بقلم الشيخ وسام برهان البلداوي
لقد ورد عن طرق أهل السنة بعض الروايات التي تنهى عن البكاء على الميت منها:
الرواية الأولى: عن عبد الله بن عمر قال: «...وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه...» (البخاري: ج 2، ص 85. وصحيح مسلم: ج 3، ص 41).
الرواية الثانية: عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب قال: «... الميت يعذب في قبره بما نيح عليه» (صحيح مسلم: ج 3، ص 41).
الرواية الثالثة: عن عمر قال: «من يبك عليه يعذب» (كنز العمال للمتقي الهندي: ج 12، ص 688).
الرواية الرابعة: عن عمر بن الخطاب قال: «... إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله...» (صحيح مسلم: ج 3، ص 43).
وهذه الروايات وأمثالها لا تخرج عن أحد احتمالين:
ووجه مخالفة هذه النصوص لآيات القران العزيز هو: ان القرآن قد صرح في مواضع عديدة وآيات كثيرة بأن الإنسان مسؤول عن أفعال نفسه لا عن أفعال غيره، فهو يعذب ويثاب على ما اقترفته يداه وباشره بنفسه كما في قوله تعالى: ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ). (سورة الأنعام، الآية: 164).
قال ابن كثير في تفسيره: «ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى إخبار عن الواقع يوم القيامة في جزاء الله تعالى وحكمه وعدله أن النفوس إنما تجازى بأعمالها إن خيراً فخير وإن شراً فشر وإنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد وهذا من عدله تعالى كما قال «وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى» وقوله تعالى «فلا يخاف ظلماً ولا هضما» قال علماء التفسير أي فلا يظلم بأن يحمل عليه سيئات غيره ولا تهضم بأن ينقص من حسناته...» (تفسير ابن كثير: ج 2، ص 207).
وقال الشوكاني في فتح القدير: «قوله ولا تكسب كل نفس إلا عليها أي لا يؤاخذ مما أتت من الذنب وارتكبت من المعصية سواها فكل كسبها للشر عليها لا يتعداها إلى غيرها» (فتح القدير للشوكاني: ج 2، ص 186).
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله «ولا تزر وازرة وزر أخرى» قال لا يحمل الله على عبد ذنب غيره ولا يؤاخذه بعمله (الدر المنثور للسيوطي: ج 3، ص 67).
وبالجملة فإن روايات تحريم البكاء معارضة ومخالفة لهذه الآية المباركة ولآيات أخرى عديدة من القرآن الكريم لم نذكرها طلباً للاختصار.
ويؤيد كذب روايات النهي عن البكاء ما جاء عن ابن عباس حينما قيل له إن فلاناً نهى عن المتعة فقال: «انظروا في كتاب الله فإن وجدتموها فيه فقد كذب على الله وعلى رسوله وإن لم تجدوها فقد صدق» (المغني لعبد الله بن قدامة: ج 3، ص 238. والشرح الكبير لعبد الله بن قدامة: ج3، ص238).
ونحن لو طبقنا هذه القاعدة وفتشنا عن قول منكري البكاء وأن الميت يعذب ببكاء من يبكي عليه من أهله لوجدناها مفقودة من الكتاب العزيز، بل لوجدنا أن المذكور في القرآن على خلاف ما أدعوه، فلا نتحرج حينئذٍ أن نقول بكذب هذه الأخبار على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا ذنب لنا في تكذيبها فنحن نتبع سنة صحابي جليل عرف فضله جميع المسلمين وهو ابن عباس رضي الله تعالى عنه.
فالبكاء والحزن سنة من سنن الأنبياء عليهم السلام فلا ينبغي لعاقل أن يزهد في سننهم ألا أن يكون سفيها نفسه ناقصا عقله بشهادة قوله تعالى: ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ...). (سورة البقرة، الآية: 130).
وقال تعالى: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ). (سورة الأنعام، الآية: 89 - 90).
