بقلم: الدكتور محمد جواد مالك
يتميز المسلمون الشيعة عن إخوانهم المسلمين السنة في بعض الأسس الفكرية والمنطلقات الحركية والرؤية النقدية المسؤولة للتاريخ الإسلامي بأحداثه وأبطاله، مما يعكس وعياً متميزاً في الأوساط الشيعية قلّما نلمسه في الأوساط السنية.
ونحن إذ نذكر هذه الحقيقة، إنما نحاول من خلالها التوصل إلى جذورها ومنطلقاتها التي سنسلط الضوء على بعضها بما يناسب المقام، وذلك لغرض دراستها بصورةٍ موضوعية، وتعميم فوائدها بل للإقتداء بها، إن حصلت القناعة بأهميتها.
الاستقلالية في المرجعية والتحصيل العلمي والمالي
بينما يلاحظ على المسلمين السُّنة - بشكل عام - أنهم مرتبطون بأئمة المساجد، وهم بدورهم مرتبطون بوزارة الأوقاف أي السلطات الرسمية الحاكمة إلا ما شذّ وندر.
مناطق تواجدهم
حتى أن الزعامات الاجتماعية المحلية المتمثلة بالسادة الأشراف ورؤساء العشائر ووجهاء المدن تحرص في أداء مهامها ضمن دوائرها الخاصة بشكلٍ يضمن عدم الاصطدام بالقيادة الدينية، والقيادة تسعى باستمرار - أيضاً - في استيعاب تلك الزعامات وتوظيفها في السياق الممكن، «ويمكن القول في سياسية النجف، أو الموقف الذي تتخذه إزاء السادة أصحاب الامتيازات الرفيعة، أنها سياسة مبطنة يقصد بها تحاشي الاصطدام والمجابهة.. ويمكن القول أيضاً أن جماعة السادة لا تزال تتمتع باحترام العامة لها نسبة إلى حرمتها ومكانتها من آل البيت». (دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث: ص77).
الأسس العَقَدية والمرتكزات الفكرية - السياسية لدى الشيعة
وسنحاول أن نشير إلى أهم تلك الأسس والمرتكزات بما يتناسب مع دراستنا هذه، ونحيل القارئ الكريم إلى بعض المراجع والكتب المعنيّة - إن أراد معرفة التفاصيل.
1: أئمة أهل البيت خلفاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
يقول الشيخ المظفر: «نعتقد أن الإمامة أصل من أصول الدين لا يتم الإيمان إلاّ بالاعتقاد بها.. كما نعتقد أنها كالنبوة لطف من الله تعالى، فلابد أن يكون في كل عصر إمام هادٍ يخلف النبي في وظائفه من هداية البشر وإرشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في النشأتين، وله ما للنبي من الولاية العامة على الناس لتدبير شؤونهم ومصالحهم وإقامة العدل بينهم ورفع الظلم والعدوان من بينهم. وعلى هذا فالإمامة استمرار للنبوة والدليل الذي يوجب إرسال الرسل وبعث الأنبياء هو نفسه يوجب أيضاً نصب الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.. إن الإمامة لا تكون إلا بالنص من الله تعالى على لسان النبي أو لسان الإمام الذي قبله وليست هي بالاختيار والانتخاب من الناس.. «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية». على ما ثبت ذلك من الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بالحديث المستفيض» (عقائد الإمامية: ص65-66).
وقد ورد في صحيح البخاري بسنده عن جابر بن سمره قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «يكون اثنا عشر أميراً.. كلهم من قريش». (صحيح البخاري، 9/729).
وفي صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة.. كلهم من قريش». ( صحيح مسلم: 3/1452، 1453، حديث 1821).
وفي كفاية الأثر بالإسناد إلى أبي سعيد الخدري قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «معاشر أصحابي، إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، وباب حطة في بني إسرائيل فتمسكوا أهل بيتي بعدي والأئمة الراشدين من ذريتي فإنكم لن تضلوا أبداً. فقيل: يا رسول الله، كم الأئمة بعدك؟ قال: اثنا عشر من أهل بيتي أو قال: من عترتي».
