بقلم: الدكتور علي كاظم المصلاوي
يعبِّر هذا الشعر ـ في الغالب ـ عن حالات انفعالية معينة تفرضها طبيعة المناسبة وظرفها، وغالبا ما يأتي على نتف او مقطعات قصيرة، مما يعني سرعة إنتاجها وقلة العناية الفنية بها. وعند استقراء هذه الأشعار في ديوان شاعرنا تبين اهتمامه بهذا الشعر وبإنتاجه، إذ تعلق في اغلبه بمناسبات دينية وأخرى إنهاء أعمال بناء أو ترميم في احد مراقد أهل البيت عليهم السلام أو تهنئة أو رد على من جادله أو عارضه، وتكون المناسبة محفزة على المديح أو الرثاء والإبتهاج أو الجدل العقائدي أو الوصف؛ ومن أهم أشعار المناسبات عنده احتفاؤه بيوم الغدير فقد رصد له أربعة قصائد امتازت بالطول، ويمكن إطلاق تسمية (الغديريات) عليها، قال في إحداها مخاطباً أمير المؤمنين بقوله[1]:
بك يا أبا القمــرين كم من أُمَّـة *** سعــدت وكم من أُمَّة لم تسعـدِ
يا باني الإســلام بل يــا هادم *** الأصنام يا ضرغام يا ري الصدي
من يسع يسع كما سعيت إلى العلا *** أولا فأحرى أن يقـــال له اقعدِ
كم رام ان يرديك جمّ عـديدهـم *** هيهـات من لعلاك نال هو الردي
وتلاك سبـطا احمــد وتلاهـما *** حجـج المهيمن سيداً عن سيـِّـدِ
ورثوا مكارمــك التي أورثتـها *** فهموا بنوك وكلَّـهم بك مقتــدِ
حمـلوا احتمالك في الحياة وكلهم *** وردوا حياضـك حبذا من موردِ
هم أنجم الدنــيا وهم أقمــارها *** وبحورها الفــعم التي لم تـنفدِ
فالشاعر يذكر ان السعادة في الدارين تتمثل في إتباع الأمة لأبي القمرين كناية عن الإمام علي والد الحسن والحسين عليهم السلام، فهو الباني للإسلام والهادم للأصنام وهو المثال الذي يجب ان يتخذ للسعي إلى العلا وكم حاول المتطاولون ان ينالوا منه ومن علاه ولكنهم فشلوا وذهب الله بهم وبكيدهم. ان هذه السنة التي تحدث عنها قد لزمها ولداه (سبطا احمد) كناية عن الحسن والحسين من بعده ثم امتد إلى أئمة أهل البيت جميعاً سيداً عن سيد وتحملوا ما تحملوا من مصاعب الحياة ومكارهها حتى وردوا حياض الجنة التي وردها من قبلهم جدهم الإمام علي عليه السلام، ثم يصفهم بالأنجم والأقمار والأبحر الزاخرة المفعمة بالخير والعطاء للبشرية جمعاء والتي لا تنفد أبدا.
