بقلم: الشيخ وسام برهان البلداوي
عن ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق قال: (أنبأنا أبو القاسم علي بن إبراهيم وأبو الوحش سبيع بن المسلم وغيرهما عن أبي الحسن بن نظيف المقرئ أنا أبو الفتح إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن سيبخت البغدادي نا أبو بكر محمد بن يحيى بن العباس الصولي حدثني عون عن أبيه عن الهيثم نا ابن عياش عن أبيه قال خطب الحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهما وعبد الله بن جعفر صلوات الله وسلامه عليهما إلى المسيب بن نجبه ابنته الحسان فقال لهم إن لي فيها أميرا لن أعدو أمره فأتى علي بن أبي طالب فأخبره خبرهم واستشاره فقال له علي أما الحسن فإنه رجل مطلاق وليس تحظين عنده وأما الحسين فإنما هي حاجة الرجل إلى أهله وأما عبد الله بن جعفر فقد رضيته لك فزوجه المسيب ابنته)[1].
ولا شك عندنا في كذب هذه الرواية لعدة أسباب منها:
أولا: سند الرواية ضعيف وهي مما تفرد بها ابن عساكر
هذه الرواية شأنها شان أغلب الروايات التي نقلت لنا وصف الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه بأنه مطلاق أو مزواج مردودة وواهية من حيث إسنادها ففيها:
1: أبو الفتح إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن سيبخت البغدادي قال عنه الخطيب البغدادي: (إبراهيم بن علي بن الحسين بن سيبخت، أبو الفتح: سكن مصر وحدث بها عن أبي القاسم البغوي... وكان ضعيفا سيئ الحال في الرواية)[2].
وقال عنه الذهبي: (إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن الحسين بن سيبخت، أبو الفتح البغدادي الكاتب، نزيل مصر... قال الخطيب: كان سيئ الحال في الرواية، وقال مرة:ساقط الرواية. توفي بمصر في جمادى الآخرة)[3].
2: وفيها أيضا أبو القاسم علي بن إبراهيم الذي كان ينتسب إلى الإمام الصادق صلوات الله وسلامه عليه ولكنه مع ذلك كان منحرفا عن مذهب أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وسبب انحرافه هو أستاذه ومؤدبه أبو عمران الصقلي، قال الذهبي: (قال ابن عساكر: كان ثقة مكثرا، له أصول بخطوط الوراقين، وكان متسننا، وسبب تسننه مؤدبه أبو عمران الصقلي)[4].
وكان أبو القاسم هذا مبغضا للشيعة حيث أوصى قبل موته أن لا يحضر ولا يتولاه احد من الشيعة،قال الذهبي: (ثم قال: وكانت له جنازة عظيمة،وأوصى أن يصلي عليه جمال الإسلام أبو الحسن الفقيه، وأن يسنم قبره، وأن لا يتولاه أحد من الشيعة، وحضرت دفنه، توفي في الرابع والعشرين من ربيع الآخر سنة ثمان وخمس مئة، ودفن بالمقبرة الفخرية عند المصلى)[5].
ومثل هكذا شخص في قلبه كل هذا الحقد لا يُؤَمن أن يصدر منه حتى الكذب في سبيل الإساءة إلى الشيعة ورموزها.
3: وفيها كذلك أبو بكر محمد بن يحيى بن العباس الصولي الذي كان يكذب على شيخه الغلابي قال ابن حجر في لسان الميزان: (وذكر ابن السمعاني في ترجمة يحيى بن عبد الوهاب بن مندة نزيل بغداد عن يحيى سمعت عمي أبا القاسم يقول سمعت أبا الحسين ابن فارس يقول سمعت أبا أحمد بن أبي العشار يقول أبو أحمد العسكري كذب على الصولي مثل ما كان الصولي يكذب على الغلابي مثل ما كان الغلابي يكذب على سائر الناس)[6].
