بقلم: توفيق الفكيكي / صاحب كتاب الراعي والرعية
أيها السادة: إن لكل امة نصيباً من الشهداء الخالدين كما ان لكل مجتمع من المجتمعات نصيب من المجرمين الساقطين، وبهذا الميزان توزن قيم الأفراد الروحية المثالية وبهذا المقياس تقاس خصائص الشعوب وحضارات الأقوام، فلما كانت صفحات الجهاد لامعة بنور الحق ارجوانية قانية بدم الشهداء كانت دليلاً ناطقاً على سمو الأمة الذاتي، وحجة بليغة على قوتها الروحية وتربيتها الاستقلالية وجدارتها بالوصاية على غيرها من الأمم، وبذلك نطق القرآن الكريم ((وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا)).
فالأمة الصالحة التي ترث الأرض هي التي ترخص الدماء الزكية في بناء صروح مجدها الشامخة، وتشيد كيان عظمتها السامقة في نهضتها التحررية ضد الطغيان المتعسف وبذلك يتم توحيد صفوفها ويسود العدل فيها وينتصر الحق وتعتز الشريعة وتقوى في المجتمع وحدة الإخاء المستندة على أساس العدل والحق والمساواة والحرية الصحيحة ويتجلى لنا هذا المبدأ القويم، في تضحية صاحب الرسالة الغالية من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمه أبي طالب (عليه السلام) عندما ظن فيه أنه خاذله ومسلمه إلى المشركين من قريش وانه قد ضعف عن نصرته فقال له: ( يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن اترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته) فقال له عمه أبو طالب ( اذهب يا ابن أخي فقل ما احببت فوالله لا اسلمك بشيء ابداً...) وبهذا الايمان العميق والعقيدة السامية استطاع الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ان ينشر مبدأ السلام العالمي الذي جاء به الإسلام بعد أن خمدت شوكة المشركين واندحرت الوثنية، وانهزمت اليهودية، وانخذل سلطان العقائد الجاهلية وتحرر العرب من ربقة الذل والخنوع والاستسلام الى أهواء المستبدين الاشرار وفي العصر الأموي قد سادت الارستقراطية البغيضة في المجتمع الإسلامي وفي الوسط العربي وفشت تقاليد القوميات الأجنبية الدخيلة، وكانت النفسية العربية قد تأثرت الى حد بعيد في هذا العهد بنزعات شتى فاندرست من جرائه معالم الحق وطمست منائر الشريعة الغراء المتألقة وكادت العقائد المطموسة كالوثنية واليهودية والصابئة وغيرها تعيد سيرتها الأولى ويتطاير شرر فتنتها في انحاء جزيرة العرب وبلاد الإسلام لولا موقف شهيد آل لبيت الحسين عليه السلام)، واليكم نبذة من كتاب له الى الطاغية معاوية وهو من احتجاجاته الصارخة على تصرف البلاط الأموي فقال (عليه السلام):
انظر لنفسك ولدينك ولأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) واتق شق عصا هذه الأمة وان تردهم الى فتنة، وأني لا أعلم فتنة اعظم على هذه الأمة من ولاية الأشرار عليها، ولا أعظم نظراً لنفسي ولديني ولأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل من أن اجاهرك. فإن فعلت فإنه قربة الى الله وان تركته فإني استغفر الله لديني وأسأله توفيقي لإرشاد امري)).
وهذه الجاهرة التي جاهر بها سيد الشهداء عليه السلام) صاحب البلاط الأموي وهو في بدء قوته وجبروته وطغيانه تصور لنا صوت الحق وقوته، وصوت الحرية العربية الحمراء الصارخ في وجه الارستقراطية الكريه وسيبقى دويه يجلجل في فم الزمان بجلائل البطولة الهاشمية الخالدة ما بقي الدهر الخؤون وتعاقبت الأجيال.
ذلك صوت الشهداء الخالدين في الدفاع والاستماتة في سبيل كرامة الشعب وحريته خوفاً من أن تغصبها قوة المستبدين الغاشمين، والسهر على حفظ عقائد الأمة السليمة من أن تهان وصيانة تقاليدها القومية الصحيحة، ومن ثم لأجل خلاص أفراد الأمة الآمنين من الإرهاب والأحكام الجائرة والانتصار الى المثل الأخلاقية الرفيعة. وهذه الأهداف الحسينية قد صرح بها عليه السلام) في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية عند حركته إلى الكوفة فقال له: (وأني لم اخرج اشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في امة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير سيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن رد علي هذا، اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين)) ولهذا كان يقول ((لابد ان اقتل في سبيل الحق ولا استسلم للباطل)).
ايها السادة: ان نهضة سيد الشهداء عليه السلام) كانت صراعاً بين الحق المقدس وبين القوة الفاجرة الأثيمة، وقد وضع برنامجها بكلمته الخالدة حينما اعتزم المسير من البطحاء:
((ألا من كان منكم باذلاً فينا مهجته، موطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإني راحل مصبحاً ان شاء الله)).