فنحن مأمورون بأن نقتدي بسننهم وبهداهم عليهم السلام ومن سننهم البكاء على الأموات كما بكى آدم على ابنه أربعين سنة كما تقدم سابقا، ومأمورون كذلك أن نعدّ سننهم وأقوالهم وأفعالهم بمنزلة سنة النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها سنة واحدة كما يدل عليه قوله تعالى: (قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). (سورة البقرة، الآية: 136).
ويحق لنا أن نتساءل أكان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أن بكاءه يسبب لهؤلاء الأطهار الذين بكى عليهم الألم والعذاب أم لا؟.
فإن قلتم: نعم كان يعلم بأنهم يعذبون بسبب بكائه عليهم وهو مع ذلك مستمر بالبكاء، قلنا إن هذا الأمر قبيح للغاية ويستحيل أن يصدر من شخص الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وهو عين الرحمة والشفقة، فضلاً عن قبح البكاء الذي يكون سبباً في عذاب الآخرين فهو فعل بعيد عن الأخلاق السامية بل هو غلظة في القلب وقسوة في الطبع، وهذا منفي عنه صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، وهو أيضا مخالف لما عليه صلى الله عليه وآله وسلم من خلق عظيم شهد به خالقه سبحانه وتعالى في قوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
وإن قلتم: لا فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم بأن أولئك الموتى يعذبون ببكائه قلنا الحمد لله فبهذا يثبت أن تلك الأحاديث الواردة في النهي عن البكاء وأن الميت يعذب ببكاء أهله لا صلة لها بالنبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ولا علم له بها بل هي مما كذب عليه ولفقت على لسانه، لامتناع أن يقول النبي شيئاً ويخالفه في الواقع ولا يعلمه في مقام العمل والتطبيق.
تحريم البكاء على الميت من مبتدعات عمر بن الخطاب
ومما يؤكد اختلاق روايات تحريم البكاء وكذبها وعدم واقعيتها وارتباطها بالرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، بل هي انعكاس لنفسية الراوي والمحدث، أطرّها الراوي وزخرفها بصورة ورتشها برتوش شرعية ليضفي عليها صبغة إسلامية إلزامية عن طريق نسبتها لشخص النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
ولو رجعنا إلى المصدر الأساس لروايات تحريم البكاء على موتى المؤمنين لوجدنا بأن مصدرها هو عمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر كما عن النووي في شرحه لصحيح مسلم حيث قال: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه وفي رواية ببعض بكاء أهله عليه وفي رواية ببكاء الحي وفي رواية يعذب في قبره بما نيح عليه وفي رواية من يبك عليه يعذب وهذه الروايات من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبد الله...» (شرح مسلم: ج 6، ص 228. دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه لابن الجوزي الحنبلي: ص 34، تحقيق حسن السقاف).
ومن المقطوع به أن عبد الله قد أخذ حديثه عن أبيه عمر بن الخطاب فيصبح المصدر الوحيد الناقل لروايات البكاء وأن الميت يعذب ببكاء أهله هو عمر بن الخطاب.
وإذا عرفنا مصدر تلك الروايات لابد أن نرجع قليلاً لنرى ما هو المزاج الشخصي لعمر بن الخطاب تجاه قضية البكاء؛ لأن في معرفتنا هذه نعرف سبب خلق هذه الروايات، فالذي يظهر من الروايات الآتية أن البكاء لا ينسجم مع ذوق عمر بل يسبب له إزعاجا نفسيا كما روي في مسند أحمد بن حنبل: «...فلما ماتت زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الحقي بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون فبكت النساء فجعل عمر يضربهن بسوطه فأخذ رسول الله بيده وقال مهلاً يا عمر. ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: ابكين، وإياكن ونعيق الشيطان فإنه مهما يكن من القلب والعين فمن الله والرحمة ومهما يكن من اليد واللسان فمن الشيطان» (مسند أحمد بن حنبل: ج 1، ص 237).
وعن أبي هريرة قال: «مر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جنازة معها بواك فنهرهن عمر فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دعهن فإن النفس مصابة والعين دامعة والعهد حديث» (مسند احمد، ج 2، ص 333).
