بقلم: الأستاذ عبد الله العلايلي
سادتي: اعتقد بأننا من الحسين عليه السلام) أمام شخصية لها صفة الطاقة التي
نعرفها بآثارها الظاهرة فقط، وأما ما وراء ذلك من إستكناه أسرارها والنفاذ إلى
ماهيتها الباطنة فنحن في إيهام حقيقي منها.
إنها شخصية فوق مقاييسنا الضيقة
المحدودة هذه المقاييس التي في مسكنتها أن تعرض علينا صوراً من الحياة العادية
وألواناً مختلفة من تشكلاتها البسيطة، وأما منابع القوة والعزيمة والمضاء والصارم
والاستبسال للمثل ومكان الإيمان الذي يفيض تارة بالتبتيل واللين والخشية، وتارة
بالإندفاع الماضي والقوة المحطمة، وما إلى ذلك من جوهريات أشياء النفس العليا،
فإنها تقف بنا عاجزة مشلولة في روعة غير محدودة.
هذه المقاييس التي تملكها ونستعين
بها على تفهم أية شخصية عادية أخرى، لن تصلنا بالحسين عليه السلام) لأن ما استوى
في شخصه السامي من شآبيب الروح الآلهي تجعله أشبه ما يكون بالهيكل القدسي الذي
يموج بشتى المعاني المثالية، لا يملك معه الإنسان كائناً من كان إلاّ أن يستسلم
ويذهل عن وجوده، بما يعروه من الخشية الصامتة والروعة السليبة والشعور الإيجابي.
فلنؤمن بمذهب الإلهاميين في
المعرفة ونتصل بشخصية الحسين عليه السلام) من طريق
إشراقي خالص، ذكر الغزالي في رسالته (مشكاة الأنوار) التي أدارها على تفسير قوله
تعالى
الله
نور السموات والأرض؛ بأن الإشعاع الإلهي هو سر الوجود الساري في محيط الكون والفساد،
وهو روح البقاء في عالم النواميس.
وإن تمايز الكائنات قائم على ما
يستوي فيها من هذا الإشعاع المتفاوت الذي نسميه في دائرة معارفنا بالخاصيات.
فالأحجار الكريمة كانت كذلك لأنها
مظاهر لأنعكاس هذا الإشعاع . وعلى هذه السنة يذهب في تفسير قضايا الخير والجمال
والحب والبغض والإنجذاب النفسي إلى الأشياء، بأنها أفكار مركزة من ذلك الإشعاع.
والكائن الحي يتفاوت بكونه مظهراً
لهذا الإشعاع الذي يخضع في محيط النواميس لعملها، فالوراثة واللون التربوي وما
يتبع ذلك تدخل جميعها في توفير الإشعاع الإلهي في الفرد.
والأبشار الذين هم مظاهر أصلح
لهذا الإشعاع يكونون قدوة الأجيال ومشاعل النور في دياجير الحياة الداكنة.
ولا شك في أن الحسين عليه السلام) كان أسمى وراثة من كل إنسان آخر
لأنها وراثة النبوة، وأسمى في مرباه بيئة لأنه مربى النبوة، فهو إنسان أكمل بكونه
مظهراً لذلك الإشعاع الإلهي الأقدس.
وقد قرن حياته التي حيكت الفتها
الفضائل بالكفاح والتضحية بسبيل المبادئ الصالحة المبادئ المهذبة، بسبيل الحق
العام وخير الجموع.
والغزالي يجعل أمثاله قدوة
الأجيال ومشاعل النور الهادية، فلا عجب إذا كان الحسين عليه السلام) قدوة
لنا اليوم وفي كل يوم… ومشعل النور الذي
يهدينا اليوم وفي كل يوم.. كافح الحسين عليه السلام) لينقذ
مبادئ العهد الذهبي في عهد الباطل إذا إستوحينا المجاهد الراكد في فجر كفاحنا
وأنبعاثنا الشامخ، نجعل نهاية العهد الذهبي في الإسلام فاتحة عهدنا الذهبي الخالد
الذي لن تكون لهُ نهاية، لأننا عرفنا جيداً كيف نجعل النهاية على الدوام فاتحة
جديدة لعهد جديد.
فيا بطل الكفاح مد إلينا يداً….
ويا بطل الجهاد كيف لنا بمثل
خلائفك في الجهاد….
أنت مرة ذهبت تصنع الموت
إننتصاراً….
وذهب غيرك يصنع الحياة إقتداراً….
فماتت القوة وبقيت أنت وحدك رمز
الخلود…
نحن في حياتنا الإنقلابية ونهضتنا
الإنبعاثية نواجه صراعاً عنيفاً بين الحق والباطل، وقد أعطانا الحسين عليه السلام) درساً مثيراً كله شمم، فإن ظفرنا
فقد جعلنا كلمة الله هي العليا، وإن نبونا فقد قضينا أحراراً دون كلمة الله التي
هي الواجب والحق والعدالة، شاعرين بمسؤليتها
ذلك الشعور بالمسؤولية الذي دفع الحسين عليه السلام) الى التضحية، ذلك الشعور
بالمسؤولية الذي يجعل المؤمن لايقر له قرار إلاّ إذا إنتصر لها ومضى تحت شعورها
بصفة غير شعورية..
