بقلم: الشيخ حسن الشمري
رسالة الإمام الحسين عليه السلام
أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحلّ الرّحمة، بنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب خمر، قاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق، مثلي لا يبايع مثله[1].
في هذه الرسالة وضع الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام الأسس المتينة التي على ضوئها رفض كل ألوان الباطل: ((إنّا أهل بيت النبوة))
1 ــ ابتدأ الإمام عليه السلام بأول ميزة سامية، فبيت النبوة يشكّل المركز الفكري والعلمي الذي يبثّ كلّ أنواع المعرفة والعلم، والدليل:
قال تعالى: ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ))[2].
وقد اتسم بيت النبوة بالرفعة والسمو لينير الطريق، ويكشف كلّ ألوان الباطل.
وكما هو ثابت في سنن المجتمعات فإنّ أهل المصالح الضيّقة يكيدون للأمم بالذات التي انتهجت طريق الخير، فألف شيطان يتربّص بها ويريد أن يغويها.
وقد تربّص (بيت أبي سفيان الذي هو مأوى الشياطين) بالأمة الفتية، وأراد أن يركسها في الفتنة وكادت لولا بيت النبوة الذي رفعه الله عز وجل حتى يفضح البيوت الفاسدة.
وقد ضمّ بيت النبوة سيد الكائنات، وسيد الوصيين، وسيدة نساء العالمين، وسيدي شباب أهل الجنة.
ويبقى بيت النبوة رفيعاً على مرّ الدهور، ليكشف زيف الباطل، ويمزق سُدفَ البغي كيما يهبط بالأمة في مستنقع الرذيلة.
ثم إنّ بيت النبوة يتسامى ويحلّق ليتحدى طغيان الباطل، فلابدّ من مثال وقدوة ونموذج يكشف ما تحيكه شياطين الإنس والجن.
وبيت النبوة الذي أشار إليه المولى أبي عبد الله الحسين عليه السلام كان مهبط الملائكة في مقدمتهم جبرائيل عليه السلام وكفاه فخراً وسمواً، وممّا لا شكّ فيه فإنّ نزول الملائكة وباستمرار يكمن فيه معانٍ كبيرة وعظيمة، منها القيم المثلى.
قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ))[3].
فالملائكة تتنزّل بقيم الشجاعة والطمأنينة والاستقرار ((أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا))[4]، ثم القيمة الكبرى: البشارة بالجنة ((وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ))[5].
فهذه المعاني الكبيرة ترفع البيت وتسمو به إلى مدارج الكمال الأخلاقي والعبادي، وكلما يرتفع البيت يسمو الإنسان، ويعدّ البيت أفضل مدرسة تهيّأ الإنسان للمجتمع، ويبقى البيت المدرسة الأولى التي تبني شخصية الإنسان بجوانبه كافة، بالذات الجانب الأخلاقي والاجتماعي.
إنّ البيت يساهم في بناء الأسس الأخلاقية والمعنوية فهو يدخل في صميم المشاريع الأخلاقية، ونحن بحاجة إليه بالذات في هذا الوقت الذي شحت المؤسسات، ومنها المدارس من القيم الأخلاقية.
وكان بيت النبوة مفعماً بالمعاني السامية، فالزهراء (عليها السلام) كانت تعلّم الإمامين منذ الصغر ((صلاة الليل))، وكيفية التعامل مع الناس، والجلوس مع الكبار، لاسيّما مع سيد الكائنات محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه المعاني الجليلة حفرت موقعاً في قلب الإمامين عليهما السلام فكانا يصدران عنه في كل حين، ويظلّ التوجيه في السنوات الأولى الحجر الأساس في استقامة الإنسان، وتربّى المولى أبو عبد الله عليه السلام في أحضان النبوة والإمامة، وتشبع قلبه بعبقهما، فكيف يهادن ويسلم القيادة إلى الأذلاء من بني أمية، وقد حاول بنو أمية أن ينالوا من بيت النبوة، وإذا كنا نعتبر وقلما نعتبر، فدولة بني أمية، وبني العباس أتوا بكيدهم، وألقوا بحبالهم وعصيهم، فسحروا أعين الناس واسترهبوهم.
ولكن خسئت محاولاتهم، وارتدّوا صاغرين.
لقد حاول حكام بني أمية وبني العباس النيل من البناء الشّامخ الذي قام على أسس التقوى.
وفي نظري فإنّ محاولات حكام بني أمية وبني العباس هي الأخطر من نوعها في تاريخ الأمم، فقد أرجعوا الأمة إلى الجاهلية الأولى.
يقول طه حسين: ((وعاد العرب في عهد بني أمية إلى شر مما كانوا فيه في جاهليتهم من التنافس والتناحر القبلي))[6].
إذ لم يتعرّض دين مثلما تعرض الإسلام إلى محاولات تحريفية وتخريبية جرت على أيدي من يدّعي الإسلام وهو منهم براء.
إن أخطر وسيلة يمكن أن تنطلي على الناس هي ((الدين))، فإنّ من يتلبّس بالدين يمكن أن ينفذ ويحقق مآربه حتى إذا نفذ يترك أثراً سيئاً للغاية لأنّه يمسّ المقدسات، والناس بطبيعتها تحترم المقدسات، وتؤمن من يأتي عبرها، لذا فهي تصدق من يحمل مسوح الإيمان.
ولكن الويل إذا انكشف الواقع، فإنّ أول الضحايا هو الدين.
على كل حال فإنّ بيت النبوة الذي أشار إليه الإمام الحسين عليه السلام يعدّ العامل الأول في رفض كلّ ألوان الباطل.
والإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام عندما يورد عبارة ((إنا أهل بيت النبوة)) فهو الأولى في تحمّل مسؤولية الحفاظ على الدين (فصاحب الحمل أحق بحمله).
2 ــ ثم إنّ الإمام الحسين عليه السلام هو الثمرة من الشجرة الطيبة الثّابت أصلها، فمن الطبيعي أنها تحمل خصائص الثبات والأصالة والطيب، فلا يمكن أن تشذ قيد أنملة.
3 ــ وطالما الإمام الحسين عليه السلام من أهل بيت النبوة، فليس هناك من يدانيه في هذه المرتبة فهو الأحق والأجدر في الدفاع عنها وتَحمّل ما يخصّ الرسالة المحمدية، وعليه تقع مسؤولية الدفاع عن هذا البيت الرفيع الذي خصّه الله عز وجل بمزايا فريدة.
4 ــ والإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام عندما ينسب نفسه إلى بيت النبوة إنما يريد أن يثبت حقيقة واضحة أنّ هذا البيت يأبى الذلّ والخضوع لأنه حلقة الوصل بين السماء والأرض، فهو الأمين في نقل وصايا السماء إلى الأرض، فكيف يهادن الباطل، ويساوم الظالم.
ثم إنّ هذا البيت هو الحلقة الأخيرة في سلسلة الأنبياء والأوصياء، فلابدّ أن يكون جامعاً للقيم الإلهية حتى يمكن أن يوصلها ويتواصل بها، وفي أقصى درجات الكمال.
5 ــ ثم من هو يزيد حتى يمكن أن يتواصل أهل البيت النبوي معه، ويمدّ جسور التفاهم، إنّ بيت أبي سفيان لا يفقه معاني العزّة والكرامة والشهامة، فهو استمرَأ الخسّة والضّعة واللؤم حتى عشعش في كل زواياه، الأمر الذي أدّى به إلى أن يكون نموذج الخسة والضعة.
