الأثر الذي تركته شخصية الإمام الحسين في أسلوب خطاباته يوم عاشوراء

بقلم: الدكتور عبد الكاظم محسن الياسري

الرحلة التي يمضيها الباحث مع خطاب الإمام الحسين (عليه السلام) في معركة الطف، هي رحلة تنبعث من كل جوانبها رائحة الألم الممض وتبعث في النفس ظلالاً من الحزن، لأن فيها تصويراً دقيقاً لمأساة الإمام الحسين وأهل بيته، ولا ريب ان من يدرس خطاباً مثل خطاب سيد الشهداء، ويدخل في تفاصيل تراكيبه وينظر إلى المقام الذي قيل فيه في كل مرحلة من مراحله التي تقدم ذكرها في عدة مقالات نشرت على هذا الموقع المبارك، يبرز أمامه أمران يمكن الوقوف عندهما بوصفهما مرتكزين أساسيين في بناء هذا الخطاب، ولهما أثر كبير في تحديد أبعاده، هما:

1- شخصية المنشئ الإمام الحسين (عليه السلام).

2- واقعة الطف وتمثل المقام الذي قيل فيه الخطاب.

وسنقتصر في هذه المقالة على الكلام عن النقطة الاولى وسنتناول النقطة الثانية في مقالة اخرى منفردة.

1- شخصية المنشئ


إن الحديث عن سيد الشهداء الإمام الحسـين لا يمكن الإحاطة به في مثل هذه الصفحات، ان كل يوم من أيام الحسين يمكن أن يكون موضوعاً لمئات الدارسين، وما أريد بيانه هنا هو الأثر الذي تركته شخصية الإمام الحسين في أسلوب خطابه.

الإمام الحسين، إمام معصوم جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبوه سيد البلغاء وإمام الفصحاء الإمام علي بن أبي طالب، صاحب نهج البلاغة وأمه فاطمة الزهراء، وهو وارث علم جده وأبيه وله مكانة كبيرة عندهما، يدل على ذلك تلك الأحاديث التي رويت عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقه وحق أخيه الحسن، فهو سيد شباب أهل الجنة، ومن أحب أن ينظر إلى سيد أهل الجنة فلينظر إلى الحسين، وهو من الرسول والرسول منه: «حسين مني وانا من حسين»[1].

ويبدو واضحاً ان المقصود من هذا الحديث ليس مسألة النسب انما المقصود هو وحدة المنهج والفكر والهدف والروح الرسالية[2]، فالحسين يمثل امتداداً للرسالة المحمدية فكراً ومنهجاً.

أحب الله من أحب حسيناًَ، وحسين سبط من الأسباط[3] كل هذه الأقوال صادرة عن الرسول الأعظم وغيرها تمثل المكانة الكبيرة للإمام الحسين عند الرسول في حياته، وسوف يحتفظ بها الحسين بعد وفاة جده بين المسلمين عامة وأهل البيت خاصة، وإذا تجاوزنا مكانة الإمام الحسين عند الرسول والمسلمين إلى الصفات الأخرى، نجد أنفسنا أمام قائد تكاملت لديه مؤهلات القيادة بكل أبعادها، من شجاعة وقوة وسماحة وكرمٍ وصبرٍ وعزة نفس وعظمة لا يمكن لمخلوق في عصره أن يرقى إليها، وهذا هو الميراث العظيم الذي ورثه الإمام من جده وأبيه وأخيه، ومن جذور تمتد إلى أبي طالب وعبد المطلب بن هاشم، ولا ريب في أن خطاباً يصدر عن الإمام الحسين يكون له دور فاعل في نفوس السامعين لا يرقى إليه خطاب آخر، فالإمام الحسين ليس شخصاً عادياً مثل غيره من المتكلمين، انما هو إمام معصوم وولي أمر المسلمين في عصره، وفضلاً عن هذا فهو يمثل امتداداً فكرياً تتصل جذوره بجده رسول الله وأبيه أمير المؤمنين، وهو يمثل بدقة تلك الأفكار التي حملتها الرسالة المحمدية، ويسعى إلى تطبيقها والعمل بها مهما كان الثمن، ومن هنا يكتسب الخطاب الحسيني أهميته الكبيرة، ويكون له دور فاعل في إصلاح المجتمع الإسلامي وبنائه، وحماية الدين الإسلامي من الانحراف، وهذا هو الهدف الذي خرج الحسين من أجل تحقيقه، وهو الهدف الذي جعل الإمام الحسين يمتنع من إعطاء البيعة ليزيد، لأن موافقة الإمام على هذه البيعة يعني إضفاء الشرعية على هذا الحكم الذي أمات الدين وأحيا البدعة ونشر الظلم وأباح المحرمات، وقد حدد الإمام هذا الهدف في واحد من خطاباته حين قال: «اني لم أخرج اشراً ولا بطراً انما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي».