وفي ينابيع المودة للقندوزي الحنفي (الباب 94) عن المناقب بسنده إلى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا جابر إن أوصيائي، وأئمة المسلمين من بعدي أولهم علي، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي المعروف بالباقر ستدركه يا جابر فإذا لقيته فأقرأه مني السلام، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد ثم الحسن بن علي، ثم القائم، اسمه اسمي وكنيته كنيتي، محمد بن الحسن بن علي، ذاك الذي يفتح الله تعالى على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن أوليائه غيبة لا يثبت على القول بإمامته إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان».
2: توسيع دائرة السنة الشريفة لتشمل قول المعصوم وفعله وتقريره
هذا، ومن المهم أن نشير إشارة سريعة - أيضاً - ضمن هذه الفقرة من الحديث الإجمالي عن مميزات المسلمين الشيعة إلى مسألتين مهمتين بالإضافة إلى ما سبق، وأحيل القارئ الكريم لتناول التفاصيل إلى الكتب المعنية، وهما:
3: مسألة التزامهم بالتقيّة في حياتهم
إن التقيّة أسلوب في التخفّي والتستر والكتمان على الإيمان والمبدأ، حماية للنفس والعِرض والمال. ومشروعية التقية نابعة من القرآن الكريم ففي قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ..). (سورة النحل، 16/106).
يبيّن المفسرون في أسباب نزول هذه الآية الكريمة بأنها نزلت في الصحابي الجليل عمّار بن ياسر رضي الله تعالى عنه حينما أُكره من قبل المشركين بعد أن قتلوا أمه وأباه أمامه، وعذبوه تعذيباً شديداً، أعطاهم ما أرادوا بلسانه فقال بعضهم: كفر عمّار، قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «كلاّ، إن عماراً يغمره الإيمان من قرنه إلى قدمه»، ودخل عليهم عمار باكياً على ما صدر منه، فمسح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عينيه، وقال له: «إنْ عادوا فعدْ لهم بما قلت» (الشيعة في الميزان،محمد جواد مغنية: ص 345). وهكذا «التجأ عمار إلى التظاهر بالكفر خوفاً من أعداء الإسلام» (عقائد الإمامية، ص86).
يقول أبو بكر الرازي الجصاص ــ من أئمة الحنفية في قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) (سورة آل عمران، 3/28). يعني أن تخافوا تلف النفس، أو بعض الأعضاء، فتتّقوهم بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها». ويستمر الشيخ مغنية في عرضه للآراء في هذا الصدد ثم يقول «وهذا الذي قاله صاحب السيرة الحلبية، ونقله الجصاص عن الجمهور من أهل العلم هو بعينه ما تقوله الإمامية»( الشيعة في الميزان: ص50-51).
وباعتبار أن المسلمين الشيعة قد تعرضوا - ولا يزالون - إلى أنواع القهر والملاحقات والتشريد والقتل من قِبل الحكّام على طول التاريخ، دفعهم - أكثر من غيرهم - للتمسك بهذا المبدأ القرآني.