لذلك فهو يريد للإمام أبي عبد الله عليه السلام أن يكون كما يريد، ويأبى الله ذلك للإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام لأنه تخرّج من بيت النبوة الذي جمع كلّ مزايا الشهامة والبطولة والرجولة.
قال تعالى: ((رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ))[7].
إنهم رجال، ونعم الرجال، فتأبى شهامتهم الخضوع حتى لو أتت الدنيا بأجمعها، والشياطين بخيلهم ورجلهم، وهؤلاء الرجال إنما انطلقوا في تحديهم لأنهم وجدوا الأساس المكين في البداية، وهي تؤثّر كثيراً في النتائج لأنّ النتائج تتبع أخس المقدمات.
وقد تلعب البداية في بعض الأحيان دوراً حاسماً في حجم النتائج، وكلما كانت البداية قوية تكون النتائج كبيرة وباهرة، وفي بعض الأحيان تفوق ((التصور)).
وهكذا ربط الباري عز وجل بين البداية السليمة والنتائج.
قال تعالى: ((وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا))[8].
6 ــ إنّ بيت النبوة لا يخرج إلا الرجال، قال تعالى: ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ))[9].
ومن سنن الحياة أنّ الكبير يبقى كبيراً، وذلك حتى يتسنى للآخرين اقتفاء أثره، ويملك القدرة على اجتياز العقبات، وكما هو ثابت فإنّ الحياة مطبوعة على الكدر ومفعمة بالصعاب، وما لم يجد الإنسان رجالاً أقوياء فلا يمكنه اجتيازها لاسيّما وأنّ هناك من يحاول استنساخ نهج أبي سفيان، ومعاوية، ويزيد.
فلابدّ من وجود الكبار حتى نعرف حجم ((الصغار))، إننا لا نعرف الجمل إلا عندما نرى ضدّه، ومن ثمّ لا نرى حجم الكبير إلا إذا عرفنا مقياس الكبر والصغر، ولا نعرفها ما لم نتطلع إلى ((قيم الشهامة والبطولة والشجاعة))، وهذه الخصال ارتسمت تماماً في سلوك أبي الضيم الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
فالإمام أعطى دروساً في ((جامعة كربلاء)) ظلّت تشعّ رواءً، وتلألأ في سماء البطولة والفداء والشهامة.
وهكذا تزينت سماء البطولة بهذه الدروس العملاقة التي رفعتها كربلاء.
((معدن الرسالة))
هو الموضع الأصيل للرسالة المحمدية، فالمعدن هو الأصل.
وبحق فإنّ بيت النبوة هو الموضع الأصيل للرسالة المحمدية التي اكتملت به جميع الأديان من لدن آدم عليه السلام، وإلى رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
إنّ الموضع الذي تنطلق منه رسالة السماء لهو من أشرف وأطهر المواضع، فقد تعاهدها جبرائيل، وظلّلها ميكائيل، وعطّرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعبق النبوة، فجاءت الرسالة بأرفع صورها وأسمى معانيها لأنها قامت على أسس متينة.
ومن معدن الرسالة ينطلق الحق ليدحر الباطل، وما لم ينطلق الحق من معدنه لا يستطيع أن يجابه قوى الشر، ثم إنّ الحق لا يكتسب قوته الحقيقية إلا من معدنه، فلكل معدن صفة به يتميز ومنه يأخذ صورته الحقيقية كشجر الزنور، فما لم ينبت في أرضه لن يعطي ثماره الحقيقية.
ولن تنبت الرسالة المحمدية إلا في معدن بلغ القمة في السمو والشموخ، حتى تعطي ثمارها الحقيقية، والمعدن تجسد في الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم،فاتسع ليتواصل مع أهل البيت عليهم السلام، ومن قبل اتصـل مع الأنبياء عليهم السلام.
قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))[10].
وهكذا اتصلت الحلقات من آدم عليه السلام، وإلى رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي أرفع وأقوى الحلقات، ثم اتصلت الحلقات لتتسلسل في الأئمة من آل البيت عليهم السلام، فكان المولى أبو عبد الله الحسين عليه السلام الذي أشرقت فيه، فكانت الحلقة التي أوثقت سلسلة الأنبياء وأحكمتها، ثم أوصلتها بالأئمة عليهم السلام.
جاء في (المراجعات) وبسند رفيع:
عن سلمان المحمدي، قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا الحسين بن علي على فخذه، وهو يلثم فاه، ويقول: ((أنت سيد ابن سيد، أنت إمام ابن إمام أخو إمام أبو الأئمة، وأنت حجة الله وابن حجته وأبو حجج، تسعة من صلبك تاسعهم قائمهم))[11].
وقد يتأكّد المعنى في قول رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ولده الإمام الحسينعليه السلام: ((حسين مني وأنا من حسين))[12].
وقد ثبّت المولى أبو عبد الله الحسين عليه السلام ((المعدن))، وأعطاه المعنى الحقيقي عندما رفض بيعة يزيد بن معاوية، والتي أراد يزيد من خلالها ((قتل الإسلام والإجهاز على قيمه))، ومن ثم إرجاع القيم الجاهلية التي قبرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد تهيأت أسباب الرفض للإمام الحسين عليه السلام، ومنها ((معدن الرسالة)) التي تمكنه من الوقوف بحزم وثبات، لذلك لا يمكن للإمام عليه السلام أن يستجيب ليزيد ((القرود والكلاب)).
إنّ مهادنة يزيد كانت تشكّل خرقاً فاضحاً لكلّ القيم الأصيلة، ومنها ((معدن الرسالة))، وهكذا فإنّ الإمام الحسين عليه السلام عندما رفض البيعة دلّل بشكل قاطع على أصالة ((المعدن))، وسموّ الرسالة.
وكما هو ثابت في علم الحضارة أنّ رفض الباطل والوقوف أمامه بقوة يُصغّره، وكلما يتسامى الرفض ويقوى يتصاغر الباطل ويندحر.
من هنا فإنّ رفض الإمام أبو عبد الله عليه السلام جعل باطل يزيد يتصاغر وينكفئ وينحسر عن ربوع الدولة الإسلامية ليعيش في أضيق مساحة، حتى كاد أن ينهزم في عقر داره ((الشام)).
لذلك دبّر ((يزيد)) مؤامرة التخلص من الإمام بأسرع وقت، وبشتى الأساليب، فأوفد الكثير، وأعطى المزيد، عسى أن يقمع الرفض، أو على الأقل ((يوقفه)). ولكن ظلّ الإمام الحسين عليه السلام ((يصدح بالحق، ويرفض بيعة يزيد))، مما أعطى زخماً متواصلاً للأمة لتستعيد عافيتها، وتثيب إلى رشدها.
ولعلّ انتقال الإمام عليه السلام إلى مكة يأتي في إطار ((الرفض الواسع)) الذي توخّاه الإمامعليه السلام، لأنّ مساحة الرفض كانت تشكّل أهمية استثنائية، ومن ثمّ تهيأ الأجواء لإسقاط العرش السفياني قبل أن يقدم على مجزرة كربلاء، وهكذا استبق الإمام الحسينعليه السلام وأخذ يصعد من وتيرة الرفض بعد أن أرسل مسلم بن عقيل (صلوات الله عليه)، وسوف نأتي إلى أحداثها. إنّ رفض البيعة من قبل الإمام عليه السلام وانتقاله إلى مكة بثلّة قليلة من أهل بيته يدلّل بوضوح إسقاط ((هيبة الحكم السفياني))، فإن الإمام عليه السلام كان يتحاشى ((السيف)).
