بقلم: الدكتور محمد جواد مالك
المسلمون التركمان
وهم يشكلون القومية الرئيسية الثالثة في العراق بعد العرب والأكراد من حيث الكثافة السكانية، فعدد نفوسهم يشكل نسبة 13% من مجموع سكان العراق، وإنهم سكنوا العراق منذ أكثر من ألف عام، وهم جزءٌ لا يتجزأ من شعب العراق، «تشهد لهم بذلك الوقائع التاريخية، وحقائق الحياة اليومية، والاندماج الاجتماعي، حيث تمازجت الدماء واختلطت الأنساب وتداخلت الأُسر..» (الشهداء التركمان،عباس البياتي: ص 16).
وبالفعل يحفظ لنا تاريخ العراق صفحات مشرقة عن أدوارهم الثقافية والحركية والسياسية، خصوصاً من قبل الشيعة التركمان.
أصل التسمية
يتفق المؤرخون على أن التركمان فرع من الترك، ولكنهم يختلفون في سبب التسمية، والأقرب إلى الصواب هو أن أصل التسمية «يرجع إلى أنه كل من أسلم من أتراك القسم الغربي من الإمبراطورية كان يقال له صار (ترجماناً) لكونه أصبح يجيد لغة المسلمين (العربية) ويقوم بالترجمة بين المسلمين الفاتحين وبين بقية الأتراك، حتى صار ذلك علماً لهم، أي لمن أسلم منهم، ثم قيل بالتحريف والتخفيف (تركمان).. وهناك سبب آخر للتسمية لا يبتعد كثيراً عن سبب التمسية الأول وهو أن كلمة التركمان مركبة من كلمتين هما (ترك) و(إيمان) أي الأتراك الذين أسلموا وآمنوا تمييزاً لهم عن الأتراك الوثنين الذين بقوا على وثنيّتهم (إلى مرحلة متأخرة)، ومن ثم قيل: بالدمج فأصبح تركماناً» (الشهداء التركمان: ص35).
اتجاهاتهم الدينية
أما من الناحية الدينية، فالتركمان في العراق هم مسلمون قاطبة موزعون على المذهبين الرئيسين بالتساوي تقريباً 50% شيعة إمامية، و50% سُنة حنفية وشافعية، وأن المسلمين الشيعة مرتبطون عقدياً وحركياً بالغالبية الشيعيّة العربية في الوسط والجنوب، ولهم علاقاتهم الطبيعية مع اخوانهم السنة التركمان من الناحية القومية والأسرية والنسبية» (التركمان في العراق،حسن اوزمن: ص16).
وتشكل مناطقهم فاصلاً بشرياً وجغرافياً بين المنطقة الكردية في الشمال والمنطقة العربية في الوسط والجنوب، وتعتبر منطقتهم داخلة من حيث الجغرافية والمناخ ضمن المنطقة الشمالية، وهم يتواجدون بكثافة في منطقة تسعين. الضاحية الجنوبية لمدينة كركوك، وفي قضاء تلعفر، وطوز خورماتو، وآلتون كوبري، والبشير وكفري ومندلي وغيرها. وبذلك يمتدون جغرافياً وبشرياً على خط منحني، يبدأ من أطراف الموصل في الشمال حيث قضاء تلعفر على الحدود السورية حتى الوسط عند سلسلة جبال حمرين ومنصورية الجبل وينتهي عند مدينة مندلي قرب الحدود الإيرانية، مروراً بكركوك وسائر المدن والمناطق الممتدة على الخط المنحني (الشهداء التركمان : ص36).
الأصالة الإسلامية والدور الوطني الحديث للتركمان
«إن التركمان العراقيين ينتمون من حيث السلالة العرقية إلى المجموعة التي فيها الأتراك، ويرجع أصلهم إلى آسيا الوسطى، والتي كانت تعرف سابقاً بتركستان (اليوم جزء منها يخضع لسيطرة الصين، والجزء الآخر تتشكل منه الجمهوريات الإسلامية التي استقلت حديثاً -تركمانستان، وقرغيزستان، واوزبكستان، وطاجيكستان، وداغستان.. الخ) حيث كانت لهم - للتركمان - إمبراطورية تمتد من منغوليا إلى شمال إيران، وفي عام 705م، وصلت جيوش الفتح الإسلامي إلى تلك البلاد.. ومنذ ذلك الحين أخذوا يفدون بكثرة إلى الشرق الإسلامي حيث لم تنقطع سلسلة هجراتهم» (الشهداء التركمان: ص35).