ويبدو واضحاً أن ما يتردد على ألسِنة الدارسين من أن الحسين خرج ليغير نظام الحكم في عصره، ويقيم دولة بدلاً من دولة الامويين، أو ان الحسين خرج ليستشهد ويقتل، كلاهما امر لا يمكن القطع بصحته، لقد خرج الإمام الحسين لأداء واجب لم يؤد، واكمال رسالة لم تكتمل، ومن هنا تكون إقامة الدولة الجديدة او الشهادة نتيجة من نتائج خروج الإمام الحسين وليس هي الهدف[4].

لقد وضع النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) تعاليم الإسلام بين الناس، وبيّن لهم حدود الله أوامره ونواهيه، وحدد مبادئ الدين الجديد واستطاع بعد صراع عنيف مع المشركين أن ينشر هذه المبادئ فآمن به الناس واتبعوه، ولكن هذه الحال لم تستمر فقد بدأ الانحراف عن مبادئ دين محمد بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحدث ما حدث وقد رسم لنا القرآن الكريم صورة هذا الانحراف قبل حدوثه حين قال تعالى:

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ)) المائدة / 54.

وقد جسد الإمام الحسين هذا المبدأ في مسلكه فجاهد في سبيل الله حتى نال الشهادة.

لقد بلغ الانحراف أشده في حكم يزيد بن معاوية، فلم يعمل بأوامر الله ونواهيه، وانحرف الناس عن مبادئ دينهم وفسد الحكام والعلماء فعملوا على تحريف كل شيء وزيفوا الحقائق وأصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وانحرف الدين عن مساره الصحيح[5].

وبسبب من هذا الخطر الداهم الذي يهدد الدين الإسلامي رأى الإمام الحسين ضرورة القيام بعمل جهادي يحاول فيه إصلاح هذا المسار والدفاع عن مبادئ دين جده وحمايتها من الانحراف، لقد كان واجباً على الإمام الحسين ان يقوم بهذه الحركة لتكون درساً على مر العصور والأزمان كما أصبح جهاد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في سبيل الله درساً على مر السنين في تاريخ الدنيا، وقد ادى الإمام الحسين هذا الواجب ليغدو درساً عملياً للمسلمين وغيرهم على مر تاريخ البشرية[6].

وهذا ما حصل فعلاً فقد أصبح الإمام الحسين وثورته وخطابه في معركة الطف من أجل العدل والدين منارات اهتدى بها المسلمون وغير المسلمين، ومدرسة تعلم فيها كل الثائرين دروساً في التضحية والفداء وكل الثورات التي نهض بها العلويون وغيرهم ضد الحكم الاموي ثم الحكم العباسي اتخذت من ثورة الحسين وتضحيته منهجاً في ثوراتها، وإذا تجاوزنا ما تعلمه العرب من الإمام الحسين وثورته وهو كثير، فان غير العرب قد تعلموا من مدرسة الإمام الحسين دروساً بنوا عليها كثيراً من الأسس الاجتماعية والدينية والسياسية، وعرفوا دروساً في الوفاء والتضحية والدفاع عن المبادئ يقول الزعيم الهندي غاندي:

«لقد تعلمت من الإمام الحسين كيف أكون مظلوماً فانتصر، ولو كان لي عشرة من أنصاره لفتحت الدنيا».

ان هذا الكلام الذي صدر من زعيم دولة كبيرة فيها مئات الملايين من البشر، له دلالة كبيرة على عظمة الإمام الحسين ورسوخ المبادئ التي أرساها هو وأصحابه لكل الثائرين ضد الظلم في كل الدنيا، ويمكن أن نلمح في هذا القول ظلالاً من المعاني تشير إلى صدق الايمان بالمبدأ عند أصحاب الحسين وتضحيتهم من أجله، ويقول أيضاً:

«ولقد طالعت بدقة حياة الإمام الحسين شهيد الإسلام الكبير، ودققت النظر في صفحات كربلاء واتضح لي ان الهند اذا أرادت إحراز النصر فلابد لها من اقتفاء سيرة الإمام الحسين)[7]».