ولم تكن عند الإمام عليه السلام ((النية)) لرفع السيف في وجه يزيد، وإن كان من حقّه ذلك لأنّ يزيد كان يتربّص به، وينوي القضاء عليه في كلّ حين، وليس أدلّ على ذلك من الرسالة التي وجّهها إلى ولاته في المدينة ومكة.
فيزيد عقد العزم في مواجهة الإمام عليه السلام عاجلاً أم آجلاً، وكان ينوي القضاء عليه في كلّ الأحوال حتى لو بايعه كما ذكرنا، فإنّ يزيد كان مشبعاً بروح الانتقام، وكانت وصية معاوية بن أبي سفيان مكتوبة على صفحة ((قلبه)) قبل أن تكون مكتوبة على الورق.
وكان أيضاً مدفوعاً ((بسكرة الملك)) التي أعمت بصيرته، فكان لا يرى إلا ملك أبي سفيان حتى لو أراق دماء جميع الأنبياء والأوصياء فالذي يجرأ على قتل سيد شباب أهل الجنة عليه السلام لا يتورّع من قتل جميع الأنبياء والمرسلين، وقد قتلهم عندما أقدم على قتل سيد شباب أهل الجنة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
وفي نظري فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما يذكّر السلاطين والأمة الإسلامية بقتل الإمام الحسين عليه السلام إنما يؤكد على حقيقة واضحة تكمن في انتهاك السلسلة النبوية، ومن جانب إذا كان الباري عز وجل يعدّ قتل الإنسان هو قتل الناس جميعاً.
قال تعالى: ((مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا))[13]، فكيف بقتل سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين عليه السلام؟! أنا أضع هذه الملاحظة أمام العالم.
((ومختلف الملائكة))
وهذه ميّزة أخرى اختصّ بها أهل بيت النبوة (صلوات الله عليهم أجمعين)، فاختلاف الملائكة على بيت الرحمة يجعله رفيعاً بمعنى الكلمة.
وفي مقدمة من اختلفوا إليه ((جبرائيل وميكائيل وإسرافيل))، والروايات تثبت أنّ جبرائيل نزل وبشّر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسموّ بيته.
قال تعالى: ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ))[14].
وكان جبرائيل يختلف إليه مراراً وحينما ولد المولى الإمام أبو عبد الله الحسينعليه السلام نزل جبرائيل باسمه من بارئ الكون، ومرّ على ((الملك فطرس)) الذي عطّل جناحيه، فتعلّق بين السماء والأرض، وعندما إلتقاه جبرائيل عليه السلام، قال له فطرس: أرى السماء تزينت ما الذي حدث؟.
قال جبرائيل: الآن ولد لمحمد المصطفى ذكر. قال: ما اسمه؟.
فقال جبرائيل: ((الحسين)).
فقال فطرس: لقد وقع في قلبي، أسألك بالله أن تطلب الشفاعة لي بحقه.
فنزل جبرائيل، وقصّ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتوسّل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإمام أبي عبد الله عليه السلام أن يرد عليه جناحيه، فرجعت[15].
قال الشاعر:
لمهدك آيات ظهرن لفطرس *** وآية عيسى أن تكلم في المهد
فإن ساد في أم فأنت ابن فاطمة *** وإن ساد في مهد فأنت أبو المهدي[16]
إنّ بيتاً تختلف إليه الملائكة لخليق أن يتألق في كل حين، ويسمو بقدر سمو المعاني التي كان ينزل بها جبرائيل وميكائيل.
ثم إنّ نزول جبرائيل عليه السلام وهو مَلَك قد أكتنز قوة هائلة.
قال تعالى في جبرائيل: ((ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ))[17]، فأيّ قوة كان يضخّها في بيت النبوة لاسيّما وأنّ جبرائيل كان ينقل ما يحدث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته (صلوات الله عليه)، وثبت أنّ حديث القوي يزرع القوة، ويلهم الإنسان، ويفجر فيه ينابيع ((القوى الروحية)).
وجبرائيل عليه السلام هو الملك الذي وكل بالأنبياء من لدن آدم عليه السلام وإلى نبينا محمدصلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الميّزة وفّرت لجبرائيل عليه السلام قوة إضافية، وهذه أسباب معنوية شكّلت روافد شقّت طريقها إلى بيت النبوة.
ومع مكانة جبرائيل عليه السلام وعلو منزلته كان ينزل ويهزّ مهد الإمام أبي عبداللهعليه السلام، ويخدمه حتى قال أبو نواس شاعر أهل البيت المفترى عليه كذباً وزوراً، قال وهو يمدح الإمام الرضا عليه السلام، وقد تقلّد ولاية العهد:
قيل لي: أنت أشعر الناس طراً *** في فنون الكلام البديهِ
لك من جوهر الكلام بديعٌ *** يثمر الدرّ في يدي مجتنيهِ
فعلام تركت مدح ابن موسى *** والخصال التي تجمّعن فيهِ؟
قلت: لا أستطيع مدح إمامٍ *** كان جبريل خادماً لأبيهِ[18]
وإذا كان البعض يضيق ذرعاً من نزول الملائكة على أهل بيت النبوة والرسالةعليهم السلام، والبعض يستعظم ذلك ويستكثرها، فإنّ الملائكة نزلت على مريم أم عيسى عليهما السلام، قال تعالى: ((وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ))[19]، والسيدة مريم عليها السلام كانت من النساء العابدات.
والملائكة عليهم السلام تنزل على الذين استقاموا، قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ))[20] فالملائكة بنصّ الآية وليُّ المؤمن في الدنيا والآخرة.
والسؤال هو: لماذا ذكر المولى أبو عبد الله الحسين عليه السلام ((الملائكة)) واختلافها؟.
لا شكّ أن نزول الملائكة وفي مقدمتهم جبرائيل عليه السلام يدلّ على أنّ بيت النبوة يجسّد العلاقة الوثيقة بين السماء، وبين بيت النبوة عليهم السلام. ثم إن نزول الملائكة واختلافها إنما يؤكّد حقيقة لا مراء فيها خلو البيت الطاهر من رجس الشيطان.
قال تعالى: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا))[21].
وإذا كانت أجواء البيت النبوي الذي ترعرع فيه الإمام (صلوات الله عليه) مفعمة بقوة جبرائيل عليه السلام وعبيره وقد استنشقه الإمام عليه السلام منذ الصغر فتشرب قلبه بحب الله عز وجل منذ الولادة، فكيف يجنح إلى المهادنة والمساومة؟.
وقد ثبت في علم النفس التربوي: إنّ الذي يتربّى طويلاً في أحضان الفضيلة والمثل السّامية لا يستمرئ القبائح، بل يستوحش منها ويظلّ يعشق كل ما هو حسن وجميل.
وثبت أيضاً: أنّ الذي يحتضن القيم المثلى في سنيّه الأولى يعشقها كبيراً، وتظلّ تكبر في عينيه كلّما تقدّم به العمر حتى إذا بلغ أشدّه يكون أشدّ ميلاً ليصبح مثالاً في تجسيدها.
