بقلم: السيد محمد حسن الطالقاني / صاحب مجلة المعارف
لم يروِ لنا التاريخ رغم سعته وتنوع مآسيه وحوادثه حادثه افجع من حادثة الطف الهائلة التي لم يزل صداها يتردد الى الآن والى ان تقوم الساعة، وقد مضت عليها قرون وقرون وضمير الانسانية الحساس يئن لمأساتها الدامية ويتوجع لمصيبتها الفادحة، ولم تزل ذكراها تعاد في كل عام ماثلة للخواطر تثير لواعج الأسى وتذيب القلوب وتستدر الدموع.
اجل
لقد اهتز العالم من أقصاه الى اقصاه لهول هذه الفادحة، واضطربت لها الاجيال
والعصور المتعاقبة، وخشعت لها الامم على اختلاف طبقاتها وتباين اجناسها، وذلك لان
نهضة الحسين (عليه السلام) لم تكن رغبة في الحكم، ولا أملاً في السلطان، ولا ذريعة
للجاه والمال، وانما هي ثورة في وجه الاستبداد، ومقاومة للبغي والفساد، وانتفاضة
ضد السلطة الجائرة وانتزاع للحكم من ايدي الاقلية الباغية وصرخة في وجه الطغيان
الاعمى، وستبقى هذه الصرخة المصلحة مدوية في مسامع مضطهدي الشعوب وماثلة امام وجوه
الحاكمين من غير الطريق الشرعي.
لقد
رأى الحسين (عليه السلام) بعينه وسمع باذنيه ما كان يجري على عهد معاوية من الظلم
والجور، وانتهاك حرمة الدين، واغتصاب اموال الناس وسوء الاحوال العامة، وفساد
اخلاق الامة ووقوع المسلمين في هوة سحيقة من الذل والخنوع ووصول الحالة الى حد لا
يستطيع الصبر عليه من في قلبه ذرة من الرحمة والعطف على بني الانسان فكيف وهو ابن
صاحب الرسالة الانسانية الخالدة. والمسؤول الاول امام الدين لوصايته الحقه عن ابيه
واخيه في حفظه.
وهلك
معاوية فخلفه ابنه يزيد –وهو المعروف سيرة وسريرة- فزاد في الطين بله لانه كان الى
الجاهلية اقرب منه الى الاسلام في كافة احواله واوضاعه، وقد تردت الحالة في ايامه.
وانتهكت حرمة الاسلام على يديه بالمرة وبمختلف الطرق وظهر الفسق عليه وعلى قومه
وعماله. واصبحت الجرائم ترتكب جهراً دون خشية او مراقبة. فرأى الحسين (عليه
السلام) ان صبره على الحالة وسكوته عنها يزيد في تفسخ الاخلاق وذلة النفوس وهضم
الحقوق ونصرة الباطل. وخشى ان تألف نفوس الناس المهانة والخنوع وتطبع بطابع الذل
والخضوع . لان أمد الظلم اذا طال على امة صار الذل والخوف فيها كالغرائز الفطرية
والاخلاق الموروثة. لذلك لم يكن له بد من الثورة على يزيد واعوانه وايقافهم عند
حدهم خوفاً من تزلزل العقائد الدينية وتفكك الروابط الاسلامية.
لذلك
فقد قام (عليه السلام) في وجه يزيد وهو يعلم انه لم يستطع القضاء على أئمة الجور
واركان الضلال في كفاحه وجهاده. لكنه علم بانه اذا لم يتمكن من اسقاط الدولة
الاموية وتشكيل حكومة عادلة بمكانها فانه يكون لكفاحه هذا اثر عظيم في المشايعين
له.وتشجيع لهم على متابعة الحركة حتى يتحقق لهم النصر وبأن ثورته تعلم الناس طرق
الكفاح التي تخرجهم من ذل العبودية الى عز الحرية، وتوجد بينهم روح الاقدام وتحمل
المصائب والمتاعب، فهو منتصر حتماً ولو بعد حين.
قاوم
الحسين (عليه السلام) جيش الباطل فسجل اروع انتصار للمبادئ السامية في تاريخ
الانسانية، وترك في جبين الدهر اثراً ناصعاً ودليلاً قاطعاً على انتصار الفضيلة
واسترخص نفسه الغالية في سبيل العقيدة والايمان فضرب مثلاً اعلى في نكران الذات
والتضحية من اجل الاهداف الكريمة.قتل الحسين (عليه السلام) فوقع على وجه الثرى مزملاً
بدمائه ووطأت خيول الظالمين صدره الذي وعى كتاب الله وتهجد به آناء الليل واطراف
النهار، وقطع رأسه المعفر بالتراب والذي طالما قضى صاحبه الليالي وهو يعفر جبهته
بتراب الارض خشية من ربه وتواضعاً له، وحمل الى يزيد ووضع امامه فضرب وشرب وصب
فضلة كأسه على ذلك الرأس الشريف الذي لم ير صاحبه الخمر ولم يشم رائحتها، وتناول
القضيب فاخذ يضرب به ثنايا الحسين وثغره الذي طالما وضع نبي الرحمة ثغره عليه
وقبله.
ان
ما جرى على الحسين (عليه السلام) بعد قتله من تمثيل وشناعة لهو اكبر اثماً واكثر
بشاعة وايغالاً في الجريمة، وبعداً عن قواعد الخلق والدين، فان الجريمة التي
ارتكبت في حقه لا تعادلها أي جريمة في عالم الحوادث، لذلك بقيت جرحاً في قلب كل
مسلم، ووصمة في تاريخ العرب والاسلام، ولطخة سوداء في جبين الدين لا يزيلها مرور
الحدثان مهما تقادمت الازمان.
فعلينا
ان نحتفل بهذه الذكرى الخالدة والانتفاضة العظيمة وليس لنا ان نكتفي بالتفجع على
مصاب الحسين واهل بيته والبكاء عليهم طلباً للأجر فلم تكن الغاية من اقامة
الاحتفالات والمآتم هنا وهناك مقتصرة على احياء ذكرى فاجعة الطف واقامة المناحة
ولطم الخدود، فالاحتفال بذكريات المصلحين والعظماء انما هو شحذ للعزائم وبعث للهمم
على متابعتهم والسير على مناهجهم في الثورة على الباطل والعمل على نشر الحق
والاقتداء والتأسي بهم، ومن اجل ذلك كثر الترغيب في زيارة الحسين والحث عليها وعلى
البكاء عليه واقامة المآتم وغير ذلك.
واذا ما اقتصرنا على
البكاء والعزاء فقد اضعنا الفائدة المطلوبة واضعنا كل ما ننشد من ورائها من اهداف
لانها ابعد من ذلك غوراً واسمى معنى وعلينا الى جانب الاهتمام للمآتم والاعتزاز
بها وبمعظم الشعائر وتخليد هذه الذكرى كل عام ان نسبر غورها ونتفهمها جيداً وندرك
دقائقها ونأخذ بتعاليمها ونسير على ضوئها ونتأمل ما انطوت عليه من اسرار وبذلك
نستطيع ان نبني مجدنا ونعيد للأمة الاسلامية برفيع مكانتها.
إرسال تعليق