وعن أبي هريرة قال: «مات ميت من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاجتمع النساء يبكين عليه فقام عمر ينهاهن ويطردهن، فقال رسول الله دعهن يا عمر فان العين دامعة والقلب مصاب والعهد قريب» (سنن النسائي، ج 4، ص 19).
ومما يدل على أن منع عمر بن الخطاب كان منعاً مزاجياً وليس منعاً شرعياً ما رواه عبد الله بن عكرمة بقوله: «عجباً لقول الناس إن عمر بن الخطاب نهى عن النوح، لقد بكى على خالد بن الوليد بمكة والمدينة نساء بني المغيرة سبعاً يشققن الجيوب ويضربن الوجوه وأطعموا الطعام تلك الأيام حتى مضت ما ينهاهن عمر» (كنز العمال، ج 15، ص 731، حديث رقم 42908).
فالتناقض هنا واضح فتارة يضرب بالسوط ويرمي بالحجر ويحثو بالتراب كل من يبكي (صحيح البخاري، ج2، ص 85)، وتارة يترك النساء يبكين سبعة أيام ويشققن الثياب ويضربن الوجوه ويطعمون الطعام، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن عمر بن الخطاب لم يكن يتحرك من وحي النصوص الشرعية بل من وحي المزاج الشخصي فالوقت الذي يصفو فيه مزاج الخليفة يسمح بالبكاء والوقت الذي يكون فيه عكر المزاج يعاقب على البكاء ويضرب.
وقد ذكر لعائشة أن عبد الله بن عمر يقول إن الميت ليعذب ببكاء الحي، فقالت عائشة: «يغفر الله لأبي عبد الرحمن أما أنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ إنما مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على يهودية يبكى عليها فقال: إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها» (صحيح مسلم: ج 3، ص 45).
وفي رواية ثالثة عنها أيضاً: «يرحمه الله لم يكذب ولكنه وهم، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل مات يهودياً إن الميت ليعذب وإن أهله ليبكون عليه» (سنن الترمذي: ج 2، ص 236).
وعلى أي حال فإذا كان عمر وابنه عبد الله قد نسيا أو توهما أو كذبا وافتعلا الحديث فإنه لا يمكن الاستدلال بهذه الأحاديث على النهى عن البكاء فهي إما مردودة وإما مؤولة فيها احتمالات شتى وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال.
لقد ورد عن طرق أهل السنة بعض الروايات التي تنهى عن البكاء على الميت منها:
الرواية الأولى: عن عبد الله بن عمر قال: «...وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه...» (البخاري: ج 2، ص 85. وصحيح مسلم: ج 3، ص 41).
الرواية الثانية: عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب قال: «... الميت يعذب في قبره بما نيح عليه» (صحيح مسلم: ج 3، ص 41).
الرواية الثالثة: عن عمر قال: «من يبك عليه يعذب» (كنز العمال للمتقي الهندي: ج 12، ص 688).
الرواية الرابعة: عن عمر بن الخطاب قال: «... إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله...» (صحيح مسلم: ج 3، ص 43).
وهذه الروايات وأمثالها لا تخرج عن أحد احتمالين:
الاحتمال الأول: إنها روايات مكذوبة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ويستدل على كذبها بما يلي:أولا: إنها مخالفة لظاهر الكتاب الكريم
والقرآن الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا خلاف بين المسلمين في أن من خالف كتاب الله عز وجل ونهى عما أحله أو عارض ما أجازه حقيق بأن لا يقبل منه نهي ولا معارضة، ولا يقبل منه قول ولا حجة، كما في الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «فانظروا ما واطأ كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه» (المصنف للصنعاني: ج6 ص112وج10ص 313).ووجه مخالفة هذه النصوص لآيات القران العزيز هو: ان القرآن قد صرح في مواضع عديدة وآيات كثيرة بأن الإنسان مسؤول عن أفعال نفسه لا عن أفعال غيره، فهو يعذب ويثاب على ما اقترفته يداه وباشره بنفسه كما في قوله تعالى: ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ). (سورة الأنعام، الآية: 164).