وثبت أيضاً: أنّ الصفات الحسنة عندما يعشقها الإنسان إنما تنسجم مع الفطرة التي جُبلت على حب الخير، فبقدر عشقه تظهر الفطرة بأجلى صورها. ثم إنّ العشق ينشر الصفات في مساحات واسعة في كيان الإنسان، فتضحى كلّ خلية تنطق بالصفات، لذلك فإنّ الخالق جلّ وعلا يستنطق جلد الإنسان في يوم القيامة.
قال تعالى: ((وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ))[22].
ممّا يدلّ على اكتناز خلايا الجسم، كل ما هو قبيح وحسن، ولكن يبقى عشق الإنسان للصفات الطيّبة أعمق وأوسع لأنّ الإنسان جُبِلَ على حب الخير والفضيلة.
قال تعالى: ((فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ))[23].
فالنفخة الإلهية فيها ما لا يحصى من الخير، ومن جانب تشكّل دليلاً على ((فطرة الإنسان السليمة)).
ثم ذكر اختلاف الملائكة على بيت النبوة، ومعدن الرسالة، إنما يضع حداً لمن يتقوّل على أهل البيت عليهم السلام، فالبعض يريد من الإمام عليه السلام الدخول في بيت ((الوضيع)) يزيد بن معاوية.
عجباً لهؤلاء كيف يستسيغون الحديث ومهادنة ((يزيد القرود والفهود))، ويترعونه حديثهم بالتبريرات الواهية لبيعة من حرمت عليه الخلافة بنصّ الحديث النبوي صلى الله عليه وآله وسلم.
أخرج ابن مردويه، عن عائشة، أنها قالت لمروان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لأبيك وجدك (أبي العاص بن أمية): ((إنكم الشجرة الملعونة في القرآن))[24]، ومعاوية بن أبي سفيان منها.
جاء في تفسير الآية: ((وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ)) [25]، كما في تاريخ الطبري وشرح النهج: أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى أبا سفيان مقبلاً على حمار، ومعاوية يقود به، ويزيد ابنه يسوق به، قال: ((لعن الله الراكب والقائد والسائق))[26].
وروى العلاء بن حريز القشيري، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاوية: ((لتتخذنّ يا معاوية: البدعة سنة، والقبيح حسناً، أكلك كثير، وظلمك عظيم))[27].
وجاء في (تاريخ الطبري): إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يطلع من هذا الفج رجل من أمتي يحشر على غير ملتي. فطلع معاوية))[28].
ويكفي الحديث الذي نقله مسلم في (صحيحه): ((من خلع الطاعة وفارق الجماعة ميتته جاهلية))[29].
ومعاوية خلع طاعة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، ثم فارق الجماعة، فهو مات ميتة جاهلية، وعلى غير ملة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
جاء في (صحيح مسلم): عن ابن عباس: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإن من فارق الجماعة شبراً ومات، مات ميتة جاهلية))[30].
وجاء أيضاً: ((ليس أحد خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية))[31].
وعن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية))[32].
((بنا فتح الله، وبنا ختم))
وهذه ميّزة أخرى يثبتها الإمام (صلوات الله عليه)، فقد فتح الله عزّ وجل برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم أبواب الرحمة التي كانت موصدة أمام الأمم، فجاءت الرحمة، ونزلت البركات على الأمم التي عانت الجدب العلمي والفكري والأخلاقي ردحاً طويلاً، وغفت على الذلّ والمهانة، حيث كانت ((مذقة الشارب ونهزة الطامع، أذلة خاسئين، يتخطفهم الناس من كل جانب، فأنقذهم برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ))[33]، وجعل منهم أمة تتنفس عبير الكرامة والشموخ فصارت تفهم معاني الحياة وتستوعب أصولها الحقيقية تاركة وراءها الأحقاد والإحن الجاهلية.
ثم إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتح باب العلم والحكمة والآداب، قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ))[34].
ومن قبل فإنّ الأبواب كانت موصدة، والسبل غائمة، والحياة يلفّها الظلام، حتى بات الإنسان لا يبصر أبعد من قدميه، ومما يؤسف له أن الأمة الإسلامية بعد رحيل النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم أصيبت بقحط علمي مروع، بعد أن ضربها زلزال الانقلابات المتتالية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي استطاع بكل قوة أن يفجّر أنهار المعرفة في كل واد، وأن ينعش العقل الإسلامي الذي اعتراه الإعياء، وإلى تسميد التربة الإسلامية بما يساعدها على الإخصاب والازدهار، وذلك بإمداد لا ينقطع من المعرفة الشاملة، والثّقافة المتعدّدة الأنواع.
قال العلماء وأصحاب الفكر: ((إنّ الفتح الذي حقّقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أزاح الستار عن العقول، فكبرت كي تستوعب القيم التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبهذا الفتح والإنجاز أحدث نقلة نوعية في مسيرة الأمم، بعكس الكثير من القادة، فديدنهم الاستحواذ وتصغير العقول كي يُجَيرونهم للسطوة والقوة.
ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسّع الآفاق أمام العقول ممّا سهّل كثيراً في استيعاب المثل العليا والقيم السامية، وقد سلك إلى النفوس مسلكاً قلّ أن تجد له نظيراً إذ ربطهُ بالرحمة والرأفة.
قال تعالى: ((لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ))[35].
ومن ثم جاء إلى القلب فضخّه بالإيمان حتى يطمئن.
قال تعالى: ((الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ))[36].
والقلب كما هو ثابت في علم النفس التربوي لا يطمئن إلا بالإيمان، وهذا ممّا أشار إليه ((الكسيس كارليل)) في كتابه القيّم (الإنسان ذلك المجهول)، وبهذه الأعمدة الثلاثة أقام النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم شخصية الإنسان، وأعطاها قوة تستطيع بها أن تقف أمام أعتى قوة في العالم.
لذلك عندما نأتي إلى حياة الصحابة الأجلاء، فإنّنا نطلّ على عالم كبير مفعم بالصّفحات المضيئة.
يروى أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم من الأيام كان جالساً مع أصحابه، فجاء إليه أعرابي وأمسكه من ثوبه.
ثم قال: يا محمد إني بعتك فرساً ولم تدفع إليّ ثمنه.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هذه لي وقد خرجت إليك من ثمنها.
فقال الإعرابي: كلا، وإذا كان كذلك فهل عندك من يشهد؟.
تقول الرواية: فوقف ((خزيمة))، قائلاً: يا رسول الله أنا أشهد بأنك دفعت له الثمن.
فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من أين علمت؟ أحضرت ابتياعي لها؟.
قال: لا، ولكن علمت ذلك من حيث علمت أنك رسول الله، يا رسول الله إنني أشهد من حيث أعلم أنك صادق، أنت نبي الله، وقد برهنت لنا بالأدلة على ذلك، وبرهنت لنا بالمعاجز على صدق نبوتك، أتيتنا تخبرنا بأخبار السماء، وقدمت لنا البراهين والأدلة على ذلك، وقد صدقناك على أخبار السماء، فكيف نكذّبك على قول إعرابي (بوّال على عقبيه).
تقول الرواية: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((قد أجزت شهادتك وجعلتها شهادتين))[37].
إنّ هذه الصفحة المشرقة تترجم بوضوح قوة الإيمان وتكامل العقيدة، وكما هو ثابت في علم النفس التربوي: أنّ قوة الإنسان تنبع من إيمانه بعقيدته، فلو ملكها لامتلك ينبوع القوة التي بداخله، ثم لا تظهر شخصية الإنسان إلا عندما تجتمع الأعمدة الثّلاثة: الإيمان والأخلاق والحكمة.