فان هذه الكلمة البليغة الواضحة الصريحة هي ركيزة المبدأ الإصلاحي لكل مصلح صادق في العالم يريد ان يسلك بأمته طريق الإصلاح الوعرة الخشنة لنصرة الفضيلة المضامة والحق المظلوم. والعدل المأسور بيد الأشرار تلك الكلمة الغالية الصريحة التي لا يقولها إلاّ مصلح ناصح لربه وعقيدته ولا تعيها إلاّ القلوب العامرة بالإيمان الصحيح، ولا تفقه معناها إلاّ النفوس المؤمنة بقدسية الحق، والمطمئنة بعقيدتها الراسخة.
وإن بذل المهج الغوالي في سبيل المبدأ السامي وتوطين النفوس الكريمة على لقاء الله لا يقوم به إلاّ الشهداء الأبرار والصديقين الأخيار وامثال اصحاب الحسين عليه السلام) الأطهار وأولئك قليل كما قال عليه السلام) في حومة الطف:
((ألا وان الدعي ابن الدعي قد ركز بين أثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وجدود طابت وحجور طهرت، وأنوف حمية ونفوس أبية على أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، إلا وقد اعذرت وانذرت، إلا واني زاحف بهذه الأسرة مع قلة العدد وكثرة العدو، وخذلان الناصر)).
اجل أيها السادة: قليل أولئك الذين يفرقون بين جمال الحق ونوره وبين قبح القوة وظلماتها، بل هم أقل من القليل أولئك الذين يؤمنون بالحق كدين وروح وقلب، وهو الثورة على عبادة السلطان الجبار، وثورة على عبادة الشهوات الخسيسة وعلى الذلة والمسكنة، والنهوض على دنيا الفساد والظلم، والفناء في خدمة العدل، والتمرد على السلطة المستبدة، والسياسة الفاسدة العابثة، وأولئك المؤمنون هم الشهداء حقاً..! الذين تبنى بدمائهم الزكية قواعد المماليك وتشاد على جماجمهم دعائم استقلال الشعوب وترفرف فوق هاماتهم الوية الحمد والحرية، هؤلاء الذين قال الله تعالى فيهم ((إن الله اشترى من المؤمنين انفسهم وأموالهم بان لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون)) وتلك هي الشهادة العالية في الحق، والإذلال الشنيع للقوة والجبروت إذ لا تنال الأمم استقلالها إلا بضحاياها المقدسة من الشهداء، ولا تسترد حريتها المغصوبة إلاّ بدمائهم الزكية الفوارة.
ولو رجعنا الى الدروس البليغة التي القاها سيد الشهداء عليه السلام) في خطبه الجبارة يوم عاشوراء على مسامع الطغام اللئام، وامعنا النظر في غرر انصاره العظماء وتحلينا درر المعاني في خطب ( الحوراء) زينب الكبرى التي قالتها في قصر الإمارة في الكوفة وفي البلاط الأموي في الشام لرأينا كيف كان مصير الصراع بين الحق والقوة وأثرهما في النهضة الحسينية التحررية الخالدة.
يا أحباء الحسين عليه السلام) إن الواجب يقضي علينا ونحن في هذا الموقف الحزين أن نذرف الدموع السخية على مصائب الحرائر الهاشميات والعقائل النبوية ونمجد بطولة (الحوراء) زينب الكبرى وفي ذلك تطهير لقلوبنا وتهذيب لنفوسنا، لأن مصير الصراع بين الحق والقوة وبالأحرى بين الإسلام وبين نظام الحكم الجاهلي إذا لم نعبر عنه بالوثنية قد كشفت القناع عنه الحرة عقيلة آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) زينب الكبرى بعد واقعة الطف حيث انها شاهدت بأم عينها ذلك الصراع بين الرشد والغي في ساحة كربلا التي مشى فيها ابو الشهداء فرحاً جذلاً وبين اصحابه المغاوير غير هيابين بالموت الأحمر حباً بنيل الشهادة في نصرة الحق وحرية العقيدة، وقد أدركت الحرة ( الحوراء) في حياتها عاقبة القوة الغادرة الماكرة، ومآل الكيد والخيانة التي ارتكب جريرتها هؤلاء المجرمين الجناة من دعاة القوة المستهترة بقدسية الحق وحرمة البيت النبوي العظيم، وبعد أن انجلت الغبرة وانتهت المأساة التاريخية الموجعة بين جند الحق وجيوش الباطل سيقت الحوراء الى قصر الإمارة في الكوفة ومعها الخفرات عقائل البيت الهاشمي المطهر وهن في قيد الأسر وحر الحديد وقد أشهرت فوق رؤوسهن حراب المنتصرين الأوغاد وسيوفهم ، قال لها إبن مرجانة الزنيم بلسان الشامت – أرأيت صنع الله بأخيك الحسين والعتاة المردة من أهل بيته- فقالت له ((ما رأيت إلاّ جميلاً أولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فأنظر لمن الفلج ثكلتك أمك ياأبن مرجانة)) فقال لها إبن مرجانة الرذيل ( الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم وأكذب احدوثتكم) فأجابته بقولها البليغ ( إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا يا عدو الله )) ولما وصلت سبايا آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأدخلهم عبيد التاج الأموي وحفدة يزيد الأوباش على صاحب القردة والفهود، وبنات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يرسفن بالأصفاد والأغلال فهش يزيد حليف الخمور والفجور ثم أنشد:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ***** جزع الخزرج من وقع الأسل
فنهضت اليه ( الحوراء) وغضبت غضبتها العلوية وصرخت في وجه الجبار العنيد فقالت (عليها السلام) صدق الله كذلك حيث يقول: ((ثم كان عاقبة الذين اساؤا السوء أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن ((ثم قالت بعد كلام فصيح طويل ((فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا تدرك امدنا ولا تدحض عنك عارها، وهل رأيك إلاّ فند وأيامك إلاّ عدد، وجمعك إلاّ بدد يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين، فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة ولآخرنا بالشهادة والرحمة وهو حسبنا ونعم الوكيل)).
