بقلم: السيد نبيل الحسني
إنّ حضور المرأة في كربلاء ومن خلال الدراسة في التاريخ الحربي للعرب والمسلمين يعد حضوراً متميزا وفريدا وملهما ومؤسساً لأصول عقائدية وحياتية جديدة لم يعهدها الإنسان قبل كربلاء ولم يتهيأ له مستقبلاً نظير لها، وذلك لما جمع في كربلاء من مقومات اختارتها المشيئة الإلهية لتكون محوراً وسطياً لهذه الأمة في بناء العقيدة والإصلاح.
من هنا: نجد أن الإمام الحسين عليه السلام حينما اعترضه محمد بن الحنفية عند خروجه إلى العراق مستفهما منه عن العلة في إخراجه لهؤلاء النسوة فأجابه عليه السلام:«قد شاء الله أن يراهن سبايا».
لم يكن قوله عليه السلام إسكاتاً لما بدا على ابن الحنفية من تساؤلات عديدة لم يشأ أن يبوح بها فاختزلها بقوله: فما بال حملك لهذه النسوة؟ فقال هذه الكلمات القليلة التي في ظاهر الرواية التاريخية إنها أسكتته فلم يبُحْ بعدها بكلمة حتى بدا للقارئ أن المراد هو هذه النتيجة.
في حين أن الإمام الحسين عليه السلام قد كشف لأخيه أحد أعظم الحقائق التي ارتبطت بهذا الخروج، وما أشبه هذا القول منه عليه السلام بقوله تعالى لأم موسى حينما بدا عليها الخوف وتملكتها الحيرة في التعامل مع ولدها موسى ماذا تصنع به! فجاء الجواب: {...فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}[1].
وليت شعري: أي المقامين أعظم؟! فإن كان الملقى في أحضان البحر فرداً واحداً فإن أبناء محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد ألقوا في أخاديد الحراب وافترشوا نصال النبال وعانقوا السيوف؛ وهل رد ابن فاطمة لأمه سالماً معافىً أو رد إليها مقطع الأعضاء؟! لله الأمر من قبل ومن بعد.
إلا أن الآثار والنتائج التي حققها هذا الخروج لم تكن أقل شأناً من آثار إلقاء موسى في البحر ونتائج ذلك إن لم تفقها في مواضع كثيرة، فكم من فرعون وفرعون دكت العقيلة زينب عروشه إلى يوم القيامة، وكم من دفاع عن التوحيد ونبذ للشرك قد أثبتته الظعينة التي أخرجها الإمام الحسين عليه السلام، فضلاً عن الدفاع عن الولاية والنبوة وإعادة الإسلام إلى مساره الذي وضعه له الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعليه: قد يجد القارئ ضرورة في بيان معنى الإشاءة التي تصدرت كلام الإمام الحسين عليه السلام، وما الفرق بينها وبين الإرادة، وهل إن الإشاءة الإلهية تعني رفع العقاب عن القتلة لأن الله شاء أن يراهن سبايا؟ وجوابه في مسائل:
المسألة الأولى: معنى المشيئة الإلهية
هنا ينبغي بنا أن نضع بين يدي القارئ المراد من المشيئة الإلهية كي يتضح لدينا المراد من قول الإمام الحسين عليه السلام: «قد شاء الله أن يراهن سبايا».
وهل تكون المشيئة الإلهية معطلة للعقاب بكينونة أن الله تعالى قد شاء ذلك ومن ثم لا يعاقب الجاني؟ فهذا السؤال وغيره يمكن لنا الإجابة عنه من خلال الوقوف على معنى المشيئة الإلهية، وذلك من خلال اللغة والقرآن والسنة ولو من قبيل الإشارة كي لا نسهب في البيان.
أولاً: المشيئة لغة
لا يختلف معنى الإرادة عند أهل اللغة عن معنى المشيئة، فكلاهما يدل على معنى واحد[2]؛ فـ(المشيئة) مهموزة: الإرادة، وقد شئت الشيء أشاؤه[3]، وقيل: إن المشيئة أخص من الإرادة[4].