ثم إنّ الإمام أشار إلى مسألة مهمة وهي ((وبنا ختم))، ويشير بها إلى القائم من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبما أنّ الله فتح أبواب الرحمة برسوله صلى الله عليه وآله وسلم فلابدّ أن يختمها بوصيّه القائمعليه السلام الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً وفقاً لقانون ((لكل بداية خيرة نهاية طيبة)).
جاء في (سنن ابن ماجة)، و(سنن الترمذي): قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد، لطوّل الله ذلك اليوم حتى يظهر رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي وكنيته كنيتي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً))[38].
فإذا كان الفتح الأول على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلابدّ أن يكون الفتح الثاني على يد وصيه عليه السلام.
ومن جانب توحي عبارة الإمام عليه السلام أنّ هناك انقلابات تترى على الأمة بحيث ترجع بها القهقرى يضرب بعضها رقاب بعض، كما جاء في (البخاري: باب الارتداد).
ولعلّ أخطر الانقلابات التي حدثت في التاريخ هي بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ جعلت الأمة تغرق في مستنقع البغضاء والإحن وتكون شيعاً بعد أن أقصت القادة الحقيقيين من آل البيت عليهم السلام، وشكّل هذا البعد مأزقاً حقيقياً جعلت الأمة تدخل في نفق مظلم، ولحد هذه اللحظة، وسوف تستمر المأساة إلى أن يظهر الإمام الحجة عليه السلام ويطوي صفحة المأساة التي ألمّت بالأمم.
إنّ المآسي التي تلفّ الأمم أخذت تتفاقم، وتأخذ حجماً مخيفاً منها أزمة الفقر، وهي من الأزمات الخطيرة التي تكلف الإنسانية ما لا يحصى من المشاكل بالذات المشاكل الأخلاقية، وقد حاولت الدول إصلاح هذا الخلل المتفاقم، إلا أنها فشلت إذ لم تمتلك المنهج الإصلاحي، وحتى لو امتلكت فإنّها لا تملك الإرادة، فالأغنياء (25 نفراً) في العالم لا يدعون أي خطوة إصلاحية في هذا الاتجاه.
وقد ظهرت الأزمة بوجهها القبيح في أفريقيا إذ في كلّ سنة يموت من الأطفال (9 ملايين)، وقد أخذ الرقم يتصاعد ليس في أفريقيا وإنما في كل دول العالم بما فيها الثريّة، مثل أمريكا، وهكذا تتجه الإنسانية نحو الهاوية، فلابد من مصلح يأتي حتى يطوي صفحة المأساة المروّعة، وبات العالم كله الآن بدأ يترقّب المصلح من آل البيت عليهم السلام، وهو القائم الحجة محمد بن الحسن (صلوات الله عليه).
صفات يزيد
ثمّ يردف الإمام عليه السلام، ويعرج على صفات يزيد، ويقول: ((ويزيد رجل فاسق فاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق))، لقد بيّن الإمام عليه السلام صفات يزيد المخزية التي لا تقبل التغطية والطلاءات، ولكنّ البعض يريد أن يغطي هذه الصفات المخزية فيمدح من تشربت كل خلاياه بالفسق والفجور، وأيّ شيء ترجو فيمن استبد به التعصب ومن رجل شبّ على الفسق والفجور، ويكرع كؤوس الخمر منذ فتح عينيه في بادية الشام، فيزيد تربّى على الفسق حتى تشرّب قلبه، ثم عشش في كلّ خلايا جسمه فبات لا يرى إلا الفسق ولا يتنفس إلا به، ثم هو صار يتباهى بما هو عليه حتى جعله عنواناً عريضاً لحكمه الغاشم.
جاء في (البداية والنهاية): ((وقد روي أنّ يزيد كان قد اشتهر بالمعازف، وشرب الخمر، والغناء، والصيد، واتخاذ الغلمان والقيان والكلاب، والنطاح بين الكباش، والدباب، والقرود، وما من يوم إلا يصبح فيه مخموراً، وكان يشدّ القرد على فرس مسرجة بحبال ويسوق به، ويلبس القرد قلانس الذهب، وكذلك الغلمان، وكان يسابق بين الخيل، وكان إذا مات القرد حزن عليه، وقيل أن سبب موته أنه حمل قردة وجعل ينقزها فعضته، وذكروا عنه غير ذلك))[39].
وجاء أيضاً: ((قال الطبراني: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا ابن عائشة، عن أبيه، قال: كان يزيد في حداثته صاحب شراب، يأخذ مأخذ الأحداث، فأحسّ معاوية بذلك، فأحبّ أن يعظه برفق، فقال: يا بني ما أقدرك على أن تصل إلى حاجتك من غير تهتك يذهب بمروءتك وقدرك، وتُشَمِّتَ بكَ عدوك، ويسيء بك صديقك، ثم قال: يا بني إني منشدك أبياتاً، فتأدّب بها واحفظها.
فأنشده:
أنصب نهاراً في طلاب العلى *** واصبر على هجر الحبيب القريبْ
حتى إذ الليل أتى بالدجى *** واكتحلت بالغمض عين الرقيبْ
باشر الليل بما يشتهي *** فإنما الليل نهار الأديبْ
كم فاسق يحسبه ناسكاً *** قد باشر الليل بأمر عجيبْ
غطّى عليه الليل أستاره *** فبات في أمن وعيش خصيبْ
ولذّة الأحمق مكشوفةٌ *** يسعى بها كل عدو مريبْ[40]
جاء في مبادئ علم النفس التربوي: ((إنّ الإنسان في الصغر بإمكانه أن يتعلم الكثير، ويصوغ شخصيته على وفق ما يتلقى، كما بيّنه ((برتراند رسل)) في كتابه (التربية)، ثمَّ إذا عاش في جو موبوء يحاول أن يثبت مقدرته على المحاكات، ويتقمّص من يهواه، ويظل الإنسان في الصغر يجنح إلى تقليد من يميل إليه بقوة حتى في نطق الكلام)).
وهذا ما كان من يزيد فقد تقمّص شخصية معاوية بكل سيئاتها مما جعله المثل الأعلى، وقدوته المثلى، والرجل الأوحد، فأضحت سيئات معاوية في عين يزيد مثلاً راح يجسّدها في حياته، ومما ساهم في هذا الأمر تسلّمه للخلافة، حيث وفّرت فرصاً للتعلق بسيئات معاوية.
وقد أعد معاوية يزيداً ليكون الخلف السيء ((للخط السفياني)).
وفي نظري فإنّ معاوية هو الذي أعدّ يزيداً، وصاغ شخصيته بهذا الشكل الهزيل، كي لا يقيم وزناً للمثل العليا، والشخصيات الرفيعة، وفي مقدمتهم الإمام المولى أبو عبد الله الحسين عليه السلام، وعبد الله بن عباس، وغيرهم.
فيزيد تشبّع بالرذائل سواءً كان في بيت معاوية، أو في بيت أخواله، لذلك انعدمت فيه عوامل التقييم السليم، وقواعد الأخلاق التي على أساسها يفرز السليم من القبيح.
