بقلم: الاستاذ جمال مهدي الهنداوي
/ الاستاذ بدار المعلمين ببغداد
هذه ذكراك يا ابا الأئمة ... عبره
من اعظم العبر، وعظة من ابلغ العظات، يعيدها علينا محرم من كل عام، يعيدها وكأنها
ذكرى فاجعة وقعت منذ عهد قريب، رغم مرور قرون عدة عليها، يعيدها علينا ليرينا كيف
ادى ذلك الصراع العنيف بين جيش الفضيلة والرذيلة او حزبي الحق والباطل الى انتصار
الحق والفضيلة باسمى صور الانتصار، والى انخذال المجرمين الذين اقترفوا هذه
الجريمة النكراء بالخزي والعار.
يعيدها علينا ليعلمنا بانه مهما
شط اعزار وبعدت الشقة بيننا وبين ذلك العهد، فان صدى صوت الحق، الذي هو صدى صرختك
المدوية يوم الطف وانت وحيد فريد اعزل تلك الصرخة التي هدمت صرح الباطل، وأبادت
كيان قوم خرجوا عن حدود النبل والشرف، سيظل ذلك الصوت مدوياً في الآفاق يدور مع
الزمن، ويمشي مع التاريخ الذي لم يعرف مثيلاً لهذه الفاجعة قط، في اخبار جميع
الامم على الاطلاق.
يا شهيد الطف هذه ذكراك. تعرض
علينا صور الشجاعة وقوة الجنان والتضحية اذ تخرج من مكة نحو العراق تلبية للدعوات
الموجهة اليك من المشايعين، ولكن عند وصولك تجد ان الامر قد انقلب في وجهك، واذا
باولئك المشايعين الذين استقدموك سيوف مشهورة عليك، واذا بمن رافقك من ابنائك
وحرمك واهلك واصحابك، وهم لا يتجاوزون السبعين، يغدون ضحية الغدر وضحية الاطماع.
ففي كربلاء يخر ابناؤك واصحابك
صرعى امامك في ميدان الخلود يستشهدون، ولكن ذلك عندهم احلى من الشهد واشهى من
السلسبيل. لانهم مع الحق وفي سبيل الحق، غير انك رابط الجأش مستقر في نفسك على
مواجهة الموت، كالطود لا يتزعزع، يمنعك إباؤك وشممك من النـزول على (حكم ابن
مرجانه) ثم اذا بالقوم غير عابئين لايهمهم سوى ان يحققوا لانفسهم متاع الدنيا
الزائل، نابذين كل شيء وراء ظهورهم، فلا محمد، ولا قرآن ولا شريعته الانسانية ولا
الضمير ولا الشرف، اجل لا هذا ولا ذاك يمنعهم من السير في طريقهم الملتوية، لتحقيق
اهدافهم الرذيلة، فيسقون الرضيع الظامئ الذي تخرج به اليهم برشق من سهامهم، بدل
ماء الفرات الذي يحولون بينه وبين آل محمد ليرووا ظمأهم بحر السيوف، فتعود به إلى
أمهِ مضرجاً بدمه، وانت مع كل ذلك امضى من السيف في عزيمتك. في سبيل المحافظة على
بيضة الاسلام وكيان النبوة وتراث الرسالة.
واذا بهذه الصورة التي تقابل بها
انت وآلك من قبل هؤلاء من ابشع صور اللؤم والضعة في الاخلاق. ثم اذا بك وحيد فريد
لا ناصر ولا معين، وسط قوم كانوا اللطخة السوداء في تاريخ الاسلام والمسلمين، واذا
بك تنادي ولا مجيب، وتستغيث ولا مغيث واذا لا تسمع الا نفسك مردداً:
ان كان دين محمد لم يستقم *** الا
بقتلي يا سيوف خذيني
ايها السبط الابي، ما اعظم ذكراك
! دروساً في كيفية الدفاع عن المبدأ والعقيدة، وتوضح لنا حقيقة اهل الضلال، وتصور
لنا يوم كربلاء الدامي المفجع في تاريخ الشهادة والشهداء. يوم سحقت بحوافر الخيل
جثث القتلى الابرياء ويوم علا رماح الكفرة المارقين رأسك ورؤوس اصحابك ويوم سبيت
مخدرات الهاشميين ليقدمن هدية الى يزيد الفاجر الفاسق.
ذكراك يا ابا الغرباء، رعاها
الله، يحتفل بها المسلمون اليوم في مشارق الارض ومغاربها، وكلهم يبكون مصرعك الذي
صار لهم الجذوة المتقدة التي تحفز الهمم للدعوة الى نصرة الحق والتسامي بالنفس
الانسانية الى ذرى العز والعظمة، وقد اضحت تلكم الذكرى مبعث الوحي، وذلك المنهل
العذب الزلال الذي يرتشف من كل شاعر او ثائر عندما يريد اخراج صورة صحيحة واضحة عن
المثل العليا والاهداف السامية، وهي ذلك الصراط السوي الذي يسلكه كل من يريد
الخروج على مغتصب او النهوض في وجه ظالم.
ذكراك يا ابا المعصومين نور وهاج
يعلن لمن ضربت على اعينهم غشاوة من صغار العقول وضعاف النفوس من الذين لن يتفهموا
سر فاجعتك الكبرى التي غيرت وجه التاريخ ان الحق حق وهو العلي وان كان المغلوب وان
الباطل باطل مهما كثر عدده وعدده وان كان الغالب.
وانك انت ذلك الحق، وانك انت ذلك
الخالد. وانك انت ذلك النبراس الذي يجب ان يهتدي به كل انسان مهما كان دينه وجنسه
اذا اراد السعادة واراد الخلود.
تمضي الدهور ولا نرى إلاّك في ***
الدنيا شهيد المكرمـات جليلا
وكفـاك تعظيماً لشأوك موقف *** امسى
عليك مدى الحياة دليلا
ما ابخـس الدنيا اذا لم تستطع *** ان توجد الدنيـا اليك مثيـلا
بسمائك الشعراء مهما حلقـوا *** لم
يبلغوا من الـف ميـل ميلا
ذكراك يا بن حيدرة تعرض علينا
صوراً ناصعة للاباء والشمم، والعمل في طلب الحرية ومعاندة الجور ونبذ الذل
والاستبداد وعدم المبالات بالموت في سبيل تحقيق المثل السامية وبلوغ الاهداف
العالية.
وستظل هذه الذكرى مهما دالت الدول
وثلت العروش منشورة اللواء يبزغ نورها من جديد كلما بزغ هلال محرم ستظل دائرة مع
الفلك تعلم كيف يجب ان يكون الذود عن العقيدة والدفاع عن الكرامة وتهدي كل انسان
طريق السعادة وطريق الخلود.
فسلام عليك يا مثال
الاباء والشمم وعلى آلك واصحابك والف سلام.
إرسال تعليق