بقلم: الشيخ جعفر الشيخ عباس
لو سبرنا غور نهضة أبي الشهداء أبي عبد الله (عليه السلام)، وأصحابه الخيرة الميامين وعرفنا مغزاها، لـوجدناها أعظم مدرسة سيارة، كتبها التاريخ وعرفها الى العالم الإسلامي –بل العالم البشري- إذ ترى فيها من مبادئ سامية وأهداف نبيلة، يجدر بالمصلحين والناهضين أن يهتدوا بهديها ويسيروا على نهجها إذ هي ترسم لهم خططاً للسير الى مبتغاهم (ونيل مقاصدهم) وغايتهم المنشودة حتى يكونوا قدوة خيرة.
وإن هذه المبادئ تريد وتحاول أن تسود الجميع العدالة الصحيحة بكل معاني فيها من إظهار الحق، وإزهاق الباطل، وانتقال الناس من هوة الجهل المطبق، وسوقهم الى الجادة الصحيحة التي سار عليها النبي الأعظم والأئمة الطاهرون.
ولكن هؤلاء لم يجيبوا دعوته، ولم يتبعوا نصحه ورشده، بل اقتفوا أثر ذلك الرجل المستهتر بدين الله، وشريعة رسول الله، حتى جاءهم العذاب الأليم وإلى الأبد، فسكنوا في زوايا الجحيم، تحيطهم نار ذات لهب، وغضب من الله تعالى.
فأنصبت عليهم في كل أوان ودقات السنة واللعنات.
ولكن تعال معي وأنظر الى هؤلاء الجماعة القليلة – الكثيرة- قد بذلوا جهوداً جبارة، ورخصوا نفوسهم الأبية – وما لديهم من النفس والنفيس- في سبيل إحياء الشريعة الإسلامية المحمدية حتى اكتنفتهم هالة من النور، وتولت عليهم الرحمة وأسكنوا أعلى عليين في الجنة، يتزاحمون مع رسول الله والنبيين في الغرفات، كانوا مصداقاً لهذه الآية الشريفة.
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والأنجيل والقرآن….
أهدافه السامية في كلماته:
وإن شئت اطلاعاً على مبادئ السبط (عليه السلام) الحية الرفيعة في نهضته الجبارة هذه، فعليك بكتب السير والتاريخ، إذ تجد ما بين دفتيها كلمات ناصعة تعلم المجتمع كيف يقوم ضد السلطة القائمة الغاشمة ولنذكر نموذجاً منها:
أبو الشهداء وخطبه:
لقد سجلت التواريخ ما لأبيه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) من الخطب الكثيرة البليغة في شتى المناسبات، تلقى على الناس لإرشادهم حتى تلقى أضواء على جميع نواحي حياتهم حتى يسيروا دوماً الى أمام ، ويعيشوا في رغد الدنيا ورفاه الآخرة.
والحسين (عليه السلام) شبل ذلك الفحل، والذي ورث من جده ينابيع العلم والمعرفة ومن أبيه آيات البلاغة والفصاحة، فأرتشف من معينها الذي لا ينضب، وأرتوى من نميرها العذب الذي لا يزول.
قال الشافعي في مطالب السؤول: إعلم إن مولانا الحسين (عليه السلام) كانت الفصاحة لديه خاضعة، والبلاغة لأمره سامعة طائعة، كيف لا يكون كذلك وهو أبن أفصح العرب والعجم، وسبط من أوتي جوامع الكلم، ثم أبوه الذي أذعنت له الحكم وأطاعه السيف والقلم، ولا غرو أن يحذوا الفتى والده، والولد بصفة من أبيه صلى الله عليه وعلى جده وأبيه وأمه وأخيه.
وقد تقدم من نثره في المقام الذي لا تتفوه فيه الأفواه من الفرق، ولا تنطبق الألسن، من الوجل والقلق، ما فيه حجة بالغة، على أنه أفصح من نطق.
قال في خطبة له (عليه السلام) عند مسيره الى العراق: الحمد لله، وما شاء الله، ولا قوة إلاّ بالله، خط الموت على ولد آدم، مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن مني أكراشاً جوفا، وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصابرين لن تشذ عن رسول الله صلى الله عليه وآله لحمته، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس، تقر بهم عينه، وينجز له وعده، ألا ومن كان فينا باذلاً مهجته، موطناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا فإني راحل مصبحاً إن شاء الله.
وقال (عليه السلام) بعد حمد الله والثناء عليه: إنه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون، وأن الدنيا قد تغيرت وتنكرت، وأدبر معروفها، واستمر حذاء، ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه حقاً.
فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برما.
ومن خطبته (عليه السلام) يذم أهل الكوفة بعد الحمد والصلاة.
تباً لكم وترحاً أيتها الجماعة، أحين استصرختمونا والهين، فإصرخناكم موجفين مستنقذين، سللتم علينا سيفاً لنا في إيمانكم، وحششتم علينا ناراً قد أججناها على عدوكم وعدونا، فأصبحتم إلباً على أوليائكم، ويداً عليهم لإعدائكم بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح بكم فيهم إلاّ الحرام من الدنيا أنالوكم وخسيس عيش طمعتم فيه من غير حدث كان منا، ولا أرى تقبل لنا فهلا لكم الويلات اذ كرهتمونا، وتركتمونا، تجهزتموها، والسيف مشيم والجأش كامن، والرأي لما يستحصف، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدبا وتساعيتم كتداعي الفراش، سحقاً لكم يا عبيد الأمة، فإنما أنتم من طواغيت الأمة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب ونفثة الشيطان، وعصبة الآثام، ومحرفي الكتاب، ومطفئي السنن، وقتلة أولاد الأنبياء، ومبيدي عترة الأوصياء، وملحقي العار بالنسب، مؤذي المؤمنين، مراق أئمة المستهترين، الذين جعلوا القرآن عضين {ولبئس ما قدمت لهم أنفسهم وفي العذاب هم خالدون} وأنتم أبا حرب وأشياعه تعضدون، وعنا تتخاذلون ، أجل ! والله الخذل منكم معروف، وشجت عليه أصولكم، وتأزرت عليه فروعكم، وثبتت عليه قلوبكم، وغشيت صدوركم، فكنتم أخبث ثمر، شجي للناظر، وأكلة للغاصب، ألا لعنة الله على الناكثين الذين ينقضون الإيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا، فأنتم والله هم.
ألا وأن الدعي أبن الدعي قد ركز بين أثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله، والمؤمنون جدود طابت وحجور طهرت، انوف حمية ونفوس أبية، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. ألا قد أعذرت وأنذرت ألا وأني زاحف بهذه الأسرة، مع قلة العدد وخذلان الناصر، وقلة الأصحاب.
الى أن قال: أما والله لا تبيتون بعدها إلاّ كريثما يركب الفرس حتى تدور بكم دور الرحى، وتقلق بكم قلق المحور، عهد عهده إليَّ أبي عن جدي، فأجمعوا أمركم وشركائكم، ثم أنظروا إلي ولا تنظرون.
إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة في الأرض إلاّ هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم.
هذه مقتطفات من خطب الإمام (عليه السلام) ترشدنا الى هدفه في قيامه ولكن هذا لا يسع لإبراز خطبه وكلماته لعل التوفيق يساعدني في إظهارها، بصورة خلابة أخاذة.
أبو الأحرار وكلماته:
لأبي عبد الله الحسين (عليه السلام) كلمات كثيرة توجد في مظانها:
قال: الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على السنتهم يحوطونه ما درت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون.
كلمة رائعة الصيت، تفوه بها الأفواه، وتلوكها الألسن، يرددها الجميع في كل يوم.
أجل ! إن الناس هكذا كما أفاد (عليه السلام) يبيعون دينهم بدنياهم ويميلون مع كل صيحة وناعق أينما كانوا وحيثما صاروا.
والدين عندهم لفظ بدون معنى يتمشدقون به به لإرتزاق معايشهم وإكتساب منافعهم الى غيرها من الكلمات، التي هي من نفحات نسيم شذى السبط الشهيد (عليه السلام) والتي فاح أريجها العالم، وقد جمع وشرح ما أثر عن الأمامين الحسن والحسين عليهما السلام، من الخطب والكتب والكلمات العلامة الكبير المرحوم الشيخ راضي آل ياسين وسماه بأريج البلاغة.
كما جمعنا ما خلف عن إمامنا علي بن الحسين (عليه السلام) من خطبه ورسائله وكلماته وأتبعناه بالشرح.
وأخيراً:
سيدي أبا الشهداء إن موقفك الجبار لهو موقف رهيب، قد خضعت أمامه أبطال العالم، وتاهت العقول والالباب عن حقيقته ومغزاه يذكر فيشكر عند الله والناس ما كرَّ الجديدان والى النهاية.
وإنه كدرس عظيم تقتدي به العالم أجمع من الملوك والعلماء وفلاسفة الشرق والغرب للسير على ضوئه، والأخذ من هدي نوره.
إرسال تعليق