بقلم: الدكتور محمد مهدي البصير
في هذه المأساة التي نحتفل بذكراها اليوم بعد مرور ثلاثة عشر قرناً دروس عالية وعضات صادقة ينتفع بها كل من يدرس التاريخ ليتأثر بحوادثه ويسترشد بوقائعه ويتأدب بعبره وعظاته. وأود أن استعرض فيما يلي مثلاً من صفحاتها التي تعلمنا كيف نعتنق المبادئ السامية وكيف نستميت في الدفاع عن هذه المبادئ.
كان الحسين بن علي رضوان الله عليهما عندما عقد معاوية البيعة لإبنه يزيد مؤمناً أنه لابد له من الخروج بالسيف. وأن خروجه هذا مفضٍ لا محالة الى قتله – كان موقناً أنه لابد له من الخروج بالسيف لانه لا يجوز لرجل مثله أن يسكت على وجود رجل مثل يزيد في دست الخلافة الإسلامية ولإنه لا يجوز لرجل مثله أن يبرم بيعة كالتي عقدت ليزيد، بيعة اساسها المكر والدس وقوامها التهديد والمساومة وكان موقناً أن خروجه هذا مقضٍ لا محالة الى قتله لأنه كان عالماً إن الدين فقد سلطانه على الناس أو كاد وان المادة سيطرت على العقول والنفوس فأفسدت منها ما كان صالحاً وأضلت ما كان منها على هدى وان هذا شأنه أن يضمن الظفر الفاصل العاجل لخصومه إن التقى وإياهم في ساحة القتال، ولكنه مع كل ذلك ورغم كل ذلك كان مصمماً على هذا الخروج تصميماً لا يتزعزع مطمئناً اليه اطمئناناً لا تحوّل فيه ولا تبدّل، وأول مايدلنا على هذا خطبته التي القاها قبيل مغادرته مكة الى العراق فقد قال في مستهل هذه الخطبة (( خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما اولهني الى اسلافي اشتياق يعقوب الى يوسف..!)) وقال في ختامها (( فمن كان باذلاً فينا مهجته وموطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإني راحل مصبح ان شاء الله.)) ومعنى هذا أنه كان عالماً كل العلم بما ينتظر عارفاً كل المعرفة بما تخبي له الأيام ولكنه اقدم عليه غير هياب ولا وجل، وهذه هي الوقفة الأولى التي تعلمنا فيها هذه المأساة كيف نعتنق المبادئ السامية وكيف نستميت في الدفاع عن هذه المبادئ.
ومشت الحوادث والأيام سراعاً ونزل الحسين كربلاء وجاء ابن سعد بخيله ورجله فعسكر على مقربة منه وأخذ يجادله ويناظره في أمر البيعة ليزيد والرجوع الى الحجاز وما إلى ذلك وثقل هذا على ابن زياد فكتب الى قائده يلومه بأمره بإنهاء مشكلة الحسين في أقرب وقت مستطاع. وصدع القائد بأمره فزحف يريد الحرب عشية اليوم التاسع من المحرم وسأله الحسين ليلة واحدة يتزود فيها من الصلاة وتلاوة القرآن فمنحه بعد تردد وجاءت هذه الليلة فجمع الحسين أهل بيته وأصحابه وقال لهم: (( ألا وأني لا أعلم أصحاباً خيراً منكم ولا أهل بيت أبر وأوصل من أهل بيتي فجزاكم الله خيراً، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً ( أو قال ستراً جميلاً) وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي وتفرقوا في هذا السواد وذروني وهؤلاء القوم فإنهم لا يريدون غيري)) فثارت ثائرتهم وغلى الدم في عروقهم وأكدوا له بلسان واحد أنهم مصممون تصميماً قاطعاً على أن ينالوا شرف الشهادة تحت رايته، وهذه هي الوقفة الثالثة التي تعلمنا فيها هذه المآساة كيف نعتنق المبادئ السامية وكيف نستميت في الدفاع عن هذه المبادئ.
وفي تاريخ هذه المأساة صفحات أخرى عديدة من هذا القبيل اضرب عنها صفحاً لا رغبة في الإيجاز فحسب، ولكن اشفاقاً على القراء من ذكر الحوادث المحزنة والوقائع الدامية. ولكن حسبي ما تقدم برهاناً على أن هذه المأساة الهائلة تستطيع أن تعلمنا في كثير من أدوارها الرهيبة وأطوارها المفزعة كيف نعتنق المبادئ السامية وكيف نستميت في الدفاع عن هذه المبادئ.
إرسال تعليق