وإنما فرق بين قول ما شاء الله وشئت، وما شاء الله ثم شئت، لأن الواو تفيد الجمع دون الترتيب، وثم تجمع وترتب، فمع الواو يكون قد جمع بين الله وبينه في المشيئة، ومع (ثم) يكون قد قدم مشيئة الله على مشيئته[5]. ومنها قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما شاء الله ثم شئت»[6].
وقيل: إن الفرق بين الإرادة والمشيئة: إن الإرادة هي العزم على الفعل أو الترك بعد تصور الغاية المترتبة عليه من خير، أو نفع، أو لذة ونحو ذلك؛ وهي أخص من المشيئة، لأن المشيئة ابتداء العزم على الفعل فنسبتها إلى الإرادة نسبة الضعف إلى القوة، والظن إلى الجزم، فإنك ربما شئت شيئاً ولا تريده لمانع عقلي أو شرعي. وأما الإرادة فمتى حصلت صدر الفعل لا محالة[7].
ثانيا: المشيئة في القرآن
أما القرآن الكريم فقد اشتمل على آيات كثيرة حول المشيئة مما يجعل تتبعها وبيان معانيها ودلالاتها يعد في حد ذاته بحثاً مستقلاً؛ إلا أن خير ما يمكن أن يظهر معنى المشيئة في القرآن وبشكل موجز ما تناوله الشريف المرتضى في أحدى رسائله العقائدية، فكان كلامه بحق وافياً لمن أراد أن يحيط بمعنى المشيئة وعلاقتها بالإيمان، فقال رحمه الله تعالى وتحت عنوان: الإيمان وحقيقة المشيئة ما يأتي: (فإن سألوا عن معنى قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[8].
قيل لهم: معنى ذلك لو شاء ربك لألجأهم إلى الإيمان، لكنه لو فعل ذلك، لزال التكليف، فلم يشأ ذلك بل شاء أن يطيعوا على وجه التطوع والإيثار لا على وجه الإجبار والاضطرار، وقد بين الله ذلك فقال: {...أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ...}. يريد إني أنا أقدر على الإكراه منك ولكنه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ...}[9].
وكذلك الجواب في قوله: {...وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ...}[10]. وقوله تعالى: {...وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ...}[11]. وقوله: {...وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ...}[12]. ولو شاء لحال بينهم وبين ذلك، ولو فعل ذلك لزال التكليف عن العباد، لأنه لا يكون الأمر والنهي إلا مع الاختيار لامع الإلجاء والاضطرار.
وقد بين الله (ذلك) بما ذكرنا من قوله: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}[13].
فأخبر أنه لو شاء لأكرههم على الإيمان. وقد بين ذلك ما ذكرناه من قصة فرعون وغيره أنه لم ينفعهم الإيمان في وقت الإكراه. وقد بين الله في كتابه العزيز أنه لم يشأ الشرك ، وكذب الذين أضافوا إليه ذلك، فقال تعالى: سَيَقُولُ {الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ...}[14].
فأخبروا أنهم إنما أشركوا بمشيئة الله تعالى فلذلك كذبهم: ولو كانوا أرادوا أنه لو شاء الله لحال بيننا وبين الإيمان لما كذبهم الله، قال الله تكذيبا لهم: {...كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا...}. يعني عذابنا. .{..قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا...}. يعني هل عندكم من علم أن الله يشاء الشرك ثم قال: {...إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ...}. يعني تكذبون. كقوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}[15]. وقال عز وجل: {...مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}[16]. يعني يكذبون. وقال عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}[17]. خبر أن الرسل قد دعت إلى الإيمان، فلو كان الله تعالى شاء الشرك لكانت الرسل قد دعت خلاف ما شاء الله، فعلمنا أن الله لم يشأ الشرك.
فإن قال بعض الأغبياء: فهل يشاء العبد شيئا أو هل تكون للعبد إرادة؟ قيل له: نعم قد شاء ما أمكنه الله من مشيئته ويريد ما أمره الله بإرادته، فالقوة على الإرادة فعل الله والإرادة فعل العبد. والدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا...}[18].
