانتظار، بينما حال الحسين تنطق بهذه الكلمات: (( لا… بل انهض لاناضلهم.. لا بل انهض ضد الظلم وضد البغي وضد الجور )) حفاظاً على حقوق الضعفاء واخذا بأيديهم، لان المنكر لا ينبغي السكوت عنه حتى الموت. وآراء الحسين هذه تثير حزناً عميقاً في نفس ابن جعفر، لانها تشير الى نهاية معلومة مسبقاً، فليقدم ابن جعفر اذن وساطته فعسى ولعل.. غير ان الحسين وقد ادرك ما هو فيه من حرج، من ذئاب الليل وثعالب النهار، من صمته الثقيل الفظيع، من الخنجر الغدار الذي سيطارده اينما يمضى، لا يرى مفراً من التحدي لانه الطريقة الوحيدة الباقية امامه وخاصة وقد وصلته رسالة مسلم وصرخات المعذبين في ارض العراق، فضلاً عن انه –لو فرضنا المستحيل- والتزم ابو عبد الله الصمت فهو لن ينجو من احدى اثنتين اما البيعة واما الموت. وهكذا قدرللحسين ان يسير ليرد ( غاشية المظالم ) واذا كان الحسين سيقتل حتماً بسبب الظروف الغريبة في الكوفة، فان العبرة ليست في قتل الحسين.
انما العبرة فيمن قتلوه ولماذا قتلوه؟ العبرة في الثأر الاعظم، ثأر الحسين، في الثأر من كل سفاح مهما يكن ومن تابعه من قتلة الحسين على مدى التاريخ الذي وضع ابو عبد الله اساساً جديداً له ببعد نظره وحكمته وأصالة ايمانه بحق الفقراء والضعفاء الذين ظلوا ينتظرون مخلصاً من السماء قروناً وقروناً، فجاء استشهاد ابي عبد الله تعبيراً جديداً لهذا الخلاص، لانه انبثق من ارادتهم في ان يكونوا بشراً اسوياء، لا ماشية هملاً يساقون للذبح، وهم محنيوا الرؤوس، متثاقلوا الخطى، عبيداً لارادة جبار شديد، كريه، مقيت، اسمه (ملك) لانهم جميعاً مملكون. وقبل ان نساير أبا عبد الله، في مسيرته الدامية، ينبغي لنا ان نلتفت الى سلوك ابن زياد وكيف تمكن من لي رقاب اهل الكوفة، ابن عروة يجد الامر غريباً كل الغرابة، وفي الحق انه غريب، اذ كيف ينقلب الناس بين عشية وضحاها هذا الانقلاب المفاجئ ومن ثم فمن حق ابن عروة ان يتسائل: (( كيف بالله قلبت الامر حتى صار لك؟ )) فيجيبه ابن زياد ضاحكاً: (( قد اخفت الناس حتى رهبوا، وبذلت المال حتى رغبوا )) وطريق ابن زياد هذه، هي طريق جميع الساسة الطغاة، المحنكين الذين لا يعتبرون (( الحياة غير صياد وصيد )) ومن ثم ففي الغابة الكبيرة لا يعيش اخو عدل لا يملك سيفاً قاطعاً وقوساً ونشاباً.
والا كان هو اول الصيد. وموقف ابن زياد وهذا موقف منطقي ومنسجم مع مجمل سلوكه، غير ان سلوك اسد الحربائي، الذي تمثل بالتلاعب بالمشاعر، والتنقل من صف واللعب على حبال المساومة والمخادعة، هذا السلوك هو الذي ينبغي ان يفتح عيون الناس جميعاً، فأسد الحجازي صاحب الضياع الواسعة في الكوفة، لا يمكن ان يكون –باي حال- مؤيداً للحسين ولو تظاهر –في اول الامر بذلك- لان مصلحته العليا تتنافى ومصلحة الحسين واتباعه، والسائرين في اثره.. مصلة هذا الرجل جعلت منه منادياً منه متطوعاً يبحث عن رأس مسلم قبل مقتله، وجعلت منه سنداً يركن اليه ابن زياد باطمئنان وثقة ! ومشهد الاختلاف في قضية مسلم بن عقيل مشهد فيه خصوبة درامية رائعة التفنن، عميقة التحليل، سليمة المنطق، قوية الاداء زخمة العطاء، فالمختار الثقفي يمثل الجانب الثوري الصادق، يمثل الموقف الصارم الحازم الذي لا يعرف التساوم والتخاذل او التراجع، فالمختار يذكر القوم بالعهد والذمة، ويحذرهم من الخيانة والجبن ويستثير إباءهم وشهامتهم ومروءتهم، وها هو يعبر عن كل ذلك بقوله: (( تذكروا إن نحن خنا عهدنا ماذا يكون؟ ستعربد الأشباح فوق شموخنا. سيبصق الاطفال فوق قبورنا.. )).