قال ابن كثير في تفسيره: «ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى إخبار عن الواقع يوم القيامة في جزاء الله تعالى وحكمه وعدله أن النفوس إنما تجازى بأعمالها إن خيراً فخير وإن شراً فشر وإنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد وهذا من عدله تعالى كما قال «وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى» وقوله تعالى «فلا يخاف ظلماً ولا هضما» قال علماء التفسير أي فلا يظلم بأن يحمل عليه سيئات غيره ولا تهضم بأن ينقص من حسناته...» (تفسير ابن كثير: ج 2، ص 207).
وقال الشوكاني في فتح القدير: «قوله ولا تكسب كل نفس إلا عليها أي لا يؤاخذ مما أتت من الذنب وارتكبت من المعصية سواها فكل كسبها للشر عليها لا يتعداها إلى غيرها» (فتح القدير للشوكاني: ج 2، ص 186).
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله «ولا تزر وازرة وزر أخرى» قال لا يحمل الله على عبد ذنب غيره ولا يؤاخذه بعمله (الدر المنثور للسيوطي: ج 3، ص 67).
وبالجملة فإن روايات تحريم البكاء معارضة ومخالفة لهذه الآية المباركة ولآيات أخرى عديدة من القرآن الكريم لم نذكرها طلباً للاختصار.
ويؤيد كذب روايات النهي عن البكاء ما جاء عن ابن عباس حينما قيل له إن فلاناً نهى عن المتعة فقال: «انظروا في كتاب الله فإن وجدتموها فيه فقد كذب على الله وعلى رسوله وإن لم تجدوها فقد صدق» (المغني لعبد الله بن قدامة: ج 3، ص 238. والشرح الكبير لعبد الله بن قدامة: ج3، ص238).
ونحن لو طبقنا هذه القاعدة وفتشنا عن قول منكري البكاء وأن الميت يعذب ببكاء من يبكي عليه من أهله لوجدناها مفقودة من الكتاب العزيز، بل لوجدنا أن المذكور في القرآن على خلاف ما أدعوه، فلا نتحرج حينئذٍ أن نقول بكذب هذه الأخبار على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا ذنب لنا في تكذيبها فنحن نتبع سنة صحابي جليل عرف فضله جميع المسلمين وهو ابن عباس رضي الله تعالى عنه.
ثانياً: مخالفتها لسنن الأنبياء العظام عليهم السلام
ومما يؤكد لنا كذب هذه الروايات هو أنها مخالفة لسنن الأنبياء العظام فقد كان الحزن والبكاء كان شعار الأنبياء العظام، وسنة من سننهم، وقد بكى آدم عليه السلام على ولده هابيل الذي قتل ظلماً بيد أخيه قابيل، فمن غير المعقول أو المقبول أن يقوم هؤلاء العظماء بفعل شيء يجلب عليهم الضرر في دينهم ويفعلوا ما يجلب السوء والعذاب لأعزائهم من الأموات.فالبكاء والحزن سنة من سنن الأنبياء عليهم السلام فلا ينبغي لعاقل أن يزهد في سننهم ألا أن يكون سفيها نفسه ناقصا عقله بشهادة قوله تعالى: ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ...). (سورة البقرة، الآية: 130).
وقال تعالى: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ). (سورة الأنعام، الآية: 89 - 90).
فنحن مأمورون بأن نقتدي بسننهم وبهداهم عليهم السلام ومن سننهم البكاء على الأموات كما بكى آدم على ابنه أربعين سنة كما تقدم سابقا، ومأمورون كذلك أن نعدّ سننهم وأقوالهم وأفعالهم بمنزلة سنة النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها سنة واحدة كما يدل عليه قوله تعالى: (قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). (سورة البقرة، الآية: 136).