وقد هيّأ معاوية الأجواء تماماً ليزيد حتى يحكم، ويقضي على الرموز العملاقة، التي ليس لها مثيل ولا غرابة فهو ينطلق من عقلية تشبّعت بقيم الجاهلية التي لا تعرف معنى للكبار ولا للقيم المثلى، ويزيد صفحة سوداء في تاريخ البشرية وليس في تاريخ الإسلام حسب، ولا أعرف أمةً هبطت كالأمة الإسلامية حين تولى عليها يزيد وقبعت في مستنقع الذل والمهانة.
ولكن بما أنّ معاوية كان يريد للبيت السفياني وللشجرة الخبيثة البقاء، فكان لابدّ أن يهيّأ الأسباب ليزيد حتى يتسنّى له القضاء على كل من يعترض سبيل الخلافة والسلطة الغاشمة.
وبالفعل فعندما تربّع يزيد، وصار ملكاً، أخذ على عاتقه الإجهاز على الشخصيات التي يحسب لها حساب، وفي مقدمتهم الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام، وعلى القيم التي تضخّ روح التضحية والفداء في عروق الأمة، وإذا كنّا نتحدث عن استهتار يزيد، فإنه تعمّد ذلك، وكان يرى فيه أسباباً للقضاء على هذه الرموز المرموقة، فالاعتراض من قبل الرموز يشكّل خرقاً لدستور آل أبي سفيان، وسلطة العائلة الحاكمة، فإذن لابدّ من أن تقمع هذه الأصوات، وتضرب بيد من حديد كل ذلك تحت ستار ((الحفاظ)) على وحدة المسلمين، وعلى خليفة المؤمنين، هذا ما كان يزعق به وعاظ السلاطين، ولكن أنّى للسكوت أن يكون والخطر قد أحاط بالأمة والدين.
لهذا فإنّ الإمام أبا عبد الله الحسين عليه السلام كان يرى السكوت عن يزيد تعطيلاً لحكم الله، ومخالفاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال أبو عبد الله الحسين عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من رأى منّكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل ولا بقول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله))[41].
إنّ الإمام عليه السلام ارتأى من واجبه القيام بوجه يزيد الفاسق، والقاتل للنفس المحرمة، ولكن قيامه جعل الكثير من الشخصيات التي تسكن المدينة تتريّث وتحجم لأنها كانت ترى فيه خرقاً لدستور آل أبي سفيان، وشقاً لعصا المسلمين[42].
ولكن ماذا يصنع المولى أبو عبد الله الحسين عليه السلام؟ وهو يرى يزيد قد جمع كل صفات الرذيلة، وهو يتربّع على عرش ((السلطة)) والمجتمع الإسلامي، يعاني من أزمات ((أخلاقية)) جعلت الكثير منهم ينسون الصلاة والصيام والخمس والزكاة، كما ذكرها ابن عباس لأهالي البصرة.
وكان ينبغي لأولئك النفر الذين اعترضوا سبيل الإمام التسليم لأمره، أو على الأقل التشاور معه في سبب الرفض، ولكن لم يجد الإمام عليه السلام تجاوباً وأيّ شكل من أشكال التعاون، وكأنّ يزيد كان ينطق عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ما بالهم يعترضون على الحق؟ ويسكتون عن الباطل، وكأنّه الحق؟.
أين أولئك الذين اعترضوا على وصيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقاموا باعتراضات مسلّحة أنهكت الأمة، وجعلتها مسرحاً يرتع فيه الجاهلون حتى إذا تربّع معاوية ومن بعده يزيد أسلسوا لهم القياد، وبلغوا فيه حداً لم يبلغوه مع رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيّد الأوصياء علي عليه السلام.
ويا ليتهم وقفوا عنّد التسليم، ولكنهم ألبسوه لباس الدين، فقالوا: إنّ يزيد خليفة، والخارج عليه خارج على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[43].
ثم أين أولئك الذين قاموا بوجه الإصلاحات التي نهض بها الوصي أمير المؤمنينعليه السلام؟ وهم يعلمون أنّ الإصلاحات التي نهض بها الإمام عليه السلام إنما تدخل في صميم العملية الإصلاحية، وقائمة على الدستور، وعلى حفظ حقوق الإنسان.
لقد غارت الألسن، وتلاشت الكلمات، وكأن لم تكن في قاموس العرب معاني العزة والكرامة والشهامة، ومقاومة الظالم، على كل حال فإنّ الإمام أبا عبد الله عليه السلام صنع خطاً أحمراً أمام كل سلطان جائر وأرسى مفاهيم سامية تتضمن مفردات الرفض ومقاومة كل من تسوّل له نفسه اللعب بمقدّرات الأمة والدين.
ثم حرك مشاعر الأمة لتنهض وتقاوم حتى لو كلفها حياتها، فحياتها لن تكون أعزّ من حياة ونفس سيد شباب أهل الجنة عليه السلام.
وهكذا يعلّمنا الإمام عليه السلام درساً في المقاومة أن لا سبيل إلى السكوت إذا كان السلطان فاجراً وجائراً، ومعلناً بالفسق، ويقتل النفس المحرمة، وأن لا مهادنة إزاء الباطل بحجة أنّ الدماء لها حرمة.
وإذا كنّا نعتبر من دروس كربلاء فإنّ من أعلى دروسها تحدّي الباطل حتى لو ملأ الدنيا، لأنّ الباطل مهما امتلك من أسباب القوة يظلّ هزيلاً أمام الحق وصغيراً أمام الرجال.
إنّ من القوانين الثابتة في ديننا ((المقاومة)) كلما كانت المقاومة أقوى وأعز نفراً ينكفئ الباطل وينحسر ذليلاً، وكلما اشتدت المقاومة وأخذت بأسباب النصر الإلهي تتضاعف قواها وتشتد عزيمتها ثم لا تأبه لأكبر قوة شيطانية.
ومن القوانين الثابتة كلما تقدم الحق خطوة يتراجع الباطل خطوتين، أما إذا تراجع الحق وضعف عن المقاومة فإنه يعطي للباطل جرعة فيأخذ القوة من تراجع الحق لا من الباطل، لأنّ الباطل لا يملك القوة الذاتية.
وهل هناك أقوى من الشيطان؟ فالشيطان يملك من الذرية بقدر عدد البشر أو أكثر كما في الروايات، وأطول عمراً إذ جاء مع أبينا آدم عليه السلام وهو حي، وقد يطول آلاف السنين، وعنده من التجارب ما لا تحصى، ويتحرك في الغيب، ولكن عندما يقابل المؤمن يقول الباري عز وجل: ((إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا))[44].
فإذن لا أحد أقوى من المؤمن ((إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ))[45].
وفي آية أخرى وباعتراف الشيطان: ((قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ))[46]. وهذا اعتراف صريح للشيطان بعدم قدرته على غواية المؤمن فيكفي دلالة.
ثم إنّ الباطل جبان في كل الأحوال، فهو لن ينازل المؤمنين إلا في قرىً محصّنة أو من وراء جدر، قال تعالى: ((لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ))[47].
ثم يقول المولى أبو عبد الله الحسين عليه السلام: ((وقاتل النفس المحرّمة)) أو في رواية ((المحترمة)). ويقصد نفسه المحترمة، لأن يزيد كان يقصد الإمام الحسين عليه السلام في كل الأحوال.
