المرجعية الدينية الامتداد الشرعي المتواصل لقيادة الإمام المعصوم

بقلم: الدكتور محمد جواد مالك

من هم مراجع الدين؟

«فمراجع التقليد ــ لدى الشيعة ــ هم الامتداد الطبيعي للقيادة الشرعية، فهم يملكون حق الولاية على المسلمين، بالنيابة العامة» (الأصـول الـعـامة للفـقه المقـارن, محمد تقي الحكيم: ص509). 

شروط ومؤهلات المرجع الديني

ومن المفيد أن نشير إلى وجوب توافر شرائط أساسية تؤهل الفقيه القائد لهذا الدور الخطير. وبالإجمال، على المستوى الشرعي، بالإضافة إلى بلوغه درجة عالية في إيمانه بالعقيدة الإسلامية، لابد أن يكون فقهياً عادلاً جامعاً لشرائط الاجتهاد. وعلى المستوى النفسي، يكون شجاعاً في تصدّيه لإدارة أُمور المسلمين، وعلى المستوى الحركي، يكون متفهماً لظروف الأمة الموضوعية، عارفاً بإمكانياتها الذاتية ليقودها بحكمةٍ ودرايةٍ بما يحققُ لها العزّة والكرامة. وهكذا يبرز دور القيادة المرجعية للأمة بالشكل الذي يواكب تطور الحياة عبر «الممارسة القيادية القادرة على توجيه حركة الأمة على كافة المستويات الثقافية والاجتماعية والسياسية، وعلى ترشيد المواقف في مواجهة كل حالات التحدي»( التشيع، نشوءه _مراحله _مقوماته،عبد الله الغريفي: ص483). وعليه تكون قيادة الفقيه جامعة لأمور الدين والدنيا معاً، للعبادة والفتاوى المستحدثة وتدريس الفقه والتفسير، بالإضافة إلى إدارة الأمة في حركتها السياسية. 

وجوب تقليد المرجع الحي

ومن المبادئ الأساسية للشيعة الإمامية، وجوب تقليد المجتهد الجامع للشرائط. والتقليد هو: الرجوع إلى المجتهد الأعلم في الشؤون الدينية والحياتية والحركية والجهادية. والتقليد ــ لدى الشيعة الإمامية ــ واجب شرعي على كل مكلف لم يبلغ درجة الاجتهاد، لذا «يكون في جميع عباداته ومعاملاته وسائر أفعاله وتروكه مقلداً..» للمرجع المعاصر، أي الحي (منهاج الصالحين ،السيد الخوئي, العبادات: ص7).

ويحصل المجتهد الفقيه على درجته العلمية المتقدمة عبر دراساته الفقهية والأصولية الوافية، التي تؤهله - بكفاءة وقدرة - على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وهذه الدرجة هي التي تسمى درجة الاجتهاد، وهي «ملكة تحصيل الحجج على الأحكام الشرعية أو الوظائف العملية، شرعية أو عقلية»( الأصول العامة للفقه المقارن: ص563).

وبالفعل «إن هذا التقليد الديني قد أكسب النجف مزيداً من النفوذ السياسي في أقطار نائية مثل الباكستان والهند وأفغانستان، ناهيك عن التفاعل الحضاري الذي يتم في النجف عندما تلتقي جماعات مختلفة جاءت لتدفن موتاها، جماعات تنتمي إلى قوميات تتباين حضارياً، ويختلف بعضها عن بعض في اللغة والتاريخ والذهنية والنظرية الفلسفية إلى الحياة..» (التشيع، نشوءه _مراحله _مقوماته, ص79).

لماذا يجب تقليد المجتهد الحي؟

والأمر الجدير بالاهتمام هو اشتراطهم في التقليد ــ ابتداءاً ــ أن يكون المجتهد حياً، فلا يجوز - لديهم - البقاء على تقليد المجتهد الميت إلا بعد إجازة من المرجع الحي، وذلك ليعود المجاز في بقائه على تقليد المرجع الميت إلى المرجع الحي في المستجدات الفقهية والحركية.