وكان الصولي مقربا من بني العباس ومؤدبا لأولادهم، وراوية لإخبارهم قال خير الدين الزركلي في كتابه الأعلام: (نادم ثلاثة من خلفاء بنى العباس، هم: الراضي والمكتفي والمقتدر. وله تصانيف، منها الأوراق في أخبار آل العباس وأشعارهم، طبع منه أشعار أولاد الخلفاء وأخبار الراضي والمتقي)[7].
وشخص له مثل هذا القرب من بني العباس لا يتوقع منه ان يروي عن الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه ما يعلي شانه ويرفع مكانته، لان السياسة العباسية ومن قبلها الأموية شددت على كل أتباعها ومحبيها ومؤيديها أن لا يذكر لآل علي صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فضل، ولا يعلو لهم ذكرٌ، وحري بالصولي وهو المقرب منهم والمنادم لطواغيتهم أن يجري مجرى سادته من العباسيين.
فسند يجمع بين أبن سيبخت الضعيف والسيء الحال في الرواية، وبين أبي القاسم علي بن إبراهيم الحاقد على الشيعة، وبين الصولي الذي كان يكذب على أستاذه، وأستاذه الذي كان يكذب على الناس وهو فوق كونه كاذبا كان مقربا عند الظالمين ومربيا للجائرين ومنادما للفاسقين يروي أشعارهم ويقص أخبارهم، فسند هذا حاله حري ان لا يؤخذ به ولا يُطمَأن إليه، ولا يركن إلى محتواه.
والرواية مع كل هذا وذاك ينفرد ابن عساكر في روايتها ولم نعثر عليها في مصدر آخر على الرغم من تتبعنا لها في أكثر من أربعة آلاف مصدر[8].
ثانيا: هل كان اسم ابنة المسيب بن نجبة الحسان؟
ذكرت الرواية ان الحسان هو اسم لابنة المسيب بن نجبة، وهو من الكذب الصريح حيث أجمعت أقوال المؤرخين واهل النسب على ان من تزوجها جعفر بن أبي طالب هي جمانة بنت المسيب بن نجبة وليست الحسان،وهي التي أنجبت له عون بن جعفر بن أبي طالب الذي استشهد مع عمه الحسين صلوات الله وسلامه عليه، قال الطبري: (وقتل عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وأمه جمانة ابنة المسيب بن نجبة بن ربيعة بن رياح من بنى فزارة قتله عبد الله بن قطبة الطائي ثم النبهاني)[9].
وقال ابن حبان: (وكانت أم عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب جمانة بنت المسيب بن نجبة بن ربيعة)[10].
وجمانة هذه كانت زوجة حذيفة بن اليمان رضوان الله تعالى عليه،قال محمد بن سعد في طبقاته: (جمانة بنت المسيب بن نجبة الفزاري تزوجها حذيفة بن اليمان وروت عنه أخبرنا خلاد بن يحيى حدثنا عمرو بن دينار قال أخبرنا حنظلة بن سبرة بن المسيب بن نجبة الفزاري أن عمته جمانة بنت المسيب كانت عند حذيفة بن اليمان وكان ينصرف من صلاة الفجر في رمضان فدخل معها في لحافها يوليها ظهره يستدفئ بقربها ولا يقبل عليها بوجهه)[11].
فيظهر ان القوم لم يراجعوا التاريخ قبل أن يكذبوا على الإمام الحسن والحسين عليهما السلام هذه الكذبة الشنيعة.
ثالثا: في الرواية أشياء مبهمة يصعب فهمها
اشتملت الرواية بالإضافة إلى ما مر على أشياء مبهمة ليس لها تفسير واضح، نشير إلى بعض منها فيما يلي من دون الخوض في تفاصيلها.