ويؤكد (الشيخ) المختار في رأيه الصائب الجريء، غير انه يتملص من هذا التأييد باستناده الى حجة القدر البالية، فالقدر هو الذي رمى بابن زياد، ومع انه ( فاجر يقتل بالظنه والريب ويلهو بالدماء ) فهم مضطرون للاذعان له، لذلك (( ان المكره المضطر لا اثم عليه )) وهكذا تغدو ( الحكمة والرأي.. والتقوى ) تجارة رابحة ومصداق ذهل هو ما يتفضل به (التاجر) من آراء، ومن هذه الآراء الحكيمة: (( هذا الرجل (يعني ابن زياد) يعطي في سخاء )) وعلى ضوء هذه الحكمة يسير سائر شيوخ مذحج ومراد، فاذا بالرؤوس تنحني امام الذهب، واذا بالحشود التي نفرت لنصرة الحسين تضافرت لاستقباله، تتناثر وتتبعثر وتتلاشى، واذا بالمختار يبقى وحيداً يتآكل قلبه الكمد لان (( الآكلين على المآدب كلها، السابحين وراء تيار الزمن الباحثين عن السعادة الماثلين الى الشموس اذا طلعن.. يتسلقون الى ذؤابات الشجر )) وهذا التشبه المتسلسل للوصوليين، فيه ايماضات ولمعات تخطف البصر لما فيها من أوج الحق وسلامة المنطق واصابة الهدف ودقة الوصف، واذا اضفنا الى ذلك قول المختار وهو يدفع المنافقين بما يستحقون من سمه ! الطابعون على شفاههم ابتسامات النفاق مطبعة تحت الطلب. الراسمون على ملامحهم جهامات الكآبة والتأمل والترقب.
استطعنا ان نحس بالنار التي كانت تسرى في عروق المختار وهو يجد الحق يذبح ذبحاً، والباطل ينتصر انتصاراً رخيصاً هيناً، وعيون القوم غافية، بل غاطة في نوم عميق، سخيف، ثقيل، ذليل وتمضي صيحة المختار هذه لتلف نفسها بطيات الرياح الهوج، ويبقى المختار مثخن النفس جرحاً.
مثقل الروح هماً، لان العاقل من ينافق، لان المجرم من يجابه السلطان، لان ( من يشرب قلبه بعض الحاكم تكثر احزانه ) وبخاصة و( الناس يؤخذون بالنوايا.. بالافكار المكتومة، بالخلجات والخفقات وهمس الهمس ) هذه هي فلسفة ابن زياد وهي فلسفة ذوي السلطان طوال هذه الدهور الموغلة في العراقة والقدم ولو لم يكن الامر كذلك لما كان يمكن لنخاس كابن زياد ان يبتاع ولاء الامة بحد السيف او ببارق المطامع، فيتمرغ الأذلون في الذهب كما تتمرغ الحمر في اكوام التبن، والا ما تتداعى اشراف الكوفة على الذهب، كما تتداعى الغربان على الجثة النتنة، والا ما مس الابرار صرٌ واباؤهم اغلى من ذهب الدنيا قاطبة. والا ما (( دب على قدميه الرجل وليس سوى جدث في نعش )) كما يقول المختار محسناً في القول والتشبيه معاً. والا ما استطاع ابن زياد ان يكون قضاء الله حالاً في الدنيا بأخذ الناس بالهمس بل بالخلجات الراجفات. وممن يقف في صف المختار زيد بن الارقم، الفقيه، المفكر، الذي يخشاه ابن زياد اشد الخشية، لان الرجل ذو فكرة، فهو اذن اخطر اهل الارض طراً ولان الفكر والفقه لا يمكن ان يجد له موضع قدم في ظل الارهاب وظلمة الجور، وغاشية القهر.
وهذا امر يصح قبوله حتى عند الشيخ اسد، الذي لا يفلسف اى ما يصلح شأنه، ويعلي مقامه لدى الامير الجليل ابن زياد !
والى هذا البلد، المكفهر، المقهور، الخانع لابن زياد، يتوجه ابو عبد الله، وهو يحسب انه يتوجه الى بلد المكرمات والمروءات البلد الامين، الذي سيحمى ذماره، ويفتح له صدره،ليكون منطلقة الى ما يصبو اليه من نصر على الطواغيت، وهم في عقر دارهم..
