بقلم: الأستاذ عبد الرزاق الهلالي
كانت مأساة كربلاء التي استشهد فيها سيد الشهداء الإمام ابو عبد الله الحسين عليه السلام) صفحة سوداء في تاريخ العروبة والإسلام.
ونظراً لما حفل به موقف الإمام الشهيد وأصحابه الأبرار من صور البطولة والفداء والإستماتة في سبيل الحق والعقيدة والواجب.
ولما كان ابن عمه (مسلم بن عقيل) رسوله الى الكوفة في مقدمة من استشهد دفاعاً عن الحق، فها نحن اولاء نعرض في هذه الرواية القصيرة صورة عن مهمة هذا الرائد الجليل منذ أن بدأت حتى انتهت بقتله ورمي جثته من أعلى قصر الإمارة في الكوفة بأمر واليها عبيد الله بن زياد وإليكم القصة:
المذيع (الراوية): لما تناقلت الأنباء وفاة معاوية بن أبي سفيان، استنشق الكوفيون روح الأمن وأبصروا بصيصاً من نور الإمامة فعزموا على أن يكتبوا إلى الحسين عليه السلام) لا سيما بعد ما عرفوا أن يزيداً قد تولى الأمر بعد أبيه، وأن الحسين عليه السلام) قد خرج الى مكة المكرمة. وهاهم سراة الكوفة وقادتها مجتمعون للتداول في الأمر قبل فوات الأوان. وها هو ذا أحدهم يتكلم:
سليمان بن صرد الخزاعي – بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وبعد فأن معاوية قد هلك وأن حسيناً قد تقبض على القوم ببيعة وقد خرج الى مكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه. فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدوا عدوه فأكتبوا اليه. وإن خفتم الوهن والفشل فلا تغروا الرجل في نفسه..!
(اصوات من الحاضرين) . إنا نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه..!
سليمان – فلنكتب إذن رسالة الى الحسين عليه السلام) نستحثه فيها بالقدوم الينا فقد بلغ السيل الزبى..!!
(أصوات) أكتب بارك الله فيك..!
سليمان – إذن اسمعوا..!
بسم الله الرحمن الرحيم
للحسين بن علي عليه السلام) من سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر وشيعته المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة. سلام عليك فأنا نحمد الله الذي لا إله إلاّ هو.
أما بعد فالحمد لله الذي قصم ظهر عدوك الجبار العنيد، الذي انتزى على هذه الأمة فإبتزها أمرها وغصبها فيئها وتآمر عليها بغير رضى منها ثم قتل خيارها واستبقى شرارها وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها فبعداً له كما بعدت ثمود انا ليس لنا امام فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق.
والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه الى عيد ولو بلغنا انك قد أقبلت أخرجناه حتى نلحقه بالشام ان شاء الله).
سليمان- يجب ارسال هذه الرسالة في الحال.
الراوية ( ثم أخذت كتب الكوفيين تتوارد على الحسين عليه السلام) حتى اجتمع لديه ما يربو على العشرة آلاف رسالة فلم يسعه السكوت فكتب اليهم أجمع، صورة واحدة فوصلتهم وهم مجتمعون فدار بينهم الحوار التالي):
(بسم الله الرحمن الرحيم: من الحسين بن علي الى الملأ من المؤمنين والمسلمين. أما بعد فإن هانياً وسعيداً قدما علي بكتبكم وكانا آخر من قدم علي من رسلكم وقد فهمت كل الذي قصصتم وذكرتم وكانت مقالة جلكم انه ليس علينا امام فاقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق والهدى..!!
وأنا باعث اليكم بأخي وأبن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل فإن كتب إليّ انه اجتمع رأي ملأكم وذوى الحجىوالفضل منكم على مثل ما تقدمت به رسلكم وقرأت كتبكم فإني اقدم عليكم وشيكاً ان شاء الله. فلعمري ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات الله والسلام).
مسلم في الكوفة :
الراوية: (( وعندما وصل مسلم بن عقيل عليه السلام) الكوفة نزل في دار المختار الثقفي فأنثال عليه أهل الكوفة ولاث به حماة المصر وكماته (( زرافات ووحدانا، مرحبين برسول الحسين عليه السلام) حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً. ولما اجتمع لديه سراتهم وقادة الرأي فيهم قال مسلم)
مسلم- أيها المؤمنون الأبرار. إن أبن عمي سيجيبكم الى ما تريدون إن لزمتم العهد وتدرعتم بالصبر على مكافحة اعدائكم. وأني لأمل أن يكون هذا الهتاف والترحيب صادراً عن طمأنينة بالتفاني في نصرة الحق..!