ثالثاً: مخالفة أحاديث تحريم البكاء على الميت لسنة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله
وهذه الروايات المانعة عن البكاء معارضة أيضا لسنة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم القطعية الصدور والتي تواترت عنه لفظاً أو معنى، فقد بكى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه وبعض أولاده وبناته وعلى عمه حمزة وعلى ابن عمه جعفر بن أبي طالب وعلى إبراهيم ولده وفلذة كبده، فلو صح حديث النهي عن البكاء وأن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، لكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبباً وأداة لتعذيب الصالحين من أهل بيته والعياذ بالله، ولكان حمزة عمه وإبراهيم ابنه وجعفر ابن عمه يتقلبون في العذاب يصب عليهم صباً والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يبكي غير مكترث لما يصيبهم، وغير حافل بالعذاب الذي يتعرض إليه هؤلاء بسبب بكائه، نعوذ بالله من الخطل ومقالة السوء.ويحق لنا أن نتساءل أكان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أن بكاءه يسبب لهؤلاء الأطهار الذين بكى عليهم الألم والعذاب أم لا؟.
فإن قلتم: نعم كان يعلم بأنهم يعذبون بسبب بكائه عليهم وهو مع ذلك مستمر بالبكاء، قلنا إن هذا الأمر قبيح للغاية ويستحيل أن يصدر من شخص الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وهو عين الرحمة والشفقة، فضلاً عن قبح البكاء الذي يكون سبباً في عذاب الآخرين فهو فعل بعيد عن الأخلاق السامية بل هو غلظة في القلب وقسوة في الطبع، وهذا منفي عنه صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، وهو أيضا مخالف لما عليه صلى الله عليه وآله وسلم من خلق عظيم شهد به خالقه سبحانه وتعالى في قوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
وإن قلتم: لا فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم بأن أولئك الموتى يعذبون ببكائه قلنا الحمد لله فبهذا يثبت أن تلك الأحاديث الواردة في النهي عن البكاء وأن الميت يعذب ببكاء أهله لا صلة لها بالنبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ولا علم له بها بل هي مما كذب عليه ولفقت على لسانه، لامتناع أن يقول النبي شيئاً ويخالفه في الواقع ولا يعلمه في مقام العمل والتطبيق.
تحريم البكاء على الميت من مبتدعات عمر بن الخطاب
ومما يؤكد اختلاق روايات تحريم البكاء وكذبها وعدم واقعيتها وارتباطها بالرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، بل هي انعكاس لنفسية الراوي والمحدث، أطرّها الراوي وزخرفها بصورة ورتشها برتوش شرعية ليضفي عليها صبغة إسلامية إلزامية عن طريق نسبتها لشخص النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
ولو رجعنا إلى المصدر الأساس لروايات تحريم البكاء على موتى المؤمنين لوجدنا بأن مصدرها هو عمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر كما عن النووي في شرحه لصحيح مسلم حيث قال: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه وفي رواية ببعض بكاء أهله عليه وفي رواية ببكاء الحي وفي رواية يعذب في قبره بما نيح عليه وفي رواية من يبك عليه يعذب وهذه الروايات من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبد الله...» (شرح مسلم: ج 6، ص 228. دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه لابن الجوزي الحنبلي: ص 34، تحقيق حسن السقاف).
ومن المقطوع به أن عبد الله قد أخذ حديثه عن أبيه عمر بن الخطاب فيصبح المصدر الوحيد الناقل لروايات البكاء وأن الميت يعذب ببكاء أهله هو عمر بن الخطاب.
وإذا عرفنا مصدر تلك الروايات لابد أن نرجع قليلاً لنرى ما هو المزاج الشخصي لعمر بن الخطاب تجاه قضية البكاء؛ لأن في معرفتنا هذه نعرف سبب خلق هذه الروايات، فالذي يظهر من الروايات الآتية أن البكاء لا ينسجم مع ذوق عمر بل يسبب له إزعاجا نفسيا كما روي في مسند أحمد بن حنبل: «...فلما ماتت زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الحقي بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون فبكت النساء فجعل عمر يضربهن بسوطه فأخذ رسول الله بيده وقال مهلاً يا عمر. ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: ابكين، وإياكن ونعيق الشيطان فإنه مهما يكن من القلب والعين فمن الله والرحمة ومهما يكن من اليد واللسان فمن الشيطان» (مسند أحمد بن حنبل: ج 1، ص 237).