ومعنى ذلك هو استمرار القيادة الفعلية لأتباع هذا المذهب من قبل المجتهدين - المراجع الأحياء - في شتى الظروف والأحوال، ففي نظر الإمامية أن المجتهد هو الامتداد الشرعي لقيادة الإمام عليه السلام، الذي هو الخليفة الشرعي للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الرادّ عليه كالراد على الإمام، والراد على الإمام كالراد على النبي، في قراره الديني والسياسي.

وهنا يكمن سر الطاعة والانقياد من قبل المؤمنين لعلمائهم، ومن هنا نستوضح التماسك المتين بين القيادة المرجعية وعموم الناس. يقول الدكتور حامد حفني، وهو في صدد بيان أهمية فتح باب الاجتهاد عند الشيعة الإمامية: «بل يشترطون وجود (المجتهد المعاصر) بين ظهرانيهم ويوجبون على الشيعة إتّباعه رأساً دون من مات من المجتهدين، ما دام هذا المجتهد المعاصر استمد مقومات اجتهاده - أصولها وفروعها - مـمّن سلفه من المجتهدين وورثها عن الأئمة كابراً عن كابر.. [ويضيف] وإنما الجميل والجديد في هذه المسألة أن الاجتهاد على هذا النحو الذي نقرأه عنهم يساير سنن الحياة وتطورها ويجعل النصوص الشرعية حيّة متحركة، نامية متطورة تتمشى مع نواميس الزمان والمكان، فلا تجمد ذلك الجمود المضر الذي يباعد بين الدين والدنيا أو بين العقيدة والتطور العلمي وهو الأمر الذي نشاهده في أكثر المذاهب التي تخالفهم» (د. حامد حفني داود في مقدمته لكتاب عقائد الإمامية : ص17-18).

ويقول السيد محمد تقي الحكيم: «إن في تشريع جواز الرجوع إلى الأموات في التقليد ابتداءاً إماتة للحركة الفكرية التشريعية، وتجميداً للعقول المبدعة عن الانطلاق في آفاقها الرحبة. وقد لاحظنا هذا الواقع في الكثير من علماء الإسلام من أهل السُّنة يوم سدّوا على أنفسهم أبواب الاجتهاد وحصروا التقليد بخصوص أئمتهم، حيث ظلت الحركة الفكرية واقفة عند حدودها لديهم قبل قرون، وما ألّفوه بعد ذلك كان يفقد في غالبه عنصر الأصالة والإبداع» (الأصـول الـعـامة للفـقه المقـارن: ص656).

غلق باب الاجتهاد عند أهل السنة مؤامرة تستهدف الإسلام والمسلمين

وفي اعتقادي أن غلق باب الاجتهاد يعدُّ مؤامرةً كبيرةً تستهدف الإسلام والمسلمين لغرض تجميد التطور الفقهي والحركي والجهادي لدى الطائفة السنية، وذلك بحصر فعالياتها في الحالة الرسمية - إن وجدت - وينسحب ذلك إلى حصر عملية الدعوة الإسلامية والإفتاء الشرعي، وحتى إحياء ذكريات الإسلام بالطريقة الرسمية، وليس على العلماء والشعب إلاّ المشاركة والتأييد فقط.

بينما تبقى الأُمة - في مختلف مراحلها - تنهل باستمرار من بركات المعين الصافي، حيث الأصالة الإسلامية مباشرة، عند فتح باب الاجتهاد، ووجوب تقليد الفقيه المعاصر الأعلم، كما هو لدى الشيعة الإمامية، وبهذه الطريقة ستستمر مسيرة الإبداع العقلي ضمن الأطر الشرعية، وهي تواكب تطورات العصر، ومستجدات الحياة العملية.

وفي اعتقادي - أيضاً - إن هذه المسألة تعتبر ضرورة شرعية وعقلية وحياتية. فلذلك أسس العلماء مدارس دينية وحوزات علمية بطابعها الاستقلالي التام عن السلطات الحاكمة، وذلك في مناهجها الدراسية، وطريقة إدارتها، والمسألة المالية. كما وَثّقوا حالة الارتباط بالأمة إلى درجة كبيرة وذلك عبر شبكة الوكلاء والممثلين عنهم المنتشرين في أنحاء البلاد، حتى القرى والمناطق النائية.