إن التركمان - عموماً - يتميّزون بالألفة الاجتماعية والانسجام الخلقي مع المحيط الإنساني، فمنذ بدايات الفجر الإسلامي الذي أشرق على وادي الرافدين قبل أكثر من ثلاثة عشر قرناً، سكنوا الأمصار والثغور لحماية الخلافة الإسلامية، وذلك لما يتميزون منذ القدم بروح الشجاعة في القتال خصوصاً في المناطق الوعرة، لذلك تمّت الاستعانة بهم في حماية الثغور في العهود الإسلامية، كما ساهموا مع بقية المسلمين في النشاطات الثقافية والجهادية انطلاقاً من إيمانهم بالإسلام. وهكذا عندما انقسمت المنطقة إلى عدة دول ساهموا في بناء العراق فكرياً وعملياً، ووقفوا يدافعون عن العراق انطلاقاً من إيمانهم الوطني ومبادئ حقوق الإنسان. وبالفعل كانوا منسجمين مع متطلبات الحالة الإسلامية في مراحلها المتعددة، ومع مسؤوليات المواطنة وواجب الدفاع عن الوطن إلى جانب أبنائه المخلصين، فالتركمان مسلمون من الناحية الدينية وعراقيون من الناحية الوطنية، وبالفعل كان دورهم منسجماً مع النسيج الوطني في العراق، فقد سجّل التاريخ لهم مواقف مبدئية ووطنية، سياسية وجهادية ضد المحتلين للبلاد.
«فبعد انهيار الخلافة العثمانية واحتلال الإنكليز للعراق وإخضاعه لانتدابهم الاستعماري، كان للتركمان مساهمة فاعلة في التصدي للغزو الأجنبي وهكذا قدموا شهداء بررة وخير مثال على المشاركة التركمانية ثورة تلعفر المشهورة ضد الإنكليز، وهكذا كان للتركمان شهداء إلى جانب سائر أبناء العراق في الدفاع عن وطنهم ورد الاعتداء عنه وسقط منهم ضحايا كثيرة، وهم يؤدون واجبهم الوطني هذه المرة، باعتبارهم باتوا جزءاً من رعايا دولة جديدة حددت حدودها الأطر الاستعمارية البريطانية بعدما كانوا يقومون بواجبهم الإسلامي في عهود الخلافة الإسلامية» (الشهداء التركمان: ص120).
إن هذه الأصالة واضحة ضمن التركيبة الإسلامية التي انصهرت فيها القوميات المتعددة في الإطار الإسلامي العام، مع الاحتفاظ بالخصوصية الثقافية في اللغة والتقاليد العرفية والعادات الاجتماعية التي لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية، وهذا الوعي المتقدم لكل قومية يمنحها عزةً وفخراً في حياتها ويورث أبناءها رصيداً كبيراً من الكرامة والأصالة، فلا داعي لنبش القبور وكشف النوايا لتركيب تاريخ خاص بالتركمان، وهذه المحاولة ستؤدي إلى خدش الصفاء النفسي للمؤمنين بالإسلام، هذا الدين الذي يقلّد أبناءه وسام الشرف، بمختلف قومياتهم وألوانهم.
تأخر تبلور المعارضة التركمانية عن الشيعة والأكراد
وانطلاقاً من هذا الوعي الإسلامي المتميز، وإلى جانب ما ذكرناه من الحالة النفسية الانسجامية عموماً للأقلية التركمانية «تأخرت المعارضة التركمانية في التبلور والتشكّل والظهور على السطح السياسي في العراق تحت عنوان حزب أو حركة سياسية خاصة بالتركمان حتى نهايات السبعينيات [من القرن الماضي].
ولم يُعرف عن التركمان بشكلٍ عام معارضتهم للأنظمة الحاكمة في بغداد كما هو معروف عن الأكراد في الشمال والشيعة العرب في الوسط والجنوب، وأن عدم وجود معارضة تركمانية في مراحل تاريخية سابقة لا يعني عدم وجود معارضين تركمان سلكوا طرقاً مختلفة في التعبير عن معارضتهم لسياسات الأنظمة التمييزية الطائفية والعنصرية، وتأكيد رغبتهم في إحداث التغيير السياسي في العراق وتحملوا ضريبة ذلك عملاً وجهاداً وعرقاً ودماً» (الشهداء التركمان: ص61).