وعن أبي هريرة قال: «مر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جنازة معها بواك فنهرهن عمر فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دعهن فإن النفس مصابة والعين دامعة والعهد حديث» (مسند احمد، ج 2، ص 333).
وعن أبي هريرة قال: «مات ميت من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاجتمع النساء يبكين عليه فقام عمر ينهاهن ويطردهن، فقال رسول الله دعهن يا عمر فان العين دامعة والقلب مصاب والعهد قريب» (سنن النسائي، ج 4، ص 19).
ومما يدل على أن منع عمر بن الخطاب كان منعاً مزاجياً وليس منعاً شرعياً ما رواه عبد الله بن عكرمة بقوله: «عجباً لقول الناس إن عمر بن الخطاب نهى عن النوح، لقد بكى على خالد بن الوليد بمكة والمدينة نساء بني المغيرة سبعاً يشققن الجيوب ويضربن الوجوه وأطعموا الطعام تلك الأيام حتى مضت ما ينهاهن عمر» (كنز العمال، ج 15، ص 731، حديث رقم 42908).
فالتناقض هنا واضح فتارة يضرب بالسوط ويرمي بالحجر ويحثو بالتراب كل من يبكي (صحيح البخاري، ج2، ص 85)، وتارة يترك النساء يبكين سبعة أيام ويشققن الثياب ويضربن الوجوه ويطعمون الطعام، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن عمر بن الخطاب لم يكن يتحرك من وحي النصوص الشرعية بل من وحي المزاج الشخصي فالوقت الذي يصفو فيه مزاج الخليفة يسمح بالبكاء والوقت الذي يكون فيه عكر المزاج يعاقب على البكاء ويضرب.
الاحتمال الثاني: ان يكون عمر بن الخطاب قد توهم في سماع وحفظ الرواية
وهذا الرأي له أيضاً مؤيدات مقبولة ومن هذه المؤيدات رواية عائشة بنت أبي بكر حينما ذكر لها نهي عمر عن البكاء على الميت وأنه يعذب ببكاء أهله عليه فقالت: «أما والله ما تحدثون هذا الحديث عن كاذبين مكذبين ولكن السمع يخطئ، وإن لكم في القرآن لما يشفيكم ألا تزر وازرة وزر أخرى ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه» (سنن النسائي: ج 4، ص 19).وقد ذكر لعائشة أن عبد الله بن عمر يقول إن الميت ليعذب ببكاء الحي، فقالت عائشة: «يغفر الله لأبي عبد الرحمن أما أنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ إنما مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على يهودية يبكى عليها فقال: إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها» (صحيح مسلم: ج 3، ص 45).
وفي رواية ثالثة عنها أيضاً: «يرحمه الله لم يكذب ولكنه وهم، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل مات يهودياً إن الميت ليعذب وإن أهله ليبكون عليه» (سنن الترمذي: ج 2، ص 236).
وعلى أي حال فإذا كان عمر وابنه عبد الله قد نسيا أو توهما أو كذبا وافتعلا الحديث فإنه لا يمكن الاستدلال بهذه الأحاديث على النهى عن البكاء فهي إما مردودة وإما مؤولة فيها احتمالات شتى وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال.
1 التعليقات:
انا تعجب ممن يحرم البكاء على الموتى بحجة الشرك
تعليقمع ان البكاء على الميت من غير سخط على حكم الله امر فطري
فمن الطبيعي ان بيكي الانسان على اعزائه واحبابه حين موتهم وبعد موتهم بسبب ذكرياتهم الجميلة او رحمة لهم وشفقة عليهم
وتحريم هذا الامر تحريم لامر فطري
فبالتاكيد يكون مخالف للدين لان الدين مع الفطرة اليس كذلك؟؟؟؟
اخوكم احمد من السماوة
إرسال تعليق