فيزيد عقد العزم على ذلك حتى لو بايع الإمام (صلوات الله عليه) كما أسلفنا، ولربما بيعة الإمام عليه السلام كانت تسهل كثيراً عملية القتل، لأنّ البيعة كانت تعطيه العذر الشرعي، وتوفّر غطاءً شرعياً يحلم به، فالبيعة معناها تمكين يزيد شرعياً من تولي زمام الأمور.
قد يقول قائل: وكيف يذكر الإمام عليه السلام القتل ويزيد بعد لم يتولى ذلك؟.
والجواب: إنّ إقدام يزيد على قتل سيد شباب أهل الجنة عليه السلام يفصح عن نوايا يزيد، ويكشف عمّا كان يبطنه إزاء الإمام عليه السلام.
وكيف لا يقدم وهو ابن آكلة الأكباد معاوية بن أبي سفيان الذي قتل سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، والكثير من صحابة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومئات الألوف من الأبرياء في الأنبار وهيت والمدينة.
يقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه (هموم داعية) وهو يصف حكم معاوية الجائر:
((كيف بلي المسلمون بأولئك الرؤساء؟.
كيف وصلوا إلى مناصبهم؟.
هل ناقش الفقهاء الطرق التي وصلوا بها إلى الحكم؟.
هل كانت هناك أجهزة تشير عليهم وتضبط أعمالهم؟.
هناك حكام ارتدوا بتعاونهم مع الصليبيين، فهل أعلن ارتدادهم؟.
وكيف تمرّ خيانة عظمى بهذه السهولة))[48].
لقد بليت الأمة بحفنة من المجرمين الذين ضربوا أسوأ الأمثلة في القتل والغدر والختل حتى أضحت الدنيا تعجّ بجرائمهم، والتاريخ يقطّر خزياً وعاراً من أعمالهم الشنيعة.
نرجع، ونقول: إنّ يزيدً كان يروم قتل الإمام عليه السلام في كلّ الأحوال، وكان أهون عليه إذا كان قد بايعه، ويبدو أنّ المخطط الأموي كان يروم استئصال أهل البيت عليهم السلام في كلّ بقعة يتواجدون فيها، وفي مقدمتها ((المدينة المنورة))، وحاول يزيد قتل المدينة ومكة بقتله الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
فالمخطط الإجرامي تضمن إبقاء الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام في المدينة حتى يجهز عليه، ثم يتخذ القتل ذريعة لأعماله الشنيعة تباعاً، ومنها سبي أهل البيت عليهم السلام.
فقتل النفس المحترمة هي نفس المولى أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وإذا كان يزيد قد استمرَأ الخمرة والفجور، ونكح الأمهات والعمات، وفتح المواخير في مكة والمدينة، فأي شيء يردعه عن قتل سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين عليه السلام، بل لا يرى غضاضة في أيّ جريمة تطالها يده.
إنّنا جرّبنا الحكام إنهم ينسفون في لحظة واحدة كلّ القواعد والمبادئ بما فيها مبادئهم، وأقول لقد قتل الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام يوم تولى معاوية، وجعل الحكم لعبة بيد الصبيان والغلمان، وهكذا تهيأت أسباب قتل ((العظماء)) حين تولى الصبيان، وتعد ولاية الصغار أفضل طريقة لقتل ((الكبار))، فجاء يزيد ليتولى هذه المهمة، فأخذ يلعب بمقدّرات الأمة، بشكل مريع فلا عجب أن يقدم على جريمته النكراء بقتل سيد شباب أهل الجنة عليه السلام، بل العجب أن لا يقدم.
لأنّ ((صغار العقول)) لا يمكنهم استيعاب مفردات العظمة والسمو، فعقولهم تضيق في استيعاب هذه المفردات فتراهم يسفون، حين يسمو الكبار، ويوغلون في ((السفه)) حين ((تسمو معاني العظماء))، ويبقى ((العظماء)) قذى في أعين الصغار، وشجى في حلقهم.
إنّ صغار العقول ((أمثال يزيد، ومن لفّ لفهم))، يشعرون بالضّعة كلما شاهدوا كبيراً يسمو، وعظيماً يتألق.
من هنا فإنّهم يجنحون إلى أساليب وضيعة للغاية كي يسدلوا الستار على ((عظماء الأمة))، وهم لا يعلمون أنّ الستائر تنقلب عليهم قبل العظماء، قال تعالى: ((وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ))[49]، ولأنّ العظيم يتحول إلى قانون وسنّة من سنن الحياة التي هي قائمة على قواعد متجذّرة في عمق الحقيقة فلا يمكن للصغار نسخ العمالقة.
وحتى لو حاول الصغار تصغير الحياة وسلخ قوانينها الأساسية، فإنّ محاولاتهم تبوء بالفشل، إنّ محاولات يزيد الرعناء ساهمت في تحذير السنن الحياتية من حيث لا يشعر، فهو أراد أن يذبح القيم في كربلاء، وإذا بها تتجذّر، وتمدّ عروقها بعيداً، فلامست الحقيقة، فتجلّت صورها واضحة في ملحمة كربلاء، فكبرت وصارت عنواناً عريضاً صار فوق الزمان والمكان، وهكذا هي كربلاء فهي تكبر إذا ناجزها الصغار، وتعلو من يحاول السطو عليها، فهي الآن أكبر مما سبق، وسوف تكبر إلى أن تأخذ حجمها الحقيقي في دولة الإمام الحجة عليه السلام.
وثمّة لقاء حار بين نهضة كربلاء، ودولة القائم من آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين)، ومن يظن أنّ كربلاء تصغر فإنّه لا يفهم معنى قيام الإمام الحجة عليه السلام، ولا يستوعب ثورته المباركة، فإنّ كربلاء أعدّت لقيام الدولة العالمية بقيادة الإمام الحجةعليه السلام.
فكربلاء تكبر كلّما امتد الزمن لأنها المقدمة الأساسية لهذه الدولة.
ــــــــــــــــــ
[1] كتاب الفتوح: أحمد بن أعثم الكوفي، ج5/ص14. اللهوف في قتلى الطفوف: السيد ابن طاووس، ص17. الفصول المهمة في معرفة الأئمة: ابن الصباغ، ج2/ص781.
[2] النور: ٣٦.
[3] فصلت: ٣٠ ــ ٣١.
[4] فصلت: ٣٠.
[5] فصلت: ٣٠.
[6] الأدب الجاهلي: طه حسين، ص135.
[7] النور: 37.
[8] الإسراء: ٨٠.
[9] النور: ٣٦ ــ ٣٧.
[10] آل عمران: ٣٣ ــ 34.
[11] الإمامة والتبصرة: ابن بابويه القمي، ص110. المراجعات: العلامة المقدس السيد عبد الحسين شرف الدين، ص227.
[12] الإرشاد: الشيخ المفيد، ج2/ص127. ذخائر العقبى: أحمد بن عبد الله الطبري، ص133. بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج37/74. العوالم، الإمام الحسين عليه السلام: الشيخ عبد الله البحراني، ص1. مستدرك سفينة البحار: الشيخ علي النمازي الشاهرودي، ج8/ص233. مسند أحمد: الإمام أحمد بن حنبل، ج4/ص172. سنن الترمذي: الترمذي، ج5/ص324. المستدرك: الحاكم النيسابوري، ج3/ ص177. تحفة الأحوذي: المباركفوري، ج10/ص19. المصنف: ابن أبي شيبة الكوفي، ج7/ص575.
[13] المائدة: ٣٢.
[14] النور: ٣٦.