عابس بن شبيب الشكري- إني لأخبرك عن الناس ولا أعلم ما في نفوسهم وما أغرك منهم. والله احدثك عما أنا موطن عليه نفسي. والله لأجيبنكم اذا دعوتم ولأقاتلن معكم عدوكم ولأضربن بسيفي دونكم حتى القى الله لا أريد بذلك إلاّ ما عند الله..!
حبيب بن مظاهر- رحمك الله يا عابس قد قضيت ما بنفسي بواجز من قولك وانا والله الذي لا اله إلا هو على مثل ما أنت عليه..!
مسلم- إني ايها السادة أحمد الله تعالى على فضله وكرمه وسأكتب الى ابن عمي برسالة انقل له فيها ما رأيت منكم من طاعة وتلهف لقدومه عليه السلام) وها هي ذي الرسالة. (( بسم الله الرحمن الرحيم من مسلم بن عقيل الى الإمام الحسين عليه السلام) أما بعد فإن الرائد لا يكذب أهله وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشراً الفاً فعجل الإقبال حين يأتيك كتابي فأن الناس كلهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى والسلام))
في دار هاني بن عروة :
الراوية: لم يكن انصار بني أمية غافلين عن هذه الحركة بل كتبوا الى يزيد بالأمر وأخبروه بقدوم مسلم الى الكوفة ومبايعة الناس له. فأهتم بالأمر وأصدر أمره بتولية عبيد الله بن زياد على الكوفة فقدمها هذا من البصرة مسرعاً مخافة أن يسبقه الحسين عليه السلام) اليها فمسك زمام الأمور بيد صارمة وراح يتعقب اخبار مسلم بن عقيل متلهفاً للقضاء عليه.
ولما علم مسلم بقدوم هذا الطاغية رأى ضرورة الأنتقال من دار المختار الثقفي الى دار هاني بن عروة المرادي، وهناك في دار هاني التقى بشريك بن عبد الله الأعور الذي كانت له مع هاني صحبة ومواصلة وهو الآن مريض وقد بلغه ان عبيد الله بن زياد سيعوده للإستفسار عن صحته. وهنا يدور حديث بينه وبين مسلم.
شريك- ان غايتك وغاية شيعتك هلاكه فأقم في الخزانة حتى اذا أطمأن عندي اخرج اليه واقتله وانا اكفيك امره بالكوفة مع العافية..!
الراوية: ولم يكد ينهي شريك حديثه حتى يجيء من يقول ان ابن زياد في الباب فيقوم مسلم ويخفي نفسه ثم يؤذن لأبن زياد بالدخول.
ابن زياد- شافاك الله وعافاك يا شريك. أن شواغلي الكثيرة هي التي اخرتني الى هذا اليوم.
شريك: شكراً شكراً..!
الراوية: ( ثم لما اطمأن شريك ورأى أن الفرصة سانحة بدأ بإعطاء الإشارة لمسلم وذلك بعد أن أخذ عمامته من على رأسه ثم وضعها على الأرض ثم وضعها على رأسه وفعل ذلك مراراً ولكن بدون جدوى ولما يئس من خروجه أخذ ينشد بصوت عال:
ما الأنتظار بسلمى لا تحيوهـا **** حيوا سليمى وحيوا من يحييها
هل شربة عذبة اسقى على ظمأ **** ولو تلفت وكانت منيتي فيها
وان تخشيت من سلمى مراقبة **** فلست تأمن يوماً من دواهيها
ثم صاح بصوت عال. اسقوينها ولو كان فيها حتفي..!
عبيد الله بن زياد ( يخاطب هاني بن عروة) – إن ابن عمك يخلط في علته..!
هاني- إن شريكاً يهجر منذ وقع في علته وأنه ليتكلم بما لا يعلم..!
الراوية: (وهنا يخرج ابن زياد مودعاً ثم يخرج مسلم من مكمنه فيدور بين الباقين الحديث الآتي):
شريك- ما منعك أن تقتله ..؟
مسلم- بلغني حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ( إن الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن وكرهت أن اقتله في هذا البيت).