وقال تعالى: {...فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}[19]. وقال عزّ وجل: {... فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا}[20]. وقال تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ...}[21]. وقال سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ...}[22]. وقال عزّ وجل: {...فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا...}[23]. وقال تعالى: {...فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ...}[24]. وقال عزّ وجل: {...لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}[25]. وقال فيما بين أن العبد قد يريد ما يكره الله من إرادته فقال تعالى: {...تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ...}[26]. وقال عزّ وجل: {...وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}[27]. وقال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً...}[28]. فأخبر أنهم لو أرادوا لفعلوا كما فعل من أراد الخروج. وقال سبحانه وتعالى: {...يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ...}[29]. وقال تعالى: {...وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا}[30]. وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ...}[31]. وما أشبه ما ذكرنا أكثر من أن نأتي عليه في هذا الموضع.
فإن قال: فما معنى قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ...}[32]؟ قيل له: إن الله ذكر هذا المعنى في موضعين، وقد بينهما ودل عليهما بأوضح دليل وأشفى برهان على أنها مشيئته في الطاعة، فقال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[33]. فهو عز وجل شاء الاستقامة ولم يشأ الاعوجاج ولا الفكر، وقال في موضع آخر: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}[34]. فالله قد شاء اتخاذ السبيل ولم يشأ العباد ذلك إلا وقد شاء الله لهم، فأما الصد عن السبيل وصرف العباد عن الطاعة فلم يشأ عز وجل)[35].
وفيها هذا البيان الوافي والشافي يتضح لنا أن المشيئة الإلهية بريئة مما يقوله العصاة والظالمون فيما يصدر عنهم من أفعال قبيحة ومخالفة للشريعة بأن الله تعالى هو الذي أراد لهم ذلك فتعال الله عما يصفون علواً كبيراً بل هم الذين أرادوا هذا الفعل.
ثالثا: المشيئة في السنة
قد لا يخفى على كثيرٍ من أهل المعرفة أن المراد بالسنة عند مذهب الإمامية هو: قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفعله وتقريره وقول عترته أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، والذين فرض مودتهم على الخلائق وأوجب على الخلق كافة طاعتهم فهم حجج الله تعالى على البرايا وأوصياء خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم. فقول الأئمة الإثني عشر مع قول أمهم فاطمة بضعة النبوة وفعلهم وتقريرهم هو المراد به بالسنة.
وعليه: فقد ورد في السنة المحمدية أحاديث كثيرة تظهر معنى المشيئة وتدل على مفهومها ومصداقها. ومنها:
1ــ أخرج الشيخ الكليني عن سليمان الديلمي، (عن علي بن إبراهيم الهاشمي: قال سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام يقول: «لا يكون شيء إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى». قلت: ما معنى شاء؟ قال: «ابتدأ الفعل». قلت: ما معنى قدر؟ قال: «تقدير الشيء من طوله وعرضه». قلت: ما معنى قضى؟ قال: «إذا قضى أمضاه، فذلك الذي لا مرد له»)[36].
2ــ وعنه رحمه الله تعالى، (عن واصل بن سليمان، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: «أمر الله ولم يشأ، وشاء ولم يأمر، أمر أبليس أن يسجد لآدم وشاء أن لا يسجد، ولو شاء لسجد، ونهى آدم عن أكل الشجرة، وشاء أن يأكل منها، ولو لم يشأ لم يأكل»)[37].
3ــ وعنه رحمه الله، (عن فتح بن يزيد الجرجاني: عن أبي الحسن عليه السلام قال: «إن لله إرادتين ومشيئتين: إرادة حتم وإرادة عزم، ينهى وهو يشاء ويأمر وهو لا يشاء، أو ما رأيت أنه نهى آدم وزوجته أن لا يأكلا من الشجرة وشاء ذلك، ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى وأمر إبراهيم أن يذبح إسحاق ولم يشأ أن يذبحه ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى»)[38].
4ــ وعنه رحمه الله، عن فضيل بن يسار قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «شاء وأراد ولم يحب ولم يرض شاء ألا يكون شيء إلا بعلمه، وأراد مثل ذلك، ولم يحب أن يقال: ثالث ثلاثة، ولم يرض لعباده الكفر».
5ــ وعنه رحمه الله عن أبي نصر قال: قال أبو الحسن الرضا عليه السلام، قال الله: «يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبقوتي أديت فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً، قويا، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذاك أني أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني، وذاك أنني لا أسألك عما أفعل وهم يسألون»[39].