4: مسألة إحياء عاشوراء، ذكرى مقتل الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه
هذه المسألة من الشعائر الدينية المتميزّة بطابعها العاطفي الشديد، وما تكتنزه من بصائر وعبر لها دلالاتها العقَدَية والثقافية، ولها آثارها التربوية والإصلاحية، حيث ترفد الأمة درجات عالية من الوعي الإيماني المكثّف، وتزوّد الأمة طاقات جهادية في أرفع مستويات العطاء والإيثار والإقدام والتضحية في سبيل حماية الإسلام والكرامة الوطنية والإنسانية، فمن خلال عقد المجالس الحسينية وإظهار مراسيم العزاء والبكاء والزيارة وكرم الضيافة من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال في نسيجٍ ملحمي لا مثيل له في الدنيا، حيث تتجاوب الزفرات والدموع مع القلوب والعقول ليشهد الجميع موسماً حافلاً بالانتفاضة الحقيقية والثورة الصادقة ضد الفساد والظلم والاستبداد في عالم الإنسان. إنه يوم تجديد البيعة مع الإسلام والنبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من آل النبي، إن إقامة المجالس والمسيرات العاشورائية بالإضافة إلى الثواب والأجر للمساهمين والمشاركين، هي عملية تطهيرية للذات ومراجعة الحسابات في محاكمة واعية غرضها طلب العفو والمغفرة من الله تعالى، والتقرّب إليه بالمودّة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام. فقد قال سبحانه: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ..) (سورة الشورى، 42 آية 23).
وهي في الوقت ذاته إحياء لسنة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام في إقامة مجالس الإمام الحسين عليه السلام ونشر أفكار نهضته وسيرته المباركة. فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «كلُّ عينٍ باكيةٍ يوم القيامة إلا عينٌ بكت على مصاب الحسين، فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة».
ويقول الإمام الصادق عليه السلام: «إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لن تبرد أبداً».
ويقول لفضيل بن يسار: «تجلسون وتتحدثون قال: نعم جعلت فداك، قال عليه السلام: إن تلك المجالس أحبها فأحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا»( لواعج الأحزان في مقتل الحسين، للسيد محسن العاملي: ص3ــ4).
لذلك انتشرت مجالس الإمام الحسين وبرز الشعراء والخطباء والواعظون ليستثمروا هذا الموسم بالتوجيه والتربية والتبليغ، يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين: «فليست الذكرى الحسينية مناسبة للحزن وحدها، وليست مناسبة للثقافة المجردة. الذكرى الحسينية كما أرادها أهل البيت عليهم السلام هي مناسبة للتربية ومناسبة لاحتواء المفاهيم الجديدة»، ويقول أيضاً «حفلات عاشوراء هي في مفهومنا حفلات للحرية نتعلم فيها روح الجهاد وروح الثبات والصبر»( عاشوراء،محمد مهدي شمس الدين: من الخطبة الثانية ص25، والخطبة الأولى ص10).
وبالفعل «إن الأمة التي تملك تاريخاً صلباً تقف عليه أنها أمة تستحق الحياة وأنها ستصنع المستحيل في خضم الأحداث..» العقائد الإسلامية، محمد جواد مالك: ص421).
نعم بهذه النفس المطمئنة يتناول الشيعة تاريخ الإسلام بأحداثه وأبطاله، لا تأخذهم في الله لومة لائم، لينصروا الحق وأهله ويرفضوا الباطل وأهله، ومن خلال إقامة المجالس الحسينية يتوسل المؤمنون بالله تعالى ليوفقهم لأعمال الخير والصلاح، وكذلك للاستمرار على الاستقامة والهدى، بالتوكّل على الله والصبر على نوائب الدهر والإقدام نحو أداء الواجبات الإسلامية. فإحياء عاشوراء إنما هو إحياء للإنسان حيث يستلهم المحيي لعاشوراء دروس بناء الحياة العزيزة والكريمة، بيقظة وأمل، فترتفع عن قلبه غشاوة الباطل، رغم إعلامه وضجيجه، فالذي يحيي عاشوراء بقلبه وعقله وعواطفه، إنما يدخل في دورة تربوية مكثفة بالـوعـي والبصـيرة والهـدى، يتـزود مـن القـرآن والنبـي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام بالتقوى في النفس والطموح في الإقتداء الميداني حيث يستوعب فهم الحقائق، الإيمانية والتاريخية بثقةٍ وشجاعةٍ، ليتم تجنب الأخطاء أثناء الأداء الحالي، ومن ثمّ ليتم بناء المستقبل الواعد، على المستوى الشخصي والجمعي معا.
إرسال تعليق