وقال في أخرى مخاطباً من ينكر ولاية الامام علي عليه السلام ومستنكراً[2]:
أو لم يكن يوم الغدير ألم يكن *** جبريل فيه بالزواجر ينزلُ
أو لم يقل من كنت مولاه فذا *** مولاه بعدي ويلكم لاتجهلوا
هذا هو الباب الذي من قبل ذا *** كُلفتم ان تدخلوه فادخــلوا
الأنبياءُ جميــعهم قبلي كذا *** فعلوا فمالي بعدهم لا افعلُ
ولكل بيت في الأنام دعامـة *** ودعامة الإسلام هذا فاعقلوا
والله ما أنا بالذي أمـَّــرتَهُ *** الله أمَّره عليـــكم فاقبلوا
لقد جعل الشاعر الكلام يدور على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكيف أوصى المسلمين ان يلزموا علياً فهو مولاهم من بعده، وهو الباب الذي يأخذ منه كل خير منزل فلا تتركوه، ثم أعطى الأمر بعداً رساليا من حيث ان الأنبياء جميعاً يعلمون بإمامته وآمنوا بها فما لاشك فيه ان يفعل فعلهم وهو أمر الله تعالى وليس أمر بشر مهما كان، ثم ان الأمر أمر أمارته عليكم هو من الله لا دخل لي بها فالتزموا الأمر ولا ترفضوه وتتخلوا عنه، وأعطاهم ممهداً للأمر الأخير دليلاً عقلياً حين قال ان لكل بيت دعامة ودعامة الإسلام (هذا) كناية عن علي عليه السلام فاعقلوا الأمر ولا تتبعوا أهواءكم فتضلوا وتنقلبوا على الأعقاب. ثم يوظف الشاعر مجموعة من الأحاديث النبوية المباركة فضلاً عما جاء في خطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في يوم الغدير في فضل علي ومولاته فنراه يقول على لسان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
و أنا المديــنة وابن عم بابها *** هل من سوى الباب المدينة تدخـلُ
أنا من عليٍّ وهـو منِّي ثـلما *** هارون من موسى فـــلا تتعلَّلوا
يا قـوم ان نبوَّتي مـا لم تكن *** فيها ولاية حيــدر لا تكمـــلُ
ان تسعدوه تسعدوا أوتنصرو *** ه تـنصروا أو تـخذلوه تـخذلوا
وأقــول هذا والقلوب كأنها *** تغــلي عليّ من الحرارة مرجلُ
إيَّاكــم ان تجحدوا إيَّاكـــم *** ان تخـــذلوا إيَّاكــم ان تنكلوا
هذا الكتاب وعترتي فتمسـكوا *** بهــما وان لم تفعــلوا لم تقبلوا
والشاعر أراد من خلال هذا التوظيف ان يؤكد على مشروعية خلافة الإمام، وانه الامتداد الحقيقي لرسالة السماء، وان لم تقبلوا هذا الأمر لم يقبل منكم أي عمل آخر لأنكم عصيتم الله حين عصيتم رسوله.
إن هذه (الغديريات) اتخذت طابعاً عقائدياً مذهبياً لذلك التجأت إلى العرض التاريخي والى الأدلة النقلية والعقلية لبيان أحقية خلافة الإمام (علي) عليه السلام، ومن ثم فان الكوارث التي وقعت بعد ذلك كان مرجعها إلى نكران هذا الأمر والتزام غيره، وما حلَّ على أهل بيت الرسالة وهم عترة الرسول من مصائب ونكبات كانت دليلاً دامغاً على عدم رعاية وصايا الرسول فيهم ومن ثم عصيانه لأمر السماء.
ونجد عنده قصيدة متكونة من خمسة وخمسين بيتاً في مناسب انتهاء العمل بالروضة الكاظمية منها قوله[3]:
هذي قصور جنان الخلد بارزة *** للناظـرين ليزدادوا بها عبرا
صبحاً وليلاً إذا ما جئتها أبدا *** ترى النيّرين الشمس والقمرا
ثم يقول[4]:
هذه منائـر لا بل ذي دعائـم *** للسبع الشداد فأمعن عندها النظرا
ان قلت ذي ارمٍ فاقت على ارم *** أو قلت جنة عدن لم تقـل أشرا
والقبتان إذا ماشمــت نورها *** قلت الكليم رأى نار الهدى سحرا
فالشاعر يصف انبهاره وتعجبه مما قد رأى من بناء متين وراح ينتقي له أوصافا قرآنية، فالمنابر صارت دعائم للسبع الشداد، ثم ذكر إرَم التي وصفها القرآن بالعظمة[5] فهي أعظم من إرَم فهي جنة عدن على هذه الأرض،وما القبتان اللتان بها الا نور اهتدى به موسى الكليم وآنس به[6].