نعم ان كيد القوة الطائشة مهما كان شديداً، وان سعي الطغاة مهما كان قوياً، وإن جهد الظالمين الأقوياء مهما كان عظيماً، فليس باستطاعة هؤلاء الأدنياء أمحاء ذكر آل البيت الأطهار، ولا بإمكانهم القضاء على أمناء الوحي والذكر الحكيم، وليس بمقدور الأشرار أن يدركوا أمد الأحرار وشأو أنصار الحق الأبرار، أما أبناء عبد شمس انصار الباطل والظلم فقد تسربلوا بالعار وتلفعوا بالشنار والصغار ثم استحقوا لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
أيها السادة كان عرب الجاهلية يسمون هذا الشهر (بالمؤتمر) أي يأتمرون فيه للقضاء على المعتدين ولحل كل شيء مما يقع في السنة من الوقائع القضائية ويسمونه (المحرم) ايضاً لأنهم يحرمون فيه القتال وكانوا يعظمونه حتى أن الرجل منهم لو لقى قاتل أبيه أو قاتل أخيه لا يمسه بسوء ولا يكلمه، وقد زاد الإسلام تعظيمه ورفع من شانه وجعله من الأشهر الحرم المحترمة ، إلا ان السلالة السفيانية المجرمة وعبيد العصا من أراذل الكوفة، قد خرجوا على التقاليد العربية النبيلة والتعاليم الإسلامية الشريفة فخرقوا حرمة هذا الشهر الحرام وارتكبوا فيه افضع واشنع جريمة في تاريخ الإنسانية وهي الفتك بريحانة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) وبمهجة الزهراء البتول والتقتيل الذريع في ذراري الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي انصارهم اهل الشهامة والحفاظ ولله در القائل:
ويكبرون بان قتلت وانما **** قتلوا بك التكبير والتهليلا
وفي عاشر محرم قام الجناة من اهل الكوفة وهم عصبة يزيد وكلاب عبيد الله بن زياد القذر بنهب اموال الحرائر الهاشميات وسلب ثياب العقائل المصونات وقوضوا عليهن خيام عليا نزار وهن ودايع الهدى وكرائم الرسالة ثم الهبوا في اطرافها النيران ولم يكتفوا بذلك فانهم بعد ان مثلوا بالجثث الطواهر الزواكي حملوا رؤوس السادة الغطارف على الرماح مما تأباه طبيعة الوحوش الكاسرة وفي هذا يقول الاستاذ الأزري:
حملت بصفين الكتاب رماحهم **** ليكون رأسك بعدها محمولا
لو لم تنل احقاد حرب منك ما **** جرأ الوليد فمزق التنـزيلا
لو لم تنل احقاد حرب منك ما **** جرأ الوليد فمزق التنـزيلا
والان ايها السادة الكرام اقول بان الحسين عليه السلام) كان قد بسط منهاجه الاصلاحي في سبيل تجديد الاسلام والوحدة العربية لنجاة الامة من شر الانقسام وفتن العصبيات المردية ومعاطب الحميات المهلكة وان الصراع العنيف بين الحق الذي استشهد هو واصحابه في سبيل اعلاء رايته الخفاقة وبين سياسة القوة الوحشية التي سار على دستورها الاعياص والعنابسة من ابناء عبد شمس كان مستحكم الحلقات من عهد نصير الوثنية ابي سفيان الا ان فيوضات النهضة الحسينية المباركة لا تزال عنوان تاريخ العروبة والاسلام والصفحة التي تشع بالنور في سجل الاحرار وان ذكرى هذه النهضة ستبقى منار الليالي والابد الابيد عبقة فواحة الشذى في نفوس المؤمنين امثالكم من اشبال الحسين (عليه السلام) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إرسال تعليق