وتدل هذه الأحاديث الشريفة على أن الاختيار في الطاعة والمعصية للعبد وأن البيان لطريق الخير والشر على الله تعالى، ولذا بعث الأنبياء والرسل، ولو شاء لجعل الناس على عماهم لكن أراد لبني آدم الكرامة فبعث لهم الأنبياء والمرسلين ليزكيهم ويهديهم صراطه المستقيم فمن شاء منهم أن يؤمن فقد آمن، ومن شاء منهم أن يكفر، فقد كفر.
المسألة الثانية: المشيئة التشريعية والمشيئة التكوينية
بقي أن نورد ما يتعلق بالمشيئة وأنها في حقيقة تكوينها تنقسم إلى (المشيئة التشريعية و(المشيئة التكوينية) واللتين يتضح بهما معنى قول الإمام الحسين عليه السلام: «قد شاء الله أن يراني قتيلاً، وقد شاء الله أن يراهن سبايا».
فنقول: إن الله تعالى قد شاء أن يجعل الأرض دار اختبار وبلاء، وشاء أن يجعل فيها خليفة وأنبياء ورسلاً وأئمة، وشاء أن يجعل هذا الإنسان مكوناً من غرائز وشهوات وعقل وهذا وما شابهه كله من الإشاءة التكوينية.
وأما الإشاءة التشريعية: فهي أن الله تعالى قد شاء أن يعبد وحده لا شريك له، وأن يؤمن برسله وأنبيائه، وكتبه، وشاء سبحانه من عباده طاعة هؤلاء الأنبياء، وشاء أن فرض عليهم العبادات والمعاملات وشاء أن لا يظلم الإنسان الإنسان وشاء أن يتراحموا ويتباروا وغيرها من التشريعات الإلهية وكلها ضمن مشيئته سبحانه.
إلا أن الإنسان خلط بين المشيئة التكوينية والمشيئة التشريعية؛ كي يجد مبرراً وعذراً لا يقترفه من ذنوب ومعاصٍ وتعدٍ للحدود فيجعل وعلى سبيل المثال؛ القتل غرضاً للسرقة أو للوصول إلى السلطة ثم يقول لو شاء الله لم يقتل فلان أو لم أكن قاتلاً في حين أن الإنسان القاتل هو الذي شاء قتل أخيه بعد أن انقاد لشهواته وغرائزه؛ فالموت هنا: مشيئة تكوينية، لكن طريقة الموت وهو القتل مشيئة تشريعية بمعنى: أن الله تعالى شاء حرمة القتل ونهى عنه وحذر منه وعاقب عليه لكن القاتل بيده شاء ذلك.
من هنا: نجد أن القرآن الكريم يتعرض في أكثر من موضع لهذه الحقيقة وأن المشيئة، هي مشيئتان، مشيئة تكوينية ومشيئة تشريعية، وذلك من خلال قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[40].
وفي بيان هذه المسألة يقول العلامة الطباطبائي رحمه الله: (وقوله تعالى: {...قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ...} جوابهم للدعوة إلى الانفاق، وإنما أظهر القائل ــ الذين كفروا ــ ومقتضى المقام الإضمار للإشارة إلى أن كفرهم بالحق وإعراضهم عنه باتباع الشهوات هو الذي دعاهم إلى الاعتذار بمثل هذا العذر المبني على الاعراض عما تدعو إليه الفطرة من الشفقة على خلق الله وإصلاح ما فسد في المجتمع كما أن الاظهار في قوله: (الذين آمنوا) للإشارة إلى أن قائل (أنفقوا مما رزقكم الله) هم الذين آمنوا.
وفي قولهم: (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه) إشعار بأن المؤمنين إنما قالوا لهم: (أنفقوا مما رزقكم الله) بعنوان أنه مما يشاؤه الله ويريده حكما دينيا فردوه بأن إرادة الله لا تتخلف عن مراده فلو شاء أن يطعمهم أطعمهم أي وسع في رزقهم وجعلهم أغنياء.