وبعد مسيرة العديد من الايام، في اشد ما تكون هذه الايام حراً وغباراً ونصباً، تصل قافلة ابي عبد الله الى مشارف الفرات ليستقبلها عدد ضئيل من اصحابه في الكوفة، وعلى رأسهم برير فزعين من جور ابن زياد لائذين بالحسين ثم يتبعهم اعرابي مع ثلة من صحبه، يتوج هؤلاء جميعاً مراد ومذحج، يتم اجماع بين كل اولئك وابي عبد الله ومن معه وتتطاير اخبار الشر ويتضح مقتل مسلم وتلوح الكارثة التي تنتظر الجميع ويدلي الاعرابي بدلوه وينصح الحسين قائلاً: (( عد ولا تمض الى من خذلوك )) فيرد الامام بعزم راسخ: (( انما هذا طريقي ليس لي غير ارتياده )) ويتفضل شيخ مراد على القوم بنصيحته: (( نحن يا سبط رسول الله لا نغدر بك، غير اني حائر والله في الامر، اذا كانت هي الحرب الضروس، فكلا الحزبين مسلم )) فاذا النصيحة حكمة الشيوخ، حيرة ظالمة مظلمة، حيرة تنكر حقاً ناصعاً، لتحل محله باطل الذل، وحقهم المسكنة، وفقر الضمير، والتشبث الرخيص بنشب الدنيا الحقير لزوغان في البصر وعمى مصطنع، وضلال مفتعل.. فما مرد كل ذلك وما مصدره؟ ان مصدر كل ذلك، وكل ماله صلة بذلك عن تبريرات وتحذيرات وتحفظات، هو الخوف من المسؤولية في الساعة الحاسمة، الخوف الذي يفسد في الانسان فعالية الحرية واختيار المواقف وتحديد التخوم، الخوف الذي يقهر النفوس الضعيفة، فيبدد قممها ويحطم روحها، ويمزق كيانها الانساني، شيخ مراد هذا يعترف بهذا الخوف قائلاً: (( ان بعض الخوف يقهر.. )) فيرد عليه الامام قائلاً: ((ان تخاف الله اولى بك من خوف الولاة )) وعند هذا الحد الحاسم من المسألة، يضع شيخ مراد القضية في موضعها الانساني بقوله: (( ان هذا الامتحان لنبي.. نحن لسنا انبياء )) وفي هذا الوضع الذي يصطنعه شيخ مراد تتبين حقيقة ذات دلالات، وهي ان اعتماد ((الاشراف)) لقضية شريفة، امر فيه كثير من المحاذير في ساعة الحسم ساعة تقرير المصير، لان مصلحة ((الاشراف)) قد تتضارب مع القضية الشريفة في اغلب الاحيان، وعندئذ تكون طريق الخذلان، طريق الامن والسلام والعافية، هي الطريق الوحيد التي يسلكها ((الاشراف)) لكي تبقى نعمتهم في محلها الرفيع وجاههم في علياء مقامهم عند ذوي السلطة والنعمة والايادي البيض والخيرات الكثيرات. و(( اذا ما سامهم (السلطان) سوم الابل )) واقتضاهم ميثاق الذل وبيعة فليس لهم الا ان يخنعوا ويستظلوا بظلال اولي النعم، لان هذا شرط من شروط الوجاهة والحكمة والشرف والسيادة.
واذا كانت زينب اخت الامام تريد ان تعمل شيئاً من اجل ان ينفر الرجال في نصرة اخيها، فانها لم تجد فيما اجارت فيه خيراً من قولها: (( لان يشهر سيف فوق هام المفسدين الظالمين، لهو عند الله ازكى من جهاد المشركين )) ذلك ان في هذا القول حقاً، وان يكن جريحاً، فهو حق منتصر لا محالة في النهاية. ويأتي دور شيخ مذحج ليجيب عن سؤال بشر: (( انكم اصحاب حق.. فلماذا تنكصون؟ )) فاذا به يقول لافض فوه: (( نحن نرجو ان يعود العز فينا، غير انا ينبغي ان نتشاور )) فاذا هذه الشورى في ساعة الخوف، غير ( غطاء للنذالة ) كما يقول سعيد والبطش الذي هو اداة الخوف، ( يخفى الحق حتى عن عيون العقلاء ) ويجعلهم كما يقول برير ( يتسكعون ببعض وديان الضلال ) وهكذا اضاع الحق، وانثلم حده وتناثر انصاره بدداً، في مواجهة نهر الفرات، ليتسلم نثاره ابو عبد الله ورهطه في وحدة قاسية، ويقل اصحاب الحق ساعة حتى لا يظل –في الساحة منهم غير سبعين وحسب. ومن هذا المشهد المهيب، وطريق اللاعودة، والاخلاص لراية المبدأ يبدأ الموكب الفاجع، موكب الشهداء في السير نحو الحتوف ببطولة خارقة وشجاعة تمرغ جباه الجبابرة.
إرسال تعليق