أهمية تشييد المؤسسات المرجعية عند مراقد الأئمة الأطهار

وكذلك يلاحظ على الحوزات العلمية، خصوصاً في مراحلها المتقدمة أنها شيّدت عند مراقد الأئمة والأولياء، ففي العراق ظهرت النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء، مراكز علمية للدراسات الإسلامية والأدبية. وحينما يتخذ المرجع الأعلى إحدى هذه المدن مقرّاً له، ستتحول إلى مركز القرار القيادي للتحرك والثورة والإدارة السياسية.

بينما تبقى ممارسة الأدوار الثقافية والفكرية مستمرة في جميع المراكز الأخرى. وإن لم تكن مقراً للمرجع الأعلى، ولكن المواقف الحاسمة التي تتطلب الرأي المركزي القاطع تحال إلى المرجع الأعلى الذي يبتّ بها، بعد أن يدرسها مع مستشاريه مراعياً الظروف الذاتية والموضوعية للأمة. ولذلك تتطلع جميع المراكز الدينية الأخرى، بل تتطلع الأمة لقراره العام.

وبمرور الأيام أصبحت لهذه المدن المقدسة أهمية اقتصادية واجتماعية بالإضافة إلى الأهمية الفكرية والسياسية. وبالفعل تحولت إلى مراكز للإشعاع الفكري والأدبي، فتكثفت فيها اللقاءات بين مختلف الطبقات الاجتماعية والثقافية، ومما زاد في كثافة حركتها وجود مواسم الزيارات المخصوصة لها، فتعيش أجواءً خصبةً للتبادل الثقافي والتجاري، كل ذلك يؤدي إلى توطيد العلائق بين مختلف المدن والأرياف والعشائر بل حتى سكان البادية مع تلك المراكز ورموزها الفكرية، والجدير بالذكر أن لوكلاء المراجع في كافة مناطق العراق الدور الواضح في توثيق تلك العلائق.

وبالفعل منذ أواخر القرن التاسع عشر شهدنا «..بلوغ النجف ذروة مكانتها مركزاً للعواصف السياسية، وبروز علماء الشيعة أداة حاسمة في النشاط والتحريك السياسييْن..» (شيعة العراق وقضية القومية العربية: ص109).

الاستقلالية المالية في الحوزة العلمية وعدم تبعيتها للدولة

ومن هنا نؤكد على أن هذه الحيوية الحركية لدى علماء المسلمين الشيعة هي نتاج تلك الأسس والمرتكزات الفكرية التي يستندون عليها في انطلاقتهم نحو بناء الحياة، بالإضافة إلى الاستقلالية المالية التي يعتمدونها في إدارة شؤونهم الخاصة ونشاطاتهم الدينية بشكل عام، يقول الدكتور النفيسي: «إن العامل الرئيس الذي عمّق شقّة الخلاف بين علماء السُّنة وعلماء الشيعة في العراق، الأمر الذي كان له أثر فعّال في وجهتي النظر السياسية لدى الطرفين هو مصدر الدخل لدى كل طائفةٍ منهما، فإن العالِم الديني السُّني في العراق يعتمد في دخله على ما تقدمه له السلطة العراقية، أي أنه كان يعتبر موظفاً حكومياً يتقاضى مرتّباً، بينما كان العالِم الديني الشيعي.. يرفض كل عونٍ مالي حكومي..» (دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث:ص70).

نعم «ولأن النجف كانت دوماً تؤكد استقلالها الذاتي فإنها أصبحت مع الأيام مركزاً سياسياً مهماً ناشطاً للشيعة في العراق» (دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث: ص47).
بل أبعد من العراق «فإذا نشأت مشكلة خطيرة في العالم الشيعي، وليس في النجف وحده، فإنّ الناس يتطلعون صوب النجف، وينتظرون كلمة المجتهد الأكبر، الحكم الأول في القضايا الخطيرة الذي يصدر فتوى بعد أن يكون قد تداول القضية مع مستشاريه» (دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث:ص50).

إرسال تعليق