وهذه مغالطة منهم خلطوا فيه بين الإرادة التشريعية المبنية على الابتلاء والامتحان وهداية العباد إلى ما فيه صلاح حالهم في دنياهم وآخرتهم، ومن الجائز أن تتخلف عن المراد بالعصيان، وبين الإرادة التكوينية التي لا تتخلف عن المراد. ومن المعلوم أن مشيئة الله وإرادته المتعلقة بإطعام الفقراء والانفاق عليهم من المشيئة التشريعية دون التكوينية فتخلفها في مورد الفقراء إنما يدل على عصيان الذين كفروا وتمردهم عما أمروا به لا على عدم تعلق الإرادة به وكذب مدعيه.
وهذه مغالطة بنوا عليها جل ما افتعلوه من سنن الوثنية وقد حكى الله سبحانه ذلك عنهم في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}[41]. وقوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ...}[42]. وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ...}[43]. وقوله عزّ وجل: {...إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[44]. من تمام قول الذين كفروا يخاطبون به المؤمنين أي إنكم في ضلال مبين في دعواكم أن الله أمرنا بالانفاق وشاء منا ذلك)[45].
وبهذا يتضح: أن الله تعالى قد شاء أن يرى بنات الرسالة سبايا مشيئة تكوينية ليرى سبحانه وهو العالم بحقائق الأشياء ومحيط بدقائق الأمور صبرهن وطاعتهن ليكون ذلك، أي الصبر ضمن المشيئة التشريعية، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية: قد شاء سبحانه في المشيئة التشريعية أن يبتلي الأمة بمودة آل محمد فكان سبيهن انتهاكا للمشيئة التشريعية لأن الله تعالى لا يشرع الظلم والقتل.
وعليه: فإن انتهاك حرمتهم وقتلهم وسبي نسائهم وأطفالهم من أعظم الانتهاكات التشريعية لما يترتب على ذلك من تعد على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وجميع الرسالات والتشريعات الإلهية.
ـــــــــــــــــ
[1] سورة القصص، الآية: 7.
[2] القاموس المحيط للفيروز آبادي: ج1، ص296.
[3] لسان العرب لابن منظور: ج1، ص104.
[4] مختار الصحاح لعبد القادر: ص186.
[5] النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: ج2، ص517.
[6] النهاية في ترتيب الحديث لابن الأثير: ج2، ص517.
[7] الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري: ص35.
[8] سورة يونس، الآية: 99.
[9] سورة البقرة، الآية: 256
[10] سورة الأنعام، الآية: 137.
[11] سورة النمل، الآية: 9
[12] سورة البقرة، الآية: 253.
[13] سورة الشعراء، الآية: 4.
[14] سورة الأنعام، الآية: 148.
[15] سورة الذاريات، الآية: 10.
[16] سورة الزخرف، الآية: 20.
[17] سورة النحل، الآية: 35.
[18] سورة الكهف، الآية: 29.
[19] سورة المزمل، الآية: 19.
[20] سورة نبأ، الآية: 39.
[21] سورة الأحزاب، الآية: 51.
[22] سورة يوسف، الآية: 56.
[23] سورة الأعراف، الآية: 19.
[24] سورة البقرة، الآية: 223.
[25] سورة الكهف، الآية: 77.
[26] سورة الأنفال، الآية: 67.
[27] سورة النساء، الآية: 27.
[28] سورة التوبة، الآية: 46.
[29] سورة الفتح، الآية: 15.
[30] سورة النساء، الآية: 60.
[31] سورة المائدة، الآية: 91.
[32] سورة التكوير، الآية: 29.
[33] سورة التكوير، الآيتان: 28 و 29.
[34] سورة الإنسان، الآيتان: 29 و30.
[35] رسائل المرتضى للشريف المرتضى: ج2، ص234 ــ 238.
[36] الكافي للشيخ الكليني، باب: المشيئة والإرادة، ج1، ص150.
[37] المصدر نفسه.
[38] الكافي للشيخ الكليني، باب: المشيئة والإرادة: ج1، ص150.
[39] الكافي للكليني في باب: المشيئة والإرادة، ج1، ص151.
[40] سورة يس، الآية: 47.
[41] سورة النحل، الآية: 35.
[42] سورة الأنعام، الآية: 148.
[43] سورة الزخرف، الآية: 20.
[44] سورة يس، الآية: 47.
[45] تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: ج17، ص93 ــ 94.
إرسال تعليق