مأثرة الحسين عليه السلام بين الشهداء

بقلم : الدكتور مهدي التميمي

تعد حادثة استشهاد الإمام الحسين عليه السلام حالة نادرة ومميزة في ظروفها، وتوقيتها، ونتائجها، وقد عد الفيلسوف الألماني "ماريين" مسيره إلى الكوفة بنسائه وأطفاله سيراً إلى الموت، وأنه لم يذكر التاريخ رجلاً ألقى بنفسه وأحب الناس إليه في مهاوي الهلاك إلا الحسين، ذلك الرجل الكبير الذي عرف كيف يزلزل ملك الأمويين الواسع ويقلقل أركان سلطانهم، وكان نقش خاتمه "الله بالغ أمره"([1]).

وقد ذكرت الموسوعة العربية العالمية في مناقب الإمام الحسين: أنه كان فاضلاً، كثير الصوم والصلاة، والحج، والصدقة، وأفعال الخير، وقيل حج خمساً وعشرين حجة وهو يمشي على رجليه، وحدث عن جده وأبويه،...، وطائفة، وحدث عنه ولده علي وفاطمة، وخلق كثير، وقد أوتي ملكة الخطابة من طلاقة لسان وحسن بيان وغنة صوت وجمال إيماء، وأخذ نفسه بسمت الوقار في رعاية أسرته ورعاية الناس عامة فهابه الناس، وعرف معاوية عنه هذه المهابة فوصفه لرجل من قريش ذاهب إلى المدينة فقال: "إذا دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرايت حلقة فيها قوم كأن على رؤوسهم الطير، فتلك حلقة أبي عبد الله مؤتزاً إلى أنصاف ساقيه".

وقد تداول الناس الروايات الكثيرة عن علمه الغزير وفصاحته الموهوبة وشجاعته المتوارثة، ووفائه وفروسيته، وقد سنّ الحسين عليه السلام لمن بعده سُنّة من الآداب تليق بالبيت الذي نشأ فيه، ووكل إليه أن يرعى له حقه ويوجب على الناس مهابته وتوقيره، فهو على فضله وذكائه وشجاعته كان يستمع إلى الرأي الحسن ولا يسوؤه بالمراجعة أو المخالفة، ووردت روايات كثيرة تذكر فضله ومحبة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم له، منها ما روى حذيفة: أن ملكا هبط إلى النبي (لم يهبط إلى الأرض قط قبل هذه الليلة استأذن ربه عز وجل أن يسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويبشره بأن الحسين عليه السلام سيد شباب أهل الجنة، وأن فاطمة سيدة نساء الجنة - رواه أحمد والترمذي -([2])، ومن المعلوم أن القرآن الكريم قد نص على تنزيه الله للبيت النبوي الذي ضم الإمام الحسين عليه السلام وطهارته من الرجس: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" (الأحزاب: 33).

وقد احتج ابن خلدون بالآية مارة الذكر في رد الطعن في نسب إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالقول: إن تنزيه أهل البيت من مثل هذا من عقائد أهل الأيمان، فالله سبحانه قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً... ففراش إدريس طاهر ومنزه من الرجس بحكم القرآن، ومن اعتقد خلاف هذا فقد باء بإثمه وولج الكفر من بابه..، وانه إذا كانت الكرامة تقع لغيرهم فما ظنك بهم علماً وديناً وآثاراً من النبوة وعناية من الله بالأصل الكريم تشهد لفروعه الطيبة"([3]).

والمأثرة الكبرى للإمام الحسين عليه السلام في الشهادة أنه عاش مع أجواء الشهادة، ومات فيها، وقضى أخلاقه من بعده في الشهادة، فقد كتبت الشهادة لوالده الخليفة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بضربة غادرة في مسجد الكوفة عند صلاة الفجر، وقد أمضى زمناً قاسياً وهو يواجه الخوارج والمرتدين على سلطة الخلافة الراشدية، واستشهد عمه جعفر بن أبي طالب، المعروف بـ(جعفر الطيار) في معركة مؤتة، أولى معارك الفتح الإسلامي خارج الجزيرة العربية على عهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، واستشهد أخوه الحسن عليه السلام بدس السم له بعد تبديد جيشه المقاوم للسلطة الأموية، بالمناورات والمساومات، واستشهد ولدا الإمام الحسين عليه السلام علي، وعبد الله (عليهما السلام) بين يديه، واستشهد معه من بني عمومته وأهله وجميع أصحابه الذين زاد عددهم على السبعين في معركة واحدة وأمام أنظاره في واقعة غير متكافئة ومروعة بالطف في كربلاء.