1: منها قول الراوي (خطب الحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهما وعبد الله بن جعفر صلوات الله وسلامه عليهما إلى المسيب بن نجبه ابنته الحسان) والمبهم في الأمر هو هذه المصادفة الغريبة أن يخطب فيها الثلاثة دفعة واحدة لامرأة واحدة، وكيف سمحت أخلاق سيد الشهداء الحسين بن علي صلوات الله وسلامه عليهما وهو سيد شباب أهل الجنة أن يخطب امرأة خطبها أخاه الحسن صلوات الله وسلامه عليه قبله[12]، أليس في هذا أذى للحسن صلوات الله وسلامه عليه؟
وبالتالي من يؤذيه يؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهل تريد هذه الرواية ان توصل القارئ من حيث لا يعلم إلى ان الحسين صلوات الله وسلامه عليه كان مؤذيا لأخيه الحسن صلوات الله وسلامه عليه فهو مؤذي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤذي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤذي الله سبحانه، فيستحق اللعن والطرد من الرحمة الإلهية.
فهؤلاء الوضاعون أرادوا أن يسيئوا للحسين صلوات الله وسلامه عليه ولأخيه الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه بطريقة ملتوية.
ثم كيف تناسى الخاطبون الثلاثة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي نقله البخاري وغيره عن ابن عمر انه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبيع بعضكم على بيع بعض ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب)[13].
وعن أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (قال إياكم والظن فان الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك)[14].
فان نسى عبد الله بن جعفر هذا الذي روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فان الإمامين الحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهما لا يمكن أن نتصور نسيانهما وهما المعصومان المنزهان عن كل نسيان ومخالفة لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونهيه.
2: ومنها قول الراوي: (فقال لهم إن لي فيها أميرا لن أعدو أمره فأتى علي بن أبي طالب فأخبره خبرهم واستشاره) فهذا عجيب بالمرة لأننا لم نسمع من قبل ولا في هذا الزمن أن يستشار أهل الخاطب من قبل أهل المخطوبة، والأعجب منه قدح أهل الخاطب بأولادهم أمام أهل المخطوبة، والأشد عجبا من ذلك كله هو تفضيل أبناء الآخرين على أبنائهم، فالرواية كما ترى مليئة بالعجائب وكل ما فيها مخالف للمتعارف عند كل البشر.
3: ومنها قول الراوي: (فقال له علي أما الحسن فإنه رجل مطلاق وليس تحظين عنده) فهل كان المسيب بن نجبة يعلم ان الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه مطلاق أو لا يعلم؟ فان كان يعلم بذلك فتصبح نصيحة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ومشورته بلا فائدة لأنه يشير ويوضح للمسيب أمرا هو يعلمه وليس بالجديد عليه فيكون بذلك أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه وحاشاه كمفسر الماء بعد الجهد بالماء، وهو ما لا ينسجم مع حكمة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه وبلاغته ورجحان عقله.
وأن كان المسيب بن نجبة لا يعلم بكون الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه مطلاقا، فكيف يقولون ان الحسن صلوات الله وسلامه عليه كان معروفاً بكونه مطلاقا، حتى ان أباه صلوات الله وسلامه عليه اضطر إلى أن يصعد المنبر ويقول مشتكيا من ابنه صلوات الله وسلامه عليه: (ما زال الحسن بن علي يتزوج ويطلق حتى خشيت أن يكون يورثنا عداوة في القبائل) أو(يا أهل الكوفة، لا تزوجوا الحسن بن علي فإنه رجل مطلاق) فكيف بقي المسيب بن نجبة غافلا لا يعلم مع كل هذه الخطب، مع ان المسيب بن نجبة كان يعتبر من أصحاب أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ومن المقربين إليه.
4: ومنها قول الراوي: (وأما الحسين فإنما هي حاجة الرجل إلى أهله) فلا نقدر على إيجاد معنى محدد ومفهوم من هذا القول فهل ان الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه أراد من كلامه أن يفهم المسيب بن نجبة بان الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه يمثل بمواصفاته كل ما يمكن أن تحتاجه الزوجة والأهل وعليه يكون جامعا لكل مواصفات الزوج المثالي وهذا المعنى بعيد لان الرواية في معرض الانتقاص من شخصية الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه، ولو كان هذا هو المقصود لما تأخر المسيب عن تزويجه من بنته.
