بقلم: خليل عزمي
لم تكن واقعة الطف وليدة محرم الحرام ولم تتأت بسبب سفر الحسين (عليه السلام) من مكة المكرمة إلى جهة العراق وانما هي نتيجة طبيعية لاحقاد متغلغة في جذور الشجرة الملعونة في القرآن منذ عهود قديمة سبقت عهد الرسالة المحمدية اما فيما بعدها فقد امتلأت قلوب الامويين حقداً على الهاشميين لما رأوا تفوقهم عليهم تفوقاً لم يسبق له مثيل بالنظر لبروز صاحب الرسالة (صلى الله عليه وآله وسلم) من بينهم هذا رغم ما كانوا عليه من التظاهر بالايمان والنصرة للاسلام. فلقد تظافرت اخبار علماء التاريخ وجهابذته على ان معاوية بن ابي سفيان بذل كل ما في وسعه وجهده لنقل الملك من حضيرته الدينية وفضائلها اللامعة الى السلطة الدنيوية واتخذ كل الوسائط الفعالة على اختلاف انواعها سلاحاً قارع به المعنوية المقدسة التي تركها الرسول الامين في قلوب اتباعه من المؤمنين حتى هدم دعائم الحق والعدل والمساواة والانسانية واقام على انقاضها دعائم الغدر والارهاب والوعد والوعيد من جهة وافساد الاخلاق من هدايا واموال وما ينصبه من شرك ودسائس واحابيل من الجهة الاخرى.
ان اول عمل اجرامي قام به بعد توليه الملك هو خرقه الشرطين اللذين اشترطهما عليه الحسن بن علي (عليه السلام) لقاء تنازله عن الخلافة وهما ترك الضرائب التي تجبى من بلاد الفرس اليه ومنع السباب والشتائم عن ابيه المرتضى (عليه السلام) ولم يكن همّ الحسن (عليه السلام) من الشرط الاول الحصول على المال لحسابه وانما كان يبتغي من وراء ذلك اسعاف المعوزين من اصحابه والمشردين تحت ضغط المارقين من خصومه ولم يكفه الإخلال بعهده هذا بل تعداه الى جريمة افضع واقسى وهي دس السم بواسطة اتباعه الى الحسن (عليه السلام) فاماته غدراً دون خشية من الله ولا حياءاً من رسوله. وهكذا كان شأنه مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فانه لما تحسس بنفوذه في الشام خشي مزاحمته لابنه الخبيث فكلف طبيبه الخاص ابن الاثال فسمه بشربه من عسل وبعين الطريقة امات القائد الباسل والتقي الورع مالك الاشتر النخعي لمجرد كونه من اصحاب علي (عليه السلام) حتى قيل انه عندما بلغته وفاة مالك على السبيل الذي اختاره له قال لعمرو بن العاص (لقد كان لعلي بن ابي طالب ساعدان احدهما عمار بن ياسر والثاني مالك الاشتر فاماتهما الله وتخلصنا منهما) فاجابه عمرو متهكماً (ويقال ان لله جيشاً من عسل)-وهكذا كان دأبه مع من يستطيع الغدر بهم دون اثارة للرأي العام اما اذا وجد في خصمه وبغيضه مناعة وباساً يخشاهما فانه يلين امامه ويجاريه الى اقصى حدود المجاراة بل يغدق عليه الهدايا والاموال والادلة على ذلك كثيرة متوفرة. مثال ذلك ان الاحنف بن قيس زاره يوماً ما بعد توليه الملك ففتح معاوية بحث حرب صفين فقال مخاطباً الاحنف (كلما تذكرت حرب صفين تتأجح النيران في احشائي) فاجابه الاحنف بقوله (ولكن القلوب التي تبغضك لم تزل تخفق في صدورنا والسيوف التي قارعناك بها لما تزل في اغمادها) حتى وان اخت معاوية سألت اخاها عندما خرج الاحنف من عنده (من هذا الذي اجابك بتلك اللهجة الجافة الوقحة) فقال لها (هذا شخص لو غضب غضب لغضبه مائة الف تميمي دون ان يعرفوا سبب غضبه) وهكذا كانت مظاهرة مع عبد الله بن الزبير كان يتمشى على مثل هذه الخطط الغادرة الماكرة على مرأى ومسمع من ابنه يزيد فيلقي عليه دروس المستقبل الرهيب ولكنه نشأ فضاً غليظ القلب سفاكاً مجرماً فاسقاً مبتذلاً قد أمتلأ بغضاً لآل بيت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من قمة رأسه الى اخمص قدميه.