شريك- أما لو قتلته لجلست في الثغر لا يستعدى به أحد ولكفيتك أمر البصرة ولكنت تقتله ظالماً فاجراً..؟
في قصر الإمارة :
الراوية: (وأخيراً يتمكن ابن زياد بما بث من عيون وجواسيس أن يعلم بالمكان الذي يقيم فيه مسلم فألقى القبض على هاني بن عروة وسجنه لأنه لم يسلمه مسلماً. وخرج مسلم بن عقيل من دار هاني يتلدد في أزقة الكوفة لا يدري الى أين يذهب وقد بات وحيداً شريداً حتى انتهى به المطاف الى دار (طوعة) وكانت واقفة على الباب فاستسقاها جرعة من الماء فأعطته وبعد ذلك أخبرها بأمره وحيرته فأدخلته دارها وخبأته في مكان في الدار، فلما عاد إبنها (بلال) رآها تكثر التردد على ذلك المكان فاستراب في أمرها فأستفهمها عنه فأخبرته بجلية الأمر بعد أن أخذت منه العهد بعدم افشاء سر مسلم ولكنه قام مسرعاً الى قصر الإمارة ليخبر عن مكان مسلم كي يحظي بالجائزة. فأرسل ابن زياد قوة كبيرة للقبض على مسلم وبعد معركة حامية وقع في الأسر مثخناً بجراحه فأقتيد محروساً الى قصر الإمارة حيث ينتظره عبيد الله بن زياد. فلما دخل مسلم لم يسلم على ابن زياد وهنا يدور الحديث بين الحاضرين.
الشرطي- يخاطب مسلماً- ألا تسلم على الأمير ..؟
مسلم- انه ليس لي بأمير يا هذا..؟
ابن زياد- وهو يضحك. سلمت ولم تسلم فإنك مقتول.إيهاً يا ابن عقيل اتيت الناس وأمرهم واحد فشتت امرهم وفرقت كلمتهم وحملت بعضهم على بعض..!
مسلم- كلا لست أتيت لذلك. ولكن أهل المصر زعموا أن اباك قتل خيارهم وسفك دمائهم وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعوا الى حكم الكتاب..!
ابن زياد- ما أنت وذلك يا فاسق أو لم نكن نعمل فيهم بذلك وأنت بالمدينة تشرب الخمر..؟
مسلم- أأنا أشرب الخمر..؟ إن الله ليعلم أنك غير صادق وأنك تقول بغير علم وأني لست كما ذكرت وأن أحق بشرب الخمر من ولغ في دماء المسلمين ولغاً فيقتل النفس التي حرم الله قتلها، ويقتل النفس بغير النفس ويسفك الدم الحرام. ويقتل على الغصب والعداوة وسوء الظن وهو يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئاً…!
ابن زياد- ان نفسك تمنيك ما حال الله دونه ولم يرك أهله..!
مسلم- فمن أهله..؟
إبن زياد- أمير المؤمنين يزيد..!
مسلم- الحمد لله على كل حال رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم..!
إبن زياد- كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئاً..؟
مسلم- والله ما هو الظن ولكنه اليقين..!
إبن زياد- ستنال جزاءك..!
مسلم- اقضِ ما انت قاض يا عدو الله..!
( وهنا يلتفت مسلم الى عمر بن سعد بن أبي وقاص وكان جالساً يقول):
مسلم- ( إن بيني وبينك يا عمر قرابة ولي اليك حاجة ويجب عليك نجح حاجتي وهي سر..!)
عمر بن سعد- لا أقبل الإستماع اليك..!
ابن زياد- لا تمتنع يا هذا بل استمع الى حاجة ابن عمك..!
( يقوم بن سعد ويقف في زاوية مع مسلم فيوصيه بما يلي:)
مسلم- أريدك يا عمر أن تقضي من ثمن سيفي ودرعي ديناً استدنته منذ دخلت الكوفة يبلغ 600 درهماً. وأن تستوهب جثتي من ابن زياد وتدفنها وأن تكتب الى الحسين بخبري..!!
عمر بن سعد- يخاطب بن زياد غير محتفظ بما اسره ويقول: لقد أوصاني بكيت وكيت..!
ابن زياد – مخاطباً مسلم- لم يخنك الأمين ولكنك إئتمنت الخائن..! ولكن هيهات ( ثم يصيح بأعلى صوته) يا بكير بن حمران: اصعد به الى أعلى القصر ولتكن أنت الذي تضرب عنقه..!
الراوية: وهكذا انتهت حياة رسول الحسين عليه السلام) الى اهل الكوفة، ومات شهيداً، قبل أن يبلغ ابن عمه الإمام الحسين، تقلبات الأحداث ليكون على بينة من الأمر ولكن هيهات. فقد حكم القدر أن يقدم الإمام الحسين عليه السلام) الى العراق ويقضي شهيداً وأي شهيد..!
إرسال تعليق