وقال في قصيدة أخرى متكونة من أربعة وثلاثين بيتاً في العلم الذي اهدي إلى الروضة العباسية[7]:
يا من رأى علمَ الإسلامِ منشورا *** بدا فجـــلَّل آفاق السما نورا
واخجل النيرين الزاهـرين معاً *** فعاد نورهما في الأفق ديجورا
أهداه ناصر ديـن الله مبـتدئا *** مازلت ناصر دين الله منصورا
ذي راية العدل والتوحيد يحملها *** العباس في كربلا أيام عاشورا
فهو ينطلق من هذه المناسبة ليمدح العباس ويذكر علو شأنه ومنزلته المرموقة فضلاً عن مدحه للذي أهدى هذا العلم ونصبه في الروضة العباسية وهو (ناصر الدين القاجاري).
وله أربعة أبيات في زفاف احمد كاظم الرشتي تعبر عن مجاملة واضحة من لدن الشاعر لهذه الشخصية الدينية[8]:
اما ترى القمريَّ في سجعه *** أجَّج نيران الهوى والغـرامْ
وعندليب اليمن في لحــنه *** أنعش نفسي بل واحيا الرمامْ
لخير عرس يومه مقــمر *** فلا ظلام بعد هـــذا يشامْ
وساعة رب الورى شاء ان *** تقترن الشمس ببدر التمــامْ
فالأبيات لطيفة تنم عن عاطفة صادقة، وان لم تخل من مبالغة تطلبها موقف المجاملة.
وله قصيدة لم يرو منها سوى بيت واحد في تهنئة السيد مرتضى سادن الروضة العباسية بعدما اعيدت له السدانة عام 1298هـ قال[9]:
يا آخذي المفتاح من شبلها *** ردوا الأمانات إلى أهلها
وقال قصيدة بلغت الواحد وخمسين بيتاً في زيارة السلطان ناصر الدين القاجاري لمرقد الإمام الحسين مطلعها[10]:
كمل السرور فطبق الأمصارا *** وأضاء حتى استوعب الاقطارا
وتهللت سحب السماء فأغدقت *** مطراً نسينا بعده الأمـــطارا
وقال ذاكراً هذه الزيارة:
هذا مليك الأرض زار مليكه *** خير البرية مرقـدا ومـزارا
لم ترضه الأرض البسيطة منزلاً *** حتى بنى فوق المجـرة دارا
أرسى سليمان البساط على الهوى *** ثم استزاد فسـخَّر الأطـيارا
ونراك سخَّــرت البلاد وأهلها *** وملكت دون عبيدها الأحرارا
ما ذاك الا ان حــذوت مثاله *** وكسبت من مـقداره مقدارا
فالأبيات واضحة المبالغة فخمة الأسلوب ناسبت مقدار هذه الشخصية التي استبشر الشاعر بها وجعل ما وصلت إليه من عظمة وجاه مستمد من سيرها على نهج الحسين عليه السلام وكسبت مقدارها ومنزلتها من مقدار الحسين عليه السلام ومنزلته السامية.
ومن خلال ما تقدم وما استقرئ من أشعار في هذا الموضوع الشعري يتبين لنا ان شعر المناسبات له أهميته عند الشاعر ولم يكن طارئا او ثانوياً بدليل تدبيجه القصائد الطوال في هذه المناسبة او تلك واهتمامه بفخامة الأسلوب وجزالته.
ــــــــــــــــــــ
[1]م.ن:73.
[2]م.ن:127.
[3]م.ن:96.
[4]م.ن:97.
[5] إشارة إلى قوله تعالى: (ارم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد) الفجر:7ـ8.
[6] إشارة إلى قوله تعالى: (إنِّي آنستُ نارا سآتيكم منها بخبرٍ) النمل:7.
[7] ديوان الشيخ محسن أبو الحب الكبير:95.
[8] م.ن: 137ــ 138.
[9] م.ن: 138. وعجز البيت مأخوذ من قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدُّوا الأماناتِ إلى أهلها) النساء:58.
[10]م.ن:89.
إرسال تعليق