فقولوا للذين يأخذون الحسين عليه السلام) بحركته
إنكم جامدوا المشاعر لا تحسون بمسؤولية الأيمان بالمبادئ.
إن الإيمان الحقيقي تحجر في
قلوبكم فتحجرت لذلك دماؤكم..
إن الإيمان – ايها الجامدون-
حرارة وقيدة تفرض الحركة على صاحبها بإرادة وبدون إرادة، وإلاّ فأنتم جاهلون
بطبيعة النفس البشرية وجاهلون بآلية الحياة ذات الشرايين.
فيا هؤلاء أنتم هامدوا الأعصاب
وشرايينكم في إنحلال فلا تلوموا المؤمنين الشاعرين أتذكر بأني قرأت شاعراً
هنجارياً إنخرط في حركة من حركات الجهاد القومي، وكان صاحب الراية فأوحى بقوله: ((
إذا أنا متُّ فأسلخوا جلدي الذي طالما صاحبني في كفاحي وشدوا منه طبلاً تضربون
عليه كلما دعاكم داعي الجهاد، ليصل ندائي إلى أذن كل مواطن حاملاً همته النافذة،
إنه نداء الذي قضى تحت القلم)).
هؤلاء الشاعرون بالمبادئ،
المؤمنون، الذين يحسون بمسؤولية الأيمان وتبعة الواجب.
والحسين عليه السلام) سيد
المؤمنين الذي لم يبق لأبن حرة عذراً
وإن الألى في الطف من آل
هاشم ***** تأسـوا فسنوا للكرام
التآسيـا
أظن [ان أحداً من الذين أعطوا
دراسة طويلة عن الحسين عليه السلام) لم يعن بفهم ماهية الحياة من وجهة
نظره وأنا بعد دراسة في زمن طويل انتهيت الى تكوين هذا الرأي:
(( الحياة الإنسانية ليست إلاّ من تشكلات الفكرة فقط،
منذ أصبح الإنسان حيواناً متعقلاً، وليس من المنطق في شيء أن ندرس الحياة كوحدة
لمجموعة الأحياء لأن الأنسان انفصل إنفصالاً تاماً عن الحياة الغريزية الخالصة
التي يحياها سائر أصناف النوع، وأصبح ينقاد لسيطرات الفكر وحده.
فما الحياة الإنسانية إلاّ
تشكيلات أو إنطباعات لفكرة بعينها تؤثر أثرها في كتلة ضخمة من الزمن ثم تذوي تحت
تأثير تشكيلات أو إنطباعات أخرى وهكذا)).
فإذا كانت الحياة هي الفكرة فقط،
فلا جرم أن نجد المؤمن بفكرة في الحياة يسعى لنشرها ويكافح من أجلها مهما كلفته،
لأن فكرته هي التي تمده بالحياة أو تجعل لها لوناً يجذبه إليها ويتشبث بها، فإذا
خرجت الحياة عن قاعدة فكرته التي يؤمن بها، فأما أن يعيش غريباً متألماً، وأما أن
يخلد مجاهداً، وكذلك فضل الحسين عليه السلام) الخلود
في الجهاد.
وأما الذي يعيش بدون فكرة فإنه
حيوان ساذج يحيا بالغريزة وحدها أو بذلك ينحدر عن مستوى النوع حيث يتحرك في ابهام
من الأحساس سوى الإحساس بمواقع الغرائز العاملة ومساقطها.
فجوابنا عن السؤال الذي لم يزل في
الناس من يسأل عنه: لماذا ضحى الحسين عليه السلام) . هو أنهم
سعوا إلى تجريد الحياة من فكرتها الصالحة وإخراجها عن قاعدة إرتكازها، فأنتصر
لفكرة الحياة المهذبة التي آمن بها ونشرها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل ونطق بها القرآن على الدهور. فالحزن الذي
يغشانا في ذكرى الحسين عليه السلام) هو حزن العقل الذي يذكرنا دائماً مبادئه التي انتهت
به إلى تضحيته الحمراء.
وأما حزن القلب فأنه عاطفة حارة
تذكي اللواعج والعبرات وتهيج الدموع.
حزنت عليه عقـولنا وقلـوبنا ****
ابداً وحزن العقل شر مصاب
فالقلب ينسيه الغيـاب اليفـه ****
والعقل لا ينسيه طـول غياب
وذكرى الأبطال من نوع حزن العقل
الذي هو عامل بعث وتذكير بالمثل التي ضحوا من أجلها، مرعياً لذكرى الحسين عليه السلام) لأنها ذكرى عهدنا الذهبي الخالد
الذي يمر بنا كشريط يترك فينا آثاراً لابد أن تبعثنا بعد حين.
قال الخليفة عمر بن الخطاب يخاطب
الحسين ( إنما أنبت ما ترى في رؤوسنا الله ثم أنتم).
ولنا هذه النجوى.
مجد العرب نواة غرسها في الهامات
الله ثم أنتم…
وقـد نبتت في جـراح الكـبرياء،
حين أجرى إليها النمير الصافي الله ثم أنتم…
والتفت على الرؤوس كما تلتف
العيضة بالأزاهير والنوار، بما روحها الله به من نسمات ثم أنتم…
وأزدهرت غصون المجد بالفضائل
المنظومة والمكارم المنثورة، بما نفخ الله بها من روح ثم أنتم…
إرسال تعليق