فقد تولى الملك من بعد ابيه ولم يدم حكمه اكثر من ثلاث سنوات ونصف ومع قصر هذه المدة فانه جاء في خلالها من الشرور والاثام مالم يأتها احد من قبله ولا من بعده واهمها الجرائم الكبار الثلاث:
فالجريمة الاولى: هي واقعة الطف التي نحن بصددها فان اللعين يزيد عندما تولى الملك من بعد ابيه لم يكن همه في الدرجة الاولى غير ابادة الحسين بن علي بن ابي طالب للتخلص من نفوذه الشخصي وسطوته الروحية مهما كلف الثمن غالياً. اما الحسين (عليه السلام) فلما انس في اهل الكوفة رغبة ملحة باستقدامه وبيعتهم له بواسطة مسلم بن عقيل لم يجد بداً من تلبية دعوتهم بالاخص وانه رمى الى غاية مقدسة سامية الا وهي انقاذ اهل العراق من براثن اللادينية التي استهدفها يزيد واتباعه ولكن سرعان ما اوصلت العيون المترصدة خبر هذه البيعة والدعوة الى يزيد فاستدل من ذلك ضعف والي الكوفة (نعمان بن البشير) فعزله فوراً وعين بمحله (عبيد الله بن زياد) (زياد هو ابن غير شرعي لابي سفيان) بعد ما زوده باوامر وتعليمات صريحه خلاصتها القضاء على بيعة اهل الكوفة والحيلولة دون وصول الحسين (عليه السلام) واتباعه اليها والزامه بشرطين لا ثالث لهما. اما بيعته ليزيد بالخلافة او التسليم بدون قيد ولا شرط فصدع اللعين عبيد الله بن زياد بالامر وطبق كما امره به سيده حيث ارسل جيشه اللجب وعلى رأسه عمر بن سعد فاحاط هذا بالحسين (عليه السلام) واتباعه بما فيهم حرم الرسول والاطفال على حين غرة فارسل الحسين (عليه السلام) رسولاً يسأله عن قصده فافضى اليه بالشرطين المذكورين فطلب الحسين (عليه السلام) اليه ان يسمح باحد امور ثلاثة:
1-ان يعود هو واتباعه الى الحجاز.
2-او يتركه واتباعه يذهبون الى احد ثغور المسلمين ليقيموا هنالك.
3-او ان يجتمع وحده بيزيد ليناقشه الحساب.
فرفض عبيد الله بن زياد الطلب الواقع من الحسين (عليه السلام) واصر على تنفيذ الشرطين اللذين اشترطهما عليه ولما وجد الحسين ان البيعة ليزيد هي بمثابة الايمان كله للكفر وبهذا هدم للدين واضح وان التسليم لعدوه بدون قيد ولا شرط معناه خنوع الحق للباطل ورضوخ المكرمات المحمدية للرذائل اليزيدية فقد ابت شهامة (ابي عبد الله) ان يسلم باحداهما وعلت الغضبة العلوية جبهته الوضائه (نادى الله اكبر وعلى الاسلام السلام ان كان مثلي يبايع يزيد) فبدأت الحرب بين جند الايمان وجند الشيطان فكانت النتيجة المؤلمة ان وقع الحسين (عليه السلام) واصحابه البررة صرعى الاباء والشمم واقتاد المجرمون حرم الرسول ومن بقي من الاطفال اسرى الى يزيد ومعهم رأسه المقدس (عليه السلام) ليشفوا غليله ويطفئوا لهيب حقده المتأجج بين حنايا ضلوعه ولم يعلموا ويعلم سيدهم اللعين بما خبأه العدل الألهي لهم من الابادة الزمنية واللعنات المستمرة التي تنصب عليه من ملايين المسلمين كلما ذكر الحسين وذكرت حادثة الطف.
اما الجريمة الكبرى الثانية: فهي حصار مكة المكرمة ورمي الكعبة الطاهرة بالمنجنيق.