أم أن الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه أراد من كلامه أن يوضح للمسيب بن نجبة بان الحسين صلوات الله وسلامه عليه هو رجل تقتصر اهتماماته بأهله على مقدار حاجته فإذا قضى من أهله حاجته تبدلت اهتماماته وتحولت عنهم إلى شيء آخر.
أو يكون المقصود هو ان الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه لا تستطيع الزوجة الاستفادة منه ومن وجوده إلا بمقدار ما تسد به حاجتها، ولعل المقصود أمر آخر إلا أن المقطوع به هو ان هذه الرواية المفتراة هي في صدد توجيه الانتقاص والمذمة إلى شخص الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه حاشاه من كل ما أفترته هذه الرواية عليه وعلى أخيه وأبيه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
5: ومنها قول الراوي: (وأما عبد الله بن جعفر فقد رضيته لك) ولا ندري لماذا لم يذكر لنا الراوي الأسباب التي أدت الى تفضيل عبد الله بن جعفر على الحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهما ولماذا اكتفى المسيب بن نجبة بقول الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه (فقد رضيته لك) بينما فصل القول في تعداد الأمور التي تنتقص من شخصية الإمامين المعصومين صلوات الله وسلامه عليهما.
ومع كبير فضل عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وارتفاع منزلته إلا أننا لا نجد أمرا واحدا يمكن أن يكون سببا لتفضيله على الإمامين صلوات الله وسلامه عليهما فأبوهما صلوات الله وسلامه عليه أفضل من أبيه بإجماع المسلمين وأمهما أفضل من أمه بل من جميع نساء العالمين وجدهما أفضل من جده بلا خلاف وهما سيدا شباب أهل الجنة وهو احد أفراد أهلها.
أما من حيث الكرم والشجاعة والنجدة والفصاحة وحتى الوسامة والجمال فلم ينقل لنا التاريخ بأنه أفضل منهما بل العكس هو ما قد نقل، وعليه يبقى الأمر الذي رجح كفة عبد الله بن جعفر على كفة سبطي النبي وريحانتيه مجهولا لا يهتدى إليه، ولعل الراوي تعمد في إبقائه مجهولا لعدم وجود ما يستدعي ذلك الترجيح.
ـــــــــــــ
[1] تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج27 ص262 في عبد الله بن جعفر ذي الجناحين الطيار.
[2] تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج 6 ص 131.
[3] تاريخ الإسلام للذهبي ج 27 ص 300.
[4] سير أعلام النبلاء للذهبي ج 19 ص 360.
[5] المصدر السابق.
[6] لسان الميزان لابن حجر ج 5 ص 428.
[7] الأعلام لخير الدين الزركلي ج 7 ص 136.
[8] صار الوصول إلى الكتاب في الوقت الحاضر والبحث عن الرواية أو الواقعة التاريخية سهل المنال بواسطة الوسائل الحديثة، فالباحث صار يجد آلاف الكتب مودعة وموضوعة على قرص مدمج CD)) فيحصل على ما يريد من معلومات.
[9] تاريخ الطبري ج 4 ص 359.
[10] الثقات لابن حبان ج 2 ص 311.
[11] الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد ج 8 ص 482.
[12] ودليل ان الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه قد خطبها قبل الكل هو تقديمه في الكلام حيث قالت الرواية (خطب الحسن والحسين عليهما السلام وعبد الله بن جعفر).
[13] صحيح البخاري ج 6 ص 136 في كتاب النكاح.
[14] صحيح البخاري ج 6 ص 136 ــ 137 كتاب النكاح.
إرسال تعليق