[15] دلائل الإمامة: محمد بن جرير الطبري، ص190. تفسير نور الثقلين: الشيخ الحويزي، ج4/ص348. الثاقب في المناقب: ابن حمزة الطوسي، ص339. الخرائج والجرائح: قطب الدين الراوندي، ج1/ ص252. مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب، ج3/ص229. مدينة المعاجز: السيد هاشم البحراني، ج3/ص437. بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج26/ص341. العوالم، الإمام الحسين عليه السلام: الشيخ عبد الله البحراني، ص18. الأنوار البهية: الشيخ عباس القمي، ص99. شجرة طوبى: الشيخ محمد مهدي الحائري، ج2/ص260. جامع أحاديث الشيعة: السيد البروجردي، ج12/ص453. مسند الإمام الرضا عليه السلام: الشيخ عزيز الله العطاردي، ج1/ص145. معجم رجال الحديث: السيد الخوئي، ج17/ص167. بشارة المصطفى: محمد بن علي الطبري، ص338.
[16] لأحد شعراء كربلاء.
[17] التكوير: ٢٠ ــ ٢١.
[18] أعيان الشيعة: السيد محسن الأمين، ج5/ص347. بشارة المصطفى: محمد بن علي الطبري، ص133. موسوعة المصطفى والعترة عليهم السلام ــ : الحاج حسين الشاكري، ج13/ص524. تاريخ الإسلام: الذهبي، ج13/ ص513.
[19] آل عمران: ٤٢.
[20] فصلت: ٣٠ ــ ٣١.
[21] الأحزاب: ٣٣.
[22] فصلت: ٢١.
[23] الحجر: ٢٩.
[24] عمدة القاري: العيني، ج19/ص30. شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد، ج9/ص220. النزاع والتخاصم: المقريزي، / ص21. السيرة الحلبية: الحلبي، ج1/ص510. الدرّ المنثور: جلال الدين السيوطي، ج4/ص191.
[25] الإسراء: ٦٠.
[26] بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج30/ص296. شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد، ج15/ص175. تاريخ الطبري: الطبري، ج11/ص357.
[27] تاريخ الطبري: الطبري، ج11/ص357. شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد، ج4/ص79.
[28] بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج33/ص209. شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد، ج15/ص176. تاريخ الطبري: الطبري، ج8/ص186.
[29] المبسوط: الشيخ الطوسي، ج7/ص263. المجموع: محي الدين النووي، ج19/ص190. روضة الطالبين: محي الدين النووي، ج7/ص271. مغني المحتاج: محمد بن أحمد الشربيني، ج4/ص124. المغني: عبد الله بن قدامة، ج10/ص49. الشرح الكبير: عبد الرحمن بن قدامة، ج10/ص49. سبل السلام: محمد بن إسماعيل الكحلاني، ج3/ص258. نيل الأوطار: الشوكاني، ج7/ص358.
[30] صحيح البخاري: البخاري، ج8/ص87. صحيح مسلم: مسلم النيسابوري، ج6/ص21. عمدة القاري: العيني، ج24/ص178. إرواء الغليل: محمد ناصر الألباني، ج8/ص105. شرح العقيدة الطحاوية: ابن أبي العز الحنفي، ص429.
[31] معالم المدرستين: السيد مرتضى العسكري، ج1/ص150. الخطط السياسية لتوحيد الأمة الإسلامية: أحمد حسين يعقوب، ص413. الشيعة هم أهل السنة: الدكتور محمد التيجاني، ص18.
[32] مواهب الجليل: الحطاب الرعيني، ج8/ص367. حاشية الدسوقي، ج4/ص298. المحلى: ابن حزم، ج1/ص46، وج9/ص359. نيل الأوطار: الشوكاني، ج7/ص356. السنن الكبرى: البيهقي، ج8/ ص156. فتح الباري: ابن حجر، ج13/ص5. تحفة الأحوزي: المباركفوري، ج8/ص132. رياض الصالحين: يحيى ابن شرف النووي، ص336. تفسير ابن كثير: ابن كثير، ج1/ص530. أضواء البيان: الشنقيطي، ج1/ ص29.
[33] الاحتجاج: الشيخ الطبرسي، ج1/ص136. بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج29/ص224.
[34] الجمعة: ٢.
[35] التوبة: ١٢٨.
[36] الرعد: ٢٨.
[37] شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد، ج16/ص274. اللمعة البيضاء: التبريزي الأنصاري، ص793. الشافي في الإمامة: الشريف المرتضى، ج4/ص96.
[38] الإمامة والتبصرة: ابن بابويه القمي، ص11. عيون أخبار الرضا عليه السلام: الشيخ الصدوق، ج1/ ص297. كمال الدين وتمام النعمة: الشيخ الصدوق، ص280. من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق، ج4/ص177. كفاية الأثر: الخزاز القمي، ص281. مسند أحمد: الإمام أحمد بن حنبل، ج1/ ص99. سنن ابن ماجة: محمد بن يزيد القزويني، ج2/ص929. سنن أبي داود: ابن الأشعث السجستاني، ج2/ص309. عون المعبود: العظيم آبادي، ج11/ص251. حديث خيثمة: خيثمة بن سليمان الأطرابلسي، ص192. موارد الظمآن: الهيثمي، ج6/ص129. تفسير الرازي: الرازي، ج2/ ص28. الدر المنثور: جلال الدين السيوطي، ج2/ص310. تفسير الآلوسي: الآلوسي، ج18/ص206. طبقات المحدثين بأصبهان: عبد الله بن حبان، ج3/ص95. ذكر أخبار أصبهان: الحافظ الأصبهاني، ج2/ ص195. تاريخ ابن خلدون: ابن خلدون، ج1/ص132. معارج الوصول إلى معرفة فضل آل الرسول عليهم السلام ــ : الزرندي الشافعي، ص189. الفصول المهمة في معرفة الأئمة: ابن الصبّاغ، ج2/ص1109. سبل الهدى والرشاد: الصالحي الشامي، ج10/ص172. ينابيع المودى لذوي القربى: القندوزي، ج2/ص210.
[39] البداية والنهاية: ابن كثير الدمشقي، ج8/ص258. الإكمال في أسماء الرجال: الخطيب التبريزي، ص53. رجال تركوا بصمات على قسمات التاريخ: السيد لطيف القزويني، ص133. الأخلاق الحسينية: جعفر البياتي، ص155.
[40] الموضوعات: ابن الجوزي، ج3/ص278. الوافي بالوفيات: الصفدي، ج24/ص51. البداية والنهاية: ابن كثير الدمشقي، ج8/ص250.
[41] تحف العقول: ابن شعبة الحراني، ص505. الأمالي: الشيخ المفيد، ص122. بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج44/ص382. العوالم، الإمام الحسين عليه السلام: الشيخ عبد الله البحراني، ص232. لواعج الأشجان: السيد محسن الأمين، ص92. معالم المدرستين: السيد مرتضى العسكري، ج1/ص190.
[42] راجع أقوال عبد الله بن عمر، ومروان بن الحكم، وشريح القاضي.
[43] راجع أقوال شريح القاضي، وعبد الله بن عمر.
[44] النساء: ٧٦.
[45] الحجر: ٤٢.
[46] ص: ٨٢ ــ 83.
[47] الحشر: ١٤.
[48] هموم داعية: محمد الغزالي، ص44.
[49] الأنفال: ٣٠.
إرسال تعليق