والجريمة الثالثة: حصاره المدينة ثم دخول جيشه اليها واباحتها ثلاثة ايام بلياليها اقترفت خلالها ما لا عين رأت ولا اذن سمعت من الموبقات والمنكرات التي يستحي القلم من ان يأتي على تفاصيلها.
هذه هي صفحات يزيد السوداء التي حفظها التاريخ بين جنبيه الى يوم الدين هذه وهي جناياته الفضيعة التي خلدها الزمن حتى تصبح الارض غير الارض ولعذاب الآخرة اشد لو كانوا يعلمون. قد يقول بعض المنافقين والذين في قلوبهم مرض. اذا كان الحسين بن علي (عليه السلام) معصوماً فلابد له من العلم بما تؤول اليه نتيجة خروجه من مكة فكيف رمى بنفسه الى التهلكة عمداً؟
فنقول لهؤلاء لو لم تكن واقعة الحسين (عليه السلام) لما بقي للدين الاسلامي أثر. اما تمسك بني امية بعد حادثة الحسين بمظاهر الاسلام فهو امر اضطراري لا مناص لهم منه نظراً للشعور الذي ساد الاكثرية الساحقة من المسلمين فحملهم على الاعتقاد بان القصد الاساسي من ابادة الحسين (عليه السلام) هو ابادة الدين الاسلامي من اساسه والقضاء عليه قضاء مبرماً فلم يجدوا بداً من مجاراة الرأي العام فكان من نتيجة ذلك ما نجده اليوم في الشعوب الاسلامية المنبثة في مشارق الارض ومغاربها، هذا من الوجهة الظاهرية، البادية للعيان اما ما بقي مستتراً وراء الحكمة الالهية فذلك امر لا يعرفه الا الله واصحاب القلوب المنـزهة عن نزغات الشيطان اذ لو لم تكن هنالك حكمة مستترة عن العقول القاصرة فبماذا تعلل مثلاً ؟
1-تسلط ابليس على صفي الله آدم (عليه السلام) وهو النبي الذي امر ملائكته بالسجود اليه، اما كان في استطاعة الرب تقدست ذاته ان يبيد هذا اللعين؟
2-استيلاء الامراض المبرحة على نبي الله (ايوب) وهو من عباد الله المخلصين.
3-تمكن اليهود من صلب المسيح (عليه السلام) (على حساب الانجيل) وهو الذي يبرئ الاكمه والابرص ويحيى الموتى ويبرئ المقعد ويأتي بالمعاجز الكبرى والقدر الباهرة اما كان في استطاعة المسيح ان يخسف باعدائه الارض او ينـزل بهم العذاب الأليم ؟
4-تمكن قريش من تهديد الرسول الامين (صلى الله عليه وآله وسلم) صاحب المعجزات التي ابهرت الكفار والمنافقين بالقتل حتى اضطر الى الهجرة خلسة من مكة المكرمة الى المدينة المنورة فهلا كان في استطاعة الرب ان يقضي على اعدائه او يشل ايديهم فلا يمسوه بسوء ؟ وامثال هذا كثير لو أردنا الاستدلال.
ولم تكن التضحية في سبيل المبادئ السامية من خصائص الانبياء او الاوصياء (عليه السلام) وانما هي من اسمى صفات العظماء ايضاً. مثال ذلك (سقراط الحكيم) ذلك الفيلسوف العظيم الذي اشتهر اسمه حتى اصبح ناراً على علم. اما كان يعلم بما يؤول اليه مصيره من اصراره على نشر تعاليمه وبث مبادئه فلقد كان الملك والكهان كلهم ضد معتقداته فنصحوه اولاً ثم هددوه بالاعدام ثانياً ولكنه لم يعبأ بهم بل تمادى على تلقين تلامذته واتباعه بفساد عقيدة الملك واتباعه (عبادة الاصنام والاجرام) وسمو عقيدته الرامية الى توحيد المعبود الازلي حتى حكم عليه بالاعدام سماً فتجرع كأس السم راضياً مرضياً ومات قرير العين مطمئن الروح في سبيل مبدئه القويم ونهجه السوي المستقيم، فهل بقي بعد هذا للذين في قلوبهم مرض شك بعظم تضحية الحسين (عليه السلام) وثورته الخالدة ام انهم سيقولون معي سلام الله عليك يا ابا عبد الله عشت اماماً كريماً واستشهدت اماماً ابياً {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}.
إرسال تعليق