بقلم: السيد هادي الفياض - عميد كلية الفقه - رئيس تحرير مجلة النجف
في الجاهلية
عاشوراء يوم في ذاته من سادة الأيام إذا كان في الأيام سادة وعبيد نعم هو من الأيام في القسم المرتفعة ذات الرموز المتضمنة معاني تشبه أن تكون مثل بعض المعاني التي ترفع رجلاً على رجل في قيمة من القيم الخلقية أو العملية.
وفي الجاهلية قبل الإسلام كانت له ميزة ليست على الأيام المتواضعة فقط بل كانت له ميزة على شوامخ الأيام على هذه الأيام النبيلة التي كانت تمتعهم بالأمن والراحة والدعة والطمأنينة كانت له ميزة حتى على الأشهر الحرم- رجب وذي القعدة وذي الحجة والمحرم- وكانت ميزته – من جهة لغوية- إن امتاز هذا الأسم وغلب على كل عاشر من كل شهر فإذا اطلق لفظة (عاشوراء) مثل في الذهن هذا اليوم وحده دون غيره.
ولم تأت هذه الميزة اللفظية عبثاً وإنما جاءت من ميزة معنوية كانت هي التي رشحته لهذا الإمتياز وهي التي جعلته موعداً لصيام قريش وليس لقريش أن تميز يوماً بعبادة ما عبثاً أيضاً لأن قريشاً كانت ذات فكرة وكان قادتها يتحنتون ويمتازون بروحية اخضعت لهم رقاب العرب.
إذن فقـد كـان هذا اليوم ممتازاً في الجاهلية وكان رمضانهم يصومونه
ويخلون فيه من دنياهم الكافرة الى عقيدة يلغون فيها الحزازات والحقد والتطلع الى الدماء.
في الإسلام:
وقد أدرك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ( عاشوراء) في قدسيتها وصيامها ثم أقر صيام عاشوراء في الإسلام حتى كان ( رمضان) فنسخ رمضان صيام عاشوراء وعاد صومه بعد ذلك نافلة يأتيها من شاء مختاراً الصيام وعدمه.
في العهد الأموي:
ومضى بعد ذلك محترماً على هذا النحو حتى استباحته السياسة الأموية واستحلت منه ما حرمه حتى الجاهلية وبالغت في الإعتداء عليه بإعتدائها على رجل كالحسين في مكانه في نفسه وبيته وسيادته وموضعه الإجتماعي الفريد.
وأغرب ما في هذه السياسة أنها أرادت ان تستر فعلتها الشنعاء وتروج لخطتها فراحت توعز الى دعاتها ومأجوريها أن تضع الأحاديث داعية الى السرور والإكتحال والتطيب والتزين بأجد الثياب وأثمنها ذراً للرماد في العيون وتغطية لأثار الجريمة من ناحية وتدعيمها لملكها من ناحية أخرى.
وكان أول من جود تطبيق هذه الدعاية الحجاج بن يوسف الثقفي في عهد عبد الملك بن مروان وكادت هذه السياسة تنجح اذا تجفل الرأي الشامي الساذج الجاهل عن أهل البيت وتجنبوا حتى التسمية بأسمي الحسن والحسين إلاّ لمكروه يرونه لهذين الأسمين ولكن الحق أول الحقيقة من أمر أهل البيت حتى رمي لذلك الوسط الساذج.
أيام العباسيين:
وفي العهود العباسية الأولى كان هذا اليوم مسكوتاً عنه لأن التحرش له بسرور أو بحزن لا يلائم السياسة العباسية ذات الحدين ومعلوم انها كانت تعادي العلوية والأموية معاً.
ولكن العهد البويهي في نصف القرن الرابع الهجري تقريباً حرر هذا اليوم فأندفع كما ينبغي له حزيناً يكسو بغداد والعراق كله وخراسان وما وراء النهر والدنيا كلها يكسو كل ذلك سواداً ويخرج الناس كأتم ما تخرج الفجيعة الحية اهلها الثاكلين وها هو ذا التين تذره الأيدي والرماد يعفر الرؤوس وهي ذي الأسواق مقفلة والأضاحي مبذولة يطعم منها الناس وهاهي المواكب تسد الأفق وتسيل بها الشوارع صائحة نائحة وتلحق بالعهد البويهي العهود الحمدانية في حلب والموصل وما ولاهما.
العهود الفاطمية:
وغني عن البيان ان الفاطميين كانوا يماسون في ذلك آل بويه فمصر حيث يمتد ملكها في ايامهم كانت تخضع في يوم عاشوراء للمراسيم التي تخضع لها بغداد وكان الخلفاء ووزرائهم وقضاءهم يخرجون في المآتم حسب أصول مبسطة لولا ضيق العدد لما اختصرنا ولكنها على الإجمال تشبه شبهاً كثيراً ما نراه الآن من الشعائر التي تجري في العراق وإيران والهند.
في العهد الأيوبي:
أما صلاح الأيوبي فقد أحيا سنة عبد الملك وأستوحى السياسة الأموية في لقاء هذا اليوم بالأفراح والطيبات ولما تغلب على مصر محا التقاليد الفاطمية في هذا اليوم ونقل اليها ما تعوده من ذلك وما اليه بحكم ترتيبه وهواه فنهى عن البكاء وعاقب عليه.
فلسفة هذه المظاهر:
اما الشعائر الحسينية على نحوها التاريخي كانت كما هي واجبة في تلك العهود لأن مظاهرها كانت هي التعبير الذي تفهمه تلك العصور فيما ترمي اليه من خدمة الحق واعلان الحقيقة ولكنها كائن حي – من غير شك- قابل للإرتقاء والتطور وبحكم ذلك فهي بشكلها ذاك غير قابلة لمخاطبة الأفهام في هذا العصر لذلك كان من الواجب التحول عنها والإرتقاء بها الى ما يفهمه الناس اليوم والى ما يماشي الوعي الحاضر.
إرسال تعليق