وكان الإمام الحسين عليه السلام الشاهد على مأثرة فريدة من مآثر الخلق الرسالي ما اتصف بها الأنبياء والأولياء في الغاية من الحلم والسماحة في مواجهة الكيد والعدوان عليهم، هي في ذات المشهد الرائع من الحلم واحتمال أذى الغير مما سبق ذكره عن نهي السيد المسيح لأحد تلاميذه عن التعرض بالقوة لمن تجرأ عليه، وإن في المشهد التالي لما جرى بين والد الإمام الحسين عليه السلام (علي بن أبي طالب) (عليهما السلام) وقاتله ما فيه دالة الحلم المتناهي، فإنه لما ضرب ابن ملجم الخارجي الإمام عليّاً عليه السلام تلك الضربات القاتلة بسيف مسموم عند صلاة الصبح في مسجد الكوفة وجيء به مكتوفاً وقد أقبل به الإمام الحسن بن علي على أبيه عليهما السلام، وقال له: "هذا هو عدو الله وعدوك ابن ملجم قد أمكن الله منه وقد حضر بين يديك"، فتح الإمام علي عليه السلام عينيه ونظر إليه وهو مكتوف وسيفه معلق في عنقه فقال له بضعف وانكسار صوت ورأفة ورحمة:

"يا هذا لقد جئت عظيماً..، وخطباً جسيماً، أبئس الإمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء؟ ألم أكن شفيقا عليك وآثرتك على غيرك وأحسنت إليك وزدت في عطائك؟ ألم أكن يقال لي فيك كذا وكذا فخليت لك السبيل ومنحتك من عطائي؟ وقد كنت أعلم أنك قاتلي لا محال، ولكن رجوت بذلك الاستظهار من الله تعالى عليك يالكع فغلبت عليك الشقاوة فقتلتني يا شقي الأشقياء"، فدمعت عينا ابن ملجم وقال: "يا أمير المؤمنين: "أفأنت تنقذ من في النار"، قال له: صدقت، ثم التفت إلى ولده الحسن وقال له: "أرفق يا ولدي بأسيرك، وارحمه، وأحسن إليه وأشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أم رأسه وقلبه يرجف خوفاً وفزعاً؟

فقال له الحسن: "يا أباه قد قتلك هذا اللعين.. وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق به؟، فقال: "نعم يا بني نحن أهل البيت لا نزداد على الذنب إلينا إلا كرما وعفواً، بحقي عليك، فأطعمه يا بني مما تأكله، واسقه مما تشرب، ولا تقيد له قدما ولا تغل له يدا، فإنْ أنا مت فاقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة، ولا تحرقه بالنار ولا تمثل بالرجل فإني سمعت جدك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور"، وإن أنا عشت فأنا أولى به بالعفو وأنا أعلم بما أفعل به"([4]).

وتلك أمثلة من الصفح والسماحة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، هي أخلاق النبوة وأولياء النبوة، شهادتهم شهادة للتاريخ أن قيم السماحة في الرسالات الدينية واحدة تجد شخوصها في هذا المشهد أو ذاك من مشاهد السيرة الرسالية، نهجاً واحداً متصلاً بقيم الأخلاق في الأديان.

وعلى ذلك فإن الإمام الحسين ــ عليه السلام ــ في مأثرته الاستشهادية، وعلى تلك الصورة التي جرت عليها الأحداث في واقعة الطف، قد جسد بالحق قول الكاهن يارا فيه أنه "ضمير الأديان كلها والى الأبد"، وهو الضمير الذي يقوم على الخير ونصرة الحق والجهاد في سبيل ذلك، جهاداً أرقاه وأسماه الجهاد بالنفس.




([1]) الاعلام، للزركلي، ج2، ص343.
([2]) الموسوعة العربية العالمية، مج 8، ص344- 345.
([3]) المقدمة لابن خلدون، ص345.
([4]) الإمام علي من المهد إلى اللحد، ص344-345. 

إرسال تعليق