الشيعة التركمان، ظلامة مزدوجة
«إن التركمان هم الوسط القومي الوحيد الذي تعرض إلى اضطهاد مزدوج طائفي - قومي، حيث أن العرب الشيعة في الوسط والجنوب تعرضوا إلى الاضطهاد الطائفي البغيض، وأن الأكراد في الشمال كان نصيبهم التمييز القومي العنصري، ولكن التركمان ذبحوا على طريقة (المنشار) الذي يقطع ذهاباً وإياباً..» (الشهداء التركمان: ص60).
كان ذلك واضحاً من قبل البعثيين أيام حكمهم ومما يذكره المقرر الخاص السيد (ماكس فان دير شتويل) حول التركمان الشيعة في فقرة من تقريره: «ثمة تدابير قمع أشد جسامةً تمس أقلية التركمان المنتمين إلى طائفة الشيعة أيضاً».
ويعقب الأستاذ حسن أوزمن على هذا الكلام في هامش الصفحة بقوله: «يظهر غضب وانتقام النظام الحاكم من الشيعة في بعض الوثائق الرسمية، حيث يتهم الشخص بكونه تركمانياً، وكذلك شيعياً، فإن كنت تركمانياً فتلك مصيبة، وإن كنت شيعياً تركمانياً فالمصيبة أعظم»( التركمان في العراق: ص179).
وعلى ضوء ما تقدم، تتحدد الاتجاهات السياسية حالياً في الساحة التركمانية في محورين أساسيين هما: «الاتجاه الإسلامي الشيعي، والاتجاه القومي العلماني».
وكانت بداية تشكيل الحركة الإسلامية الشيعية في ستينيات القرن الماضي في منطقة تسعين في كركوك، «ومن هنا تعتبر الحركة الإسلامية أقدم وجود سياسي في وسط التركمان، والتي استقطبت أكبر عدد ممكن من المعارضين التركمان، واستوعبت طاقاتهم» (الشهداء التركمان، المرجع ذاته: ص62).
ومما لاشك فيه أن «الإسلام محور الهوية التركمانية، والتي من دونه لا يمكن الحديث عن هوية تركمانية أو جذور تاريخية لهذه الشريحة في العراق والمنطقة» (الشهداء التركمان: ص67).
ولعل سائل يسأل عن المعارضة السنية التركمانية؟ وفي الحقيقة إن المشهد الذي مرّ علينا عن السنة العرب يتكرر بذاته عند السنة التركمان، وبالسبب الرئيس ذاته، الذي «يعود إلى استيعاب التركمان طائفياً - وهي القاعدة التي تأسست عليها الدولة العراقية - حيث إنّ السُّنة منهم تمّ احتسابهم إلى جانب الأنظمة والحكومات وأدمجوا في مؤسساتها وإداراتها، واما الشيعة التركمان فتعرضوا إلى الاضطهاد والقمع والتهميش في الدور، مع عموم شيعة العراق، وجرى عليهم في الشمال كما جرى على أبناء الوسط والجنوب، وعلى هذا الأساس تم التعامل مع التركمان من حيث الموالاة أو المعارضة للأنظمة.
[ومع ذلك] يمكن القول: إن التركمان الشيعة والسنة.. كانوا يتمردون على هذه القاعدة الطائفية ويعملون من أجل تأسيس وضع سياسي تركماني مستقل يقوم على التحصّن بالشعور القومي، والمطالبة ببعض الحقوق، وقد جوبهت تلك المحاولات بقسوة شديدة من قبل الأنظمة الحاكمة، لتموت عند ولادتها، وإحياء الأسلوب الطائفي في التعامل مع التركمان، وهكذا كان ينفرط العقد السياسي التركماني المتشكل من الشيعة والسنة باستمرار..
من هنا أصبحت معارضة السنة التركمان استثنائية - ذات طابع قومي-...ومعارضة التركمان الشيعة متواصلة وإسلامية ومندمجة مع التيار الإسلامي العام في العراق وعليه لا يمكن الحديث بشكلٍ منفصل أو مستقل عن وجود معارضة تركمانية سياسية صاحبة قضية وتملك مشروعاً وتحمل هوية خاصة قبل عقدين أو أكثر..» (الشهداء التركمان: ص63-64).
إرسال تعليق