إن هذا القول يدل على أن هذا الزعيم الثائر قد هضم المنهج الحسيني في الوقوف بوجه الظلم، ومن هنا تبدو عظمة المدرسة الحسينية وان الشعوب إذا أرادت مواجهة الظلم والانتصار عليه فأمامها منهج واضح وتجربة رائدة في هذا الميدان يجب عليها الاقتداء بها والسير في هداها، انها مدرسة الإمام الحسين وأصحابه.

ومثلما تحدث السياسيون والقادة عن الإمام الحسين وثورته تحدث عنها الأدباء، فقد اهتزت مشاعرهم لذلك الحدث المؤلم وتلك المأساة الكبيرة، وقد عبر عن هذه المشاعر عدد من الأدباء العرب وغير العرب، بأقوال مختلفة، يقول المستشرق الالماني بروكلمان:

«انه لحق ان ميتة الشهداء التي ماتها الحسين بن علي قد عجلت في التطور الديني لمحبي علي وجعلت من ضريح الحسين في كربلاء أقدس محجة».

وتقول إحدى الكاتبات الغربيات:


«ان مأساة الحسين تتغلغل في كل شيء حتى تصل إلى الاسس، وهي من القصص القليلة التي لا استطيع قراءتها قط من دون أن ينتابني البكاء».

وهذا هو الحق وكل من يقرأها ينتابه البكاء فهي أعظم مأساة عرفتها الإنسانية في تاريخها، ويقول كاتب انكليزي:

«إن مأساة الحسين بن علي تنطوي على أسمى معاني الاستشهاد في سبيل العدل الاجتماعي».

والعدل من أهم الأسس التي قامت ثورة الحسين من أجلها وسعت إلى القضاء على الظلم والظالمين، لكي يسود العدل الإسلامي كما ترسمه مبادئ الدين الإسلامي.

ويقول أحد المفكرين الغربيين:


«لو كان الحسين معنا لجعلنا له في كل مكان منبراً ولدعونا الناس للمسيحية باسم الحسين»[8].

ويصدق هذا على ما يقوم به أتباع أهل البيت، فالحسين له منبر في كل قلب وفي كل مكان، وتطول القائمة فما ورد هنا هو غيض من فيض مما قيل في شخصية الإمام الحسين، فالحسين إمام معصوم، وقائد ثورة ومصلح اجتماعي ومدافع عن عقيدة، ومن أهل بيت النبي، وولي أمر المسلمين في عصره، كل هذه الاتجاهات وغيرها تجعل للخطاب الذي يصدر عنه أهمية كبيرة على مختلف المستويات في الحياة الدنيا، ومن هنا تأتي شمولية الخطاب الحسيني في الميدان الديني والسياسي والاجتماعي والنفسي، ويعد ما ورد فيه من أفكار وآراء ودعوات وتوجهات منهج عمل يسير عليه المسلمون وغير المسلمين في المواقف التي تماثل المقام الذي قيل فيه، ويستلهم منه الثائرون بوجه الظلم والمدافعون عن المبادئ والداعون إلى العدل الدروس والعبر التي يسيرون عليها في مناهجهم ودعواتهم لقد وضع الإمام الحسين في خطابه الذي ألقاه في معركة الطف بمراحلها المختلفة الأسس العامة للدولة الإسلامية التي أراد أن تكون واحدة من النتائج التي نهض من أجل تحقيقها، وقد رسم فيه المنهج العام الذي ينبغي أن يتحلى به الثائرون في هذا الكون من إيمان وتضحية وصبر وثبات وعزيمة وصمود وزهد وتقوى ووفاء وإخلاص، كل هذه الصور تجتمع مع الحسين وأهل بيته وأصحابه لتظل مناراً يهتدي به الناس في مختلف عصورهم.

ــــــــــــــــــــــــ
[1] سنن الترمذي 5 / 325، دار الفكر بيروت.
[2] ينظر مختارات من المحاضرات الحسينية / 501.
[3] سنن الترمذي 5 / 325.
[4] مختارات من المحاضرات الحسينية / 107.
[5] مختارات من المحاضرات الحسينية / 103.
[6] المصدر نفسه / 100.
[7] اخـذت نصـوص هـذه الاقــوال من موضـوع بعنـــوان (قـالـوا فــي الإمام الحسيــن وفــي واقعــة الطف) نشـر فــي جريـــدة (المحافظة) تصدر عن محافظــة النجف العدد الخامس عشر، السنة الثانية / محرم / 1420.
[8] جريدة المحافظة العدد الخامس عشر / محرم / 1420.

إرسال تعليق